تعريف لابد منه
وللموضوع الذي أنا في صدد إنشائه، محوران رئيسان، يشكلان بيت القصيد في ما أنوي طرحه. أولهما تصحيح أسلوب تعاطي المسلمين اليوم مع نبيهم، والثاني تصحيح أسلوب تعاطي المسلمين مع وحي ربهم المنزل من فوق سبع سماوات، وكلاهما أصلان أصيلان، وركنان ركينان، في بنية دين الإسلام، وبالرغم من ذلك لم يسلم الأصلان والركنان من كيد أعداء الإسلام، وتقصير وتهاون أبناء الإسلام. والشروح آتية بإذن الله. وعلى بركة الله نمضي مع المحور الأول.
تمام الآية، وتفسيرها
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
ولقد رأيت في تفسير السعدي، للآيات السابقة، كلاماً رائعاً يتعلق بالمسألة التي نحن في صدد إيضاحها وهي مسألة التعاطي مع النبي صلى الله عليه وسلم، للوصول إلى تدين يرضي الله، لأنّه يقوم على تعظيم الوحي وجعله المصدر الوحيد في الدين كما أراد الله، ولنقرأ أواخر سورة الكهف
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). لذلك أثبت تفسير الآيات كاملاً.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآيات:
(يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له. وأنّ الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع.
وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأنّ الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنّهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا.
وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره. ففيه إثبات القضاء والقدر، والحث على الاستعانة بالله، وبيان أنه لا يمكن الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول.
ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} أي: معترفين بذنوبهم باخعين بها.
{فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهُم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها، وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛
لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك. (تعليق من الكاتب: لقد حاول أهل التصوف، صرف الآية عن تأويلها الصحيح، ليجعلوها نصا صريحا على مشروعية مثول العباد أمام قبر النبي، لطلب المغفرة منه، صلى الله عليه وسلم، حال موته، وقد وصف الشيخ السعدي ذلك بأنه شرك، وهذا هو الحق!).
ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم، أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي ذلك (2) حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن. ومَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومَن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين). ا.هــ
ومن تمام التفسير للأيات السابقة أن نضيف ما ذكره القاسمي في تفسيره، وهو محاسن التأويل، قال: (أخرج البخاري عن الزهريّ عن عروة قال: (خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصاريّ: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير. ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر. ثم أرسل الماء إلى جارك). فاستوعى النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاريّ. وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ). انتهى من محاسن التأويل.
وقد جاء في تفسير القرطبي: (في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) رَوَى أَبُو صَادِقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَدِمَ علينا أعرابي بعد ما دَفَنَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ مِنْ تُرَابِهِ، فَقَالَ: قُلْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَمِعْنَا قَوْلَكَ، وَوَعَيْتَ عَنِ اللَّهِ فَوَعَيْنَا عَنْكَ، وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الْآيَةَ، وَقَدْ ظَلَمْتُ نفسي وجئتك تَسْتَغْفِرُ لِي. فَنُودِيَ مِنَ الْقَبْرِ إِنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَكَ. وَمَعْنَى (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أَيْ قَابِلًا لِتَوْبَتِهِمْ). ا.هـــ
مَلحوظة مهمة: إنّ القصة السابقة المنقولة عن تفسير القرطبي، ليس لها زمام ولا خطام، ولا تصح أبدا لافتقادها للسند الصحيح حديثياً، والقرطبي، عفا الله عنه، لم يذكر ذلك فتلقاها الجهال وأهل التصوف وطاروا بها، لموافقتها أهواءهم حول التوسل بالأموات مغترين بذكر القرطبي لها، وللأهمية الشرعية العقدية، كتبت هذه الملحوظة.
أريد أن أختار من الآية التي جعلتها في العنوان، قول ربنا: (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، لأجعلها (العبارة المفتاح) لهذا الموضوع العقدي الخطير، الذي أتمنى أن أُحسن إيصاله إلى الإخوة القراء، مع كل ما يحف به من خطورة! فكن أيها القارئ الحصيف من هذه (العبارة المفتاح) على ذكر وانتباه حتى نضم إليها ثانيةً إن شاء الله. وماذا أقصد بالخطورة التي تحف بالموضوع؟
إنّ مخالفة هذا المعنى المراد من الله، وهو التأكيد للخلق في أكثر من آية أنّ رسله إلى الأرض منصورون، ممكنٌ لهم من ربهم، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ)، وقال: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، ليربط بذلك على قلوب عباده المؤمنين، وليقطع طرفا من أعدائه فينقلبوا خائبين. وسيأتي، بإذن الله، مزيدُ تفصيلٍ. وكل ما أتمناه، أن أُفلح في أن أُبْرئَ ذمتي في إيصال المعنى المراد إلى أفهام القراء، على وجه التمام!
ولقد استعملت مصطلح (العبارة المفتاح)، وهو تعبير وافد على اللغة العربية، مترجم عن لغات أوربية كالإنكليزيةkey word))، والمقصود به الكلمة أو العبارة التي تشكل مفتاحَ فكرةٍ ما مهمةٍ! أو أنّ الكاتب أو المحاضر قد تتكرر في موضوعه فكرة ما، مرات ومرات، وللاختصار يغنيه عن تكرارها ذكر الكلمة المفتاح التي اصطلح عليها في بداية الكلام، فإذا ذكرت الكلمة المفتاح أو العبارة المفتاح، تداعى إلى ذهن القارئ أو السامع ذلك المعنى المعهود، بينه وبين الكاتب أو المحاضر. وتطبيقاً لما ذكر فإنّي جعلت (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، العبارة المفتاح، لبيان موقع الرسول عليه الصلاة والسلام في الدين، والذي استعَضْتُ عن شرحه بما ذكرت من تفسير الشيخ السعدي، وقد أجاد وأفاد، وبما سيضاف من شروحات أخرى، والاكتفاء بذكر العبارة المفتاح يقلص عملية التكرار في الكتابة، ويسرع في استدعاء أفكار مذكورة ومعهودة إلى ذهن القارئ المتابع.
