إنّ من شأن الله قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، ولا علم لنا إلا ما علَّمنا. ولأهمية الموضوع لابد من تفصيل مناسب، في موضوع النصر في الإسلام، استنتجه العلماء واستخرجوه، من دراسة بعض الوقائع والنصوص. وها هو التفصيل باختصار.
للنصر أنواع ثلاثة، نُظِمَتْ في أبيات شعرية:
ونصرُ الله أنواعٌ فحاذرْ … بجهلٍ أن تسيءَ الظن حاذرْ
فكونيٌ لأقـواهـم إذا مـا … تساووا في المعاصي والكبائرْ
وآخـرُ من تفضُّله تعالى … وحكمته فيُعطي النصــر كافرْ
كنصرِ الروم ضدَّ الفرس حتى … يُسَرَّ المؤمنون بذي البشائرْ
وثالثُها لأهــل الدين حقٌ … ومَنْ نَصَرَ الإلهَ يَجِدْه ناصرْ
الأول: (النصر الكوني)، وشاء الله تبارك وتعالى أنْ يربط نتائج ذلك النوع من الصراع بطبائع الأشياء وما تواضعت عليه عقول الناس، في أنّ النتائج في العادة تُحسم لصالح الفريق الأكثر عُدة وعتاداً ورجالاً، لا سيما إذا كان ذلك النوع من الصراع عَارياً تماماً عن المُثل والأمور المعنوية، فضلاً عن العقدية الدينية. فهو صراع أرضي على مصالح أرضية. وشاء الله أنْ يبقيه أرضياً في نتائجه، ووفق مفاهيم أهل الأرض في سيره.
الثاني: (النصر التَّفَضُّلي)، وقد يشاء الله بحكمته، أنْ يُخرج صراعاً ما من دائرته الأرضية، أو بعبارة أخرى من دائرة النصر الكوني الذي تحكمه قواعد الأرض، بعد مشيئة الله ذلك، إلى دائرة النصر التفضلي، ليكون النصر لمن يشاءه الله، وإن كان ليس أهلاً (مستحقاً) للنصر، لحكمة قد يُبَيِّنُها الله لنا أو لا يُبيِّنُها! بمعنى أنّ يَمنح الله النصر لفريق يُقاتل من أجل أهداف أرضية لا تستحق نصر الله، فتستوعب إرادة الله وحكمته نتائج ذاك الانتصار، التي لا يستحقها المقاتلون، لينتفع بها من يشاء الله من عباده المؤمنين. وأوضح مثال يُضرب هو نصر الله الرومَ على دولة الفرس، وكِلا الدولتين عدو للإسلام والمسلمين لدود. لكنّ الله بشّر المؤمنين بذاك الانتصار قبل وقوعه، وفرّحهم ومنّاهم به، لأنّه سيزيل من طريقهم دولة فارس، وهي أعتى الدولتين، بِيَد الروم، وكفى الله المؤمنين قتالهم (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
الثالث: (النصر الاستحقاقي)، وهو في حقيقته إنجاز لموعود الله لمن يستحق النصر، وهذه بعض النصوص التي تؤكد وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين:
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
فالمؤمنون كُلفوا بالإعداد للقتال إعداداً مقيداً بالاستطاعة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وإيضاح ذلك أنّ النصر في الإسلام لا يأتي به المُقاتلُ وسلاحُه، إنّما يأتي به الله عندما تكون عُدَّةُ المؤمن وعَتادُه عقيدتَه، وإخلاصَه، وتسليمَه.! (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وما أكثر ما كفى الله المؤمنين القتال حين صدقوه، بجنودٍ لم يَروها (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).
بعد هذا الاستطراد الذي فرضته المناسبة، لكنَّ الخيرَ في ذلك، إن شاء الله، لأهميته في واقع المسلمين المعاصر. أقول مُعَلِّقاً، انتصارُ جهةٍ ما انتصارا تفضليا، لا يعني أبداً، أهلية تلك الجهة لاستحقاق نصر الله، وإنّما نصرها الله تفضلا منه، لكن الذي ينتفع بذلك النصر جهة أخرى، شاءها الله، فعلينا، إن كنا صادقين، في ادعائنا ودعوانا، أن لا نخلط الأفهام، ونبعثر الأوراق، لطمس الحقيقة وتحكيم الأهواء! ولعل المقصود قد بَلَغَ، ولا حاجة للإطالة.
وقد يُنْصَرُ من لا يستحقُّ النصر، لمصلحةِ غيره من العباد، وعلى ذلك فليس بالضرورة أن يكون المنصور تَفَضُّلاً مرضياً عند الله، ولا يعتبر انتصاره تزكيةً له ولغيره، ممن يُعرف من ظاهر أحوالهم، أنّهم ليسوا أهلا لنصر الله، بالمعيار الإسلامي!
_____________________
* الموضوع مقتطع من بحث طويل بعنوان (شَأْنُ اللّه … إعْرِفُوهُ وَلا تَتَكلّفُوه!) … وهو موجود على الموقع.
الرابط: https://www.mhdnabilaltakrity.com/?p=2908