Skip to main content

(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)

By الجمعة 7 ربيع الأول 1437هـ 18-12-2015ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, تفسير

جاءت الآية الكريمة في كتاب الله مرتين، في إحداهما زيادة لفظة (كله) وهي للتوكيد. وبمراجعة تفسير الآية في الموضعين، البقرة والأنفال، نجد أنّها أوجبت على المسلمين الأوائل أشد صورة من صور المفاصلة مع مشركي العرب. وهي الدخول في الإسلام أو القتال. ونجد هنا غياب الخيار الآخر، وهو أنْ يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فهذا خاص بأهل الكتابين اليهود والنصارى. ولا شك أنّ الجهاد في الإسلام، هو أشد أشكال المفاصلة مع الطرف الآخر، أهل الكفر. وحينما نقول إنّ الجهاد أشد أنواع المفاصلة، فذلك لأنّ فيه بذل المهج والدماء .. وتأتي الآيتان بالأهم، وهو الغاية من هذه المفاصلة، وهما أمران متلازمان لا ينفكان (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) و (يَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ). وهاتان غايتان أساسيتان في دين الإسلام، ولا ينبغي أنْ تغيبا من حياة المسلمين، وعن أي عمل شرعي، في أي وقت، وتحت أي ظرف، حتى يرث الله الأرض وما عليها. وفي غيابهما ضياع لحقيقة الإسلام، ولو بقيت صورته..! ولنطلع على إيضاح لبعض معاني الآيتين، من خلال قراءة في تفسير ابن عاشور:

(وَانْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِأَنْ يَدْخُلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْإِسْلَام فتنزل فِتْنَتُهُمْ فِيهِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُقْتَلُوا جَمِيعًا فَتَزُولَ الْفِتْنَةُ بِفَنَاءِ الْفَاتِنِينَ. وَلِذَلِكَ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا إِلَّا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا دُخُولُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَإِمَّا إِفْنَاؤُهُمْ بِالْقَتْلِ).

ثم يقول: (وَقَوْلُهُ: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ عَطْفٌ عَلَى ألَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. أَيْ وَحَتَّى يَكُونَ الدِّينُ لِلَّه ، أَيْ حَتَّى لَا يَكُونَ دِينٌ هُنَالِكَ إِلَّا لِلَّهِ، أَيْ وَحْدَهُ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لَامُ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ حَتَّى يَكُونَ جِنْسُ الدِّينِ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: { الْحَمْدُ لِلَّهِ } في سورة الفاتحة).


ولا بأس من قراءة كلام للشيخ السعدي حول الآيتين، يقول رحمه الله في تفسيره:

({وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك وصد عن سبيل اللّه، ويذعنوا لأحكام الإسلام، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أنْ يدفع شرهم عن الدين، وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان).


وما أحسن أنْ نتعلم معاني القرآن، ومقاصده، وكيف العمل به من أحد صحابة رسول الله رضي الله عنهم وهم الذين شهدوا نزول القرآن، وتلقوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنى. فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ: (عَنْ نافع عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أتاه رَجُلَانِ أَيَّامَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا مَا تَرَى وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي، فَقَالَا: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَاتَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ. وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا قَتَلُوهُ وَإِمَّا عَذَّبُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ).

فهل نتعلم من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما توقي المغامرة في الدين، والاندفاع غير المتبصر، وهيجان العواطف وغليانها، وتوخي النظر في المآلات والأهداف الصحيحة، وسلوك السبيل المناسب المؤدي لها، لا سيما في حالات تعدد السبل، وتضارب الآراء، واختلاف الرؤى .. وإذا كانت مثل تلك الحال وقعت زمن الصحابة عليهم رضوان الله، فهل نحن وأهل زماننا بمنآى عن مثل تلك المآزق، وما أرانا إلا قد وقعنا فيها فعلاً..!.

وأحسب، وأنا على يقين، أنّ الغايتين الأساسيتين اللتين جاءت بهما الآيتان، وهما: (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) و (يَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ)، قد ارتبطتا في أذهان أكثر المسلمين، بالحرب والقتال والجهاد، التصاقاً بالمناسبة المذكورة في القرآن الكريم، ونسي المسلمون أنّهما واجبتا التحقيق من وراء أي شأن شرعي، حتى قيام الساعة. كيف لا وهما من قواعد التوحيد..؟ من هنا سأنتقل لتأكيد أمر الغايتين في غير الظروف التي رافقت ذكرهما، أعني الجهاد.

إذن، سأدلف من هذا الموضوع الخطير، إلى آخر يماثله في الخطورة، بل هو أشد، والبلوى به أعم، وليس مرتبطاً بأحوال معينة. لكني أتمنى من القراء أنْ يعيروني انتباهاً زائداً في فهم تبريري للانتقال إلى الموضوع الثاني، وعلاقته بالأول .. وإني أعتمد، بل أتترس بقاعدة علمية أصولية تقول: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المناسبة). وهي عند المفسرين من قواعد (أصول التفسير). لقد حرروا بها النصوص من أنْ تبقى رهينةَ واقعةٍ أنزلت فيها، وهو ما اصطلح على تسميته (أسباب النزول) ليعم الانتفاع بعموم نصوص الوحيين، إلى قيام الساعة، وعلى أوسع نطاق وهذا ما يليق بكتاب الله. وأستأذن بالإفادة من قاعدة (وبضدها تتميز الأشياء). فإنّنا نرى اليوم أناسا لا يريدون بالإسلام والمسلمين خيراً، وهم من بني جلدتنا، ويقدمون أنفسهم أنّهم (مفكرون) ومصلحون غيورون، يبعدون النص عن ساحة التطبيق في مسألة ما، بإفقاده عمومه، عن طريق ربطه بسبب النزول، وأنّه لا يجوز أنْ يتعداه، كل ذلك، هروباً من تطبيق الحكم، ولعباً بالدين. وهذا تحجيم وحجر لا يجوز، كما سبق ذكره.

