كُلمتُ مراراً، من إخوة وأحباب، وكان الكلام يحمل شوبا من استغراب وعتاب! وموضوع الكلام إن شئتم: العتابُ حول ما يجري في غزة، والناس يعتبرونه قضية العرب والمسلمين المركزية، وأملاً في وجدان كل أحد، فهل يسعُ أحداً تجاهلُه؟ وأجدني منذ بداية الحدث عزوفا عن الخوض فيه سياسياً، فلا يليق بأهل الدين أن يتعاطوا السياسة دون إخضاعها والمشتغلين بها للمعايير الشرعية الإسلامية، في حين أنّ التجارب علمتنا أنّ أهل السياسة لا يرون للدين محلا في سياستهم، ولطالما قيل لنا في مناقشات: دعوا الدين جانباً!
ولقد قلبت الأمر مع نفسي، فقالت: أجب سؤل أحبابك تكتسبْ وصف الإيجابية، والداعية لا يعرف السلبية. وأخذت على نفسي أن تكون مقاربتي للموضوع إسلاميةً محضة، معتمدا على نباهة القارئ الذي يدرك المرامي السياسية وراء الطرح الإسلامي، حتى أكون منسجما مع إصراري على العزوف عن الحديث في السياسة. وأحب أن أكرر مقولة درجت على تكرارها (السياسة لا دين لها، والدين كلُّه سياسة!).
أقولُ وبالله التوفيق، إنّ مَثَلَ المختلفين، من المؤمنين، في ما يجري في غزة اليوم، كمثل الصحابة يوم الحديبية، مع فارقٍ كبير، أنَّ أهل الحديبية، بعد ذهولٍ يسيرٍ، سببه أمرٌ رباني لم يكن في حسبانهم، لزموا غرز نبيهم، وعاودت الأمور مجراها الشرعي، أما المسلمون اليوم، فلا زالوا في خوض يلعبون! ولا بأس من تلخيص مكثف لقصة الحديبية فذلك أدعى للفهم القويم، وتحقيق المُراد.
ما هو صُلح الحُديبية؟ هو صلح عقد قربَ مكة، في منطقة الحديبية التي تُسمى اليوم الشميسي، في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، وقد أعلن النبي أنّه يريد المسير إلى مكة لأداء العمرة وذلك بعد رؤيته في المنام أنّه يطوف بالبيت الحرام.
وسار النبي ﷺ بألف وأربع مئة من المهاجرين والأنصار، وكان معهم سلاح السفر لأنّهم يرغبون في السلام ولا يريدون قتال المشركين، ولبسوا ملابس الإحرام ليؤكدوا لقريش أنّهم يريدون العمرة، ولا يقصدون الحرب. وعندما وصلوا إلى (ذي الحليفة)، أحرموا بالعمرة. فلما اقتربوا من مكة بلغهم أنّ قريشاً جمعت الجموع لمقاتلتهم وصدهم عن البيت الحرام. فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة، فبركت ناقته عليه السلام، فقالوا: خلأت الناقة، فقال عليه السلام: (ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها).
ولما نزل النبي ﷺ بالحديبية أرسل عثمان بن عفان إلى قريش وقال له: أخبرهم أنّا لم نأت لقتال، وإنّما جئنا عماراً، وادعهم إلى الإسلام. ولكن عثمان احتبسته قريش، فتأخر في الرجوع إلى المسلمين، فخاف النبي عليه، وخاصة بعد أن شاع أنّه قد قتل، فدعا إلى البيعة، فتبادروا إليه، وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل فيها: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)، وقِيل إنّها سُمِّيت (بيعة الشجرة) لأنّها وقعت تحت الشجرة، عند الحديبية.
وقامت قريش بإرسال عروة بن مسعود الثقفي إلى المسلمين فرجع إلى أصحابه، فقال: (أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً. والله ما انتخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، ثم قال: وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها).
