Skip to main content

(يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)

By الثلاثاء 7 جمادى الأولى 1434هـ 19-3-2013ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, تفسير

قبل البدء فلنأت بتتمة الآيات: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا).

ولتكن لنا مع الآيات وقفات:

أولاً: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) وقد انتبه بعض المفسرين الذين يعنون بالناحية البلاغية إلى أنّ العضّ للندم يكون للأصابع، أما عض اليدين فهو مبالغة تفيد شدة الندم والغيظ، فلا يذهب غيظ العاض إلا إذا عضّ مواطن عديدة من كلتا يديه … وليت ذلك يشفي غيظه!

ثم نبحث من هو (الظالمُ) الذي يعض على يديه يوم القيامة، ويقول الكلام السابق؟ إنّ كلمة (الظالم) في كتاب الله تعني الكافر في مواضع، وتعني غير ذلك في مواضع أخرى … ويُحدد المعنى المقصود السياق العام للآيات … وإذا أردنا أنْ نُحكّم معيار السياق هنا لنحدد معنى (الظالم) في هذه الآية فلنقرأ بإمعان ما يقوله الظالم: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) فهل الذين يشقون لعدم اتباعهم النبي هم الكفار فقط؟ أم أنّ هناك من يدّعون الإيمان ويُجانبون اتباع الرسول، ويتدينون بالابتداع، أكثر من تدينهم بالاتباع، ويبغونها عوجاً، باتخاذهم أئمة جهالاً، وتقديم ما يقولون لهم على ما جاء في الوحي، أليس أولئك ممن تشملهم الآيات السابقة؟ أليس أولئك من الأخسرين أعمالاً، لتركهم الاتباع، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا؟

ومما يُستنبط من الآية أنّ اتباع النبي هو ضمان الفلاح والنجاح الأول والوحيد يوم القيامة، ومَن نكب عن هذا الطريق فليس من الله في حل ولا حرم، وكل ما يأتي به من عمل يوم القيامة يجعله الله هباء منثورا، لأنّه اتخذ إمامه عقله وهواه، أو بشراً أمثاله … واتّباع النبي فرع عن الإيمان به، ولا قيمة ولا فائدة من إيمان لا يورث اتباعاً..! ومن الناس مَن جعل حُبّ النبي، بزعمهم، وإحياء يوم بل شهر مولده بالزينات والأفراح والحفلات والمآدب بديلاً عن اتباعه، فليعلم أولئك أنّ أفعالهم تلك لا تزيدهم إلا أوزارًا فوق وزرهم الأول في ترك الاتباع … والله يقول حكاية عن المؤمنين: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

ولعلي في نهاية هذه الفقرة أُوفق في إيصال فكرة هامة تتعلق باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهي: أنّ ترك الاتباع ضلال وانحراف بغض النظر عن الجهة البديلة المتبعة .. وقد يرى بعض الناس في هذا القول اتهاماً قاسياً جائراً، لكنّه اتهام من نبي الأمة وليس من أحد سواه. وفصل الخطاب في الحديث الآتي الذي لا يقبل تأويلاً، ولا يحتمل جدلاً: عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لَاتَّبَعَنِي). وموسى من أُولي العزم من الرسل فهل يدعو إلى ضلال؟

ولنقرأ هذا الحديث الذي ينخلع لِهول معناه القلب، يُبين لنا طائفة من أهل الخسران يوم القيامة، ليست عند كثيرين بالحسبان، اغتراراً بحالهم! عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ترد علي أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله قالوا: يا نبي الله أتعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء، وليُصدن عني طائفة منكم فلا يصلون فأقول: يا رب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك).

من هم الذين يُذادون عن الحوض في الحديث؟ هل هم كفار؟ لا، فالكفار لا يردون حوض النبي صلى الله عليه وسلم.! إنّ وروده خاص بأمة النبي من الذين استجابوا لدعوته، وإنّهم يأتون بشارةٍ يعرفهم بها النبي غراً مُحجلين من أثر الوضوء.! وماذا يُفعل بهؤلاء في النتيجة؟ يمنعون من الورود على حوض النبي صلى الله عليه وسلم والشرب منه، ثم يقذفون في النار … وحين يتساءل النبي عليه السلام عن سبب هذا المنع وهم أمته لهم شارة أهل الوضوء، وفي رواية يأتي تعريف أخص (…فأقول: يا رب أصحابي أصحابي!)، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواب من ملك: (فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟) فلا يلبث النبي عليه السلام أنْ يُعلن براءته من أولئك الأصحاب، ومن بعض الأمة، لما أحدثوا وغيروا من بعده قائلاً: (فأقول: سُحقاً سُحقاً لمن بدل بعدي).


ثانياً: إنّ المُخاللة والمُصاحبة البعيدة عن المجانسة قد تكون سبباً أساسياً في الضلال والإنحراف .. والفكرة لا تحتاج إلى دليل، فالآية التي نتذاكر هي الدليل. فهذا الذي يعض على يديه حين يرى العذاب، والمصير البئيس، يتمنى لو أنّه لم يُصاحب فلاناً من الناس، ويتهمه، ويُحمله مسؤولية المصير الذي صار إليه (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)، وهل ينفعه ذلك أو يخفف عنه؟ كلا، إنّ آيات عديدة في كتاب الله تحكي صورة الندم هذه، منها: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ). ويلقون المصير المحتوم بولوجهم النار ولا يزالون يتراشقون الاتهام: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ). ويظنون أنّ في تبرؤ بعضهم من بعض نجاة، ولكن هيهات، لا سبيل إلى الخروج (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

مرة أخرى، ماذا كانت جناية ذلك الصاحب على صاحبه؟ (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا).

