Skip to main content

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)

By الأثنين 1 رجب 1436هـ 20-4-2015ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, تفسير

العنوان آية من فواتح سورة الذاريات، وأحب أنْ يكون محور حديثي آيات متتابعة ثلاث، هنّ: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ).

وأستأذن قبل البدء في مقدمة قصيرة، ما أفتأ أكررها، لأجُبَّ عن نفسي نقداً ليس لذاته، وليس حقاً، ولكنه غطاءٌ لرفض الكلام كله..! ملخص المقدمة القاعدة في أصول التفسير (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المناسبة). ومن ذلك، أنْ نُسقط وصفاً جاء في القرآن الكريم في حق شخص أو طائفة، على غير من أنزل فيهم إنْ تشابه الحالان..! أو جاء، في القرآن، كلامٌ ينعى على الكافرين أمراً، فلا حرج أنْ نسقطه على واقع المسلمين إنْ وقعوا في ذلك الأمر نفسه. وأجد لي مبرراً في قاعدة أخرى في التفسير جاءت عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وهي: (ليس الكفر الذي تذهبون إليه وإنّه ليس كفرا ينقل عن الملة وهو كفر دون كفر). وزاد بعض العلماء الفكرة إيضاحاً فقالوا: (هو الكفر العملي، أو الكفر القولي، وليس الكفر الاعتقادي..!).
والمقصود أنّ المسلم قد يُشابه الكفار في قول أو فعل وليس يستحله، فيؤاخذ به، ولا يخرجه من الملة، والبحث طويل له مظانه. وإلى موضوعنا، وفيه ثلاثة محاور.


المحور الأول: يخاطب الله تبارك وتعالى الكفار المعرضين عن دعوة النبي عليه السلام قائلاً: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ). وقد كان ذلك بعضاً من المُقْسَمَ عليه منه تبارك وتعالى، وكان القسم أولاً بأربع مخلوقات عظيمة، هي الرياح، والسحاب، والنجوم والملائكة، ثم جاء قسم خامس وهو السماء ذات الحبك.

وللفائدة أستطرد قائلاً: إنّ الله تبارك وتعالى يُقسم بما يشاء من مخلوقاته، وهو، جل في علاه، صادقٌ أقسم أم لم يقسم .. وليس لأحد من الخلق أنْ يُقسم بمخلوق، مثله. وقد جاء القسم الخامس (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ)، والحبك هو الصنع المتقن، قبل المقسم عليه وهو (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)، وهي مقابلة تستحق التدبر، بين إتقان الله في ما خلق، واختلاف وبطلان ما يصدر عن عقول البشر الذين يعرضون عن الحق المتمثل في ما جاء به النبي عليه السلام.

فما هو هذا القول لو شئنا تحديده؟ لا شك أنّه كلُّ قولٍ يخالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. أسال نفسي ومن يقرأ السطور، أليس المسلمون اليوم في أو على أقوال مختلفة، تُصادم هدي النبي محمد عليه السلام وتغاير سبيل المؤمنين، منهج (ما أنا عليه وأصحابي)..؟ لكنّهم، وبعض العلماء والدعاة والنخب، في المقدمة، يُغطون تلك المصادمة والمغايرة والمخالفة، بكل ما اعتادوا تبرير الاختلاف به، كالاجتهاد، وتعدد الأفهام للنصوص وغير ذلك، منتهين بالمقولة (الآثمة) (الاختلاف رحمة). وإنّ الاختلاف الذي ينتج عن المخالفة للاتباع، لا يخفى على أهل النظر، فضلاً عن أهل الدين..! وما أسهل أنْ يظهر العَوَر في كل قول إذا ما عُويِرَ بمنهج (ما أنا عليه وأصحابي).