ولقد شرحت المقصود من استعمال المصطلح الوافد، إمعانا في دقة إيصال الفكرة المرادة من هذا الموضوع المهم الذي سأطرحه! وقد حرصت على ضم الآيات القرآنية التي تؤكد على الموضوع:
(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ). وقد جاء في تفسير الشوكاني، قَوْلُهُ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ فِيهِ: أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَفِي هَذَا مِنَ النِّدَاءِ بِشَرَفِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعُلُوِّ شَانِهِ وَارْتِفَاعِ مَرْتَبَتِهِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يُبْلَغُ مَدَاهُ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَمَنْ تَوَلَّى أَيْ: أَعْرَضَ فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أَيْ: حَافِظًا لِأَعْمَالِهِمْ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ).
(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى).
وما أكثر ما استهوتني فكرة، مرت لدى قراءتي المباحث العقدية في كتب شتى، وأصوغها الآن كما فهمتها، على الوجه الآتي. إنّ أعظم موقع أعطي فيه النبيُ صلى الله عليه وسلم القدرَ الذي يليق به، حين جعل ربه اسمَه قرينَ اسمِه، تبارك وتعالى، في كلمة التوحيد، في ثاني الشهادتين، وناهيكم بها! (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله). لقد اشتملت هذه العبارة التي يصلح أن يقال إنّها عنوان الإسلام العريض، على نوعين من التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الاتباع أو توحيد المتبوع، أو توحيد الرسالة.
والشق الأول من كلمة التوحيد، (أشهد أن لا إله إلا الله)، وهو توحيد الألوهية، أجمع علماء العقيدة، على تفسيره بالآتي: أعتقد جازماً بأنّه لا مألوه بحقٍ في الكون إلا الله، ومألوهٌ بمعنى: معبود، لا معبودَ بحقٍ إلا الله. وجيء بكلمة (بحقٍ) لأنّ هناك معبودات كثيرة اتخذها البشر أربابا على مر التاريخ، وهي من الباطل الذي دحضه التوحيد الذي أُنزل في كتب الله، وبَشَّر به رسل الله.
أما شهادةُ أنّ محمدًا رسولُ الله فمعناها: طاعةُ الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر، وتصديقُه في كل ما أخبر، واجتنابُ كلِّ ما عنه نهى وزَجَر. وألاَّ يُعبَدَ اللهُ إلا بما شرع رسوله عليه الصلاة والسلام، والتزامُ طاعةِ رسول الله، وهي طاعةٌ لله: وقد جاء في الصحيح: (مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ). أخرجه مسلم
أرجع لأقول مؤكداً إنّ كلمة وشهادة التوحيد، (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله)، تحتوي على نوعين عظيمين من التوحيد، توحيدُ الألوهية لله، وهو كما بينا قبلاً: (الاعتقادُ الجازمُ بأنّه لا مألوه بحقٍ، في الكون، إلا الله، ومألوهٌ بمعنى: معبود، لا معبودَ بحقٍ إلا الله) ومن أخلَّ به وقع في شرك الألوهية، وهو الشرك الأكبر المُخرِج من ملَّة الإسلام.
وتوحيد الاتباع أو توحيد المتبوع، أو توحيد الرسالة. وهي كلها بمعنى واحد، وهو أنّ تعاليم الإسلام وأحكامه كلها لا تؤخذ إلا من بشر واحد هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومن مارى في ذلك ولم يعمل به، فقد وقع في شرك المتبوع، وهو من الشرك الأكبر المخرج من الملة!
وتبقى هذه الطريقة متبعة حتى بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام. وقرأت ذات مرة في فتاوى ابن تيمية عبارة قالها وكانت قاعدة عظيمة لإغلاق باب البدع، الذي فتحه أهل الفرق ولازال، وإلى الله المشتكى! قال ابن تيمية موت النبي عليه الصلاة والسلام بمثابة خاتم يختم به الدين، فلا وحي بعد محمد، ولا ابتداع! ولا يقطع دابر الابتداع غير هذا الأمر إن فهم على وجهه، ثم عُمل به. ولقد ألقى الإمام مالك، إمام دار الهجرة، إضاءة رائعة على الفكرة التي أتى بها ابن تيمية، فقال: (مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الدِّينَ وَفِي رِوَايَةٍ خان الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا).
وخلال قراءاتي الإسلامية، وجدت الكثير من العلماء، حين يتحدثون عن التوحيد، ويشرحون الشهادتين، يطيلون النفس في شرح شرك الألوهية والتحذير منه، وذلك ولاشك، وجيه ومطلوب. أما إذا وصلوا إلى الشهادة الثانية، وتوحيد الاتباع لا يتكلمون إلا كلمات معدودة، بل تحققت من أنَّ أكثرهم لا يشير إلى وجود شرك الاتباع، وأنّ من أخل به يخرج من الملة لأنّه شرك أكبر! فلنتدبر كيف مررت في ديننا مسائل خطيرة، لمخالفتها الوحي، وأين كان علماء الأمة عن ذلك، إلى الله المشتكى! وإلى المحور الثاني
تِبيانٌ وتوضيح، وسردٌ مكثفٌ للقصةِ المحزنةِ
كتبت في السطور الأولى من هذا الموضوع: (وللموضوع الذي أنا في صدد إنشائه، محوران رئيسان، يشكلان بيت القصيد في ما أنوي طرحه. أولهما تصحيح أسلوب تعاطي المسلمين اليوم مع نبيهم، والثاني تصحيح أسلوب تعاطي المسلمين مع وحي ربهم المنزل من فوق سبع سماوات، وكلاهما أصلان أصيلان، وركنان ركينان، في بنية دين الإسلام).
وها نحن نبدأ في عرض المحور الثاني، إن شاء الله تعالى، وكما ذكرت قبل قليل، إنّ المحور الثاني هو تصحيح أسلوب تعاطي المسلمين مع وحي ربهم المنزل من فوق سبع سماوات. وما أظن أحدا يُخَطِّؤُني إذا حاكيت الأسلوب القرآني، فقلت: (ما أنزل الله من وحيٍ إلا ليطاع بإذنه)! لتكون توأم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ).
