إنّ في الإسلام قواعد أسسها الإيمان بما جاء عن الله ورسوله، وأكدها العقل الذي استنار بنور الوحي، ففهم عن الله ما أراده من عباده، وكان من الفائزين. وعمل بها العلماء الربانيون الذين لا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ويقدسون نصوص الوحيين، ولا ينافسونها بالعقل والاجتهاد البشري.
ومن هذه القواعد أنّ كلام الله، تبارك وتعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، يؤخذ منهما ظاهرهما المتبادر إلى الذهن، دون المعاني المؤولة. وهذا هو الذي يريده أيُّ متكلمٍ من كلامه لكي يُفهم قصده، حين يتفق الناس على ظاهر الكلام، وإلا ضاع المراد في متاهات المعاني المؤولة، والاتفاق على التأويل مستحيل. فلو كان المراد من الكلام قصدا باطنيا، فلا يعلمه إلا الله ثم قائله، ويترتب على ذلك معايشة الاختلاف للناس في كل شأن، ويلف الالتباس كل خطاب!
ودفعاً لذلك كانت القاعدة العامة: أنّ كل كلام يُؤخذ بظاهره، ولا يُعدل عن الظاهر إلى معنى مؤول أبداً! إلا في حالات خاصة، تفرضها قرائن شرعية وليست عقلية.
وأكاد أجزم، أنّ من أليق المعاني بلفظة (أحْسَنَهُ) في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)، أنّ الأحسن من الكلام هو المعنى الظاهر منه، المتبادر الذي يقطع كل لبس من أي كلام، ولاسيما كلام الله ورسوله. ونكرر القاعدة التي ذكرت قبل قليل لأهميتها، وهي القاعدة المتفق عليها في التعامل مع أي نص شرعي: أن لا يُعدل عن الظاهر إلى معنى باطن مؤول إلا لقرينة شرعية، عندما يكون المعنى الظاهر لا يصح شرعا، وليس لقرينة عقلية، وهذا قليل.
ويحسن ذكر بعض النقول عن أحسن الكلام: جاء في كتاب (الموسوعة القرآنية): (أَحْسَنَهُ الأهدى الى الحق).
وفي تفسير السعدي: ({وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ} أي: العقول الزاكية. ومن لبهم وحزمهم، أنّهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره على ما سواه، وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإنّ الذي لا يميز بين الأقوال، حسنها وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذي يميز، لكن غلبت شهوتُه عقلَه، فبقي عقلُه تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، فكان ناقص العقل).
وفي (التحرير والتنوير): (أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ نَقْدٍ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْحِكْمَةِ وَالْأَوْهَامِ ، نُظَّارٌ فِي الْأَدِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ نُقَّادٌ لِلْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ. وَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ أَحْسَنِ الْقَوْلِ سَبَبٌ فِي حُصُولِ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ).
بعد هذا المدخل، نقول: حين يكون بين أيدينا نصٌ من الكتاب أو السنة الصحيحة، فالواجب العمل بما يقتضيه الظاهر، وترك كل الاستنتاجات والاستنباطات التي تأتي بها العقول، لتزاحم المعنى الظاهر المتبادر، وتبعده لتأخذ محله. وكيف يَسوغ ذلك ويُرضى والمعنى الظاهر المتبادر فورا إلى الذهن هو المراد من كل نص شرعي..؟ وما سوى ذلك من الاجتهادات والأقوال البشرية لا تقوم بها حجة، ولا تغني من الله شيئا! ولقد كان هذا، ولا زال دأب أهل الفرق الناكبة عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي) لتتحلل من تطبيق الوحيين اتباعا للهوى والعقل، وأهل الكلام. وقد صرح بعضهم بهذا الانحراف المريع، ولنسمع ما يقوله أحمد الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين: (ولا يجوز تقليد ماعدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر).
ويا للأسف! فما لبث هذا المنزلق الخطير أن سرت عدواهُ إلى الفقهاء، فصار لكل مسألة عدد من الأوجه، بدعوى مقتضى اللغة، أو موافقة العقل، أو التيسير والتخفيف، أو موافقة أصول المذهب. وصار كل قول في الدين معتبرا، تُدوِّنُه الكتب. وتَقرأ في بعض الكتب أنّ بعض المسائل وصلت إلى خمسين قولا! وصارت كل هذه الأقوال تُدَرَّس بل تُقدم أحيانا على ما جاء به النص.
