يَشْغَلُ كَثِيراً مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ عِنْدَ الدُّخُولِ إِلَى مَوَاقِعِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ الْقِرَاءَةِ فِي كُتُبِهِمْ، عُنْوَانُ (السَّيرَةُ الذَّاتِيَّةُ) لِهَذَا العَالِمِ. لِيَتَعَرَّفُوا مِنْ خِلَالِهَا عَلَى شُيُوخِهِ، وَيَعْلَمُوا تَلَامِذَتَهُ .. ثُمَّ مِنْ أَيْنَ خَرَجَ؟ وَأَيْنَ مَاتَ وَدُفِنَ؟ .. وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ شَهَادَاتٍ وَشَهَادَاتٍ .. فَيُقَوّمُونَ عِلْمَهُ مِنْ خِلَالِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ يُعْجَبُونَ أَوْ يَدَعُونَ .. وَقَدْ تَنْتَهِي القِرَاءَةُ عِنْدَ بَعْضِهِم هُنَا لَا يَتَجَاوَزُنهَا إِلَى الْمَضْمُونِ.

وَمَعَ حِرْصِ هَؤُلاَءِ عَلَى ذَلِكَ، حَرِصَ أَغْلَبُ العُلَمَاءِ وَطُلَّابِ الْعِلْمِ مِمَّنْ لَهُم مَوَاقَعَ وَمُؤَلَّفَاتٍ عَلَى حَشْدِ كُلِّ مَا حَصَّلَه فِي حَيَاتِهِ سَوَاءٌ خَدَمَ الدِّيِنَ أَوْ لَا فِي تِلْكَ (السَّيرَةُ الذَّاتِيَّةُ). وَكَانَ أَكَثَرُ مَا ابْتُلِيَ بِهِ طُلَّابُ العِلْمِ اليَوْمَ هُو قِرَاءَةَ أَسَانِيِدِ الأَحَادِيِثِ عَلَى عَالِمٍ فِي الْهِنْدِ .. أَوْ شَيْخٍ فِي السِّنْدِ .. فَيَضْرِبُ أَحَدُهُم آبَاطَ الإِبِلِ لِيَكُونَ لَهُ اسْمٌ فِي سِلْسِلَةِ الرُّوَاةِ .. وَأَقُولُ: إِنَّ مَنْ ثَنَى رُكْبَتَيْهِ لِيَكُونَ فِي السَّنَدِ اسْمَاً، هُو أَحّقُّ بِالْمَتْنِ عِنْدَ التَّطْبِيقِ .. فَهَلْ مَا نَرَاهُ الْيَوْمَ مِنْ صَفَحَاتٍ سُطِّرَت لِسِيَرِهِم مُنْعَكِسَةً إيجاباً عَلَى وَاقِعِهِم؟؟

إِنَّ رُوَاةَ الأَمْسِ كَانُوا شُرَّاحَاً لِلْحَدِيِثِ بِأَقْوَالِهِم وَأَفْعَالِهِم .. أَمَا رُوَاةُ الْيَوْمِ فَهُم فِي الْمُخَالَفَةِ مَنَارَاتٌ.

إِنَّ انْشِغَالَ طُلَّابِ الْعِلْمِ بِسِيَرِ العُلَمَاءِ دُونَ مَعْرِفَةِ العِبْرَةِ مِنْ كُلِّ حَدَثٍ فِي حَيَاتِهِم يُفْقَدُ هَذَا العَالِمَ قَيِمَةَ دَعْوَتِه، وَالْهَدَفَ مِنْ كَلِمَاتِهِ .. وَمَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله عَنَّا بِبَعِيِدٍ .. فَهُو مِثَالٌ انْتَشَرَ فِي صَفَحَاتِ الكُتَّابِ، وَعَلَى أَلْسِنَةِ الخُطَبَاءِ .. مُخْتَزِلِيْنَ سِيْرَتَهُ فَي عِبَارَاتٍ مَعْدُوُدَةٍ .. وَمَوَاقِفَ مَحْدُودَةٍ.