والمسلمون اليوم، كما نُبْدِئُ ونُعيد، ليسوا على خير في أحوالهم الدينية الإسلامية! ومن يحمل همَّ الإسلام حملا يكاد ينوء به، لا يجد إلا تفسيراً واحداً لكل تَعثُّرٍ في حياة المسلمين، وعلى كل الأصعدة! ولا سبيل إلى خروجٍ من ذلك إلا في قول ربنا: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). وما معنى الفرار إلى الله، إلا أن نأوي إلى ذلك الركن الشديد، تائبين مستسلمين، طائعين بعد أن لم نجد في الكون الفسيح مَنْ نَفِرُّ إليه من الله، إلا الفرار إلى الله! ولقد تعلمنا من نبينا صلى الله عليه وسلم أن تكون ردة فعلنا تجاه أي تقصير في جنب الله، أو الشعور بثقل الذنب يرهقنا ويبعدنا، أن نلجأ إلى ما يرضي الله! والأمور الكبرى الخطيرة، في حياة المسلمين، لا ينفع معها كثرة الكلام والثرثرة، ولا كثرة الحركة بلا تبصرة، وهل من تعليم بعد تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنقرأ حديثه، (إنَّها ستكونُ فتنةٌ. فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟! أو كيف نصنعُ؟ قال: ترجعون إلى أمْرِكم الأوَّلِ). الفتنة وما أدراكم ما الفتنة!؟ إنّها لا يُتصدى لها بالخطب والصراخ والعويل وهيشات الأسواق! إنّما باللجوء الفوري إلى العمل الذي يرضي الله، والذي كان تركه هو الذي أشعل الفتنة! وهل يرضيه إلا الاعتصام بوحيه المنزل إلينا، نتعلم منه ما ينجينا من غضب ربنا!
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ولقد تعددت اجتهادات المفسرين في معنى لفظة (رُوحًا) في الآية، واخترت ما وافق فهمي، وتوظيفي للآية، وهو أنّ (رُوحًا) تعني (وحياً). ولعلي أكون مصيبا إذا قلت إنّي أود أن أقول: إنّ موقع الوحي من دين الإسلام كموقع الروح من الجسد! ولتكن هذه العبارة نقطة الإنطلاق للكلام عن المحور الثاني في هذا الموضوع، والذي عرفته بأنّه (تصحيح أسلوب تعاطي المسلمين مع وحي ربهم المنزل من فوق سبع سماوات).
وحين أريد الكلام عن الوحي المنزل من فوق سبع سماوات، لا أستطيع واللهِ الانعتاقَ من شعورين ينتابانني، ملؤهما الحزن والأسف، لحال الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم! وما سبب ذلك؟ عندي سببان، أولهما حديث صحيح، (عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا، قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ، قَالَتْ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي لِأَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ» قَالَ: فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا). إمرأة عجوز حبشية، أمية ترى في انقطاع نزول وحي الله إلى الأرض، مصيبةً كبرى ما بعدها مصيبة، تبكي لذلك الفقد الساعات، ولصدق عبرتها وهي تبكي، وبليغ نبرتها وهي تحكي، هيجت الشيخين فشاركاها البكاء!
ألا يدمي القلب أن نسمع ونرى بعض أبناء المسلمين، وفيهم نخب مثقفة، يناصبون وحي الله العداء، ويمنحون ولاءهم، ويؤجرون عقولهم، ويُعيرون أسماعهم، ويمدون أعينهم إلى أهل الكفر يستجدون علماً نافعاً، ورأياً صائباً، من مُخرجات العقول البشرية التي لم تستنر بنور الوحي، إنّما أخلدت إلى الأرض واتبعت الهوى؟! ثم يجعلون من أنفسهم منارات ثقافية ودعاة تجديد بين المسلمين، والأنكى من ذلك ما عابه ربنا على بعض المسلمين في سورة التوبة، (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
والأمر الثاني المؤسف والمحزن ما يلاحظه المهتم في شأن المسلمين، من تناقص قدسية نصوص الوحين في نظر المسلمين بشكل عام! وإذا أردنا معرفة السبب دون التفصيل، نقول الآتي: إنّ اختلاف المذاهب الأربعة في تطبيق النصوص من أجل الوصول إلى الأحكام، وكون الاختلاف بينهم ليس الاختلاف على صحة الدليل، وإنّما لمخالفة النص لأصول المذهب، أو لاستبعاد النص لمخالفته العقل. وهذا كثير في فقه المذاهب. ومع رغبتي في عدم فتح ملفات طويلة أو كثيرة، قد تخرج الموضوع عن خطته المرسومة، أذكر مثلا واحدا وهو اختلاف المذاهب الأربعة في الوضوء من لحم الإبل، فلم يقل بذلك إلا الحنابلة لوجود أحاديث صحيحة تدل على وجوب ذلك، والمذاهب الثلاثة لم تأخذ بذلك، وبررت بمناقشات عقلية وافتراضات جدلية لا قيمة لها.
ولننتقل من المذاهب والفقه، إلى العقيدة! هل الأشاعرة الذين يمثلون الشريحة الأوسع في المسلمين، التصقوا بالوحيين والتزموا ما أنزل الله في قرآنه، وما جاء صحيحا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من نصوصٍ يصف الله تبارك وتعالى بها نفسه، أو يصفه نبيه كما علمه بالوحي؟! أم أنّ العقل شَرَدَ بهم بعيداً، فأبعدوا النجعة أيَّما إبعاد؟! حتى صار حال بعض المسلمين اليوم، يصدق فيهم قول الشاعر:
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظَّما***والماءُ فوق ظهورها محمولُ
ولا أريد التوسع أكثر، فللبحث مظانه لمن شاء الاستزادة، أقول: يكفي أن نمعن النظر في بيتٍ من قصيدة جوهرة التوحيد، يمثل أصلاً من أصول العقيدة عند الأشاعرة:
وكلُّ نَصٍ أَوْهَمَ التَّشْبيها***أَوِّلْهُ، أو فَوِّضْ و رُمْ تَنْزيها
وهل يعني البيت إلا أنَّ الأشاعرة يفترضون أن يُنزِّل الله نصا إلى العباد لم يُحْسِنِ فيه تنزيه نفسه عن مشابهة خلقه، فيأمرون عقلهم البشري أن يؤول النص الموهم، ليصبح قابلا لاستعمال الخلق له، كبرت كلمة تخرج من أفواههم…!