وهناك توصية ثانية خاصة بالتعامل مع نصوص الوحيين القرآن والسنة، وهي بالأهمية التي تتمتع بها الأولى التي سبقت. مفادها أنّ المعنى الذي يؤخذ من نصوص الوحيين يجب أن يكون مطابقا تماما للنص الأصلي، دون إسقاط شيء، أو إضافة شيء يُفترض بالعقل أنّه من النص، وليس مذكورا، وهذا الخطأ الكبير هو توأم الخطأ الأول، وهو التأويل، وكلاهما يحدث من تدخل العقل في معنى النص!
ندخل الآن إلى مسألة تمثل صلب موضوعنا. فبالأمس القريب أثيرت قضية حول صيام الست من شوال بعد رمضان. وقام بعض المشتغلين بالعلم الشرعي ليقول: صيام الست من أي شهر في السنة يجزيء، والدليل قول فلان وفلان من الفقهاء فإذا كان الحديث الصحيح يقول: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ)، ففيه البيان الكافي الشافي، فما حاجتنا إلى قول فلان وعلان..؟ مهما علت مراتبهم في العلم. الدين وحي وليس فيه من عقول أهل الأرض شيء، ولا ينبغي أن يكون..! أجل، نحن بحاجة إلى العلماء، ولا يُستغنى عن دورهم، لكن مهمتهم أن يعينوا الناس على فهم النصوص، وتقريبهم من ربهم من خلال حثهم على العمل بها، والاتباع الكامل لظواهرها، أما أن تُزاحم النصوص بتقديم أقوال الرجال عليها، وتشويش الناس، وصرفهم عن الاتباع، فهذا صدٌ عن السبيل، عياذاً بالله، وما أكثر ما يقف عليه المستقصي من أشباه ونظائر لهذا المثل.
وما زلنا نَقرأ ونُقريء في كتب الفقه أنّ في الصلاة الوسطى ستة عشر قولا، رغم وجود النص أنّها العصر. وأنّ في تحديد ساعة الإجابة يوم الجمعة ثلاثة وأربعين قولا. ويقول الشوكاني بعد سردها، نقلا عن الفتح: (ولا شك أنّ الأحاديث الواردة في كونها بعد العصر أرجح لكثرتها واتصالها بالسماع).
ونقرأ أيضاً: أنّ مبطلات الصوم في بعض المذاهب تصل إلى اثنين وسبعين! في حين أنّ المفطرات في الكتاب والسنة أربعة. وأنّ القرء طهر، والنبي صلى الله عليه وسلم حدد أنّ القرء حيض.
فكيف يكون هذا التنازع والإختلاف، والله علمنا وأرشدنا بل أمرنا (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) و (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا).
وقد يضطر المرء لأن يقول كلاما لا يتمنى أن يقوله، لكنّه أمام هذا الإعراض السافر عن الوحي، يضطر أن يقول: لكأنّنا بتلك الكتب، وما فيها من أقوال متعارضة، هي لسانُ حالِ بعض المسلمين وبعض علمائهم، تقول: يارب لقد رددنا التنازع إليك وإلى نبيك كما أمرت، ولم يرتفع الخلاف..! ولم ينحسم النزاع..! فهل بعد هذا العصيان من عصيان؟!
ولا زالت الأقوال المتعددة تأبى إلا أن تخالف قول ربنا، الذي يصف فيه كتابه الكريم ودينه القويم: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)!
ومن أوضح ما نتحدث عنه من مخالفات الوحي في كتب الفقهاء مسألة (ترك من يريد أن يضحي، الأخذ من شعره وأظفاره، وحكم ذلك)، ورد ما لفها من خلاف إلى النص المحكم. وأصل المسألة حديثٌ في صحيح مسلم، عن أم سلمة رضي الله عنها، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَعِنْدَهُ أُضْحِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّىَ فَلاَ يَأْخُذَنَّ شَعْرًا وَلاَ يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا). وفي رواية له: (فَلاَ يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا). ولو دققنا في الحديث لوجدناه من الوضوح وبساطة التركيب ما يجعله مفهوماً بيسرٍ للعوام من الناس، لكن بعض المشتغلين في الفقه، قديما وحديثا، أدخلوه في دوامة التفصيل والتأويل، مما أحاط المسألة بالتشويش والتشكيك وكثرة الاختلاف. ويمكن تلخيص ذلك في نقاط:
1. التشكيك في صحة رواية أم سلمة، مع أنّها في مسلم، والطعن في تفردها بها، والتفرد بالرواية لا يُعلها إن سلمت من معارض، بل لابد من أن يصار إلى العمل بها حسب علم المصطلح، لكن عارضتها عقولهم فردوها، وقد يكون منهم علما كبار، لكن النص أكبر من كل أحد!