وَكُلُّ مَنْ كَتَبَ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَقَفَ عِنْدَ أَهَمِّ حَدَثٍ فِي سِيْرَتِهِ أَلَا وَهُو سِجْنُهُ فِي قِلْعَةِ دِمَشْقَ، وَعِبَارَتِهِ الشَّهِيرَةِ: (مَا يَفْعَلُ أَعْدَائِي بِي؟ إِنَّ جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي. إِنَّ قَتْلِي شَهَادَةٌ، وَسجْنِي خَلْوَةٌ، وَنَفْيِي سِيَاحَةٌ). مُتَعَامِلاً مَعَ ظَاهِرِ الْقِصَّةِ .. مُتَجَاهِلاً مَضْمُونَها وَمَغْزَاهَا.

فَسِيرَةُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ لَيْسَتْ سِجْنَاً أُوُدِعَهُ .. أَوْ ظُلْمَاً وَقَعَ عَلَيِهِ .. فَقَدْ أُوُذِيَ قَبْلَهُ كَثِيْرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى الأَنْبِيَاءُ لَمْ يَسْلَمُوا مِنَ الْأَذَى .. إِنَّمَا هِيَ مَنْهَجٌ، وَدَعْوَةٌ، عَاشَ مِنْ أَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْهَا.

إِنَّ الَّذِي يَرْسُمُ مَنْهَجَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَيُبَيِّنُ سَبِيْلَهُ أَسْئِلَةٌ تُطْرَحُ .. وَأَجْوِبَةٌ تُشْرَحُ .. تُبَيِّنُ أَمْرَيْنِ أَسَاسِيَّينِ: لِمِاذَا سُجِنَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ؟ وَمَنِ الَّذِي سَجَنَهُ؟

سُجِنَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ لِأَنَّهُ وَقَفَ فِي وَجْهِ مَنِ اجْتَهَدَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَمَنْ قّدَّمَ الْعَقْلَ عَلَى النَقْلِ، وَمَنْ نَصَبَ الخِلَافَ سَفَاهَةً بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ، فَجَعَلَهُمَا فِي الاسْتِدْلَالِ وَالْحُجِّيَةِ سَوَاءً .. سُجِنَ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُرْجِعَ الدِّيْنَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الأَمْرُ الأَوْلُ، زَمَنَ النَّبِيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَحَابَتِهُ الكِرِامِ…

وَالَّذِي أدَّى إِلى سَجَنَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ خَلَلٌ فِي الأُمَّةِ، وَوَبَاءٌ اسْتَشْرَى فَي ذَلكَ الزَّمَانِ وَيَخْلُفُ فِي كُلِّ زَمَانٍ. أَلَا وُهوُ: التَّعّصُّبُ الْمَذْهَبِيُّ، وَتَقْدِيْسُ الرِّجَالِ عَلَى حِسَابِ نُصُوصِ الْوَحْيَينِ .. فَالَّذِي وَجَّهَ الْوُلَاةَ لِسِجْنِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُمْ قُضَاتُهُ وَمُفْتُوهُ، مِنْ قَاضٍ لِلْمُعْتَزِلَةِ .. وَمُفْتٍ لِلْحَنَابِلَةِ .. وَآخَرٍ لِلشَّافِعِيَّةِ .. وَمُتَعَصِّبٍ لِلْمَالِكِيَّةِ .. وَمُكَرِّسٍ لِلْحَنَفِيَّةِ .. جَمِيْعُهُم كَانُوا وَرَاءَ سِجْنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ .. وَلْتُرَاجَعْ كُتُبُ التَّرَاجِمِ لِمَنْ أَرَادَ الاسْتِزَادَةَ.