وماذا ستكون نتيجة وجود المخالفات في كتب الفقه، وفي مسائل العقيدة التي تدرس في المدارس والمساجد والجامعات، إلا أن تشكل لدى الأجيال الصاعدة انطباع أنّ العقل البشري نافس الوحي المنزل من فوق سبع سماوات، ولا يرى المسلمون مخالفةَ الوحي مشكلةً، في حين أنّها والله لإحدى الكُبَر. ولم يعد غريبا أن نجد في كتب الأشاعرة وغيرهم من أهل الفرق، التصريح بأنّه إذا تعارض العقل والنقل يقدم العقل! وتحديدا فهذا محمد عبده الذي يلقبه المصريون بالإمام يقول: (اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ينظر إليه على أنّه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل).
ولنغادر شريحة فرطت في جنب الله، وجعلت العقل البشري القاصر هاديا لها إلى التوحيد فضلَّت وأضلَّت! إلى شريحة أخرى رغبت عن نصوص الوحي، واتبعت الهوى وخطوات أهل الذوق واستغنوا عن الوحي المنزل، واتباع النبي المرسل، بحدثني قلبي عن ربي، والكشوف والمنامات والكذب على الله وعباده. أولئك أهل التصوف بكل أطيافهم!
وإن نعجب فالعجب كل العجب، أن نقرأ حديث افتراق الأمة، وهو: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، قالوا من هي؟ فقال(الجماعة). وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي)). ونفهم من حديث نبينا الذي لا ينطق عن الهوى، عليه الصلاة والسلام:
1. حتمية افتراق أمة الإسلام، كما افترقت اليهود والنصارى.
2. أنّ الفرقة الناجية واحدة من أصل ثلاث وسبعين فرقة. فمن لعب بهذه الأرقام للتضليل فهو كاذب، ومن دعاة فتنة. ومن زعم بقوله أو فعله أنّ الفرق الناجية 3 أو5 أو12فهو كذاب أشرّ.
3. إنّ الفرق التى توعدها رسول الله بالنار، فهي كذلك، إلا أن تتوب إلى الله، وتؤوب إلى الحق، وتنضوي تحت عنوان (ما أناعليه وأصحابي).
وأقول بعد هذا الحديث العظيم والخطير والمخيف، والله لقد قامت حجة الله على كل من قرأ هذا الحديث أو سمعه، ولا يغُرَّنك أيها المسلم ما تسمعه من مشايخ أو علماء أو دعاة عن حديث الافتراق، سواء في القديم أو من المعاصرين، ينادون بضعف الحديث، أو يتأولونه تأويلات باطلة لصرف معناه عما أراد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنّهم ما يفعلون ذلك إلا لأنّهم من أهل الفرق المتوعدة بالنار، أو من الموالين لهم لدنيا يصيبونها. والله الموعد!
ومن العجائب والغرائب، أنّ المنتسبين للعلم ممن تصدوا لحديث الافتراق، لإبعاده عن ساحة العمل، وأذكر منهم للتمثيل، السيوطي في القديم، والقرضاوي في المعاصرين، يتجاهلون آية في كتاب الله، وهي الآية (137) من سورة (البقرة)، والمتدبر لها بتجرد وانصاف يرى فيها أصلا أصيلا ينتمي إليه حديث الافتراق، ولا سيما الجملة الفعالة فيه (ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فأين يذهبون؟! يقول تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). ولا يستطيع الذين في قلوبهم زيغٌ إلا أن يُحرفوا الكلم عن مواضعه، ليقتربوا من الحق الذي يفرون منه، ولو تقيةً، فتجدهم في أمثال هذه الآية يجمدون عقولهم عند أسباب النزول، أو مع أي إشارة تقول إنّ الخطاب في الآية للجماعة الفلانية ليسلبوا من النص دلالته القوية التي لا تعجبهم، جاهلين أو متجاهلين قاعدة عظيمة في أصول التفسير تقول: (إنّ العبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب).
وهل من العدل أن تعصب جناية الانحرافات الموجودة في الواقع الإسلامي اليوم، برؤوس أهل هذا الزمان فقط؟ والصواب أن نقول لا! إنّه إرثٌ متراكمٌ على مر قرون، ومع اعترافنا بأخطاء السابقين وإدانتها، لكن لابد من التصحيح، ولا نملك إلا أن نقول، لعله قدرٌ من الله أن يكون التغيير الكبير على كواهل الغرباءالآخِرين! واقرؤوا إن شئتم حديث نبيكم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ). ولما سئل رسول الله من هم؟ قال: (هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي). وفي رواية أخرى قال: (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم). وإذا أردنا الآن أن نسمي الأشياء بمسمياتها، قطعا لدابر التأويل والتزوير والتبديل، نروي القصة من بداياتها، مع تكثيف شديد.
أنزل الله هذا الدين الحنيف، الإسلام، الذي يستمد كل شيء فيه من الوحيين القرآن الكريم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة. وانتشر الدين وكثر أنصاره، وشاء الله أن يُسيِّج تلك المسيرة المباركة، حتى لا يعكر صفوها شيءٌ من طينية الأرض، بآيات بينات، تحفظ استقامة المسار، وتضبط أمر الحفاظ على الإلتزام بأصلي الإسلام الثابتين، الكتاب والسنة. ولنأت على سبيل التمثيل ببعض ما سَيَّج الله به مسيرة الدين:
قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ َصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). وقال عليه السلام: (وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ).
ولما جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الإسلام أفواجاً، اختلط المسلمون الذين خرجوا من جزيرة العرب يحملون في قلوبهم وعقولهم ونفوسهم الإسلام صافياً كما أنزل، بمسلمين من ديار شتى، يحملون في قلوبهم رواسب من الملل والنحل التي كانوا عليها قبل الإسلام، وأبرز شيء من تلك الرواسب الفلسفة اليونانية التي كانت تسود في كثير من مناطق شرق العالم، آنئذٍ! وقد حاول المسلمون من غير العرب أن يوفقوا في نفوسهم بين دينهم الجديد الإسلام وما حملته نفوسهم من رواسبِ ما كانوا عليه قبلا. وعن طريق هذا الاختلاط، والاحتكاك الدائم بين النوعين من المسلمين، تسللت الفلسفة اليونانية إلى بعض العقول المسلمة، وأذكر بما قلت آنفاً، إنّي سأُكثِّف القصة جداً، بقدر ما يتضح البيان، ويُستخلص الاعتبار.
