يقول ربنا تبارك وتعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وهذه الآية الكريمة ضمت، على قصرها، أوامر أربعة، هي جماع الدين.. أمرت بالإيمان والتقوى وابتغاء الوسيلة، والجهاد، والتفصيل آت بإذن الله.
ولا بُد ابتداء من تدقيق شرعي لغوي في الآية الكريمة، فتكون المفتاح لفهم الموضوع المستنبط منها كاملاً. لقد تصدر الآية نداء (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ويعني ذلك أنّ المَعْنِيَّ بالخطاب كل من رضي بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن كتاباً، وبالإسلام ديناً .. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا، فأَرْعٍها سمعك، فإِنّه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه). إنّها عبارة تحرك الإيمان في النفس، وتستثير الشعور بذلك الميثاق الغليظ الذي واثق المؤمن به ربه، يوم اختار الإيمان والطاعة طريقاً في هذه الحياة.
ثم يتبع ذلك النداء أمرٌ من الله للعباد المؤمنين بتقوى الله (اتَّقُوا اللَّهَ)، ونُذكر بمعنى التقوى، وهي بحر لا ساحل له، من المواقف والتصرفات، في حياة المؤمن، من خلال تعريف جامع للتقوى: (فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور). وقد جاء عن ابن مسعود وغيره في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ): (أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر).
إذنْ مقدمتان ضروريتان، لنا نحن العباد قدم بهما ربنا تبارك وتعالى بين يدي أمر عظيم، لا تنتظم عبودية المسلم لربه إلا بتطبيقه (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)، وما هي الوسيلة؟ سؤال رغم وضوحه ويسره على من يسره الله له، فقد تاه في الإجابة الصحيحة عنه كثيرون .. كل أراد تفسيراً ينسجم مع مذهبه بل يبرر له اتباع ذلك المذهب! لكن أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، يفهمون عن ربهم ما يُوافق ظاهر ما جاء في كتابه الكريم، وما تؤكده سنة نبيهم، فلا يُفرقون بين الوحيين القرآن والسنة الصحيحة، ولا يترددون أبداً في اعتبار السنة الصحيحة المُبَيِّن الوحيد لكتاب ربهم، تصديقاً للآية الكريمة (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). ويتم توضيح ذلك في نقاط:
أولاً: ما معنى الوسيلة لغة؟ (الْوَسِيلَةُ: كَالْوَصِيلَةِ. وَفِعْلُ وَسَلَ قَرِيبٌ مِنْ فِعْلِ وَصَلَ، فَالْوَسِيلَةُ: الْقُرْبَةُ، وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيْ مُتَوَسَّلٌ بِهَا).
أما معناها في الآية السابقة فقد جاء في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: (الْوَسِيلَةُ أُرِيدَ بِهَا مَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْبُلُوغَ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ بُلُوغَ مَسَافَةٍ وَلَكِنَّهُ بُلُوغ زلفى ورضى. فَالتَّعْرِيفُ فِي الْوَسِيلَةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ كُلُّ مَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللَّهِ، أَيْ يُنِيلُكُمْ رِضَاهُ وَقَبُولَ أَعْمَالِكُمْ لَدَيْهِ. فَالْوَسِيلَةُ مَا يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنَ اللَّهِ بِالْعَمَلِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ»).
وفي تفسير الشيخ السعدي كلام نفيس في الوسيلة: ({وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي: القرب منه، والحظوة لديه، والحب له، وذلك بأداء فرائضه القلبية، كالحب له وفيه، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل. والبدنية: كالزكاة والحج. والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها، من أنواع القراءة والذكر، ومن أنواع الإحسان إلى الخلق بالمال والعلم والجاه، والبدن، والنصح لعباد الله، فكل هذه الأعمال تقرب إلى الله. ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ويستجيب الله له الدعاء.
ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه، الجهاد في سبيله، وهو: بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال، والنفس، والرأي، واللسان، والسعي في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد، لأن هذا النوع من أجل الطاعات وأفضل القربات. ولأن من قام به، فهو على القيام بغيره أحرى وأولى {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} إذا اتقيتم الله بترك المعاصي، وابتغيتم الوسيلة إلى الله، بفعل الطاعات، وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته. والفلاح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب، والنجاة من كل مرهوب، فحقيقته السعادة الأبدية والنعيم المقيم).
