سورة الكهف غنية بمعان وأحكام وآداب، يجمل بالمسلم استقصاؤها واستيعابها، ولذلك وردت أحاديث صحيحة في فضل السورة ليس المقام محل استعراضها، فتُطلب من مظانها .. وأحدد نفسي في هذه العجالة، بدرس عظيم يُستخلص من قصة النبي موسى عليه السلام مع عبد من عباد الله هو الخضر. وللفائدة السريعة أقول: اختلف العلماء هل الخضر نبي؟ وحيث لا يوجد أحاديث صحيحة في ذلك، بقيت المسألة مسرحاً للاجتهاد، ومال بعضهم إلى التمسك باللفظة القرآنية في وصف الخضر: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) فهو عبد من عباد الله، والأصل أنّه ليس بنبي ما لم يثبت ذلك بنص صحيح صريح … وأنا أميل إلى أنّ الخضر ليس نبياً، لأنّه لو كانَ نبياً فلا فائدة من إحالة نبي إلى نبي، ليتعلم منه مادام علمهما واحداً، وهو علم الوحي.
ويُخطيء من يظن أنّ موسى أُرسل إلى الخضر ليتعلم منه علماً يَنقصه في تبليغ الناس الذين أُرسل إليهم، كلا، فمثل ذلك العلم طريقه الوحي، وهذا هو علم الأنبياء جميعاً (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) إنّما أُمر بهذه الرحلة الشاقة ليتعلم الدرس العظيم، وليتعلمه من بعده كل المؤمنين إلى قيام الساع، أن لا احتكار للعلم، ولا ادعاء فيه، وأنّه ليس لأحد أن يزعم الإحاطة بكل شيء، وعليه أن يعترف بما عند غيره مما يفوته علمه، مهما كان كعبه عالياً في العلم، ولو وصل منزلة النبي، وبخاصة تلك العلوم التي وصفها ابن عاشور في تفسيره بقوله: (وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي أُوتِيهِ الْخَضِرُ هُوَ عِلْمُ سِيَاسَةٍ خَاصَّةٍ غَيْرِ عَامَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنِينَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ بِحَسَبِ مَا تُهَيِّئُهُ الْحَوَادِثُ وَالْأَكْوَانُ لَا بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ. فَلَعَلَّ اللَّهَ يَسَّرَهُ لِنَفْعِ مُعَيَّنِينَ).
ونفهم هذا الأمر غاية في الوضوح من قوله صلى الله عيه وسلم في حادثة تأبير النخل: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ) وذلك علم فات نبينا حقيقة، وليس ذلك بضائره، مادام لا يُشكل نقصاً في علوم الرسالة التي يُبلّغها للناس.
إذن، ضروري أن نبين مرة أخرى أنّ ما عند الخضر ليس علماً فات موسى عليه السلام فيما يخص تبليغ رسالته، حاشا أن يكون ذلك حال نبي مرسل، فعلم الأنبياء فيما يخص ما يُبلغون كامل وليس بعده كمال، إنّما رأى عند الخضر علماً هو من وحي الله وإلهامه، لكنّه ليس من الأحكام والعقائد، ومما ينبغي تبليغه للناس، إنّما هو من دقة النظر في الحوادث ومآلاتها، مع إلهام الله. ويُبين لنا جزء من حديث في البخاري لِم أمر الله جلّ وعلا نبيه موسى عليه السلام بتلك الرحلة الشاقة:
(… أَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ : فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ : بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلَمًا أُعَلِّمُ ذَلِكَ بِهِ. قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُ مَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ …).
وأُريد أن أستوقفكم معي في النقاط الآتية التي نستفيدها من القصة:
أولاً: إدعاء العلم، والاغترار به إلى حد أن لا يرى من هذا حاله أحداً غيره ليس من صفات النفس السوية، فضلاً عن المؤمنة .. وإنّ مثل هذا الموقف يُزري بصاحبه بين الناس، ويزورون عنه، فالمدعي عند الناس ناقص يُغطي نقصه بادعائه، كما أنّه يقيم بينه وبين التعلم والانتفاع بما عند غيره حاجزاً يزيده على مرّ الأيام جهلاً … وفوق كل ذي علم عليم. فقد يُتقن إنسان فناً ويفوته الكثير من فن آخر يجده عند غيره … والعلم وأهله لا يُصْقَلون ويتألقون إلا بالمذاكرة والمناقشة وتبادل العلم والخبرات، وفوق كل ذلك التواضع .. وما أجملها، وما أصدقها من عبارة تلك التي يُذيل فيها بعض العلماء المسلمين ما يكتبون وما يفتون بــ: (هذا والله أعلم، ورد العلم إليه أسلم).