فأسرعت قريش في إرسال سهيل بن عمرو القرشي لعقد الصلح، فلما رآه النبي قال: قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فتكلم سهيل طويلاً ثم اتفقا على شروط الصلح، والشروط معروفة يستطيع من أراد مراجعتها في مظانِّها.
وحين فرغ النبي ﷺ من قضية كتاب الصلح، وكانت النتيجة لا عمرة ولا قتال في ذاك العام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا، ثم احلقوا، وما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام ولم يكلم أحداً منهم حتى نحر بدنه ودعا حالقه ؛ فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا)، وكانت تلك نصيحة زوجه أم سلمة رضي الله عنها. وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غما، ومنهم عمر رضي الله عنه، الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟)، قال صلى الله عليه وسلم: (بلى)، فقال: (فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذاً؟)، ويقول: (أَوَ لَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَاتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟) قال: (بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟)، قال: (قلت: لاَ)،قال: (فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ)، ويجيبه رسول الله بأبي هو وأمي: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني).
ومن هذه اللحظة ومن فحوى الحوار يبدأ الدرس، وتظهر العبرة التي أردت للمسلمين فهمها وإسقاطها على ما نحن فيه! ومن يقرأ الحوار بين النبي عليه الصلاة والسلام وعمر رضي الله عنه، يثور في نفسه استغراب وتساؤل، هل فات عمر أنّه يحاور نبياً لا ينطق عن الهوى، فلمَ المجادلة؟ ولم يكتفِ عمر بذلك، بل راجع في ذلك أبا بكر، كأنّه يشكو الأمر إليه! ورد عليه أبو بكر: (أيُّها الرَّجُلُ إنَّه لَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وليسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وهو نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إنَّه علَى الحَقِّ). فلنبقَ على ذكرٍ من ذلك الحدث، لتكتمل الصورة، وتدرك الغاية من هذا الموضوع!
وانطلق النبي ومن معه من الصحابة على طريق العودة إلى المدينة. وكانت نفوس الصحابة الذين لم يحققوا العمرة في البيت، ولم يؤذن لهم بقتال المشركين في مكة، مُحبطةً مُغتاظةَ، ولم يَطُل أمد ذلك الحال، فإنّ نبيهم الذي عرف ما في نفوسهم بدأ يتلو عليهم ما أنزل الله عليه تسكينا لهم. ومن تلك البشائر نزول سورة الفتح، ولقد سمى الله ما حدث في الحديبية فتحاً، رغم عدم حدوث قتال! ولقد جاء في الحديث أنّ رجلا قال: (يا رسول الله، أوَ فتحٌ هو؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: أي والذي نفسي بيده إنّه لفتح). وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه وغيره أنّه قال: (إنّكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية). وروى البخاري عن البراء رضي اللّه عنه قال: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيب نفوس أصحابه قائلا: أخرج البخاري أنّ جابر بن عبد الله قال: قالَ لَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ: (أنتُمْ خَيْرُ أهْلِ الأرْضِ وكُنَّا ألْفًا وأَرْبَعَ مِئَةٍ، ولو كُنْتُ أُبْصِرُ اليومَ لَأَرَيْتُكُمْ مَكانَ الشَّجَرَةِ)، وقال عليه السلام: (لن يلج النار أحد شهد بدرا أو بيعة الرضوان).
وكان من أعجب ما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقْتَئِذٍ تهدئةً لنفوس الصحابة، بياناً لسبب عدم الإذن بالقتال في ذلك العام، فخاطب الله نبيه وأصحابه وهم قافلون إلى المدينة، قائلاً: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
وقال السعدي رحمه الله، في تفسير تلك الآيات: (ثم ذكر تعالى الأمور المهيجة على قتال المشركين، وهي كفرهم بالله ورسوله، وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة، وهم الذين أيضا صدوا {الهدي مَعْكُوفًا} أي: محبوسا {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وهو محل ذبحه وهو مكة، فمنعوه من الوصول إليه ظلما وعدوانا، وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم، ولكن ثم مانع وهو: وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين، وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن أن لا ينالهم أذى، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون، والنساء المؤمنات، الذين لا يعلمهم المسلمون أن تطأوهم، أي: خشية أن تطأوهم {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} والمعرة: ما يدخل تحت قتالهم، من نيلهم بالأذى والمكروه، وفائدة أخروية، وهو: أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيمن عليهم بالإيمان بعد الكفر، وبالهدى بعد الضلال، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب. {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو زالوا من بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بأن نبيح لكم قتالهم، ونأذن فيه، وننصركم عليهم).
