Skip to main content

بَلْ أُمُّ المُشْكِلَاتِ!!!

By الأثنين 8 رجب 1444هـ 30-1-2023ممقالات

وقع نظري على لوحة خط في النت، عنوانها (أزمة الناس)، تحمل هذين البيتين من الشعر وهما:

كيف أرجو الصـــــــلاح من أمـر قوم … ضيعوا الحــــــــــزم فيه أيَّ ضيــــــــــاعِ

فـــَـــمُــــطاعُ المقال غيــرُ ســــــَـــــدِيـــــدٍ … وســـديــــــدُ المقال غيرُ مُــــــــــــــــــطاعِ

وبحثت فإذا البيتان للشاعر أبي فراس الحمداني، وعجبت من أنّهما ليسا من قصيدة، وقد اعتدنا أنّ مثل هذه الاقتباسات الشعرية تكون جزءأً من قصيدة! وأُفاجَأُ أنّ البيتين وحدهما يأخذان مكان قصيدة، ويحملان رقم قصيدة في الديوان، ولم أجد لهما عنواناً من وضع الشاعر. ويزول عجبي بعد تأمل سريع في البيتين، في أنّهما يستحقان أن يأخذا حَيِّزَ قصيدةٍ لِما يَتضَمَّنانِ من فكرٍ رشيدٍ، وقولٍ سديدٍ، وليس لِما يَشْغلان من سَطْرٍ! وما لبثت أن استنتجت أنّ شكوى أبي فراس فيهما ألصقُ وأليقُ بزماننا وأهله، ووجدت نفسي ومشاعري معه في شكواه. فالمشكلة التى أراد أبو فراس التصدي لها، ولو فكرياً، حاضرةٌ في مجتمعنا المسلم، بإلحاحٍ أكثر، وتأثيرٍ أكبر! إنّها بحقٍ مشكلة اجتماعية ثقافية سلوكية كبيرة، عُبِّرَ عنها بوجيز من النظم! (بل هي أم المشكلات)! وبهذا كان العنوان. وسرعان ما بدا لي، وما أحسبني تسرعت، أنّ المشكلة تفاقمت لدينا بشكل أكبر وأخطر، وسيأتي تفصيلٌ، إن شاء الله.