وَمَا زَالَ مَنْهَجُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ؛ (سِيْرَتُهُ الذَّاتِيَّةُ)، إِلَى الْيَوْمِ، وَبَعْدَ ثَمَانِي قُرُوُنٍ يُحَارَبُ مِنْ عَمَائِمَ تَحْمِلُ الْفِكْرَ نَفْسَهُ، وَالوَبَاءَ ذَاتَهُ الَّذِي سَادَ عَصْرَهُ، وَعَجَزَتِ الأُمَّةُ عَنِ اسْتِئْصَالِهِ مِنْ حَيَاتِهَا عَلَى مَرِّ القُرُونِ بِسَبَبِ غِيَابِهَا وَغُثَائِيَّتِهَا .. وَهَكَذَا نَرَى الأُمَّةَ الْغَائِبَةَ فِي كُلِّ زَمَانٍ تَعُقُ رِجَالَهَا.

لَقْدَ كَانَ يَسَعُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله مَا وَسِعَ الْعُلَمَاءَ وَالْمَذَاهِبَ مِنْ قَبْلِهِ .. لَكِنْ أَرَادَهَا مَنْهَجَاً يُحْتَذَى فِي الدِّفَاعِ عَنْ قُدْسِيَّةِ النَّصِّ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

إِنَّ العُلَمَاءَ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الأّنْبِيَاءِ مَأْمُورُونَ بِمَا أُمِرَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ .. فَالله عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَهُم قَائِلَاً: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وَزَادَ الآَيَةَ حُسْنَاً مَحَاسِنُ القَاسِّمِيّ حِيْنَ تَأَوَّلَهَا قَائِلَاً: ({قُلْ هذِهِ سَبِيلِي}: أَيْ هَذِهِ السَّبِيلُ الَّتِي هِي الدَّعْوَةُ إِلَى الإِيِمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. {سَبِيلِي}: أَيْ طَرِيقِي وَمَسْلَكِي وَسُنَّتِي. وَالسَّبِيلُ وَالطَّرِيقُ يُذَكَّرَانِ وَيُؤَنَّثَانِ. ثُمَّ فَسَّرَ سَبِيْلَهُ بِقَوْلِهِ: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ أَيْ: إِلَى دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ. {عَلِى بَصِيرَةٍ}: أَيْ مَعْ حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ، غَيْرِ عَمْيَاءٍ. {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}: أَيْ آمَنَ بِي، يَدْعُوُنَ إِلَى الله أَيْضَاً عَلَى بَصِيْرَةٍ، لَا عَلَى هَوَى. {وَسُبْحانَ اللَّهِ} أَيْ: وَأُنَزِّهُهُ وَأُجِلَّهُ وَأُقَدِّسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيْكٌ أَوْ نِدّ أَوْ كِفْء أَوْ وَلَدٌ أَوْ صَاحِبَةٌ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوّا كَبِيْرَا. {وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَيْ: عَلَى دِينِهِم)ا.هـــ

إِنَّهَا سِيْرَةٌ ذَاتِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ .. تُلْزِمُ كُلَّ دَاعِيَةِ بِأَنْ يُعَرِّفَ نَفْسَهُ بِهَا أَمَامَ مَنْ يَدْعُوَهُم. إِنَّهَا جَامِعَةٌ كَافِيَةٌ .. غَنِيَّةٌ عَنْ كُلِّ غَثِّ وَسَمِينٍ مِنْ زُخْرُفِ الأَرْضِ .. تُصَدِّقُ عِنْدَ التَّطْبِيقِ مَنْ يَلْتَزِمُهَا .. وَتَكْشِفُ مُدَّعِيَهَا.

