Skip to main content

(لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)

By الأحد 22 ربيع الأول 1434هـ 3-2-2013ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, تفسير

(أُولُو الْأَلْبَابِ) تركيب تكرر كثيرا في كتاب الله عز وجل ليس بالضرورة باللفظ نفسه، وإنّما بالمعنى من مثل (أولو النهى) وغيرها … فما حقيقة معناه؟

وقد يستغرب بعضهم طرح السؤال اعتقاداً أنّ المعنى شديد الوضوح لكل أحد، فأولو الألباب هم أصحاب العقول..! وتبريراً لطرح السؤال أقول: إنّ أناساً أخطأوا في فهم التركيب واستعمالهم له وهم أصحاب المدرسة العقلية (في الدين) ومن ألحق نفسه بهم، ومن تورط معهم من بعض من تكلموا بالإعجاز العلمي…! ولا بُد من تفصيل:

إنّ أولئك القوم جعلوا همهم خطاب عقول الناس المجردة، بهدف هدايتهم للإسلام، فلما وُوجهت العقول المجردة بغيبيات الدين رفضتها، لأنّ العقل لا يُحسن التعامل مع الغيوب وليست له أدوات ذلك، لأنّه لم يخلق لذلك .. فلم يكن بُدٌ عند أولئك من رد بعض النصوص، أو تأويلها إرضاء للعقل، وكان هذا المنزلق الخطير في فكر المعتزلة ومن تبع طريقتهم. كذلك حاول أصحاب الإعجاز العلمي خطاب العقول المجردة، مستعينين بمسائل الإعجاز وما حسبوه إشارات تُوافق العلم الحديث في الكتاب أو السنة .. وحملهم الحماس للسعي نحو هذا الهدف، بفهم ناقص، إلى توهم معان ليست موجودة في الكتاب والسنة، وفهمٍ لا يخلو من تمحل لبعض النصوص، ولي لأعناق بعضها لتُواطيء ما سعوا إليه .. والخطأ الكبير في ذلك أنّ العقل ليس البوابة الأساسية لدخول الإسلام، وإن كنت لا أُنكر له بعض الدور .. إلا أنّ الدور الرئيسي في حصول الإيمان يكون في الاستجابة إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي استوى الناس فيها على قدم المساواة، بما يُعبَّر عنه بالمصطلح المعاصر: (تكافؤ الفرص) ولنقرأ حديثين عن الصادق المصدوق حول هذا الشأن:

عَن عِيَاض بن حمَار الْمُجَاشِعِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: (أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: وإِني خلقت عبَادي حنفَاء كلهم وَإنَّهُ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا).

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

فيتساوى الناس في منة الله عليهم في تيسيرهم لقبول الحق والهداية، ويفترقون في استجابتهم لتلك الفطرة، كما أراد لهم ربهم، أو إقامة الحواجز والصوارف أمامها حتى تُطمس .. فمخاطبة العقل فقط ليست بذات جدوى .. فكم في الكون من الأذكياء (ولا أقول العقلاء)، فالعقل يتعامل مع الحقائق الكلية الكبرى، ويُحاكم الأمور، ويُرتب الأولويات، أما الذكاء فمهارة عقلية تتعامل مع جزئيات من المحسوسات والماديات بدافع المصالح. وليس للذكاء شمولية العقل وقدراته. ولذلك يُوصف بعض الحيوانات بشدة الذكاء لسرعة ردود أفعالها، وحُسن تصرفاتها في مواقف معينة .. لكن لا يُوصف حيوان بأنّه عاقل..! كما أنّ بعض المجرمين يوصفون بأنّهم أذكياء ولا يوصفون أنّهم عُقلاء..! ومن أولئك الأذكياء علماء الذرة والفضاء والبحار والطب والحواسيب والاتصالات وغير ذلك، وقد حققوا إنجازات كبيرة، بيد أنّهم رغم كونهم قد لمسوا ورأوا بأعينهم، ووقفوا بذكائهم على عجيب صنع الله في الخلق، إلا أنّهم لم يشاؤوا لعقولهم أن تستجيب لفطرهم التي استفزها ما رأوا من آيات بينات لا يُخطئها عقل حيادي، والتي ستوصلهم إلى الحق والحقيقة .. فلم ينتفعوا بعقولهم، وبالتالي لا يكونون من (أولي الألباب)، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر).