ثانياً: إنّ أهل التصوف استغلوا قصة موسى والخضر ليُغطوا بها شطحاتهم التي تفتقد إلى الأدلة والنصوص الداعمة، وخالفوا نص القرآن في آخر القصة حين قال الخضر لموسى بعد أن قص عليه تأويل الوقائع الثلاثة التي لم يستطع موسى عليه السلام تقبلها دون تأويل: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) .. كما خالفوا قواعد اللغة عندما اختلقوا مصطلحا لتأييد مذهبهم اتكأوا فيه على قوله تعالى (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) فقالوا: (بالعلم اللدني) الذي هو من (الكشف) ومن (حدثني قلبي عن ربي)، عِلم ليست أصوله في الكتب، وليس عند مدعيه أثارة من علم، عِلم لا يَمّت إلى العلوم النافعة، ولا إلى الحقيقة بشيء، ويزعمون وجوده عند العوام، والمجاذيب، والسوقة، وقد يكون صاحبه أمياً لا يقرأ ولا يكتب .. وكثيراً ما يخالف عِلمهم (اللدني) علم الوحيين، ولا يتحرجون من ذلك، فمن أقوال أساطينهم المثبتة في كتبهم: (تأخذون علمكم من ميت عن ميت، وعلمنا نأخذه عن الحي الذي لا يموت) … وهذا (العلم اللدني) هو أصل الشطحات وغطاؤها عند الصوفية. ولله در المفسر ابن عاشور يقول في تفسيره التحرير والتنوير: (وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ مِنْ عِنْدِنا وَبَيْنَ مِنْ لَدُنَّا لِلتَّفَنُّنِ، تَفَادِيًا مِنْ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ…). فالعلم اللدني المزعوم لا أساس له لا في سنة ولا في كتاب، يُمررون من خلاله اعتقاداتهم وأفعالهم المنكرة.
ثالثاً: إنّ قصة موسى والخضر لم تكن إلا لينتفع الناس بمغزاها في أنّ: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)، ولذلك لا تقبل الائتساء بأفعال الخضر والتكرار، لأنّ الأفعال التي قام بها الخضر ظاهرها المنكر، وهذا ما جعل نبي الله موسى عليه السلام يُنكرها، ومَن أولى من الأنبياء بإنكار المنكر..؟ فلو أنّا نقبل اليوم من شخص أن يعتدي على مُلك آخر بقصد أن يُعيبه ليحفظه من سطو الغير، ونقبل من آخر أن يقتل غلاماً بحجة ألا يُفتن أبويه إذا كبر، ونقبل من آخر عملا فضولياً لم يطلب منه، ولم يُستأجر عليه بتأويلات من عنده، وكل يقول: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، ويزعم أنّه يقتدي بالعبد الصالح الخضر، لفتحنا باب فساد وشر لا يمكن إغلاقه..!
إذن، لا بُد أن تبقى أحداث قصة موسى والخضر مقصورة على أشخاصها وزمانها ومكانها، ومرة أخرى لا تقبل الائتساء والتكرار..! والذي يستفيده منها الناس إلى قيام الساعة أن لا يقعوا في ما عاتب الله عليه نبيه موسى عليه السلام وهو عدم التواضع لله في العلم .. إنّ الله يُؤتي العلم لعبده تفضلاً وتكرماً، ونتذكر بالمناسبة قول الله عز وجل لنبينا عليه الصلاة والسلام: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).
رابعاً: يخلط كثير من الناس بين المدلولات المختلفة لكلمة (الوحي) واستعمالاتها، فيُظن أنّه لا يُوحى إلا للأنبياء، ويستنتجون من آية (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أنّ الخضر نبي يوحى إليه..! والصحيح أنّ كلمة (الوحي) لها عدة معان مختلفة يحددها السياق. فلنتأمل قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) فقد استعملت كلمة (الوحي) هنا بمعنى إلهام الحشرة أمراً جبلياً غريزياً. وفي الآية الأخرى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ومثلها: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) إلهام من الله لبشر ليس في منزلة النبوة والرسالة وهي أم موسى عليه السلام، فعلاً أراد منها أن تفعله، ومن هذا القبيل إلهام الله الخضر تلك الأفعال التي فعلها وأنكرها عليه موسى عليه السلام. وبذلك فالقول بأنّ كل من يوحى إليه من البشر نبي ليس صحيحاً.
