Skip to main content

(ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)

By الثلاثاء 27 شوال 1434هـ 3-9-2013ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, تفسير

تمام الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

التأويل .. وهو ذو أثر بالغ في مسيرة الأمة الإسلامية، وقمينٌ جداً ببحث رصين. وما هو هذا التأويل الذي جعله الله في الآية قرين الفتنة؟

وبين يدي البحث من الضروري تناول معنى كلمة التأويل، وللتأويل ثلاثة مدلولات:

الأول: بمعنى التفسير، وهذا ما درج عليه الطبري رحمه الله في قوله وتأويل قوله تعالى .. كذا. والشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله سمى تفسيره (محاسن التأويل).

والثاني: بمعنى ما يؤول إليه الأمر. (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) وفي سورة يوسف: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا).

وكلا النوعين المذكورين حقّ.

والثالث: صرف المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن عن حقيقته إلى معنى مرجوح مؤول. وهذا هو التأويل الفاسد، ومطية الشر التي امتطاها أهل البدع والأهواء، لتُواطيء النصوص أهواءهم، وتوافق عقولهم القاصرة، وأكثر ما أعملوا ذلك في نصوص الأسماء والصفات في الكتاب والسنة. وهذا النوع الثالث من التأويل هو المرفوض المذموم.

واتقاء لهذا المنزلق الخطير، وهو التأويل، أكدّ علماء أهل السنة والجماعة على أنّ الأصل في نصوص الوحيين الأخذ بظواهرها، ولا يُعدل إلى التأويل إلا بقرينة شرعية تحتمه. ونُؤكد على عبارة (قرينة شرعية) لأنّ من انحرفوا عن سواء السبيل اعتمدوا قرائن عقلية، بمعنى أنّ العقل لا يقبل هذا المعنى الذي جاء به نص الوحيين، فلا بُد من التأويل بحثاً عن معنى يُوافق .. وهذا هو الضلال بعينه، وأصل كل انحراف في الدين.

ونعود إلى مناقشة موضوع التأويل، وسيتركز على النوع الثالث المذموم من التأويل .. فهو بضاعة أهل الزيغ في تعاملهم مع نصوص الوحيين، كما جاء في الآية. إنّ أخطر ما تعرضت له أمة الإسلام والتوحيد فِتنتان تُنجب إحداهما الأخرى، وهما التأويل: وهو تأويل النصوص، ثم التبديل: وهو تبديل الدين .. فما سبب ذلك؟

إنّ أقواماً دخلوا الإسلام بشخوصهم، لكنّ قلوبهم لا زال فيها من رواسب ما كانوا عليه قبل الإسلام، لوثات حركها الشيطان في نفوسهم وهم يتعاطون مع نصوص الوحيين. ولم يكن مفهوم الوحي وقُدسيته، وأنه أثبت شيء في الوجود قد وَقر في قلوبهم وأحاطت به تصوراتهم .. فخرجوا بخلطات عجيبة، وإفك اجترحوه، يُرضي عقولهم، وقد أشربوا في قلوبهم الفلسفة وبضاعة (أهل الكلام) ولا أقول علماء الكلام فليس ما يتعاطونه علماً، إنّما هو بضاعة مزجاة، وبالتالي فليسوا بعلماء.

ومن أبرز الأدلة على ما قلنا حديث صحيح رائع، يصف حال أهل التأويل بدقة عن أبي سعيد الخدري، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن، كما قاتلت على تنزيله، فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال: لا، ولكنّه خاصف النعل. يعني عليا رضي الله عنه) وفي رواية مطولة للحديث، أنّ نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انقطعت فأخذها علي رضي الله عنه، يخصفها، فتأخر عن الركب.

ولقد خاض النبي صلى الله عليه وسلم كل معاركه مع أقوام يُكذبون بالقرآن، ويجحدون أنّه مُنزل من عند الله .. وأنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه ترك لنا معارك مفتوحة إلى قيام الساعة مع أقوام يُظهرون الإيمان بالقرآن ويُعظمونه ويُقدسونه، لكنّهم يعبثون بدلالته عن طريق التأويل. فهُم والمُكذبون به الجاحدون له سواء .. وبالفعل فقد خاض أُولى تلك المعارك كما أخبر الصادق المصدوق علي رضي الله عنه مع الخوارج، وهم أولّ من فتح باب التأويل وخاض فيه، راغبين عن فهم الصحابة للوحيين إلى ما تأتي به عقولهم .. واستخلص أحد السلف من حديث (خاصف النعل) قاعدة فقال: (الكفر في القرآن كفران: كفر في تنزيله، وكفر في تأويله)، وقد صدق وايم الله.


