لا أقول هو سؤالٌ كثيرٌ وُرودُه، بل هو ما عمَّت به البلوى في الممارسات الشرعية، عند كثيرٍ من الناس، ويتعاملون معه، مع طائفة من العلماء، على أنّه مسألةٌ مسلَّمٌ بها شرعياً! والصواب غير ذلك، ولا بد من بحث.
ولنبدأ بإيضاح السؤال: شخص يدخل المسجد لصلاة الظهر مثلا، فيصلي ناوياً بصلاته تحية المسجد، وسنة الوضوء، وراتبة الظهر! ورجل يغتسل للجنابة يوم الجمعة، قبل الصلاة، ينوي بغسله غسلين، غسل من الجنابة، وغسل الجمعة. وامرأة حائض تصيبها جنابة، وتَطْهُر من حيضتها، فتكتفي بغسلٍ واحد عن الأمرين. ومن عليه قضاء صومٍ من رمضان، يجعله يوم الإثنين أو الخميس، ناويا بذلك القضاء وصيام الخميس أو الإثنين نافلة مع القضاء. وكذلك امرأة تصوم دينها في شوال، تنوي بذلك القضاء، وأجر صيام الست من شوال.
والمسألة التي بين أيدينا، محل اختلاف بين العلماء، وأحب أن ألحق بهذه العبارة إيضاحا، وأفعل ذلك دائما للأهمية! حينما نقول عن مسألة شرعية إنّها مسألة خلافية بين العلماء، فذلك لا يعني، ولا يجوز، أن يفهمه المسلم على أنّ كل مسألة خلافية يصح فيها أكثر من قول، وأنَّ كل ذلك صحيح مقبول عند الله، وأذكر دائمل بعبارة لإمام الأندلس الشاطبي، يقول: (الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها، وإن كثر الخلاف كما أنها في أصولها كذلك ولا يصلح فيها غير ذلك).
والعلماء، في هذه المسألة التي بين أيدينا، فريقان: فريقٌ أجاز الجمع بكل أشكاله، وكان الدليل عندهم أدلةً استنباطية من نصوص عامة، كحديث: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى). وكقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). ووظفوا كل النصوص المرتبطة بهذه المعاني، لتكون لهم دليلا على المسألة، وكلما ناقشوا المسألة على ملأٍ أغرقوا من يستمع إليهم بالكلام عن يسر الإسلام، والتخفيف عن العباد، ورحمة الله بهم. وكل ذلك حق، لكن الأدلة إذا صحت فاتباعها هو من رحمة الله، ومن يسر الدين. ولكنّهم، أعني العلماء، لم يُدخلوا أنفسهم في البحث الدقيق، وتقصي النصوص، وليس لهم إلا أجرٌ واحدٌ لاجتهادهم، فما كل مجتهدٍ مصيباً.
وأما الفريق الثاني، فبحثوا بدقة، ولم يتجاوزوا التأصيل والأصول. وإلى المناقشة، إن شاء الله: أول ما يقال في هذه المسألة، إنّه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيها، أي جواز الجمع، ولم يَنقُل عنه أصحابه رضوان الله عليهم شيئا. وإذ الأمر كذلك، يبقى الأصل عدم الجمع. وأن تؤدى كل عبادة بنية واحدة. وكثير من العلماء، استدلوا لذلك الأصل، بأن سألوا هل يصح لمن عليه قضاء من رمضان أن يجمعه مع أيام رمضان الجديد؟ وكذلك لو كان عليه صيام كفارة يمين أو نذر؟ والجواب طبعا لا. وقال الأحناف إنّهم لا يرون الجمع بين عبادات مقصودة لذاتها، إنّما يجيزونه بين عبادات هي من الوسائل، كالطهارة. فيرون إجزاء غسل واحد للحدث الأكبر والأصغر، وغسل واحد للجمعة والجنابة، وغسل واحد للجنابة وللحيض. وبعض الشافعية يرون رأي الأحناف. ولكنّه إعمالٌ للنظر والعقل، ولا يكون ذلك في العبادات، سواء كانت مقاصدية أو وسائلية! والعبرة في الدليل من قول أو عمل. ولعل الذي فتح لهم باب النظر هذا، أنّ من دخل المسجد للصلاة، وصلى الراتبة القبلية تسقط عنه تحية المسجد، هذا صحيح، ولكن ليس لأنّه جمعهما بنية واحدة، ولكن لأنّ الراتبة قامت بما شُرعت له التحية. فلو قرأنا الحديث الذي شرع التحية، لعرفنا السبب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ) فالنهي عن الجلوس قبل الصلاة، فإن أخذت محل ركعتي التحية أي صلاة حاضرة لم يبق لركعتي التحية دور، لتحقق النهي عن الجلوس قبل الصلاة. ونستطيع أن نستنتج أنّ صلاة تحية المسجد غير مقصودة لذاتها مادام يُحقق غايتها الصلاة التي أخذت محلها. وما زلنا نرى أكثر الأئمة يدخلون إلى المسجد فتقام الصلاة، ويدخلون في الفريضة، دون تأدية ركعتي التحية، للسبب الذي ذكرنا.