أرجع إلى أبي فراس، فأسأل نفسي، ليكون جوابي إيضاحا للقارئ، عن موضوع المقال الذي بين يدي! ما المشكلة التي أحس بها الشاعر، ولا أقول رآها، فلفظة الإحساس أقرب وأصوب إلى الشعور، وما اشتقت كلمة (الشاعر) إلا من مادة (شَعَرَ). إنّها مشكلة جماعيةٌ اجتماعيةٌ ثقافيةٌ سلوكية، أصابت الناس، والنخب منهم خاصة، فصار أمرهم إلى انتكاس..! يفهمون ويتعاطون مع ما لا ينفع من القول، ويصمون أسماعهم، ويغلقون أفهامهم عن النافع المفيد، وأتساءل ولعل القاريء يتساءل معي كما تساءل أبو فراس، ماذا يُرَجِّي، وماذا يُرْجَى لمن هذا حاله؟ ولقد يئس أبو فراس من صلاح مجتمع بهذه المثابة! ويظهر لي أنّ الذي ضاع بل ضُيِّع في زمن أبي فراس هو فضائل الأخلاق، وكرائم العادات، ومخالقة الناس بخلقٍ حسن، ورافَقَ ذلك الإعراضُ عن كل دعوة للحفاظ على تلك المثل، والعملُ بأقوال مخالفة غير صحيحة، أو عادات ذميمة سرت بين الناس.
والذي جعلني منذ البداية، أحكم أنّ المشكلة عندنا أكثر تفاقما، وأخطر تأثيراً، أنّ المشكلة في بني قومي تجاوزت مخالفة المثل والعوائد الكريمة والنافع والمطلوب والواجب عقلاً، إلى مخالفة الدين الحق، والعزوف عن الكلام المؤصل المؤيد بنصوص الوحيين، إلى كلام قائم على لَيِّ أعناق النصوص والاستنباطات والتحسينات العقلية، إرضاءً لعلم الكلام وأربابه، وللتعصب المذهبي وأصحابه، أو لانتماءٍ حزبيٍ، أو تجمعٍ مشيخيٍ وطُلابه، أو استجابةً لدعاوى العصرنة والعقلنة، والعلمنة والعولمة. وهنا مكمن الخطورة، ولهذا فإنّ المشكلة في قوم أبي فراس، صارت عندنا أم المشكلات…؟!
ولعل تساؤلاً قد يثور عند بعض القراء، يود أحدهم لو يطرحه علي، وهو مُحِقٌّ فيه. كيف أجزت لنفسي أن أجري مقابلة وأعقد مقارنة بين ما كان عليه أبو فراس وأهل زمانه، وأهل هذا الزمان وأنا منهم، وذلك يستلزم الإحاطة بأحوال العصرين، وليس لي أن أزعم ذلك! وهذا صحيح، ولكنّي عرفت المشكلة بتفصيلها وخطورتها، من نظم شاعر يصوغ أحاسيساً وليدة تفاعلات ومعاناة مع قضايا واقعه، وهو شاعرٌ، وناهيكم بذلك!؟ أما وجه المقارنة وطبيعة المشكلات عند أبي فراس، وحكمي أنّ مشكلتهم أخف مما عندنا، وذلك في ظني مبعث التساؤل، فأقول: لعلَّ صفحات التاريخ أطلعت الباحث مثلي على ما يُعين على مقاربة ظنية، لكنّها من الظن الراجح، إن شاء الله. وبين ما عانى أبو فراسٍ، وما نعاني قاسمٌ مشتركٌ، هو أنّ في طبائع البشر، بل في أهوائهم، وذلك أدق، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، مضاداتٍ للسمو والتألق والتميز، ومعوقاتٍ عن استمرارِ الارتقاء إلى الأفضل، وذلك من بقايا أثر الطينية التي خُلق منها الإنسان، تبقى كامنةً في النفس، يُلجمها الدينُ والخُلق والصحبةُ الصالحة، من أن تفعل، حتى تجد مناخاً مواتياً، في حالة ضعفٍ بشريٍ، فتنطلق وتهيمن وتُفسد!. وفي كتاب الله تعبير عن تلك النوازع الهابطة وهو المُعَبَّرُ عنه (بالإخلاد إلى الأرض) قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وأعظم تلك النوازع الأرضية الهابطة أثراً في الناس، وأخطرها على الفرد والمجموعة، ما جاء في الآية: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، وسيكون لنا مع الهوى وقفة، إن شاء الله، وهي بيت القصيد في هذا الموضوع. وإنّ جهلي بحجم المشكلة عند أبي فراس ليس مانعاً من أن أتعامل معها وفق ما أرى وأعاني وأعيش في بني قومي! فأنا الأعلم بخطورة كل ذلك، وإلى أي مستوىً تدنّى هبوط مجتمعاتنا الإسلامية. وأنا وغيري من أبناء العصر، الحاملينَ هُمومَ ممانعة الهبوط والانتكاس وذهاب الريح، وتقويم واقع المسلمين الشرعي، وما فيه من بعد عن الوحيين، ومخالفات لهما، نملك أدق معيار يسمح بمقاربات ومقارنات تصل إلى بعض الحقيقة، وفي البعد المكاني والزماني عن أرضها عذر عن عدم الإحاطة الكلية بها، وتوصيفها ببعض ما فيها، والأصلُ ترك التفاصيل لمن يتصدى للإصلاح! ولا إخال عنزين ينتطحان في ما آلَ إليه واقع الكثير من مجتمعاتنا العربية الإسلامية. وإن شئنا دليلاً شرعياً، فأوْرِدُ هذا الحديث الصحيح: عَنْ
ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ».
وهذا الحديث النبوي العظيم يشكل آصل الأصول الذي بنيت عليه قناعتي ومنهجي الإصلاحي في توصيف حال المسلمين المتردي، وارتقائهم المتعثر، وأنّ معالجة ذلك الداء الوبيل يرتكز على ركن ركين، وهو العمل على
استرداد الأمة الغائبة
، أو تفعيل الأمة الغثائية، أو إعادة دين الأمة الذي كُفيء، (كما يكفأُ الإناء في البطحاء)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كتبت كثيرا، في موضوعات عدة، موجودة على موقعي، عن النصوص الشرعية التي اسْتَنْبَطْتُ منها توصيف أحوال الأمة الثلاث، المذكورة في السطرين السابقين، فليراجعها من لا يذكرها. وحرصت في كل كتاباتي، حين أريد ذكر أو التذكير بواقع الأمة المريض، أن أذكر التعبيرات الثلاثة، زيادة في الإيضاح، ولأؤكد أنَّ التوصيفات الثلاثة متكاملة في ما بينها وليست متناقضة، تأكيدا لكونها مستنبطةً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونعود إلى (الهوى)، وهو بيت القصيد في هذا الموضوع، كما ذُكِر سابقاً. وما أظن مخالفاً سيرفع أُصبعَ الإعتراض، إذا جزمنا أنّ سبب كلِّ ابتعادٍ عما تواضع عليه الحكماء والعقلاء، فضلاً عما أنزل الله من السماء، هو (الهوى)، فما هو الهوى؟
