Skip to main content

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)

By الخميس 19 جمادى الآخرة 1444هـ 12-1-2023ممقالات

أخ كريم أرسل إلي، منذ أيام، صورة العدد (16078) من صحيفة الشرق الأوسط السعودية، وتحمل مقالا لكاتب سعودي، عنونه كاتبه (إسلام القرآن، وإسلام الحديث!). وأتى تحته بطاماتٍ ما أدري ما أُسمِّيها، جهالاتٌ أم افتراءاتٌ؟ وتمنى علي الأخ الكريم أن أعلق بما أراه مناسبا. وأحببت، بادي الرأي، توصيفَ حقيقةِ الموضوع، اختصاراً، كي لا تُفْهَمَ كثرة السطور المكتوبة على أنّ الموضوع قابلٌ للمناقشة، وله في حُسْنِ الظَّنِّ مَوْطِئاً، فقلت: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)، ومنها كان العنوان!
وفي مجلس ضم بعض الفضلاء تكلمت في الموضوع ناقداً ومفنداً، فالموضوع جِدُّ خطيرٍ، وهو عقديٌ بامتياز! ومرتقىً صعبٌ يحاول بعض أعداء الدين السير إليه، لتحقيق أهدافٍ كيديةٍ للإسلام وأهله. ثم بدا لي كتابةُ صفحات في ذلك الموضوع، أنشرها في موقعي، ابراءً للذمة، وتبياناً للناس، وكشفا لمحاولات دؤوبة لا تتوقف ممن يصورون أنفسهم أنّهم من الصف الإسلامي، ودعاةُ إصلاحٍ وتجديد، وما هم كذلك، رغم اعترف العوام بهم، وذلك مبلغهم من العلم. والدين يُحتِّم على كل من يحسن كشفهم بصراحة ووضوح أن لا يتوانى عن هذا الواجب الشرعي. فزمان المداهنة والمهادنة والمجاملة ولَّى، وقد ذقنا مراراته، وتَجَرَّعْنا غُصَصَهُ ولازلنا! والمؤسف والمحبط أنا لا نتعلم من تجاربنا الأليمة، وتلك قاصمة الظهر.
ورأيت، في البداية، أن آتي بنيانهم من القواعد، فأبطل دعواهم، وأحبط مسعاهم، فأجاهدهم بكلام الله العليم الحكيم، قبل كلماتي، وأنا عبد الله المُليم! قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا).
إنّ الله، تبارك وتعالى، حدثنا عن أعداء دينه الذين يلجأون إلى مسلك ماكر خادع لضرب الدين والمتدينين، عن طريق إشاعة فتن الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويأتون بأمثلة يخدعون فيها العامة والدهماء، تدعي كذباً إظهار التناقض بين القرآن والسنة في بعض المسائل، ليزعزعوا ثقة البسطاء بدينهم وبربهم ونبيهم، وما كيد أولئك إلا في تبابٍ! فالله يفضح أعداءه ويكشف زيفهم وكذبهم، ويُبصِّرُ الناس بهم وبتآمرهم، من قبل أن يُخلقوا، ليسلم منهم الدين وأهله. تفكروا أيها المؤمنون في قول ربكم، وفي ما نعت به الذين يحاولون التفريق بين الله ورسله. لقد قال عنهم في آخر الآية: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا). يُخرجون ما تملي عليهم عقولهم التي لم تستنر بنور الوحي، فيقولون منكراً من القول وزوراً: (إسلام القرآن، وإسلام الحديث!)، يحسبون ذلك هيناً وهو عند الله عظيم! إنّها مقولة قد تسمع من أهل الكفر! أما أن تعلو بها أصوات مسلمة، وتخُطَّها أيدٍ مؤمنة، فوالله إنّها لإحدى الكُبر، وإلى الله المشتكى.