وقد يشوش على مثل هذه المسائل، فيختلف فيها العلماء، تفسيرُ الغاية من وراء التكليف، لبعض العبادات المشروعة، تفسيراً استنتاجياً عقلياً لم يرد عن الشارع، كأن يفسر التكليف بغسل الجمعة أنّه من أجل النظافة فقط، لذلك يقول بعض العلماء إنّ غسل الجنابة يوم الجمعة يحقق النظافة فلا حاجة لغسل ثان للجمعة، وهذا تقديم للعقل وتدخل في التشريع، ويؤكد بطلان ذلك، ما صح عن الصحابي عبد الله بن أبي قتادة قال: (دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو قَتَادَةَ وَأَنَا أَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: أغُسْلُكَ هَذَا مِنْ جَنَابَةٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: أَعِدْ غُسْلاً آخَرَ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَزَلْ طَاهِرًا إِلَى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى)). فغاية تشريع غسل الجمعة شرعية غير معقولة المعنى، حتى يكتفى عنها بغسل الجنابة. ولا شك أنّ فهم الصحابي للنص يقدم على فهم من يأتي بعده.
ومثل ذلك، من تأثير التفسير العقلي للأحكام، ما جاء عن بعض العلماء أنّ صلاة سنة الوضوء يجزئ عنها أي صلاة، تعقب الوضوء، فهي صلاة غير مقصودة لذاتها. وهذا تفسير غير موفق لأنّ غالب الحال أنّ المسلم لا يتوضأ إلا من أجل أن يصلي، إذن ما الذي تميز به بلال رضي الله عنه عن سائر الناس، ولنقرأ الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: ((يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عمل عملته فِي الْإِسْلَام، فَإِنِّي سَمِعت دَفَّ نعليك بَين يَدي في الْجَنَّةِ). قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لم أتطهر طهُورا مِنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ). فواضح جدا أنّ صلاة سنة الوضوء مقصودة لذاتها، فلا تُجزئُ عنها أية صلاة! وكما قدمنا، لا يتوضأ المسلم إلا ليصلي، فما الفرق إذن؟
ولقد وجدت أثناء بحثي هذه المسألة، أنّ للشيخ الألباني رحمه الله مذهباً تفرد به عن كل من تكلم في المسألة. ويتميز موقفه أنّه رحمه الله ابتعد كليا عن الاستنتاج العقلي، الذي كان عند الآخرين، واعتمد تطبيق الأحاديث التي تتصل بتلك المسألة. ويتلخص مذهبه في نقطتين:
أولاً: إنّ العبادات الواجبة لا يمكن جمعها بنية واحدة، لأنّه لا يقوم واجب مقام آخر، ولا يجزئ عنه، ولا تبرؤ ذمة المكلف إلا أن يؤدي كل واجب على حدة. ولقد ذكرنا قبلا أنّ غسل الجنابة واجب، وغسل الجمعة عند بعض العلماء واجب أيضا، وهو الراجح، والأدلة واضحة، وليس هذا بحثنا. لذلك كان الصواب ألا يُجمع الغسلان في غسل واحد، ولا تبرؤ الذمة بذلك، بناء على أنّ من عليه قضاء من رمضان، لا يصح أن يجمعه مع صيام رمضان الحاضر، بنية واحدة.
ثانياً: لقد اعتمد الشيخ الألباني، في مسألة جمع عبادات ليست من الواجبات، بأداء واحدة من تلك العبادات، بنيات متعددة، اعتمد تطبيق الحديث القدسي المتفق عليه: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا هَمَّ عَبْدِى بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً). فرجل توضأ ثم دخل المسجد لأداء فريضة الظهر، سيكون أمامه ثلاثة أعمال قبل أن تقام الصلاة، ركعتا تحية المسجد، وركعتا راتبة الظهر، وركعتا سنة الوضوء. وهو بين خيارين:
الخيار الأول: ليس عنده متسع من الوقت وهو ينوي أداء التحية، والراتبة، وسنة الوضوء، فنقول له أدِّ إحداها بالنيات الثلاث (المعقودة في قلبه وليست على لسانه)، وليبدأ بركعتي التحية، ولا يصلي غيرها. وسيكون أجره حسب الحديث، إن شاء الله، أن يُكتب له أجر التي أداها، ما بين عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف؛ حسب اتقانه وخشوعه، والله أعلم بحاله. يضاف إلى ذلك حسنتين عن النيتين الأخريين، اللتين همَّ بهما، ولم يؤدهما.
أما الخيار الثاني، وهو الأفضل، بلا شك، أن يؤدي العبادات الثلاث، ما دام لديه متسعٌ من الوقت، منفصلةً، فيؤدي ركعتين لكل عبادة بنيتها، والنتيجة، ستُ ركعات. فيكون أجره، هذه المرة، بإذن الله، من عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، لكل واحدة من تلك العبادات. وفضل الله واسع والحمد لله. (وهذا الذي كُتب هو ملخصٌ لما ذكره الشيخ الألباني، في الشريط رقم (220) من سلسلة الهدى والنور).
وعندي والله أعلم، أنّ الكلام الأخير للشيخ الألباني، هو الجواب المؤصل، للسؤال الذي يحمله العنوان، عملا بالحديث المذكور، وبعيدا عن اجتهادات عقلية سببت تعدد الأقوال في المسألة.
والله أعلم ورد العلم إليه أسلم، والحمد لله أولا وآخرا