ما المقصود بالإسرائيليات؟
هي نسبة إلى بني إسرائيل، وبنو إسرائيل لا شك أنّهم أرسل فيهم نبي، وأنزل إليهم كتاب، فالنبي هو موسى عليه السلام، والكتاب هو التوراة .. وكان منهم رهبان وأحبار، وكانوا أهل دين سماوي .. ثم دب الفساد إلى بعضهم، وحرفوا الكلم عن مواضعه، لكن بقي منهم بقية أولو علم ودين.
وقد تسللت إلى المسلمين قصص عن اليهود، بعضها موجود في التوراة، وبعضها عن علماء وأحبار اليهود .. فمنها ما هو حق مما لم تنله يد التحريف. ومن نافلة القول أنّ الديانتين السابقتين للإسلام، اليهودية والنصرانية، قد حرفتا واعتراهما التبديل، وهذا ما حدثنا به القرآن الكريم في مواطن كثيرة. ومنها ما ليس بحق لأنّه مما لعبت به الأهواء وناله التبديل. كذلك لا ننسى أنّ من دخل في الإسلام من أهل الكتابين حدثوا المسلمين من حولهم ببعض ما حفظوه من دياناتهم السابقة مثل كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام وغيرهما.
ومعظم الإسرائيليات استقرت في كتب التفسير، لأنّ أكثر القصص التي جاءت في كتاب الله عن الأمم الغابرة، وعن الأنبياء السابقين وعن بعض الأشخاص ممن ذكروا للعبرة كقارون وغيره، لها ذكرٌ مشابه في الكتب السابقة.
لكنّ الإسلام، وهو دين الضبط والتثبت، عالج مسألة الإسرائيليات بطريقة أكثر من رائعة، حتى لا تشوش على شرائعه، إن كانت غير صحيحة، ولا يُكذَّبَ الحقُ الذي نزل من عند الله، في الكتب السابقة، إن كان نقلها صحيحا. قال صلى الله عليه وسلم: (ما حدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقوهم وَلَا تُكَذِّبُوهُم وَقَولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُم وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهم). وَقَالَ: (قاتلَ اللَّهُ اليهودَ! لَقَدْ أُوتُوا علماً). وقال عليه السلام: (حدِّثوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ولا حَرج).
ولا نتردد أن نقول إنّ من وراء هذه الأحاديث النبوية، ملمحاً دعوياً، وباباً من أبواب الترغيب في الإسلام، وتقريب المسافة بين الإسلام وأهل الكتابين، عن طريق قبول بعض ما جاء في ديانتهم، مما يوافق الإسلام، لتحبيب أهل الكتابين بهذا الحق الذي جاء مصدقا لما بين يديه، مما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام. وكيف لا يكون ذلك، وأهل الإسلام، وأهل الكتابين كانوا، في بداية الأمر، متجاورين متساكنين.
ولماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ لأنّ أهل الكتاب ما دام أنزل عليهم كتابٌ، وكان لهم نبيٌ، فمهما بلغ بهم الفساد، لا يزال عند أناس منهم معلومة صحيحة مأخوذة من التوراة أو الإنجيل، فيخشى أن يصبح تكذيبهم فيما صدقوا فيه، تكذيبا للإسلام نفسه. وفي الوقت نفسه، هو تحذيرٌ، حتى لا يصل حسن الظن بهم إلى تصديقهم في كل شيء. حكمة ما بعدها حكمة، وواقعية ما بعدها واقعية..!
وكلمة: (فَلَا تُصَدِّقوهم وَلَا تُكَذِّبُوهُم) هي بالغة في الإيجاز، ونبينا أفصح العرب، فهنا محذوف يفهمه المسلم وهو: حتى تعرضوا ذلك على دينكم.
وللشيخ الألباني رحمه الله كلام جميل في الإسرائيليات ذكره في مقدمة كتابه: (تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق). يقول:
(قال عليه الصلاة والسلام: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وإما أن يحدثوكم بحقٍّ فتكذبوه). ومن العجب أن هذه الشريعة المحفوظة المحروسة مع هذه الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة، إذا حدث بعض أعيان التابعين عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بحديث، كعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأبي العالية, ونحوهم، وهم من خيار علماء المسلمين، وأكابر أئمة الدين؛ توقَّفَ أهل العلم في مراسيلهم, وهؤلاء ليس بين أحدهم وبين النَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إلّا رجل أو رجلان أو ثلاثة مثلًا، فكيف بما ينقله كعب الأحبار وأمثاله عن الأنبياء، وبين كعب وبين النبي الذي ينقل عنه ألف سنة أو أكثر أو أقل!؟ وهو لم يسند ذلك عن ثقة بعد ثقة، بل غايته أن ينقل عن بعض الكتب التي كتبها شيوخ اليهود، وقد أخبر الله عن تبدليهم وتحريفهم، فكيف يحلُّ لمسلم أن يصدق شيئًا بمجرد هذا النقل؟ بل الواجب أن لا يصدق ذلك ولا يكذبه إلّا بدليلٍ يدل على كذبه، وهكذا أمرنا النَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
ويذكر الشيخ رحمه الله، في مكان آخر من المقدمة: (وقد قال معاوية رضي الله عنه: ما رأينا في هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب أمثل من كعب، وإن كنا لنبلو عليه الكذب أحيانًا).