ومع هذا الوضوح في النقطة الأساسية في هذا الموضوع، وهو المعنى الصحيح (للوسيلة) فإنّ بعض من ينتسبون إلى الإسلام، والذين أقاموا دعواهم في الدين على التأويل والتبديل أبوا إلا التوسع في معنى الوسيلة، ليخرج عن المراد الموافق لقواعد التوحيد، وما جاء من تطبيقاته في الأعصر المشهود لها بالخيرية .. ليواطؤوا اتجاهات وانحرافات ارتضوها ليست من إسلام (ما أنا عليه وأصحابي). من ذلك زعمهم بأنّ الوسيلة في الآية تعني جعل واسطة بين الله وخلقه من بني البشر يتوسلون بها.
وقد سودوا الصفحات في ذلك وبإيراد ما يزعمونه قصصاً واقعية تؤكد ذلك وكلها كذب وافتراء. واتبعوا أسلوباً يحتالون به على عقول البسطاء لإقناعهم بما ابتدعوه، مستغلين منزلة الأنبياء عند الناس، وأنّه لعظم جاههم عند الله يجوز التوسل بهم إليه، ثم ألحقوا بهم الصالحين ثم مشائخهم الذين علموهم ذلك. وها هو نبينا عليه الصلاة والسلام، بأبي هو وأمى، علّم الأمة أنْ لا يغلوا في المخلوقين ولو كانوا أنبياء. عن ابن عباس قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراجعه في بعض الكلام فقال: ما شاء الله وشئت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني مع الله عدلا)). وفي لفظ: (نداً؟! لا بل ما شاء الله وحده). وفي الرواية الأخرى قل: (ما شاء الله ثم شئت).
وفي الحديث المتفق عليه: (أكبر الكبائر أن تجعل لله نداً وقد خلقك). وزيادة في الإيضاح، يحسن أنْ نوضح الفرق بين نوعين من الوسيلة. الوسيلة الكونية، والوسيلة الشرعية. والمغرضون اعتمدوا الخلط بين النوعين للتشويش على الحق، وكسب الأنصار من العوام. فتراهم يقولون: إذا كانت لك حاجة عند الملك أو ذي سلطان ألا تبحث عمن يصل بك أو بحاجتك إليه..؟ وكذلك الشأن مع الله عز وجل..!
أما الوسيلة الكونية فهي الطريقة التي يتوصل فيها إلى غاية دنيوية. فالشرب وسيلة للري وإطفاء الظمأ، والأكل وسيلة للشبع، والسيارة وسيلة للسفر، والطبيب والدواء وسيلة للشفاء، والأمثلة كثيرة، ولا بد أنْ يتحقق في الوسيلة الكونية شرطان: أن تكون جائزة شرعاً، وأن يثبت بالعقل والتجربة صحتها.
أما الوسيلة الشرعية، فهي كل ما يتوسل به إلى مرضاة الله وجنته، ولا تُعرف إلا من طريق واحد، وهو الشرع، ولا تقبل التجربة، وحكم العقل عليها.
ثانياً: إنّ الذين نكبوا عن السبيل، بتجاهل النصوص أو التأويل، فهموا الوسيلة فهوماً سقيمة، هي أبعد ما تكون عن مراد الله، وعن ما علمه رسول الله عليه السلام للمسلمين .. بل لقد اعتراهم بعض المفاهيم الشركية، بل والوثنية التي تسللت إلى المسلمين من فلسفات وثقافات الأمم الأخرى، كما ذكرنا آنفاً .. وأبرز مظاهر تلك التجاوزات الشرعية تتجلى في بحث التوسل. ولقد صار بحث التوسل في دين الإسلام مدخولاً بما ليس منه ولا بد من تحريره. وانتشار التصوف يغذي هذا الانحراف ويسوغه.
وإتماماً للفائدة، نُعرج باختصار على موضوع التوسل. مكتفين، تجنباً للإطالة، بذكر أنواعه المشروعة وأدلتها. وقد حصر العلماء، انسجاماً مع نصوص الوحيين، وما كان عليه أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، حصروا التوسل المشروع بحالات ثلاثة لازيادة عليها:
1. التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى.
كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إنّي أسألك بأنّك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير أنْ تعافيني. أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي. أو يقول: أسألك يا رزاق أنْ ترزقني. ودليل مشروعية هذا التوسل قوله عز وجل: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا). والمعنى: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى، وصفات الله تبارك وتعالى، كأسمائه في الحكم.
ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أدعيته الثابتة عنه قبل السلام من صلاته صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وقُدرتِكَ على الخَلقِ أَحْيني مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي).
ومنها أنّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول في تشهده: (اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم. فقال صلى الله عليه وسلم: (قد غفر له، قد غفر له)).
2. التوسل بالعمل الصالح.
والأدلة على هذا النوع كثيرة نختار منها الآتي:
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّار). وقوله: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
وقوله: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ). وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).
ففي الآيات السابقة، يحكي الله تبارك وتعالى عن المؤمنين أنّهم يجعلون بين يدي دعاء ربهم، التوسلَ بعملٍ صالحٍ، وكان توسلهم في الآيات السابقة بأجل الأعمال الصالحة، وهو الإيمان.
أما في السنة الصحيحة فحديث الغار المشهور ودلالته على المطلوب قوية فنكتفي به:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم). وفي رواية: (انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوه ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ اللَّهُمَّ كَانَ لِى أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً، فَنَأَى بِى فِى طَلَبِ شَىْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَىَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوج». قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «وَقَالَ الآخَرُ اللَّهُمَّ كَانَتْ لِى بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَىَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّى حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِى فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّه . فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِى أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيه. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا. قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّى اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِى لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِى بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَىَّ أَجْرِى. فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِى. فَقُلْتُ إِنِّى لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ. فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ).
ويتضح من هذا الحديث أنّ هؤلاء الرجال المؤمنين الثلاثة حينما اشتد بهم الكرب، وضاق بهم الأمر، ويئسوا من أنْ يأتيهم الفرج من كل طريق إلا طريق الله تبارك وتعالى وحده، لجأوا إليه، ودعوه بإخلاص واستذكروا أعمالاً لهم صالحة ابتغوا بها وجه الله، فتوسلوا إليه سبحانه بتلك الأعمال، فتوسل الأول ببره والديه. وتوسل الثاني بعفته عن الزنى بابنة عمه، التي أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء بعد ما قدر عليها، بعد أنْ ذكرته الله. وتوسل الثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته الزهيدة وذهب، فنماها له ودفعها إليه عند ما رجع بعد زمن.
3.التوسل بدعاء الصالحين من الأحياء.
وتقييد العبارة بقيد (من الأحياء) ضروري وشرعي، ولولاه يصبح التوسل بالأموات الصالحين، بجاههم وذواتهم وكراماتهم، كما هو شائع اليوم، وهذا باب من أبواب الشرك. فعقيدة الإسلام أنّ الميت الذي صار في باطن الأرض قد انتهت علاقته بالأرض ومن عليها، بغض النظر عن أقدار الميتين حال حياتهم، والأنبياء والصالحون كغيرهم من الموتى في انقطاع صلتهم الحسية الكاملة بالأرض ومن عليها. والمؤسف أنّ هذا الأمر العقدي الهام غائب عن كثير من المسلمين حتى انتشر مصطلح (القبوريين) عند أهل العلم قديماً وحديثاً، لمّا رأوا الناس يتعاملون مع أهل القبور تعاملاً، يخدش التوحيد، بطلب الحوائج منهم وغير ذلك .. وربنا يقول: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) وقوله (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).
وأما أدلة التوسل بدعاء الأحياء، من السنة فمن ذلك ما رواه أنس ابن مالك رضي الله عنه حيث قال: (إن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله أنْ يغيثنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: (اللهم أسقنا اللهم أسقنا اللهم أسقنا) قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا ولا بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت: فما صلينا الجمعة حتى أهم الشاب القريب الدار الرجوع إلى أهله، قال: فو الله ما رأينا الشمس شيئا) وفي رواية: (ثم مطروا حتى سالت مثاعب المدينة واضطربت طرقها أنهارا فما زالت كذلك إلى يوم الجمعة المقبلة ما تقلع ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله قائما يخطب فاستقبله قائما فقال: يارسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل ادع الله أن يمسكها، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لسرعة ملالة ابن آدم، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه حتى رأيت بياض ابطيه يدعو ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون ثم قال: (اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآطام والجبال والظراب والأودية ومنابت الشجر). قال: فإنقطعت وخرجنا نمشي في الشمس).