إنّ الهوى حيث وجد يهدد السلامة بكل أنواعها، سلامة الفرد، وسلامة المجتمع، إلى أنْ يُهدد سلامة الأمة والأوطان، حينما يصبح انتشاره وبائياً .. ولو أردنا استنباط تعريف للهوى من المعاناة الواقعية لقلنا: ممارسة فردية، أحادية النظرة تتمحور حول الذات، همُّها المصلحة الخاصة، تتمرد على الأخلاق والدين، وكل مَنْ وما يحاول اقتلاعها من حياة الناس بتوجيه أو تشريع، تبدأ من (الأنا) لتعود إليها في اللحظة نفسها، فلا تُحِسُّ بمن حولها! ولننظر بعد ذلك، التعريف في قواميس اللغة. جاء في لسان العرب: (وهَوى النفسِ إِرادتها والجمع الأَهْواء وقال اللغويون الهَوَى محبةُ الإِنسان الشيء وغَلَبَتُه على قلبه، قال الله عز وجل: {ونَهى النفْسَ عن الهَوى} معناه نَهاها عن شَهَواتِها وما تدعو إِليه من معاصي الله عز وجل)
.
ويعين في فهم معنى الهوى الحديث الصحيح الآتي، وفيه كلام لعائشة رضي الله عنها وهي من فصحاء العرب وكلامها حجة في اللغة: عن عائشة قالت: (كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {ترجي من تشاء منهن، وتؤوي إليك من تشاء، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك). والشاهد العبارة الأخيرة: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك)، والمقصود من كلام أم المؤمنين رضي الله عنها بلفظة (هواك) في الحديث ما تميل إليه نفس النبي صلى الله عليه وسلم. ويقول بعض العلماء هذه هي الحالة الوحيدة التي استعملت فيها لفظة (الهوى) في نص شرعي بمضمونها اللغوي المجرد. فإنّ الإسلام أعطى الهوى معنىً سلبياً، حتى قيل: لا يُذكر الهوى في نصوص الدين إلا مذموماً. وهذا شبيه جداً بما اكتسبته كلمة (البدعة) من معنى اصطلاحي مذموم مستنبط من قوله عليه الصلاة والسلام: (وكل بدعة ضلالة)، فصارت البدعة إذا ذكرت كان المقصود المعنى المستقبح شرعاً، وهو الإحداث في الدين.
وبعد تعريف الهوى واقعياً ولغوياً، دعونا نتعرف على موقف الإسلام من نزعة خطيرة كهذه. نبدأ بكلامٍ لحَبْرِ الأمة ابن عباس رضي الله عنهما: (قال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم، فقال ابن عباس: إن الله لم يجعل في هذه الأهواء شيئا من الخير، وإنّما سمي هوى لأنّه يهوي بصاحبه في النار). وفي رواية أخرى عنه: (الْهَوَى كُلُّهُ ضَلَالَةٌ). ومن هذا القبيل كان حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) ضعيفاً، حتى تتأكد القاعدة الإسلامية التي ذُكرتْ، من خلال النصوص التي ذمَّت الهوى مطلقاً للتحذير منه، فلا يمكن للهوى أن يلتقي مع ما جاء به الوحي من فوق سبع سماوات! وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه فلا يبقى منه مفصل إلا دخله الهوى).
وإنّ استقراء نصوص الكتاب والسنة يُظهر أنّ الهوى ما ذكر فيهما إلا مذموماً، لاعتباره المنافس الأول والأشد للوحيين. وأنّه مضاد للحق، وصارف عن الانقياد التام لله ورسوله. والإسلام كما لا يخفى هو الاستسلام والانقياد لله، ومن هنا اكتسب اسمه. وإذا كان (الهوى) بالأدلة الشرعية مضاداً لما جاء به الدين، وما جاء الدين إلا بتوجيهات وتشريعات تسمو بالأفراد لتحقيق سعادة الخلق على الأرض، وتسمو بهم في الآخرة ليكونوا في جنات وعيون. والأدلة التي تؤكد ذم القرآن للهوى، وتحذير الخلق من إسلاس قيادهم له كثيرة، ومن أبرز تلك النصوص القرآنية قوله تبارك وتعالى مخاطباً النبي عليه السلام: (فإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وفي هذه الآية من سورة القصص، بيان شاف، وايضاح كاف، أنّ الخيار ضيق وضيق جداً، بل لا خيار. فالخلق كلهم بين أنْ يستجيبوا لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحياً من عند الله، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، أو أنْ يكونوا متبعين لأهوائهم.
وقد يُلبس البعض، زاعماً، أنَّ رغبته عن الاستجابة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام، ليست عن رغبة بعدم الاستجابة، لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لمصلحةٍ قد يدعيها، وفلسفةٍ قد يفتريها، لكن مُنُزلَ القرآن، قد قطع دابر مثل هذه التبريرات والتعليلات والتمويهات، حين أعلم نبيه بما قد يخفى عليه، بسبب التلبيس والتدليس، أنّ ترك اتباعه اتباعٌ للهوى، ولا يقبل تسمية أخرى، ولا محل لحسن النية في ذلك، وهو الضلال بعينه، وظلم النفس بذاته. فقال جلَّ من قائل: (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ). وليس لفاعلِ ذلك أملٌ أو رجاءٌ ما دام على هواه قائماً! ومن ذا الذي يُبرَّئُ أو يُزكي من أنزل الله قرآناً يتلى في اتهامه؟!
ولشدة افتتان الناس بالهوى، والانقياد له، سماه الله تبارك وتعالى (إلهاً)، تحذيراً لعباده من شره، وتأكيداً لخطورته وضَرِّه، وأنّه يصل بصاحبه إلى الشرك، فقال وهو أصدق القائلين: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا).
ولما تبين أنّ الله ذم الهوى ذماً مطلقاً، وليس له أية إيجابية في حياة الناس! كانت البلوى به عامة لدى الخلق جميعا، وأرى في ذلك، مسوغاً لي في أن أشارك أبا فراس الحمداني مشكلته الاجتماعية الثقافية الأخلاقية. فلطالما يُكتب ويُقال: التجربةُ الحياتيةُ واحدةٌ عند كل الخلق. وحُقَّ لي أن أطربَ وأعجبَ، وأستولدَ من ذينك البيتين، موضوعاً أذكر به أهل زماني بما يليقُ أن يكونَ دَيْدَنَهُمْ في هذه الحياة، وأُسلوبَ تعاملهم مع حقائق الوجود، وقواعد الانضباط، وتعاليم الإسلام، ليسعدوا بالحياة، ولا يكون بعضٌ عبئاً على بعضٍ آخر، وليكونوا في الآخرة من الفائزين.