ظهرت المعتزلة التي أُشرب أبناؤها الفلسفة في قلوبهم، واستحسنوا إيجاد قاسم مشترك بين الفلسفة والإسلام، مما يرضي من أسلم من خارج الجزيرة العربية، واتسع الأمر الجديد، وصارت له فلسفة جديدة، لازدياد أعداد الداخلين في الإسلام، الذين يحملون معهم رواسب الفلسفة! وكان ذلك، وأقولها صريحة بملء الفم، وبالاً على الإسلام والمسلمين، حين اشتد عود المعتزلة وبدؤوا يقلبون الأمور، ويضربون الأمثال، وافتتن العقل العربي بهذا الخوض الجديد، وخاض المسلمون مع الخائضين، إلا من رحم ربك! وكانت النتيجة بل المأساة الكبرى، أن تسلل فكر المعتزلة إلى بعض الديار الإسلامية وصار فيها سماعون لذلك التجديف. وأخطر ما تسلل تعظيم العقل البشري من خلال تعظيم الفلسفة له، وصار نداً للوحي، بل حكماً عليه، وعقابيل ذلك الوبال والوباء ظاهرة للعيان في كل ديار المسلمين لا يند عنها نظر، ولا يخطئها فكر…! ولقد فاقم من المشكلة أنّ أهل العلم في العالم الإسلامي لم يقفوا وقفة جادة مُعَمَّقَةً مع هذا الوافد الجديد، ولم يُعدوا عُدةً للتعامل معه، بل قوبل بسكوت، تقليلاً من شأنه، أو جهلا به، أو استحساناً له. ومع حسن الظن أقول: لقد ظنوا أنّ ذلك الواقع الجديد عارض مؤقت سببه اندماج الثقافات المختلفة، ولابد أن يَستقرَّ بعد وقت!
لكنّ الاعتزال وأهله كانوا حفييَّن بهذا الوقع الجديد، وأدخلوه مختبرات العقول وصالات الفلسفة، ليستولدوا منه منافسا للإسلام، ومربكاً ومشوشاً للعلماء وأهل الدين! وما لبثت أن تحولت تلك البداية البسيطة الخاطئة، لتصبح وبالاً ووباءً وعاراً لدى بعد المسلمين، ممن وافقتهم المقاربات الجديدة التي صدرها أهل الفلسفة من المعتزلة إلى ديار المسلمين، وخرج علم الكلام وكثر المتشدقون به! وليس أمامنا إلا أن نعترف، أنّ المعتزلة تركت بصمةً وتأثيراً وتضليلا في العالم الإسلامي كله. ونحمد الله فنقول: لقد استطاعت ثوابت الإسلام، والوحي المنزل من فوق سبع سماوات، وتحرك المجددين للدين، وفوق كل ذلك عناية الله، أن يصدوا ويردوا ذلك العبث والكيد للإسلام. وكُشف الاعتزال وأهله من الفلاسفة، على أنّهم رواد وصناع كل محاولات التغيير والتبديل القائمة على التأويل المفسد لدين الإسلام، وماذاك إلا فعل الابتداع الهدام، الذي استمرأه بعض المسلمين، بسب غفلة الصالحين من بعض العلماء الذين أفتوا بفتيا (البدعة الحسنة)، فكانت معولا بيد الأفاكين من أهل التغيير والتبديل.
والفقرة السابقة التي كرست لاستعراض التغيرات والتحولات، والدوافع والمسببات، التي غطت حقبة تاريخية، أفرزت أفكارا منها ما اندثر، لبطلانها وضعف من تبناها، ومنها ما صادفت لها في بعض القلوب والنفوس هوىً، فاعتنقها بعض المسلمين، ولازال الجدل قائما. وما أحكم الله! وما أعدله! حفظ الدين بحفظه، ويبقى الدين وأهله المستمسكين بالعروة الوثقى ظاهرين مهما اشتد الإفساد، وعظم البغي. عن المغيرة يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَزَالُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ). أخرجه البخاري ومسلم
أخطر فتنة واجهت النبي، وستبقى تواجه المسلمين إلى قيام الساعة
دين الإسلام مستهدف ممن أيقنوا أنّه حرب على كل باطل، ولابد من أن تسقط كل صروح الباطل الزائفة، ولذلك صارت المؤامرات على الإسلام وأهله تترى، ولكنّ المتآمرين وجدوا أنّ الأنفع والأجدى أن يحارب الإسلام بأبنائه، وكان كيد أعداء الإسلام كُبَّاراً. فعمدوا إلى معارك الفكر، ومعاول التأويل والتحريف والتبديل! وقد عرفوا بدهائهم وذكائهم نقطة المقتل. ولقد أنبأنا ربنا في قرآنه عن أولى المؤامرات والمحاولات، والتي لازالت هي هي حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ويبدو أن المسلمين يؤتون دائما من أمرين، وأُثر أن عمر رضي الله عنه كان يشكو منهما، فكان يقول: (اللهم إنّي أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة)! ولنستمع إلى تحذير ربنا (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا). وقال أيضا: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
كان المطلب الأول والأهم والأوحد لأعداء هذا الدين، والذي حاولوا مساومة النبي صلى الله عليه وسلم عليه (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون)، كان زحزحة المؤمنين، ونبيهم بين ظهرانيهم، عن الوحي منهج السماء، ولو زحزحة يسيرة جزئية، فالأعداء بها قابلون، ولها فرحون، لأنّها خطوة فاعلة لاحتناك الدين وأهله، وجرهم للمواقع التي ترضي أعداءهم، وإيقاعهم في فتنتين عظيمتين: ترك الوحي أو بعضه، والافتراء على الله بعده. ومما تضمنته الآية الكريمة المذكورة، إبطالُ ذريعةٍ، كثر المتذرعون بها، من الدعاة اليوم، وهي تسويغ دفع التخلي عن شيء من الوحي، ثمناً لرضا الطرف الآخر وتَقَبُّلِهِ، ولو جزئياً أو شكلياً، للإسلام وللمسلمين. يجد ذلك من يمعن النظر في قوله تعالى: (وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا)، ثم الوعيد الذي جاء بعدها لمن رضي بذلك: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا). ولا يزال أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، إلى قيام الساعة، يعتبرون فتنة المسلمين عن الوحي الذي أنزله الله أو بعضه، المعركة الأساسية والهدف الأول، مع التنوع والتفنن في الوسائل المفضية إلى ذلك. وهل نعي يا تُرى مغزى تسمية الله ذلك فتنة ثم افتراء؟
ومن التدبر في الأية السابقة وتقليب المعاني التي وردت فيها، رأيت أن أجعل قول الله تبارك وتعالى في الأية (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) العبارة المفتاح لهذا المحور الثاني، في هذه الموضوع العقدي الخطير، ولقد تكلمنا في السابق عن المقصود بالعبارة المفتاح، وتطبيقاتها، والحمد لله.