ومن مطالعاتي، وهي متواضعة، لم أجد من تكلم في ذم التأويل وتأثيره في أمة الإسلام كابن القيم رحمه الله في كتابه الشهير (الصواعق المرسلة) يقول: (الفصل الخامس عشر في جنايات التأويل على أديان الرسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل). وهذه بعض نقول منه، وإن كانت قراءة الفصل كاملاً مهمة ومفيدة، يقول رحمه الله:

(إذا تأمل المتأمل فساد العالم وما وقع فيه من التفرق والاختلاف وما دفع إليه أهل الإسلام وجده ناشئا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدين وفروعه فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب وتفرق الكلمة وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد ذات البين حتى صار يكفر ويلعن بعضهم بعضا وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم).

ويتابع: (ومن أعظم جنايات التأويل على الدين وأهله وأبلغها نكاية فيه أن المتأول يجد بابا مفتوحا لما يقصده من تشتيت كلمة أهل الدين وتبديد نظامهم وسبيلا سهلة إلى ذلك فإنه يحتجز من المسلمين بإقراره معهم بأصل التنزيل ويدخل نفسه في زمرة أهل التأويل ثم بعد ذلك يقول ما شاء ويدعي ما أحب ولا يقدر على منعه من ذلك أحد لادعائه أن أصل التنزيل مشترك بينك وبينه، وأن عامة الطوائف المقرة به (بالتنزيل) قد تأولت كل لنفسها تأويلا).

ويقول: (ومثل أولئك كمثل قوم في حصن حاربهم عدو لهم فلم يطمع في فتح حصنهم والدخول عليهم فعمد جماعة من أهل الحصن ففتحوه له وسلطوه على الدخول إليه فكان مصاب أهل الحصن من قبلهم).


وبالفعل، فمن أعظم جنايات التأويل على الدين وأتباعه، أنّه يُقصي الاتباع بمفهومه الشرعي، ويُحل مكانه اتباع العقل والهوى والفلسفة وأقوال الرجال .. فماذا يبقى من الدين بعد؟ وهل من جناية أكبر من هذه الجناية؟ ومن دَأب أهل التأويل إن لم تُعجب عقولهم دلالة نص، وهّنوا سنده وردوه، وإن لم يقدروا على ذلك قالوا إنّه حديث آحاد، ومن الاستدلال استبعدوه .

ومن فرية أهل التأويل وافتراءاتهم، قولهم: إنّ من احترام العقل تأويل النصوص المصادمة له .. وكأنّ ما أنزله الله من فوق سبع سماوات يُصادم العقل .. والفرية الأخرى وهي كأنّ أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية وأهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) الذين جعلهم الله ورسوله، الفارق والفيصل بين الحق والباطل، وما هو من الدين، وما هو ليس منه، لم تكن لهم عقول..! سبحانك هذا بهتان عظيم.

ولقد أدرك الصحابة الكرام، بفطرهم السليمة الموافقة للحق، والملتزمة بالوحيين خطورة مجانبة الوحيين، واعتبروها من التلون في الدين (دخل أبو مسعود على حذيفة فقال: اعهد إليّ، فقال له: ألم يأتك اليقين؟! قال: بلى وعزّة ربي، قال: فاعلم أنّ الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما كنت تُنكر، وأن تنكر ما كنت تعرفُ، وإياك والتلوُّن، فإن دين الله واحد).

وأمثلة التأويل المذموم المرفوض أكثر من أن تُحصى في مقال .. لكنّ التمثيل يُعين على الفهم والإيضاح فهاكم بعضها:

تأويلهم قول الله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) إلى مهبط أمره.

وتأويلهم قول الله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) أأمنتم ملكاً في السماء.

وتأويلهم قول الله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) استولى على العرش.

وتأويلهم قول الله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) وجاء أمر ربك.

وتأويل قول الله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) إنّ آزر هو عمّ إبراهيم وليس أباه.

كما لايخفى تأويلهم الصفات، فالعين بالرعاية، واليد بالقدرة وغير ذلك. وتأويلهم حديث النزول (ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول…) ينزل أمره وتدبيره.

وفي الختام.. إذا أردت يا أخي أن تعرف معاني التأويل السلبية فأضف ما يخطر ببالك من مفردات على الوزن نفسه …التأويل يعني: التبديل، والتحويل، والتضليل، والتجهيل، والتخذيل، و.. و.. والحمد لله رب العالمين