Skip to main content

دليلٌ، وتأصيلٌ، وتسهيلٌ…!

By الثلاثاء 5 ذو الحجة 1445هـ 11-6-2024ممقالات

عجيبٌ أن يدوم الجدل بين الناس في مسائل شرعية دون محصلة! وأعجب من ذلك أن لا يكون لأهل العلم دور في الحسم، والنصوصُ حاضرةٌ لذلك! وغريبٌ أن تبقى تلك المسائل المختلف فيها عائمة لا تَستقرُّ على قرارٍ، فيَتلقفها الجهال لوصْمِ دين الإسلام بعدم الضبط، وينفذ المغرضون والأعداء من هذه الثغرة ليوظفوها أسوأ توظيف! ومن هنا كان المكر الكبار بالإسلام وأهله!
وأغربُ من هذا أنّ كل اختلافٍ شرعيٍ في حياة المسلمين تحول إلى اصطفافات يترأسها نخبٌ وعلماء، شُغِلوا بمعارك جانبية يخوضونها إرضاءً لغرور العصبيات النكدة، وتصفيةً لحساباتٍ فتحتها خصوماتٌ زائفة، بقيت تتدحرج على مر القرون، لتصبح بين أيدي من لا ناقة لهم بها ولا جمل، ولكنّ الولاءات العمياء غمستهم بها، ولا تُبرَّؤُ المذهبية الجاهلة من دور فاعل في ذلك! فأين قوة الوحيين التي تجمع ولا تفرق؟ وأين أخوة الإيمان التي تدني ولا تقصي؟ وأين كتاب الله، وأين هدي من لا ينطق عن الهوى، يلتقي عليهما المسلمون، فيستمسكون بالعروة الوثقى لا انفصام لها! وأين وصية ربهم، إن غلبتهم الأهواء، لتفصل بينهم؟ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). مشكلة أقضت مضجع شوقي فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: قائلاً:

شعوبُك في شرق البلاد وغربها *** كأصحاب كهفٍ في عميقِ سباتِ

بأيمـــــانهم نــــــــــوران، ذكـــــــرٌ وسنةٌ *** فمــا بالــــــــــهمْ في حــــالكِ الظـُّــلُماتِ؟

مقدمة طالت، ولا جُناح، فإلى الموضوع:
لما كثر الكلام، في الأيام الماضية، حين تبين أنّ يوم وقفة عرفة هو يوم السبت، حول حكم صيام ذلك اليوم، والمسألة حول هذا الموضوع صارت من الجدل المتكرر، كلما تكررت المناسبة. وشبيه ذلك كثير الحدوث كل حين! وكان في المقدمة إيضاح! فتركت الدخول في الجدل، وآثرت موقف المعلم! فوجدت في كتاب (جامع تراث العلامة الألباني في الفقه)، بحث قيم، ينفع الناس الذين يبحثون عن الحق، منفكين من كل شد إلى أية جهة إلا إلى الوحيين!
وأقدم بسطرين، آن للمسلمين أن يعلموا أنّه إذا تكلم الناس في الدين، فالذي يجب أن يُصغى إليهم أهل الحديث! ومن سأل لماذا؟ فليصغ إلى الجواب الشافي من ابن تيمية، يقول في الفتاوي: (وبهذا يتبين أنّ أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية “أهل الحديث والسنة” الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباعاً لها تصديقاً وعملاً وحبّاً وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها الذين يرون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنَّة أثبتوه، وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنَّة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الانفس؛ فإنّ اتباع الظن جهل واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم).