وقبل مغادرة هذه الفقرة، أريد أن ألفت نظر كل مسلم، إلى فكرة قيمة استخلصتها من الآية السابقة، فوجدت في قوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا)، أجلْ، فَطنْت إلى (متلازمة) أودعها ربنا في الآية، وهي التلازم بين هجر الوحي، الذي يلزم منها الافتراء على الله، في إحلال العقل مكان الوحي، وهل من افتراء أشد تضليلا للناس من هذه (المتلازمة)!؟ اللهم غُفرانك ورُحماك!
ولابد لي من أن أرجع للآيات السابقة، لأوفِّيَها حقاً أكبر من الشرح والإ سقاط على واقعنا الديني المريض، وقد لا تعجب هذه الصفة بعض القراء، وأقول لقد خففتها كثيراً عما في نفسي من توصيف لحال المسلمين. وماذا يتصور أن يكون حال المسلمين الديني، إذا كان تدينهم لا يوافق ما أنزل الله وحياً لينتفع به أهل الأرض! وقد وفقني الله تعالى إذ أوقفني على تفسيرٍ متميزٍ جداً عما قرأت من تفاسير، لقوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ…)، فرأيت إثباته، في ملفنا!
يقول صاحب التفسير: (يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين. لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى.. منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم. ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله. ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء.
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها، ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا. وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات، دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله، هي محاولات كل الطواغيت مع أصحاب الدعوات دائما. محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلا عن استقامة الدعوة وصلابتها. ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة. ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا، والطواغيت بكل أطيافهم لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أعدائها إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق. وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة. لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها. فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان. فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر. وليس فيها فاضل ومفضول. وليس فيها ضروري ونافلة. وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه. كالمُرَكَّب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره!).
وقد امتلأت كتب التفسير بروايات عن مساومات جرت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه كاد يتجاوب مع بعضها. لكن كل تلك الروايات تفتقر إلى الأسانيد الصحيحة. والراجح أنّ الآية تعليم للأمة بشخص النبي صلى الله عليه وسلم للأهمية، ولم تكن خاطرةً مرت على قلبه، أو أمنيةً راودت عقله. ونظير ذلك قول الله تبارك وتعالى لنبيه: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وقوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ). وإلا فالنبي الذي ائْتُمِنَ على الوحي وأُمِر بتعليم الناس له لا يقع في مثل تلك الزلات والمنزلقات، ولا ترد له على بال!
ومن كل ما تقدم فقد تشكلت عندنا خلفية وثائقية علمية، تدعم وتؤكد أسئلة مفصلية، لابد من أن نطرحها على أنفسنا، أعني جميع المسلمين، لتُبَصِّرنا بواقعنا الإسلامي المرير والمريض، ولكي ينكشف لنا كم فرطنا ونفرط في جنب الله، حين وقعنا في محظورين كبيرين؛ ضعفٍ كبيرٍ في الإحساس بقدسية الوحي المنزل من فوق سبع سماوات! وتفريطٍ شديدٍ في تعظيم رسول الله، يتجلى في ترك الاتباع له.
ولا تنس أيها القارئُ الحصيف أنّي قلت لك قبلا، احتفظ بذاكرتك بالكلمة المفتاح الأولى (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ). واحفظ معها الآن الكلمة المفتاح الثانية: (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ). ولنبدأ ونحن مستحضرون لكل ما قيل، عملية إسقاط الموضوع برمته وما جاء فيه من أمر ونهي وحلال وحرام وتقرير وتحذير على واقع المسلمين، من خلال أسئلة وحوارات افتراضية، كطريقة محدثة في تجلية الخطأ وتشخيص الانحراف، وأستميحكم العذر أن أتتبع هذه الطريقة المدرسية، المبسطة في طريقة أدائها، لكنّها شديدة الوضوح في أسلوب التأثير، وإيصال المعلومة.
وأحب الآن أن أشرح دور العبارات المفتاحية التي أكدت عليها. أريد أن أؤكد أنّ الله يتعبدنا بأصلين: التزام الوحي فهو أصل الدين ومن جعل في الدين أصلا غير الوحي فإنَّ ذلك افتراء على الله تبارك وتعالى، ولنعد قراءة الآية بتمامها لننعش ذواكرنا بما أنزل الله (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا). فمن ترك الوحي إلى ما افتراه عقله، أو زينه له شياطين الإنس والجن، كانت عاقبته خسرا، وأضاع دنياه وأخراه، ولنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً. أما الأصل الثاني فهو الاتباع الكامل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينفع في الدين إتباع أمر مصدره بشرٌ سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما علا كعبه في العلم، وطارت شهرته في الناس. لأنّ الوحي أعظم منه، بل أعظم من الأكوان كلها! ومن قدّم العقل أو أقوال الرجال في الدين فليس له حظٌ في الدين الحق، فلا هداية إلا باتباع الرسول، قال الله تبارك وتعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). ونعيد فنقول: كانت عاقبته خسراً، ولنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً. فالله أنزل الوحي على قلب نبيه عليه الصلاة والسلام ليبلغه لبني آدم، وما أنزل وحيه إلا ليُعمل به في الأرض، وما أرسل نبيه (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ).