ونلملم أطراف الموضوع ونقول: كل معارضةٍ لخيرٍ متفقٍ عليه بين الناس بالذوق العام، يرمي إلى تحقيق مصلحة المجموعة البشرية، صغرت أم كبرت، أو معارضةِ ما أنزل الله لأهل الأرض من خيرٍ لتستقيم حياتهم عليه، هو من هوى النفس المفعم، بالأنانية، والاستهتار بمصلحة المجموع، ويرفضه الذوق السليم والخلق القويم، كما أنّ الله تبارك في علاه، ذمه وذم أصحابه وتوعدهم.
وقد يتوهم البعض أنّ الهوى دوران المرء في فلك نفسه وحسب، لا، إنّ هناك هوى أخطر من ذاك وهو أنْ يدور الفرد في فلك غيره، وإفساد ذلك أوسع وأشد. فالمذهبية بكل أشكالها في الدين وغيره هوىً، والحزبية هوىً، والتجمع على مصلحة مشتركة تعارض الصالح العام هوىً، ومخالفة وحي السماء لصالح أي اعتبار أرضي، ولو ظنه الناس حسناً، هوىً. والهوى بكل أشكاله مذموم من الله تبارك وتعالى، مقبوح من عباده الصالحين، ويهوي بصاحبه في النار! أختم بأسطر عثرت عليها وأنا أفتش ملفاتي القديمة، وهي خاتمة خطبة قديمة:
(سَمعتمْ عن الهوى ورذائله، وأخطاره وغوائله، وعرفتم كم هو مذموم، وأنّ مصير أهله مشؤوم. فاحذروا أنْ تلقوا ربكم بأهوائكم، وما زينته لكم من سوء أعمالكم. فإنّكم والله مسؤولون، وبأعمالكم مجزيون. واجتهدوا أنْ تلقوه بتسليمكم، واستسلامكم، وطاعته وحسن اتباعكم. فقد قامت على الناس وايم الله الحجة، بعد ترك نبيهم لهم على المحجة. واعلموا أنّه ليس للهوى منقبة، وليس له في دين الله مرتبة، بل هو إلى الضلال قائد، وكل ما يصدر عنه من عمل فاسد).
وإذا كان كل العقلاء معنيين بهذا الكلام، فليكن بنو جلدتي من السوريين أشد عناية، وأكثر انتفاعاً به. فوالله ما أزرى بنا إلا الهوى، وما فَتَّ في عضدنا إلا هو، وما جعل أمرنا فرطا إلا اتباعه، فهل يا ترى نعصيه..؟ فاحفظوا عن أبي فراس:

كيف أرجو الصـــــــلاح من أمـر قوم … ضيعوا الحــــــــــزم فيه أيَّ ضيــــــــــاعِ

فـــَـــمُــــطاعُ المقال غيــرُ ســـــَـــــدِيـــــدٍ … وســـديــــــدُ المقال غيرُ مُـــــــــــــــــطاعِ

وعلموها من تحبون … والحمد لله أولا وأخرا