ونستشهد بأثر صحيح لابن عمر رضي الله عنهما يصف حال الصحابة عليهم رضوان الله يقول: (إنّهم أوتوا الإيمان قبل القرآن) فاستقبلوا القرآن بمُسْتَقبِل سَبقه في نفوسهم، وهو الإيمان الذي أحدثته الفطرة السليمة، فزادهم القرآن يقيناً وتصديقاً، ولم يكن استقبالهم له بعقولهم وحدها، وإذن لا ينتفعون بالقرآن، وهذا الأثر بتمامه للفائدة: (وإنّ أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلمون أنتم القرآن) ثم قال: (لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه ينثره نثر الدقل) [والدقل: رديء التمر الذي يرمى].

والوضع اللائق ببني آدم جميعاً أن تكون عقولهم في خدمة الفطرة، وتحقيق غايتها، لا أن يكون العقل معانداً لها ومعاكساً وصاداً .. والذي يُوصل إلى الله الفطرة بمساندة العقل، أما العقل وحده فلا يفي بالغرض .. فالفطرة دافعٌ ومُوجه، والعقل أداة تُدَبِر وتُنَفِّذ. وجميلٌ ونحن نتحدث عن العقل أن نقرأ كلاماً نفيساً غير مسبوق لابن تيمية في الفتاوى عن العقل إذ يقول: (وَلَمَّا أَعْرَضَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ وَأَرْبَابِ الْعَمَلِ وَالصَّوْتِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ: تَجِدُهُمْ فِي الْعَقْلِ عَلَى طَرِيقِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ وَحْدَهُ أَصْلَ عِلْمِهِمْ وَيُفْرِدُونَهُ وَيَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ تَابِعَيْنِ لَه، وَالْمَعْقُولَاتُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الْأَوَّلِيَّةُ الْمُسْتَغْنِيَةُ بِنَفْسِهَا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآن).

ثم يقول رحمه الله: (الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ، وَكَمَالِ وَصَلَاحِ الْأَعْمَال، وَبِهِ يَكْمُلُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ؛ لَكِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٌ فِيهَا؛ بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَصَرِ الَّتِي فِي الْعَيْنِ؛ فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ كَانَ كَنُورِ الْعَيْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ. وَإِنْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبْصِرْ الْأُمُورَ الَّتِي يَعْجِزُ وَحْدَهُ عَنْ دَرْكِهَا).


بعد هذا المدخل والمقدمة، مع الاعتذار عن طولهما، أعود إلى (أولو الألباب) فليس معناه (أصحاب العقول) وحسب، إنّ لهم وصفاً أساسياً وصفهم الله به في أكثر من موضع، ولنقرأ آية آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). فقد وصف ربنا تبارك وتعالى أولي الألباب بالذين يذكرون الله، إلى آخر الأوصاف في تمام الآية .. فأولئك الذين ينفعهم التفكر ويُفيدون من الإعجاز، فقد آمنوا ابتداء، استجابة لفطرهم، ثم دعاهم إيمانهم إلى التفكر، فنفعهم التفكر بعد الإيمان، وليس بالتفكر الذي أداته العقل مجرداً، يحدث الإيمان..! ولسيد قطب رحمه الله في تفسير آية آل عمران كلام رائع، فإليكموه:

(إن آيات الله في الكون، لا تتجلى على حقيقتها الموحية، إلا للقلوب الذاكرة العابدة. وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم – وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار – هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح. فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية – بدون هذا الاتصال – فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق. ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف).


وكل ما قلنا يتصل بسبب قوي، بل يتقوى بقراءة بعض الآيات التي تُبين أنّ من ينتفع بالموعظة والنذارة، ويتعظ بأخبار من سبق، وتنفعه الذكرى، ويُفيده التفكر هو من يُوجد في قلبه الخشية من الله وما عند الله، ويضع في حسبانه أنه سيمثل بين يدي ربه للحساب…

. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).

. (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ).

. (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى).

. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى).

. (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى).

وللآيات المذكورة وما سبق من كلام جانب دعوي هام، وهو أن يختار الداعية لدعوته محلاً مناسباً مُنتجاً، حتى لا يضيع وقته وجهده سدى، أشبه ما يكون بالمزارع الذي يتحرى قابلية الأرض للإنبات قبل زراعتها .. وأختم مكرراً قول الله (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).

هذا والله أعلم، ورد العلم إليه أسلم .. والحمد لله رب العالمين