وذُكرتْ عدة روايات، أنّ عدة المؤمنين والمؤمنات في مكة، يوم الحديبية، كان لا يزيد عن اثنتي عشرة نفسا بين رجل وامرأة. ولحرمة دماء أولئك لم يُؤذن للنبي وأصحابه بقتال المشركين في مكة، وتطهير المسجد الحرام من رجس المشركين! فهل عسانا نتعلم حرمة الدم المسلم، وشأنه الكبير عند الله! فاعتبروا يا أولي الأبصار! ولنقارن هذه الحادثة في سيرة نبينا وهو لنا إسوة، مع ما يمارس اليوم باسم الإسلام!
ويحسن بنا، إتماماً للفائدة، الوقوف مع موقف عمر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية، وقد غلبته عواطف الانتصار المُؤمَّل، وتمني دخول المسجد الحرام بعد حرمان طال، ودحر المشركين الذين دنسوا قبلة المسلمين، كل ذلك أنساه ما لا يُقبل ممن هو دونه أن ينساه. ولم يُفق من حكم العاطفة عليه إلا على كلمات أبي بكر الحاسمة والحازمة (أيُّها الرَّجُلُ إنَّه لَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وليسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وهو نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إنَّه علَى الحَقِّ).
وانتقدني بعضهم ذات مرة وأنا أتكلم في هذا، معترضا على قولي إنّ عمر رضي الله عنه قد حكمته العاطفة، وأجبت بكلمات قالها عمر روتها عنه كتب الحديث بالسند الصحيح. وقد جاء (وبقي عمر رضي الله عنه زمنا طويلا متخوفا أن ينزل الله به عقابا لما قاله يوم الحديبية، وكان يقول: فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت، مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ).
وممن كان له موقف مثل موقف عمر، رضي الله عنه، الصحابيُ سهل بن حنيف، رضي الله عنه، وكان يقول: (اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل [الحديبية] ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرددته).
يتبين من قصة الحديبية أنّ الصحابة رضي الله عنهم قد تعلموا دروسا وعبرا من أحداث صلح الحديبية، وعلى رأس ذلك وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره وإن خالف ذلك العقول والنفوس. وكذلك فقد كان فيها دروس تبقى هدياً للمسلمن إلى قيام الساعة، وقد نبهنا النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك بقوله: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}). وقال الخطابي: (وقوله: [وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألوني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا]، يريد والله أعلم، المصالحة والجنوح إلى المسالمة وترك القتال في الحرم والكف عن إراقة الدماء فيه، وهو معنى تعظيم حرمات الله). فهل يا ترى انتفعنا منها، واتقينا غائلة تسلط العواطف والأهواء علينا.
ومن أجمل وأعجب ما قرأت لابن تيمية بحثا في رسالته الموسومة (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وهي نفيسة في بابها فلتقرأ. يتكلم فيه عن الفرق بين (الصِّدِّيق والمُحَدَّث). وبعد أن يذكر ابن تيمية فضائل عمر والأحاديث التي وردت أنّه مُحَدَّثٌ، وأنّه لو كان بعد نبينا نبي لكان عمر، وما نقل عن الترمذي من قول النبي عليه السلام: (إنّ الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه). يذكر ابن تيمية مختصرا لوقائع الحديبية، مركزا على موقف عمر رضي الله عنه، ويضيف مسألتين أخريين، لم يحالف الصوابُ فيهما عمر رضي الله عنه، بل كان المتفوق أبا بكر رضي الله عنه.