جاء عن الِشيخ الألباني، في كتاب (جامع تراث العلامة الألباني في الفقه):
(حكم إفراد الجمعة بالصيام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها، وأما أن لا تكلم أحدا، فلعمري لأن تكلم بمعروف، وتنهى عن منكر خير من أن تسكت». والشطر الأول من الحديث عزاه الحافظ في «الفتح» «4/ 234» لأحمد، وسكت عنه مشيرا إلى تقويته إياه. وله شواهد تقدم بعضها برقم «980 و 981 و 1014» وهو صريح الدلالة أنه لا يجوز صيامه وحده ولو صادف يوم فضيلة كعاشوراء وعرفة، خلافا للحافظ! السلسلة الصحيحة (6/ 2/ 1074).
يوم الجمعة لا يُصام وحده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم». واعلم أنّ قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» ينبغي أن يفسر باللفظ الآتي في الحديث الذي بعده. «إلا وقبله يوم، أو بعده يوم»، وهو متفق عليه، وبالروايات الأخرى المذكورة تحته، فإنها تدل على أن يوم الجمعة لا يصام وحده، ويؤكد ذلك الشاهد المذكور هناك بلفظ: «لا تصوموا يوم الجمعة مفردًا»، ومعناه في «صحيح البخاري» من حديث جابر «1984»، فقول الحافظ في «الفتح» «4/ 234»: «ويؤخذ من الاستثناء جواز صيامه لمن اتفق وقوعه في أيام له عادة يصومها؛ كمن يصوم أيام البيض، أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة»!
فأقول: لا يخفى على الفقيه البصير أنّ الاستثناء المذكور فيه مخالفتان: الأولى: الإعراض عن الروايات المفسرة والمقيدة بجواز صيامه مقرونًا بيوم قبله أو بعده. والأخرى: النهي المطلق عن إفراد صوم يوم الجمعة، ومن المعلوم أن المطلق يجري على إطلاقه ما لم يأت ما يقيده، فإذا قيد بقيد لم يجز تعدّيه، ولا يصلح تقييد النهي هنا بما جاء من الفضل في صوم يوم معين -كعرفة أو عاشوراء أو أيام البيض- لمخالفته لقاعدة: الحاظر مقدم على المبيح، مثل صيام يوم الإثنين أو الخميس إذا اتفق مع يوم عيد الفطر أو أحد أيام الأضحى، فإنه لا يصام، لا لنهي خاص بهذه الصورة وإنما تطبيقًا للقاعدة المذكورة، وما نحن بصدده هو من هذا القبيل. كتبت هذا -بيانًا وأداءً للأمانة العلمية- بمناسبة أن الحكومة السعودية أعلنت أن يوم عرفة سيكون يوم الجمعة في موسم سنة «1411 هـ»، فاضطرب الناس في صيامه، وتواردت عليّ الأسئلة من كل البلاد، وبخاصة من بعض طلاب العلم في الجزائر، فكنت أجيبهم بخلاصة ما تقدم، فراجعني في ذلك بعضهم بكلام الحافظ، ففصلت له القول تفصيلًا على هذا النحو، وذكرته ببعض الروايات التي ذكرها الحافظ نفسه، وأحدها بلفظ: « .. يوم الجمعة وحده، إلا في أيام معه». وفي شاهد له بلفظ: «إلا في أيام هو أحدها». فالجواز الذي ذكره الحافظ يخالف القاعدة والقيد المذكورين.
وبهذه المناسبة أقول: إنّ هناك حديثًا آخر يشبه هذا الحديث من حيث الاشتراك في النهي مع استثناء فيه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ..»، وهو حديث صحيح يقينًا، ومخرج في «الإرواء» «رقم 960»، فأشكل هذا على كثير من الناس قديمًا وحديثًا، وقد لقيتُ مقاومة شديدة من بعض الخاصة، فضلًا عن العامة، وتخريجه عندي كحديث الجمعة، فلا يجوز أن نضيف إليه قيدًا آخر غير قيد «الفرضية» كقول بعضهم: «إلا لمن كانت له عادة من صيام، أو مفردًا»؛ فإنه يشبه الاستدراك على الشارع الحكيم، ولا يخفى قبحه. وقد جرت بيني وبين كثير من المشايخ والدكاترة والطلبة مناقشات عديدة حول هذا القول، فكنت أذكرهم بالقاعدة السابقة وبالمثال السابق، وهو صوم يوم الاثنين أو الخميس إذا وافق يوم عيد، فيقولون يوم العيد منهي عن صيامه، فأبين لهم أن موقفكم هذا هو تجاوب منكم مع القاعدة، فلماذا لا تتجاوبون معها في هذا الحديث الناهي عن صوم يوم السبت؟! فلا يُحيرون جوابًا؛ إلا قليلًا منهم فقد أنصفوا جزاهم الله خيرًا، وكنت أحيانًا أطمئنهم وأبشرهم بأنه ليس معنى ترك صيام يوم السبت في يوم عرفة أو عاشوراء مثلًا أنه من باب الزهد في فضائل الأعمال، بل هو من تمام الإِيمان والتجاوب مع قوله عليه الصلاة والسلام: «إنك لن تدع شيئًا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه». وهو مخرج في «الضعيفة» بسند صحيح تحت الحديث «رقم 5». هذا؛ وقد كان بعض المناقشين عارض حديث السبت بحديث الجمعة هذا، فتأملت في ذلك، فبدا لي أن لا تعارض والحمد لله، وذلك بأن نقول: من صام يوم الجمعة دون الخميس فعليه أن يصوم السبت، وهذا فرض عليه لينجو من إثم مخالفته الإِفراد ليوم الجمعة، فهو في هذه الحالة داخل في عموم قوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث السبت: «إلا فيما افترض عليكم». ولكن هذا إنما هو لمن صام الجمعة وهو غافل عن النهي عن إفراده، ولم يكن صام الخميس معه كما ذكرنا، أما من كان على علم بالنهي؛ فليس له أن يصومه؛ لأنه في هذه الحالة يصوم ما لا يجب أو يفرض عليه، فلا يدخل -والحالة هذه- تحت العموم المذكور، ومنه يعرف الجواب عما إذا اتفق يوم الجمعة مع يوم فضيل،(عرفة أوعاشوراء، مثلا) فلا يجوز إفراده كما تقدم، كما لو وافق ذلك يوم السبت؛ لأنه ليس ذلك فرضًا عليه. وأما حديث: «كان صلى الله عليه وسلم يكثر صيام يوم السبت»، فقد تبين أنّه لا يصح من قبل إسناده، وقد توليت بيان ذلك في «الضعيفة» برقم «1099
»
)
.
انتهى النقل من المجلد الثالث، من المرجع المذكور، فليراجعه من شاء الوقوف على الحقيقة.

والكلام السابق منقول بالحرف، ولن تجد أيها الأخ المسلم تأصيلا ولا تدقيقا ولا إيضاحاً، كالكلام السابق، وناهيكم بالمُحدِّث إذا تكلم، ويقول المثل العربي: (قطعتْ جَهيزَةُ قولَ كُلِّ خَطيب)، وكثرة الكلام، وحشد النقول، دون فقه الفقيه، وصنعة المحدث، يبعد النجعة بالمسلمين، عن مراد الوحيين، وهما أصل الدين، وتكبر زاوية الانفراج عن الأصل، ويتسع الخرق على الراقع. وتغدوأحكام الإسلام،
خلطا من مخرجات العقول، واختيارات الأهواء، وسُيوب الوسطيين، فإلى الله المشتكى، ولن يُرجى خَلاصٌ إلا بما أمر به النبي، عليه الصلاة والسلام، (ترجعون إلى أمركم الأول

والحمد لله رب العالمين