وإذا نقلنا المشهد، الآن، إلى يوم القيامة، واستحضرنا قول ربنا: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ). ولنفكر مليا في مشهد الحساب المهيب، وأول واقعةٍ، فيه السؤال العظيم، ولنقرأ ما جاء في تفسير ابن كثير عن ذلك المشهد الرهيب: (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ النِّدَاءُ الْأَوَّلُ عَنْ سُؤَالِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا فِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّاتِ، مَاذَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ، وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُمْ مَعَهُمْ؟ وَهَذَا كَمَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ، وَمَنْ نَبِيُّكَ، وَمَا دِينُكَ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَاهَ هَاهَ لَا أَدْرِي، وَلِهَذَا لَا جَوَابَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ السُّكُوتِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) قال مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ، فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ).
ثم يجمع الله الرسل ليستشهدهم على إجابات أممهم على أول سؤال يطرحه الله تبارك وتعالى على الخلائق في يوم الحساب (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). وفي سورة الأعراف يجمع الله الواقعتين: سؤال الخلق، وسؤال الرسل، في نص واحد، (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ). ويقول الشيخ السعدي في تفسير سورة الأعراف: (وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي لنسألن الأمم الذين أرسل الله إليهم المرسلين عما أجابوا به رسلهم، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عن تبليغهم لرسالات ربهم، وعما أجابتهم به أممهم، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ} أي على الخلق كلهم ما عملوا {بِعِلْمٍ} منه تعالى لأعمالهم {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} في وقت من الأوقات كما قال تعالى {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}).
ومن كلام ابن كثير ندلف إلى القول: إنّ أول سؤال يُطرح على العباد، بين يدي الله، ماذا أجابوا رسلهم. ولننظر في ما قاله ابن كثير عن ذلك السؤال؟ (النِّدَاءُ الْأَوَّلُ عَنْ سُؤَالِ التَّوْحِيدِ، وَهَذَا فِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّاتِ) ولنتذكر أنّنا اتفقنا أنَّ قول ربنا: (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) هو العبارة المفتاح لدور النبي المركزي والخطير، لذلك كان السؤال الأول عن حال الناس المسؤولين مع نبيهم، هل هو طاعة وانتفاع بما جاء به النبي؟ أم إعراض وكفر وافتراء على الله؟! وما الذي يجيء به النبي للناس إلا الوحي الذي أنزله الله على قلبه ليبلغه لهم. ولنتذكر الآن العبارة المفتاح الثانية، والتي تخص الوحي الذي أنزله الله على عباده، (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ)، ولا بأس من استعراض كامل للآية من أجل الذكرى، وربط معناها مع السياق الذي نكتب (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا)، ومن يعرض عن الوحي المنزل، ويعرض عن اتباعه، فهو مفترٍ على الله، ومن هنا كانت فكرة العبارة المفتاح.
وعلى القارئ النبيه أنْ يلحظ كيف التقت العبارتان المفتاح اللتان تحدثنا عنهما في بداية الموضوع، مع أول سؤال يطرح على العباد في موقف الحساب، وهو قول ربنا (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)، وجاء التأكيد على ذلك مرة أخرى في قوله تعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)، وهذا ما سعيتُ من أجل إيضاحه للقراء، والحمد لله على توفيقه.
بيت القصيد والنهاية
وفكرة طرح الأسئلة انقدحت في نفسي لتكون تجربة تعرفنا بحالنا مع الله على حقيقتها، وتضعنا أمام الصورة الحقيقية لأنفسنا التي يغيبها عنا إنشغالنا في كل شيءٍ حولنا، إلا التفكر في حالنا مع الله. وهذه الطريقة وهي طرح الأسئلة، تجربة في كشف الحقيقة المرة التي لا يكفي لمعالجتها إلقاء المواعظ، ولا حتى الدروس. واصطلحت أن أضع في نهاية كل سؤال مطروح، العبارة المفتاح التي تذكر بالمسألة العلمية التي جرى فيها الخطأّ. وأزيدكم إيضاحا، فأقول إذا كان الخطأ في ترك اتباع النبي وضعت تحت السؤال (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ). وإذا كان الخطأ في ترك اتباع الوحي، قرآناً كان أو سنةً، وضعت تحت السؤال (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ). ولنطرح الأسئلة:
1. ماذا يكون جوابك يا عبد الله، إذا قيل لك، لم حججت حج إفراد وليس حج تمتع كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه؟ ستقول لأنّك تنتمي إلى مذهب علمك ذلك، أو شيخ اختار لك ذلك، وهل المذهب والشيخ يقدمان عندك، بل عند أي مسلم على ما جاء عن رسول الله؟ ومن المناسب جداً جداً، أنْ أذكرَ الحديثَ الآتي الذي جاء في سنن الترمذي: عن سالم بن عبد الله: (حدثه أنّه سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج. فقال عبد الله بن عمر: هي حلال. فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها؟ فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم). (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه)
2. إن سئلت يا عبد الله أين الله؟ فماذا تجيب؟ ستجيب حتما الله ليس في السماء، ولو سئلت لماذا هذا الجواب؟ لقلت لأنّ الأشاعرة وهم أهل السنة والجماعة، يأمرون بذلك! نقول لك: هل الأشاعرة الذين تتابعهم أعلم بالله من علمه بنفسه، وعلم نبيه المرسل به؟ أما قرأت قول الله في سورة الملك (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ)؟ وقول نبيه للجارية، في صحيح مسلم (أين الله، فقالت في السماء وأشارت بيدها إلى فوق، وقال النبي لسيدها أعتقها فإنها مؤمنة)؟ (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ)
3. رآك أخ لك وأن تصلي، فقال لِمَ لا تطمئن في صلاتك؟ ألا تعلم أنّ الاطمئنان ركن من أركان الصلاة، ولا تصح دونه؟ فتجيب هكذا علمنا كل مشايخنا وكلهم فقهاء ويعرفون فقه الصلاة! فيقول لك من نصحك: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ فَرَدَّ وَقَالَ (ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ). فَرَجَعَ يُصَلِّى كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ فَقَالَ (ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ثَلاَثًا. فَقَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِى)، فعلمه،
والحديث يسمى حديث المسيء صلاته وهو حديث طويل وفيه أكثر أحكام الصلاة. واتفق شراح الحديث أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بالإعادة ثلاث مرات لأنّه لم يكن يطمئن في صلاته. ولما علمه في الحديث ركز كثيرا على أمر الاطمئنان في الصلاة. (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)
4. كنتَ على مأدبة في مزرعة، ولما فرغ الناس من الطعام، أرادوا الصلاة جماعة، فقال صاحب المزرعة، وهو صاحب سنة، توضؤوا أيها الأحباب، فطعامنا فيه لحم إبل. وأنت أيها الأخ قلت في نفسك أنا شافعي، أو حنفي، أو مالكي المذهب، والمذاهب الثلاثة لا تقول بنقض الوضوء من لحم الإبل. فلم تتوضأ لأنّك كنت على وضوء! فهل أصبت؟ لا والله، لأنّك قدمت أقوال المذاهب الثلاثة، وحججهم العقلية، على الأحاديث النبوية الصحيحة، وهي جملة أحاديث منها ما جاء في صحيح مسلم: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ) قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: (نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ) قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: (لَا)).