المحور الثاني: ثم يُحَمِّل ربنا تبارك وتعالى أصحاب (القول المختلف) مسؤوليةً، إضافةً إلى مسؤولية إعراضهم عن الحق، هي مسؤولية صدهم باقي الناس عن الحق. يظهر هذا المعنى جلياً، في قوله تعالى (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) ومعنى (يُؤْفَكُ) أي يُصْرَف، ويكون معنى الآية، إنّ أصحاب القول المختلف، وما يثيرون فيه من شبهات حول الحق، يصدون بعض الناس عن قبوله .. ومفتاح فهم هذه الفكرة، الوقوف على معنى حرف (عن) في قوله: (يُؤْفَكُ عَنْهُ)، فعن، في الآية (للتعليل)، فيصبح المعنى، يُصرف الذين يُصرفون عن الاستجابة للحق، بسبب هذا (القول المختلف). ودليل هذا قول ربنا تبارك وتعالى (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ)، أي بسبب قولك. ومثله قوله تبارك وتعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ)، أي بسبب موعدة وعدها إياه. واليوم، ومع انتشار الفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي، يُغرى كثيرون بهذه المنابر المفتوحة، فينشرون آراءهم، في قضايا إسلامية شرعية، وهي آراء غير ناضجة، ولا حظّ لها من الاستدلال الصحيح. وبعرضها على معيار (ما أنا عليه وأصحابي)، تصنف أنّها من (القول المختلف)، بالمفهوم الذي جاءت به الآية. وما أدري هل يعلم هؤلاء المجازفون، أم لا يعلمون، أنّ الله سيُحَمِّلهم تبعةَ أنفسهم، وتبعة المغرورين بأقوالهم، بل المضللين كما قال تعالى: (ولَيَحْمِلُنَّ أثقالَهم وأثقالاً مع أثقالِهم). والمغترون والمضللون لا يَخْلُو، ولا أتَأَلَّى على الله، من مسؤولية انقيادهم الأعمى وراء كل ناعق، لا سيما في المسائل الواضحة من قضايا الدين، ولا يُعذر اليوم بالجهل أحد، فوسائل المعرفة أصبحت في متناول كل يد..! وما ينقضي عجبي من رجل أو امرأة، بأيديهم الجوالات الذكية، حتى في النوم، يرفعون عن أنفسهم الجهل بأمور كثيرة، ليكونوا متابعين لكل صرخة وصيحة وصرعة في معظم الأمور التافهة، إلا الأمية في الدين، فلا يحاولون استغلال هذه الأجهزة لمكافحتها في أنفسهم..! (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ).


المحور الثالث: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) .. مَن هم الخراصون؟

جاء في كتاب التحرير والتنوير لابن عاشور: (وَالْخَرْصُ: الظَّنُّ الَّذِي لَا حُجَّةَ لِصَاحِبِهِ عَلَى ظَنِّهِ، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ فِي ظَنِّهِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الضَّلَالِ عَمْدًا أَوْ تَسَاهُلًا.

فَالْخَرَّاصُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ، فَأَفَادَ أَنَّ قَوْلهم الْمُخْتَلف ناشىء عَنْ خَوَاطِرَ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}).

وجاء في تفسير السعدي: ({قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي: قاتل الله الذين كذبوا على الله، وجحدوا آياته، وخاضوا بالباطل، ليدحضوا به الحق، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون).


والآن أستأذن في طرح رأيي المتواضع في تعريف (الْخَرَّاصُونَ)، وإسقاط التعريف على الواقع: الخرص، الحكم بالظن، كما مر في آية الأنعام (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) وقد استعملت اللفظة، في كتب الفقه، في معرض تقدير قيمة أو كمية الثمر، وهو على الشجر، لأنّه لا يمكن وزنه أو كيله. ولهذه المهمة متخصصون متمرسون يقومون بالمهمة. وكان عليه السلام يدرب أصحابه على ذلك للحاجة إليه، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ حَتَّى جِئْنَا وَادِي الْقُرَى فَإِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِه: (اخرُصُوا) فَخَرَصَ الْقَوْمُ وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ:(أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) .. وفي طريق العودة، يتابع الساعدي: (ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا وَادِي الْقُرَى فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: (كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ؟) قالت: عشرة أوسق، خرص رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..).


وما دام الخرص ظناً، فلا يجوز العمل به في أمور الدين التي تبنى على الدليل من الوحيين. وبالتالي فإنّي أقرر الحقيقة الآتية: إنّ أي تعامل مع أمور الدين بكل أنواعها، في العقيدة والعبادة والمعاملات، خارج إطار وضوابط منهج (ما أنا عليه وأصحابي) يصل بأصحابه إلى (القول المختلف)، وأنْ يكونوا من (الخراصين)، إلا أنْ يكون الكلام في الاختلاف المعتبر، الذي يكون في مسارح الاجتهاد لغياب النص الصحيح الصريح، (القاطع للنزاع) .. وقد يرى بعض الناس هذا القول شديداً بل وغريباً، في عصرٍ، هو عصرُ التساهل والتيسير، والاجتهاد، والقول المختلف، حتى مع وجود الدليل القاطع. ولكل معترض أقول هل لدى أي مسلم، أو طائفة مسلمة من معيارٍ، يعرف به الحق من الباطل، سوى منهج (ما أنا عليه وأصحابي)..؟ فليخرجوه لنا، أو نقول، وبكل أسف، لبعض المسلمين، وفيهم علماء ودعاة ونخب: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)، والله أعلم، والله الموعد.