وقد يُراد بالإسرائيليات، عند بعض العلماء، وبخاصة في التفسير، شيءٌ آخر لا صلة له بالتسمية، وليس من أخبار اليهود، بل من أخبار النصارى، أو ما يفتريه أعداء الإسلام، من الروايات المكذوبة في التفسير، كقصة زينب بنت جحش رضي الله عنها، عند قوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ…)، أو قصة الغرانيق وغير ذلك.
لكن الأولى التفريق بين الإسرائيليات التي هي من أخبار بني إسرائيل، وبين ما سماه العلماء في كتبهم، لاسيما كتب التفسير، تلك التسمية. لأنّ المكذوب في التفسير، مما لا صلة له ببني إسرائيل، كقصة الغرانيق، وزينب بنت جحش رضي الله عنها، مرفوض مردود لأنها كذب وافتراء. أما ما يكون من الإسرائيليات فليس كذلك، بل يطبق فيه ما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (فَلَا تُصَدِّقوهم وَلَا تُكَذِّبُوهُم).
فلْيُلاحظ الفرق.
كيف تسللت الإسرائيليات إلى كتب التفسير؟
أدخل الإسرائيليات إلى كتب التفسير علماء، عملا بالحديث السابق، أي عدم تصديق أهل الكتاب، وعدم تكذيبهم .. فلا يُظننَّ أبدا أنّ إدخال الإسرائيليات غير الموافقة لشرعنا، في كتب التفسير، دسيسة يهودية، أو مؤامرة من أعداء الدين. ولكنّه تساهل من بعض العلماء. ويقتضينا البحث التفصيل في موقف العلماء من الإسرائيليات.
فقد أجمع العلماء على أنّ ما جاءنا من الإسرائيليات على أنواع ثلاثة:
1. موافقٍ لشرائع الإسلام، فهو مقبول ويجوز التحدث به.
2. مخالفٍ لشرائع الإسلام، وهو مردود، ولا يجوز التحدث به.
3. لا يوافق شرائع الإسلام، ولا يخالفها، بل هو مسكوت عنه، فهذا يُروى ولا يُطوى، على سبيل الاستشهاد لا الاعتقاد.
ولابن كثير رحمه الله، في مقدمة تفسيره، كلام بعد أن ذَكر حديثَ: (بلّغُوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَجَ، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأْ مقعده من النار)، يقول: (ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد. فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمِنُ به ولا نكذّبه، وتجوزُ حكايتُه لما تقدّم. وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ دينيّ. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلافٌ بسبب ذلك. كما يَذكرون في مثل أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعِدّتهم، وعصا موسى من أيِّ شجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضُرِبَ به القتيلُ من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم . ولكن نقلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز. كما قال تعالى: )سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ … إلى آخر الآية). انتهى النقل عن ابن كثير .
ثم أقول: إنّ علماء الأمة رحمهم الله، وبخاصة علماء الحديث، كانوا على علو كعب في قضية الفهم، والعلم، والحرص على الدين الحق، فهناك قاعدة: (أنّ ما يقوله الصحابي إن كان مما لا يقبل التدخل العقلي فله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم). وهذه القاعدة مبنية على حسن ظننا، وهو في محله، بصحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، في أنّهم لا يفترون على الله الكذب، فالتكلم في الغيب بلا دليل هذا من افتراء الكذب.
إذاً نَرْبَأُ بصحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهم أمناء على الوحي، أن يقولوا في أمر الغيب بعقولهم، فكان عند علماء المسلمين أنّ مَن هذا شأنه مما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فله حكم الرفع. وقد استثنى علماء الحديث ابن عباس رضي الله عنه، مع أنّ ابن عباس هو من قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل). فلماذا استثني ابن عباس؟
قيل: لأنّ ابن عباس كان ذكياً قارئاً سريع الالتقاط، فصار عنده كمٌ كبيرٌ من الإسرائيليات، فيخشى إذا تكلم أن يسبقه ما اختزنه في ذاكرته من الإسرائيليات فيما يقول. وهذا من احتياط و تحرُّز علماء الحديث رحمهم الله.
ومن حرص نبينا صلى الله عليه وسلم أن لا يُشغب على دين الإسلام، وألا يكون لأبناء الإسلام مصدرٌ معرفي، في الدين، إلا الوحيان، فقد تعامل عليه الصلاة والسلام مع هذه القضية بمنتهى الصرامة. فعن جابر بن عبد الله: (أن عمر بن الخطاب أتى النبى صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبى صلى الله عليه وسلم، فغضب، فقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذى نفسى بيده لقد جئتكم بها نقية، لا تسألوهم عن شىء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به. والذى نفسى بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)).
فالإسلام جاء ناسخا للديانات السابقة، ولا يقبل من أحد من أهل الأرض، أن يدين الله بدين غير دين الإسلام، بعد ظهور النبي الأمي عليه الصلاة والسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ من أَصْحَاب النَّار).
وكتب التفسير لا يكاد يخلو تفسير منها من إسرائيليات. لكنّها تتفاوت من حيث الكم والنوع. ونعني بالنوع، أنّ بعض التفاسير فيها إسرائيليات من النوع الثالث المذكور أنفا، الذي (يُروى ولا يُطوى، على سبيل الاستشهاد لا الاعتقاد)، ومنها ما يحوي ما لا يجوز نشره. ومنهم من تصدى لتلك الإسرائيليات لتفنيدها وردها والتحذير منها. ويذكر منهم، على سبيل المثال، من المعاصرين الشوكاني رحمه الله، ويتميز تفسيره بقلة الإسرائيليات إلا ما ذكره لانتقاده، ويعتبر من أشد المفسرين تنبيها على الإسرائيليات، وانتقادا لها .. والحمد لله رب العالمين