2. معارضة رواية أم سلمة رضي الله عنها بقول عائشة رضي الله عنها: (فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ بِيَدَىَّ، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ لَهُ حِلاًّ). وقول عائشة رضي الله عنها لا معارضة فيه لقول أم سلمة رضي الله عنها، لأنّ الأولى تتكلم عن هديٍ كان يرسله رسول الله عليه السلام إلى مكة في غير وقت الحج، وأم سلمة تتحدث عن الأضحية. فنحن أمام نسكين مختلفين، هديٍ بالغِ الكعبة، وأضحيةٍ. وروايتين كل تغطي مسألة، ولابد من العمل بالنصين كما حرر ذلك ابن تيمية في الفتاوي، شارحا ما كان عليه الإمام أحمد رحمه الله. ويقول الشوكاني رحمه الله: (وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ» فَجَعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ مُقْتَضِيًا لِحَمْلِ حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ أَخَصُّ مِنْهُ مُطْلَقاً فَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَيَكُونُ الظَّاهِرُ مَعَ مَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيم).
3. ولقد شغبوا على النص بزعمهم أنّه تشبه بالمحرم لكن اعتبروه غير صحيح، لأنّه لم يأمر بترك الطيب واعتزال النساء، وهي حجة أضعف مما سبقها، وهي تدخل العقل في مورد النص.
4. واستعرضوا أقوال الأئمة فقالوا: قال أبو حنيفة: بجواز أخذ الشعر وقلم الظفر للمضحي بلا كراهة. وذهب الإمام مالك والشافعي إلى أنّه مكروه كراهة تنزيهية. وذهب الإمام أحمد في الرواية الراجحة في مذهبه إلى أنّه حرام، اعتماداً منه على حديث أم سلمة. وقالوا إنّ التحريم هو من مفردات الإمام أحمد رحمه الله تعالى التي خالف بها سائر الأئمة. ونقول: ما الذي يجعل هذه الأقوال سائغة وهي تخالف منطوق حديث أم سلمة الصحيح..؟ وبأي ميزان تجعل أقوال الأئمة الثلاثة المخالفة للحديث الصحيح هي الأرجح والأقوى مما ذهب إليه الإمام أحمد موافقةً للنص..؟ إلا أن يقال رأي الجمهور أقوى، ومتى كان الجمهور ومثلهم معهم فوق النص في ميزان الشرع..؟
5. وأقوالٌ غيرُ ذلك لا تستوي علميا، مثل إعلال حديث أم سلمة بالوقف، مع وجود روايات صحيحة مرفوعة. وإعلاله بأنّه انقلب على أم سلمة إلى حديث آخر وهو إحرام أهل المدينة، وهو كلام حظه من التأصيل العلمي ضعيف.
ولو استعرضنا كلام بعض العلماء الربانيين، وهم الذين أشرنا إليهم في بداية الكلام، على أنّهم لا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ويقدسون نصوص الوحيين، ولا ينافسونها بالعقل والاجتهاد البشري، كابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، ومن المعاصرين الألباني، وابن باز، والعثيمين، وفتاوى اللجنة الدائمة، نجدهم كلهم يؤكدون العمل بحديث أم سلمة وجوبا، ويفندون الأقوال الأخرى. ولولا خشية الإطالة لأثبتنا نماذج من أقوالهم. وأثبتُ واحدة من فتاويهم على سبيل المثال للشيخ محمد بن صالح العثيمين، يقول: (عن أم سلمة رضي الله عنها، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي). رواه مسلم. وفي رواية له : (ولا من بشرته). وهذا نهي، والأصل في النهي التحريم حتى يقوم دليل على أنّه لغير التحريم، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان الذي يريد أن يضحي إذا دخل شهر ذي الحجة أن يأخذ شيئًا من شعره، أو بشرته، أو ظفره حتى يضحي، والمخاطب بذلك المضحِّي، دون المضحَّى عنه، وعلى هذا فالعائلة لا يحرم عليهم ذلك، لأنّ العائلة مضحّىً عنهم وليسوا مضحين).
فلْيُتَّخَذوا مثلاً، ولْتُقْتَفَ آثارُهم، وكفانا ضياعاً، وحسبنا نزاعاً ولْنَلْزَمِ اتباعاً…
وعوداً على بدء، أكرر القول تأكيداً: (النَّصُّ أَولاً .. والنَّصُّ آخراً .. حَتى يَسْلَم الدِّينُ)…
والحمد لله رب العالمين