يقول ابن تيمية: (فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك ، وقال: فعملت لذلك أعمالا. وكذلك لما مات النبي صلى الله عليه، أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر: إنه مات . رجع عمر عن ذلك. وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله ألا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها» فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: «إلا بحقها» فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى اللله عليه وسلم لقتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعلمت أنه الحق).
ثم يطلع علينا ابن تيمية رحمه الله بالنتيجة الرائعة من الكلام السابق، والتي يجب أنْ نقف معها طويلاً ويقول: (تحت عنوان (مرتبة الصِّدِّيق ومرتبة المُحَدَّث)، ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر، مع أن عمر رضي الله عنه مُحَدَّثٌ ، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث ، لأنّ الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله ، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء ، وقلبه ليس بمعصوم ، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم) انتهى كلام ابن تيمية.
وأقول: ما أحوجنا اليوم أن نتدبر السطور الماضية، ونعيَ العبرَ منها، وقد كثر في الأمة أشباه المحدَّثين، وغاب منها الصِّديقون، فصار الاحتكام في المحن العصيبة إلى العقول والعواطف بتأثير ضغط الواقع الشديد في كل اتجاه، والسير مع هوى العامة! وأعني بأشباه المحدثين من يُحبون اليوم أنْ يُقدَّموا للناس على أنّهم (مفكرون إسلاميون)، وهل يدور تفكيرهم إلا على ما هو من بضاعة الأرض … وما أزرى بالأمة إلا تركها العلماء الذين يفترض فيهم أنْ يكونوا (صِدِّيقين) بما استُحْفِظوا من الوحيين، وصار الاحتكام، حتى في النوازل إلى المفكرين، وهي الطبقة التي صارت تُنَزَّلُ فوق منزلة العلماء!… وصدق النبي، بأبي هو وأمي، وقد قال (البركةُ مع أكابِرِكم)! فأين ذهب الأكابر؟!
وأُثر عن أحد الكتاب اللبنانيين، ولا أذكر الآن اسمه، قوله: (إذا صار جُهالنا رؤوسنا، فبحكم الطبيعة سنسير إلى الوراء).
وا أسفاه كم أضعنا من فرص، ضاع معها البلاد والعباد، وواحرَّ قلباه! إنّنا ندعى أنّنا على الإسلام وما بقي معنا إلا اسمه، وغاب من حياتنا فهمُه وحكمُه، حتى وقع علينا قول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
وصرنا بأطراف الأمور نحتفي، وأواسطها عنا تختفي. ولكل أمر طرفان ووسط، فأما الطرفان فمقصرٌ مذموم، ومغامرٌ مأثوم، ومن كان مع الوسط فغانم غير ملوم.
ألم يأنِ لنا أن نواجه عداوة أنفسنا قبل مكر العدو بنا! ونُعِدَّ عدةَ تغيير الأنفس ليرضى عنا الربّ، قبل إعداد الصاروخ وآلةِ الحرب! ثم لا بد من معالجة قضايانا الكبرى، وأهدافنا الاستاراتيجية، بالأمة الحاضرة القوية، ودولة على نهج النبوة مبنية! وليس بالأماني والهياج والأفراد وفصائل المقاتلين المتخالفة المتشاكسة، فذلك يطيل أمد المعاناة ولا يحقق أدنى مصلحة، بل هو اشتغال بإطفاء الحرائق ليس إلا. وكفانا اشتغالاً وانشغالاً بالأعراض، ولنُوجه اهتمامنا وكل ما أوتينا إلى الأمراض، وما هو إلا مرضٌ واحد: إعراضٌ عن الوحي، أنتج غياب الأمة…! وكل محاولة للإصلاح فاشلة باطلة قاتلة، إن لم تقم على ما وجَّهَنا إليه من لا ينطق عن الهوى (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ”، قَالُوا: فَكَيْفَ لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَوْ كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: “تَرْجِعُونَ إِلَى أَمْرِكُمُ الْأَوَّلِ). ومنْ تَرَكَ الأُصولَ حُرِمَ الوُصولَ.
والحمد لله أولا وآخرا