وأرجع للموضوع الخطير، فإذا كان في ممارسات بعض المسلمين اليوم، من عوامهم وحتى نخبهم، ما يفضي إلى (فتنة)، أو إلى (أن لا يكون الدين كله لله)، بعبارة أخرى، إلى تعطيل الغايتين الأساسييتين المذكورتين، ألا يستدعي هذا الخلل، وهو خطير، جهاداً مستمراً صادقاً، لكن لا قتال فيه وليس بذي شوكة..؟ لا زال الكلام يحتاج إيضاحاً بالتمثيل. إذا كان الأكثرون يظنون الدين بخير، ولا يُحسون بما يجري، فليتنبهوا إلى أنّ المسلمين يعيشون معركة التبديل، تبديل دينهم، وبمخطط ممنهج من أصحاب المدرسة العقلية، وهم نشطون جداً، ومن الشيعة، وهم حاقدون جداً، ومن بعض النخب من علماء ودعاة وهم متساهلون جداً .. وإلى الاستدلال:

هل قرأنا قول ربنا تبارك وتعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)؟ وهل نعلم أنّ ضمير الهاء في كلمة (أَمْرِهِ) يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم..؟ وهل قرأنا في تفسير الأية معنى الفتنة والعذاب الأليم، اللذين توعد الله بهما مخالفَ نبيه..؟ فلنتعلم كل ذلك من تطبيق الإمام مالك رحمه الله للآية. عن ابن عيينة أنّه قال:

(سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر؟ قال لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أريدها قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إني سمعت الله يقول: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}).

تلك الأولى (حتى لا تكون فتنة). وبقيت الثانية (ويكون الدين كله لله)، فإليكموها: وأبدأ بأسلوب الأسئلة:

أولاً: من الذي يكلف الناس شرعيا؟ أظن أنّ المسلمين كافة متفقون نظرياً على جواب: الله ورسوله لا غير.

ثانياً: هل لبشر أنْ يكلف بشراً شرعياً؟ وأظن الجواب المتفق عليه نظرياً أيضاً: معاذ الله.

ثالثاً: ما حكم من عمل بتكليف بشرٍ مثلِه، بالتوصيف الشرعي؟ وأظن أيضاً أنّ الجواب المتفق عليه نظرياً: إنّه شرك.

ولقد أكدت على كلمة (نظرياً)، لأنّ واقع التطبيق عند أكثر المسلمين، خلاف تلك الإجاباتت. وبالاستنتاج من الأسئلة المطروحة، لا بأس أنْ نقول إنّ كل عمل مخالف لهدي محمد صلى الله عليه وسلم فتنة لصاحبه ومن يُعلمه ومن يُقره..! وهو ليس دين الله..! وأنّ كل من يعمل عملاً يظنه شرعياً، بتكليف بشر مثله، كائناً من كان فإنّ ذلك شرك من الآمر والمأمور، وليسا على دين الله..!.

فهل ينتطح عنزان، في أنّ بين أيدي المسلمين اليوم، كتباً في العقيدة والفقه وغير ذلك من أمور الدين، فيها مخالفات لهدي محمد صلى الله عليه وسلم. بل إنّها تصادمه تماماً .. وأنّ في عبادات المسلمين اليوم وفي مساجدهم بدعاً تكاثر السنن وتزاحمها، يُسكت عنها بالمجاملات، وبدعوى البدعة الحسنة .. وأنّ كثيراً من الفتاوى الشرعية اليوم، تخضع لضغط الواقع، وتساير من اجتاحتهم العولمة، فيصفقون لها، ويطرب المفتون..؟

فمتى نعلن جهاداً لا قتال فيه (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، وهذه المعركة فاصلة، إنْ فشلنا فيها، فستفشل كل المعارك بعدها، وقيام هذا الجهاد والمفاصلة فيه وعليه، آكد من جهاد العدو، وهو أصل له .. لأنّه فرضٌ عيني على كل مسلم ومسلمة، ولا استثناء، أنْ يصحح دينه، ويشكله وفق هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ليجعل عمله الذي يلقى الله عليه صالحاً مقبولاً مرضياً.


ورحم الله ابن القيم يقول في أول المجلد الثالث من زاد المعاد في باب الجهاد:

(وَلَمَّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» كَانَ جِهَادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْخَارِجِ، وَأَصْلًا لَهُ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللَّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلِّطٌ عَلَيْه).


فمتى يُعلن النفير العام، لهذا الجهاد، والمسلمون قد رغبوا عنه، وغاب عنهم، وهم اليوم مُوبَقُون بسوء أعمالهم، كما جاء في الآية (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ)..؟

فأعدوا العدة، يا أيها المسلمون، وابدؤوا العمل (حتى لاتكون فتنة، ويكون الدين كله لله) .. وإنْ سألتم عن العدة فشيئان: الإخلاص، ومنهج (ما أنا عليه وأصحابي) .. والحمد لله رب العالمين