وأرى أن أختم الفقرة بتفسير الشيخ السعدي لتلك الآية، فقد أجاد وأفاد. يقول السعدي رحمه الله: (هنا قسمان قد وضحا لكل أحد: مؤمنٌ بالله وبرسله كلِّهم وكتبه، وكافرٌ بذلك كله. وبقي قسم ثالث: وهو الذي يزعم أنّه يؤمن ببعض الرسل دون بعض، وأنّ هذا سبيل ينجيه من عذاب الله، إنْ هذا إلا مجرد أماني. فإنّ هؤلاء يريدون التفريق بين الله وبين رسله. فإنّ من تولى الله حقيقة تولى جميع رسله لأنّ ذلك من تمام توليه، ومن عادى أحدا من رسله فقد عادى الله وعادى جميع رسله، كما قال تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ} الآيات. وكذلك مَنْ كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، بل بالرسول الذي يزعم أنه به مؤمن، ولهذا قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} وذلك لئلا يُتوهم أن مرتبتهم متوسطة بين الإيمان والكفر. ووجه كونهم كافرين، حتى بما زعموا الإيمان به، أن كل دليل دلهم على الإيمان بمن آمنوا به موجود هو أو مثله أو ما فوقه للنبي الذي كفروا به، وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به موجود مثلها أو أعظم منها فيمن آمنوا به.
فلم يبق بعد ذلك إلا التشهي والهوى ومجرد الدعوى التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها، ولما ذكر أن هؤلاء هم الكافرون حقا ذكر عقابا شاملا لهم ولكل كافر فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} كما تكبروا عن الإيمان بالله، أهانهم بالعذاب الأليم المخزي
).
لقد سجل لنا التاريخ الإسلامي حالاتٍ مبكرةً للنيل من السنة المطهرة، وصاحبها النبي الأمي عليه الصلاة والسلام، والمؤمنين المستمسكين بها. وقيض الله لتلك الحالات من الزيغ والشطط والانحراف، التي ظهرت، جهابذةً من العلماء الربانيين، تصدوا لذلك الجنوح الذي ما لبث أن أسفر عن كفر بواح! ولقد اكتشف العلماء الربانيون شيئا مخبوءا تحت أو وراء تلك العداوات، سرعان ما نشروه على ملءٍ ليطلع عليه الناس، ملخصه أنّ من يستهدف السنة بالنقد والكيد، إنّما يستهدف صاحبها عليه الصلاة والسلام، ومن يستهدف النبي إنّما يريد رب النبي، والمحصلة أنّها مؤامرة لهدم الإسلام.
ولا بد من أن يُبيَّن للمسلمين، أنّ المصلحين من العلماء حينما يكتبون عن هذا الشأن، فليس الدافع الخوف على الإسلام أن يضعف أو ينحرف أو يموت، فالإسلام دين الله أنزله للناس، ووعد بحفظه من كل عادٍ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، لكن الخشية كل الخشية ألا يُحسن أهل الإسلام فهم إسلامهم، وتقديمه للناس كما أنزل، دون تأويلٍ أو تبديلٍ أو تحريفٍ! ولقد قرأت مرارا هذه القصة في كتب التاريخ الإسلامي، ومفادها: (أنّه لما ألقي القبض على أحد الزنادقة وحكم الخليفة بقطع رأسه، لزندقته، أروى غيظ قلبه بقوله: (لا أموت إلا وقد دسست في أحاديث نبيكم خمسة آلاف حديث)، فهو مرتاح بهذا الميتة، فقال له أحد العلماء من أهل الحديث الحاضرين: (خسئت، ما تمشي هذه الأحاديث بين المسلمين وفيهم فلان) لعله قال: ابن المبارك أو غيره، وقد أخذ الغربال بيده فهو يغربل هذه الأحاديث ويصفيها ويخرجها عن أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحيحة).