خامساً: وأختم بفائدة عقدية هامة يحتاج إليها كل الناس ليسلم لهم أمر التوحيد، ويعيشوا حياتهم باطمئنان واستسلام لأمر الله تبارك وتعالى، إنّ ما نراه ونُعايشه من حوادث تُصيب الناس في هذا الكون، مهما كانت قاسية الوقع علينا، لها جانبان: جانب مرئي لنا لأنّه من عالم الشهادة، وآخر محجوب عنّا لأنّه من عالم الغيب .. ولا يصح أن يكون حُكمنا وتفاعلنا أو رد فعلنا لِما يُصيبنا مرتبط بما نراه ونحسه ونعايشه في عالم الشهادة فقط، دُون وضع الجانب الآخر الغيبي في الحسبان..! لأنّ الحوادث كما ذكرنا جزءان، فالحُكم على الحدث من خلال الجزء المشهود حُكم ناقص، لأنّه حُكم على نصف الواقعة..! والسؤال كيف السبيل إلى معرفة النصف الثاني وهو في عالم الغيب كي تقر عيوننا وتهدأ خواطرنا؟
أقول: لا سبيل إلى ذلك إلا من طريق واحد، لا يعرفه، ولا ينتفع به إلا أهل الإيمان والتسليم..! فهم يُوقنون أنّ الله ليس خصماً لأحد من عباده المؤمنين، بل يُحبهم ويُريد لهم الخير ويُريدهم جميعاً للجنة .. والمصائب التي تُصيبهم مآلها عند الله لصالحهم، ولا يأتيهم من ربهم إلا كل خير، ولو بدا لهم أنّ الجزء المرئي شر..! يُؤيد ذلك ما جاء عن نبينا عليه السلام: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) فالله تبارك وتعالى كل أفعاله خير ولا يُنسب إلى الله شر محض، والأمثلة ستوضح: العمل الجراحي شر بالنسبة للإنسان لما فيه من شق وقطع وإيلام، لكنّه في النتيجة يأتي بإذن الله بالشفاء من مرض شديد، ومعاناة طويلة .. إذن لا يُقال عنه إنّه شر محض بل هو شر من وجه وخير من وجه آخر، والخيرية في المحصلة هي الأغلب … ولله المثل الأعلى، فالله كل أفعاله من هذا القبيل، يبدو بعضها للبشر أنّها شر، لكنّها في النهاية خير عند الله. فرجم أو جلد الزناة، وقتل القاتل وغير ذلك من الحدود هو في نظر البشر شر لأنّه إيلام وحبس وإزهاق لأرواح، ولكنّه من وجه آخر خير لأنّه يسقط العقوبة الأخروية وهي أشد، ويكون فيه مصلحة للمجتمع كله لأنّه رادع. والأمراض على قسوتها كفارات للذنوب التي لم يُكفرها التوبة والاستغفار والأعمال الصالحة، لضعف الهمة والانشغال والتلهي، فيُعين الله الإنسان على نفسه، فيُكفرها له بالمرض(يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: كفارات).
وما أروع الحديث الشريف التالي، وما أليقه بما نحن في صدده، يقول عليه السلام: (إنّ الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها). فما أعدلك يارب .. وما أرحمك بعبادك. وما أكثر فرص النجاة التي يسرتها لهم…!
ولنطبق هذا المفهوم على أفعال الخضر، فالفعل ظاهره شر، ولكن بعد تأويله بدت فيه الخيرية والمصلحة .. ونأخذ مثالاً واحداً تجنباً للإطالة، فنسأل أيهما خير للوالدين، أي والدين مؤمنين، أن يُمَتَّعا بولد، يُرهقهما طغياناً وكفراً، أم أن يموت الولد ويسلم لهما الدين والإيمان؟ إذن لا ننظر إلى الوجه الذي نراه فقط فنحزن ونألم، بل لا بُد من أنْ نُحسن الظن بربنا، ونسأله حُسن المآب والثواب، ونرجو عنده الخير في الجانب الغيبي الذي لا نراه، ونستعين على ذلك بدوام الدعاء .. فالله تبارك وتعالى ألهم الخضر تلك الأفعال ومآلاتها وساق إليه موسى لينكر عليه ابتداء، فيُبين الخضر له ما غاب عنه، كل ذلك تعليم لنا وإيضاح، حتى لا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا. فلنبق على ذكرٍ من هذه المعاني النفيسة التي هي سلواننا وسكينتنا، وعوننا على صروف الحياة ونوائب الدهر.
فبعد هذا الفهم، فإنّ أي مؤمن سيقنع ويرضى بفقر يدخله الجنة بصبره وشكره، ويراه خيراً من غِنى مُطغ مآله إلى النار، ويحمد الله على مصيبة تصيبه يجعلها له الله إنْ صبر رفع درجات وتكفير ذنوب، فليس عند الله شدة لا عوض للعبد المؤمن المحتسب عنها عند ربه..! والأمثلة كثيرة، في الشأن الخاص والعام .. ويجب ألا ننسى أنّ كل المعاني المذكورة لا يفهمها، ولا يعمل بها، ولا ينتفع بها إلا المؤمنون، وأُذكر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبت لأمر المؤمن، إنّ أمره كله خير، إنْ أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير، وإنْ أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن).
والحمد لله على نعمائه …