كثر في الأونة الأخيرة، على أجهزة التواصل الاجتماعي، تبادل اللقطات المصورة عن التبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام .. وعندي على الموقع موضوع كامل عن التبرك، ولكنّه ضمن موضوع طويل يحمل عنوانا آخر، ومن أجل يسر المراجعة، استخرجت موضوع التبرك وألحقت به بعض الإضافات لنشره تحت عنوان: (حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم).
لقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بعدم الغلو في شخصه .. ولنستعرض الأدلة الآتية:
. عن ابن عباس: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت! قال: (جعلت لله ندا؟! ما شاء الله وحده)).
. عن مطرف قال: (قَالَ أَبِي: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: (السَّيِّدُ اللَّهُ) فَقُلْنَا وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا. فَقَالَ: (قُولُوا قَوْلَكُمْ أَوْ بَعْضَ قَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)).وقد أخرج أبو داود هذا الحديث تحت ترجمة (باب في كراهية التمادح).
ولا شك أنّ النبي أهل لكل مديح، ولن يوفى حقه في ذلك مهما مُدِح، لكنّ موقف النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المذكور، ما كان إلا لقطع الطريق على أهل الغلو، ولو كان ذلك الغلو في شخص سيد ولد آدم … وفي الحديث ملمح هام وخطير في أنّ الانزلاق في طرق الغلو هو من استجرار الشيطان ليفسد على الغالي أمر دينه لنقرأ ثانية: (قُولُوا قَوْلَكُمْ أَوْ بَعْضَ قَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَان) … إنّ الشيطان يتربص بالمؤمن، ويتدخل في شأن حب المؤمن نبيه ليفسد ذلك الحب، في إخراجه عن إطاره الشرعي الصحيح ليتحول إلى انحراف ديني. فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر والمنزلة..؟
وفي السنة ملمح آخر يخدم الفكرة نفسها بوضوح ما بعده وضوح … فمما هو محل اتفاق بين العلماء جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وعبارة (في حياته) قيد ضروري في موضوع التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أنّه يجوز التبرك بآثاره حتى بعد موته صلى الله عليه وسلم، لكن المشكلة إثبات صحة نسبة تلك الآثار للنبي عليه السلام .. وألا يدخل في ذلك الاستغلال والتنطع والكذب. وما من بلد إسلامي إلا ويدعي وجود أثر من آثار النبي عليه السلام، فهنا شعرة من رأسه، وهناك ضرس من أضراسه وفي مكان ثالث سيف، وهكذا.
ولمّا كان من الصعب إثبات ذلك على وجه التحقيق، كان ذلك القيد بلفظ (في حياته) سدا لذريعة الغلو أو الكذب.
نرجع إلى حديثنا فإنّ الصحابة كانوا يترقبون أن يحظوا بأثر من آثاره ليتبركوا به، وقد أقرهم على ذلك، ففي البخاري: (ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ {وهو عروة بن مسعود الذي جاء يفاوض النبي عن قريش في الحديبية} جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ…).
فمع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على تلك الأفعال، وذاك الإقرار يفيد الجواز ولا شك، لكنّنا نرى لنبينا صلى الله عليه وسلم موققا آخر، نجده في الحديث الصحيح الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ يَوْمًا فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟) قَالُوا: حَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يحب الله وَرَسُوله أويحبه اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلْيُصَدِّقْ حَدِيثَهُ إِذَا حَدَّثَ وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا أُؤْتُمِنَ وَلِيُحْسِنَ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ)).
وحاشا أن يخطر ببال مؤمن أن يتناقض الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقفه .. لكن لبعض العلماء توجيه لطيف وهو أنّ فعل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ووفود قريش المعادية للدين وللنبي وللمؤمنين حاضرون يفاوضون، كان ضروريا لتصوير حقيقة التفاف المؤمنين حول نبيهم، وتفديته بالنفس والمال والولد والوالدين .. ونقل تلك الصورة للأعداء، وهذا ما قرأناه في تقرير عروة بن مسعود لقريش .. أما إذا لم يكن الموقف يقتضي ذلك، فمع جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وبقاء ذلك على الأصل، فإنّه صلى الله عليه وسلم، أرشدهم إلى ما هو أفضل وأجدى، إلى مواقف وأعمال هي من أخلاق الإسلام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، تُعبر عن حب صاحبها لله ورسوله (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يحب الله وَرَسُوله أويحبه اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلْيُصَدِّقْ حَدِيثَهُ إِذَا حَدَّثَ وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا أُؤْتُمِنَ وَلِيُحْسِنَ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ).
ولا بد أن نضيف في نهاية هذا الموضوع الهام، أنّ كل ما يأتي المسلم وما يذر يجب أن يكون خاضعا للضوابط الشرعية التي مصدرها الله ورسوله. حتى العواطف، والتعبير عنها يجب أن يكون كذلك، فانظروا كم تعلمنا هذه الآية الكريمة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقد جاء في تفسير السعدي ما يلي في تفسير الآية: (وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال {قل إن كنتم تحبون الله} أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص).
نفهم مما سبق، أنّ كل مسلم، عنده في نفسه لنبيه حبٌ وتعظيمٌ؛ وأسلوب التعبير عن هذا الحب، أو لنقل الطريقة التي يُبرهن فيها هذا الحبَّ ويُثبته، قد لا يكون ذلك وفق الشكل الصحيح والمناسب شرعيا، فما المعيار؟ أعطتنا الآية السابقة القاعدة؛ لا يُثْبَتُ حُّبُّ النبي، وتعظيمُه إلا بالاتباع الكامل لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه. والتزام هديه كاملا في كل شأن، وعدم الرغبة عن ذلك، تقليداً لأحد من البشر.! والنصوص في ذلك كثيرة، من مثل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا).
وحينما تتحول كل العواطف التي تجيش في نفوس المسلمين تجاه نبيهم عليه الصلاة والسلام إلى ممارسة واحدة، هي الاتباع، تكون أشد تعظيماً، وأعظمَ تكريماً، لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، لأنّها توافق ما أمر به الله كل من يدعي حب النبي، وتكون الصورة الموحدة عند جميع المسلمين، لتعظيم نبيهم، والتعبير عما تُكِنُّه كلُّ نفوس المسلمين نحو نبيهم، فتقضي على هذا التشرذم والتخالف والتناقض الذي نراه ويراه معنا العالم، بين المسلمين…
والحمد لله رب العالمين.