وأستأذن هنا في خروج قليل عن السياق أراه لازماً وضرورياً، أُجلي فيه مفهوم لفظة (الذكر) في هذه الآية وغيرها من الآيات. إنّ بعض المفسرين، وبعض العلماء والدارسين، يجعلون (الذكر) إسماً من أسماء القرآن الكريم، والكلمة في الحقيقة صفة من صفات القرآن، فالمعنى الأوسع والأليق الذي يجب أنْ يصار إليه لكلمة الذكر أنّها تعني الوحي، وعلى هذا المعنى نفهم قول ربنا جل وعلا (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ويكون المحفوظ في الآية على ما رجحنا هو الوحي بشقيه الكتاب والسنة. فالسنة وحي منزل كما القرآن، وقد جاء في فتح الباري: أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ حَسَّان بْن عَطِيَّة أَحَد التَّابِعِينَ مِنْ ثِقَات الشَّامِيِّينقال: (كَانَ جِبْرِيل يَنْزِل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِل عَلَيْهِ بِالْقُرْآن). وفي بعض الرووايات زيادة: (ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن).

ولو جعلنا الذكر اسماً للقرآن وحده لكان الحفظ المذكور مقصوراً على القرآن، ولا يمكن أن يتكفل الله بحفظ بعض وحيه ويدع الآخر..! ومن العجيب أنّ بعض العلماء في القديم يرون الآية تشير إلى حفظ القرآن فقط.! وحتى لا تضيع الفائدة، فإنّي ذاكر دليلاً عقلياً على أنّ السنة محفوظة كالقرآن، فبما أنّ السنة مبينة للقرآن، ولا خلاف على ذلك، فهل من المعقول أنْ يُحفظ المُبَيَّن دون حفظ المُبَيِّن له؟ كما يُؤيد هذا التوجه قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). فالحديث في الآية الكريمة عن إنزالين يُبين أحدهما الآخر، ومعلوم أنّ السنة مُبينة للقرآن، ويكون المعنى أنّ الوحيين المُنزلين هما القرآن والسنة. وهما من حيث المنزلة، في أنّهما أصل دين الإسلام، في مرتبة واحدة ولا يجوز التفريق بينهما في قوة الاحتجاج والاستدلال، وإنْ كانا مُختلفين من حيث القدسية، فالقرآن كلام الله يُتعبد بتلاوته، أما الحديث فلا، وإنّما التعبد بتصديقه، والعمل به.

ونعود إلى السياق الأساسي فنقول: إنّ المُخاللة والمصاحبة بين بني البشر ذات حدين، فإما أنْ تكون عامل هداية، وإما أنْ تكون عامل إضلال كما جاء في الآية موضوع البحث، وكيف يُمكن جعل المصاحبة من النوع الإيجابي المفيد؟ يكون ذلك باتباع توجيه النبي عليه السلام في قوله: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ). وقوله في الحديث الآخر: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).

وإذا أردنا توسيع مفهوم المخاللة اتقاء لما يأتي منها من ضرر على دين الإنسان، وتحذيراً من الوقوع في أسباب الانحراف والضلال، نقول: إنّ من بعض أشكال المُخاللة الالتفاف والتمحور حول ذوات بشرية، كبعض المشايخ، أو الدعاة أو الكتّاب والمؤلفين، وجعل ما يصدر عنهم صواباً لا يقبل المناقشة، وتقديمه بقصد أو بغير قصد على الوحيين .. والأمة ابتليت منذ قرون بهذا الداء الوبيل وهو التعصب للمذهب ولرجال المذهب وأهل المذهب، وكانت النتائج الرغبة عن الوحيين، وتعطيل العمل بهما، ولا أُريد التوسع في هذا الموضوع لأنّه يحتاج بحثاً كاملاً ليس هذا محله، لكني أُذكر بكلمة مشتهرة لعالم يسمى الكرخي، يقول: (كل نص ليس عليه أصحابنا فهو منسوخ أو مؤول).

ويجب ألا نُغفل نهاية الآية: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) فما حكته الآية وحذرت منه هو من عمل الشيطان، ومن صفة الشيطان أنّه عدو للإنسان، يُوسوس له ويُغريه بالمعاصي، ويُرشح له الصداقات الضالة المردية، ويُضله، ويوم القيامة يخذله ويتبرأ من كل ذلك: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).


ثالثاً: أوصي نفسي وكل مسلم يرجو الله والدار الآخرة أنْ يتعامل مع دينه وفق هذه العبارة: (الإسلام دين، مادته الوحيان، وطريقته الاتباع، وأساسه الإخلاص) فالعبارة سياج يُسيَّج به التدين، صيانة له من كل قول دخيل، أو عمل مبتدع، وفيها معنى الاستغناء بالوحيين، وهما علويا المنشأ، عن بضاعة عقول أهل الأرض المزجاة لأنّها أرضية المنشأ .. والحمد لله رب العالمين