إِذَاً .. فَالسِّيْرَةُ الذَّاتِيَّةُ لِلْعَالِمِ هِيَ مَنْهَجُهُ، وَمَا قَامَتْ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ مِن الْتِزَامٍ لِلْوَحْي، وَاسْتِجَابَةٍ لله وَرَسُولِهِ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ .. فَهَلْ سِيَرُنَا اليَوْمَ كَسِيَرِهِم بِالأَمْسِ..؟ وَلْنَتَعَلَّمْ مِنْ سَلَفِنَا كَيْفَ كَانُوا يُتَرْجِمُونَ لِعُلَمَائِهِم .. فَالذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ الله حِينَ تَرْجَمَ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ قَالَ فِي تَرَاجِمِ الحُفَّاظِ: (مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ، وَكَأَنَّ السُّنَّةَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ).

أَخِيْرَاً .. وَبَعْدَ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ .. مَا السِّيْرَةُ الذَّاتِيَّةُ لِلشَّيْخِ مُحَمَّد نَبِيْلِ التَّكْرِيتِيّ؟

. إِنَّهَا شَعَارُ المّوْقِعِ (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) الْتِزَامَاً وَمَنْهَجَاً وَدَعْوَة .. قَوْلَاً وَعَمَلَاً .. فَهُوَ شِعَارٌ لَا يَسْتَطِيعُ مُدَّعِيَهُ إِلَا الالْتِزَامَ بِهِ .. وَهُوَ وَصْفٌ لَا يُنَاقَشُ .. وَمَضْمُونٌ لَا يُخَالَفُ .. لِأَنَّ مَصْدَرَهُ مُحَمَّدٌ صَلّىَ الله عَلَيْهِ وَسَلَّم .. فِي زَمَنٍ صَارَ كُلُّ قَوْلٍ لِسَلَفٍ فِي الأُمَّةِ – وَافَقَ الهَدْيَ أَمْ خَالَفَهُ- م خالفةتتهُوَ مِنَ السَّلَفِيَّةِ .. فَتَوَسَّعَ الْمَفْهُومُ، وَتَعَدَّدَتِ الأَقْوَالُ، وَالانْتِسَابُ وَاحِدٌ.

. إِنَّهَا الْعَمَلُ بِالْوَحْيَيْنِ .. وَبَثُّهُمَا فِي النَّاسِ .. وِفْقَ فَهْمِ السَّلَفِ لَهُمَا .. وَالاسْتِغْنَاءُ بِهِمَا عَمَّا سِوَاهُمَا.

. إِنَّهَا تَقْدِيسُ النَّصَّ مِنَ الْوَحْيَيْنِ الْمُنْزَلِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ .. وَتَعْظِيمُهُ فِي حَيَاةِ الأُمَّةِ .. بِتَحْقِيْقِ الغَايَةِ الَّتِي أُنْزِلَ مِنْ أَجْلِهَا، وَهِيَ العَمَلُ بِهِ طَاعَةً لله وَعُبُودِيَّةً.

. إِنَّهَا تَحَرُرٌ مِنْ كُلِّ سُلْطَانٍ إِلّا سُلْطَانَ النَّصِّ .. وَلَا يُوجَدُ فِي الأُمَّةِ مَعْصُومٌ بَعْدَ مُحَمَّدِ بِنِ عَبْدِ الله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلًامُ.

كُلُّ مَا سَبَقَ وَغَيْرُهُ، قَوَاعُدُ مَنْهَجِيَّةٌ جُعِلَ الْمَوْقِعُ مِنْ أَجْلِهَا .. تِبْيَانَاً لِلأُمَّةِ فِي زَمَنٍ اسْتَوحَشَ النَّاسُ مِنْ غَرَابَتِهَا وَغُرْبَتِهَا، لِبُعْدِهِم عَنِ الْوَحْيَيْنِ، وَاحْتِكَامِهِم لِلهَوَى وَالْعَقْلِ .. وَصُوَىً تُوضَعُ عَلَى طِرِيقِ بَعْثِ الأُمَّةِ مِنْ جَدِيْدٍ، تُرْشِدُ السَّائِرَ، وَتُنِيرُ الدَّرْبَ .. تُبْرُئُ الذِّمَّةَ، وَتُقِيمُ الْحُجَّةَ .. (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

بقلم المشرف على الموقع