وجاء قريب من هذه الرواية عن البراء بن عازب، وهي صحيحة أيضا: عَنِ الْبَرَاءِ: (أنّ رَجُلًا قَالَ لِلنبِى: أنُصَلِّي فِي أعْطَانِ الإِبِلِ؟ فَقَالَ: (لا). قِيلَ: أنُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، قَالَ: (نعم). قِيلَ: أنَتَوَضا مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: (نعَمْ). قِيلَ: أنَتَوَضا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (لا)). (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)
5. ما من رمضان يمر إلا وتثار مسألة الاختلاف في عدد ركعات صلاة التراويح. وتمتلئ القنوات وأجهزة التواصل بالمناقشات الطويلة، ويبقى الأمر معلقا كما كان. ولا ننسى أنّ لهذا الجدل سوابق لا تحصى عبر القرون الماضية، والمسألة لم تستقر بعد على قرار. حتى قال أحد الظرفاء لن تنتهي هذه المسألة إلا بالقول فليعمل كل أحد ما يشاء! واضيعة الدين! إذ صارت بعض أحكامه تصل إلى التعصب وعدم المبالاة بين الناس! أين الناس من أهل القديم والحديث، من حديث أم المؤمنين، عائشة رضي الله عنها، المتفق عليه بين الصحييحين، ولم يخل ديوان من دواوين السنة منه: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: (مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا)). وإنّي لأسأل كل من ينافح عن الزيادة في التراويح، وما من ظهير له إلا التعصب الأعمى، والسؤال الذي على أولئك المخالفين، من هو متبوعكم وإمامكم؟ منهم من يقول عمر ومنهم من يقول ابن تيمية ومنهم من يقول أئمة المذاهب، أقول إذكروا من شئتم فهل يوجد فيهم من هو أعلى وأولى وأحرى بالاتباع؟ إلا إن كنتم ترون أو تزعمون أنّ لكم متبوعا فوق رسول الله، وعندئذ لاجواب إلا (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)
6. ما نظرت عيناي مرة تلك (الهرطقات) التي يأتي بها أهل التصوف، وقد جاءت أجهزة التواصل لتعينهم على باطلهم، وتفرض قسراً تلك الهرطقات على أسماع وأبصار المسلمين، وهي مؤذية في كل شيء فيها، إلا تأكد عندي أنّ عنوان هذه الحالة (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، وقمة ذلك اللهو واللعب في الدين ما اصطلح أهل الباطل على تسميته (الحضرة الشريفة)، وما هي بشريفة ولا لطيفة ولا نظيفة، وينطبق عليها وعلى مبتدعيها وعلى الراقصين فيها، قوله تعالى في تتمة الآية السابقة: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).
ولقد سمعت من شيخنا الألباني، في أحد أشرطته الأبيات الآتية:
ألا قل لهم قول عبد نصوح***وحق النصيحة أن تُستمع
متى علم الناس في دينهم***بأنّ الغنا سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل الحمار***ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا سكرنا بحب الإله***وما أسكر القوم إلا القصع
كذاك البهائم إن أُشبعت***يُرقِّصها ريُّها والشبع
ويسكره الناي ثم الغنا***و(يَسِ) لو تُليت ما انصدع
فيا للعقول ويا للنهى***ألا مُنكر منكمُ للبدع
تهان مساجدنا بالسماع***وتُكرم عن مثل ذاك البِيَع
وينسب للمعري قوله:
أيا جيلَ ابتداعٍ شرَّ جيلِ*** لقد جئتم بأمرٍ مستحيلِ
أفي القرآن قال لكم ربكم*** كلوا مثل البهائم وارقصوا لي
واليوم أهل التصوف يشكلون واجهة (ديكورية)، يتم تعريف الإسلام من خلالها لكل من أراد أن يتعرف على الإسلام، وبكل أسف أقول، رضي من رضي وسخط من سخط، إنّ أهل التصوف لا يصلحون أن يكونوا سفراء للإسلام يُعَرِّفون به. واليوم نجد التصوف والرقص والغناء والمزامير تنتشر في كل مكان، تحتفي بالمناسبات الإسلامية والأعياد، على الطريقة الإسلامية بزعمهم، وقد كذبوا والله، إنّهم يسعون بالفساد الذي حرمه الله! وكثيرا ما حاولت أن أفهم بعض الناس أنّ منهج التصوف ليس من الإسلام في شيء، لكن دواعي الهوى عند الناس أقوى، لأنّ معرفتهم بالدين لازالت سطحية ولم تبلغ شغاف القلب.
أيها المسلمون جددوا وصححوا وأحيوا الدين في نفوسكم، بالاقتراب والالتصاق بالوحيين. يقول عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح: (إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ). (إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)
وفي النهاية، ما هي زبدة الكلام؟ من أراد أن يعرف حاله مع الله تبارك وتعالى، فليتعهد في نفسه أمرين: أولهما ليعرف بدقة أين موقعه من اتباع الوحيين، والعمل بهما، وبثهما في الناس، وترك العمل بغيرهما ولو وجده في كتب المسلمين! وثانيهما أن يُحَقِّقَ في نفسه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم،
الاتباع الذي هو شعبةٌ من حب الله تبارك وتعالى، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ).
والحمد لله أولا وآخرا