إنّ الصحابة وقد تعلموا من نبيهم كيف يجعلونه واسطة بينهم وبين ربهم، وذلك عن طريق سؤاله أن يدعو لهم، فلم يكونوا أبداً يتوجهون إلى ربهم بذات نبيهم أو جاهه، إنّما بدعائه. يؤكد هذا ويؤيده، ما جاء في حديث المرأة السوداء، التي كانت تصرع، جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: إنّي أصرع وإني أتكشف فادع الله لي فقال عليه الصلاة والسلام: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك). وفي السياق نفسه ما قاله الضرير الذي أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: (إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخّرتُ ذاك، فهو خير)، وفي رواية: (وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك، فقال: ادعهُ)، فلْيُتَنَبَه أنّه لم ترد في الأحاديث إلا لفظة (الدعاء) .. ولقد فهم هذه الحقيقة الشرعية الهامة الصحابة جميعاً، ووعاها ذلك الأعرابي الذي ذُكر في حديث أنس، والذي أتى النبي وهو على المنبر يخطب، فماذا قال؟ (يارسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا). ولما عاد في الجمعة المقبلة أو غيره. قال: (ادع الله أن يمسكها). لم يجلس ذاك الأعرابي وقومه في باديتهم ويقولوا: (اللهم بحق نبيك عليك، وجاه نبيك عندك، أنزل الغيث علينا)..! أيعي هذا أعرابي بادٍ في الصحراء، لم يقرأ ولم يكتب، ويجهل ذلك بعض مشائخ المسلمين..؟
ومن ذلك ما رواه أيضاً أنس بن مالك رضي الله عنه (أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقَون).
وقد حاول أناس صرف دلالة الحديث الصحيحة، والعبث فيها مستغلين تكرر عبارة (نتوسل)، فحملوها على التوسل المبتدع الذي يريدون (توسل بالجاه والذات، حتى للأموات). وواضح جداً أنّ عمر رضي الله عنه عندما قال: (كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا) كان يحكي ويعني حال الصحابة مع نبيهم، فكانوا يستسقون بدعائه كما ذكر قبلاً، وكما فهمه الأعراب، وبلاغة عمر جعلته يسقط المضاف (بدعاء) لأنّه معروف ومفهوم ومشهود ولم يكن ليخطر ببال أحدهم إضمار مضاف آخر ككلمة (جاه) مثلاً، لأنّها لم تكن في (قاموسهم الشرعي) آنذاك .. ومن ناحية ثانية، لو أنّ عمر والصحابة كانوا يتوسلون بجاه النبي، فما كان ليخفى على عمر ولا على الصحابة معه أنّ جاه النبي وقدره عند ربه حتى بعد مماته أفضل من أي أحد من الأحياء، حتى لو كان عمه العباس. أما مادام التوسل بالدعاء فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس حاضراً، فوقع اختيار عمر أن يكون المتوسل بدعائه، العباس عم النبي لمكانته من رسول الله، ولأنّه مظنة استجابة دعائه.
ومن ذلك أيضاً ما رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في تاريخه بسند صحيح عما فعله بعض الصحابة رضي الله عنهم اقتداء بهدي نبيهم عليه الصلاة والسلام، والالتزام الكامل به. عن التابعي الجليل سليم ابن عامر الخبَائري: (أنّ السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم).
وروى ابن عساكر أيضاً بسند صحيح: (أنّ الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضاً: قم يا بكاء! زاد في رواية: فما دعا إلا ثلاثاً حتى أمطروا مطراً كادوا يغرقون منه).
هذا ما كان في الجيل الأول، من تلقوا العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهو يتلقى عن ربه وحياً. أيكون بعدهم، وبعد انقطاع الوحي بموت النبي علم تخرجه عقول البشر، أنفع وأقرب للتقوى، وأرضى لله..؟
بقيت فكرة هامة لتلغي من عقول (القبوريين) وأتباعهم شطحاتِهم. فبالرغم مما واجهه بعض الصحابة الكرام من مشكلات هددت وحدة الأمة آنذاك، ومنهم مقربين كعائشة رضي الله عنها، وعلي رضي الله عنه، لم نسمع أحداً منهم لجأ إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام يشكو ويستشير ويتوسل. وهو أولى بهم، وهم أولى به .. وفي كتب الصوفية قصص عن أقطابهم، منهم من صافحه النبي، ومنهم من خاطبه، ومنهم من جاءه في المنام بتكليف..!
أكثر المسلمين اليوم عن هذه الحقائق غافلون، وللبدع هم فاعلون، وعن التذكرة معرضون، وما هي إلا ذكرى، ولعلهم يرجعون … والحمد لله على نعمائه