ومن أمثلة ذلك المخبوء ما صرح به الرجل الذي عمده اليسار الإسلامي ليمثل شخصية الداعية والمجدد، وصارت تستضيفه الفضائيات وتقدمه إلى المشاهدين بألقاب المفكر الإسلامي والداعية المجدد، ذلك هو الهالك الدكتور محمد ديب شحرور. ولا زلت أذكر بحسرة وأسى ما آل إليه واقع المسلمين. فمنذ أربع سنوات استضافته إحدى الفضائيات في دولة الإمارات لتقديم ثلاثين حلقة في ليالي شهر رمضان، كان يبث فيها الكفر البواح. ولقد استمعت لبعض تلك الحلقات، وقد كرر فيها ذلك الكفر! يقول إنّه يجزم أنّ القرآن وحده هو الوحي، وعلى العين والرأس، أما السنة فلا علاقة لها بالوحي مطلقا، إنّما هي اجتهاد بشري لتطبيق القرآن، وكل اجتهاد بشري قابل لأن يلغيه اجتهاد بشري إن كان أكثر ملاءمة للواقع، وخاصة لتغير الزمان والمكان! وألغى بذلك الوحي الثاني المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنّي أوتيت القرآن ومثله معه). وذلك ما عليه المسلمون قديما وحديثا وإلى قيام الساعة. ولما قاطعه المذيع قائلا: لقد ألغيت جهود المحدثين في خدمة السنة، قال لقد فعلوا شيئا لا فائدة منه ولم يُطلب منهم ذلك! ولقد تكلم بمنتهى الصراحة فاضحاً الأهداف الحقيقية لكل من كان له موقف خاطىء مع السنة على مر القرون، لكن لم يكونوا يجرؤون على بيان أهدافهم بوضوح، لكن الشحرور جاء كما يقال: (ليلعب على المكشوف)، الهدف هو إنهاء الإسلام بأيدي أهله ودماء أبنائه التي أريقت هدراً بلا هدف ولا ثمن!
وبكل أسىً نقول: إنّ أعداء الإسلام، نجحوا كل النجاح، في جعل المسلمين يخوضون المعارك ضد أنفسهم ودينهم نيابة عن أعدائهم الذين يضنون بدماء أبنائهم، ويجودون بالدم المسلم ليُراقَ رخيصاً، لتحقيق كيدهم في المسلمين ودينهم، الذي تخلوا عنه إلى طاعة أهوائهم، وتزيين عقولهم، وقد استهوتهم فتن العصر التي هي مصائدُ وأفخاخٌ من صنع الأعداء (أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
ولعل الدافع الأقوى الذي حملني على كتابة موضوع كامل ينقض ويدحض تلك الجهالات والافتراءات على الله ورسوله ودين الإسلام، وقد كثرت في الآونة الأخيرة، ويَسَّر مهمةَ المفترين في نشر الباطل والأراجيف، أجهزةُ التواصلِ الاجتماعي، والمستعملين لها من جهال لا يميزون الحق من الباطل، أو أصحاب أهواءٍ يريدون نشر الباطل! أجل إنّ الذي حملني على ذلك، تذكّري كُتيِّباً ألفه قديماً الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ذباً عن دين الإسلام عامة، وعن سنة نبيه خاصة، بعنوان: (الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام)، وأصلُ الكتاب محاضرةٌ كان ألقاها في مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين، الذي انعقد في مدينة غرناطة في إسبانيا، في شهر رجب عام 1392 هـ الموافق لشهر آب من سنة 1972، ووجدت في ذلك الكتاب كنزاً مخبوءاً، يتعين عليّ إخراجه من جديد، وقد أعادها المفترون جَذعاً، فلابد من الحجة الداحضة لافتراءات كاذبة، والكلمة المؤصلة باليقين لتوعية المضللين، وتثبيت أهل الشك والمتهوكين، وما أعظم الحاجة إلى الموقف الثابت والراسخ، يتمثله أهل المنهج الحق ليقوم به عمود الدين.
يقول الشيخ الألباني في الكتاب المذكور، تحت عنوان، (باب وجوب الرجوع إلى السنة وتحريم مخالفتها):
(إنّ من المتفق عليه بين المسلمين الأولين كافة، أنّ السنة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، هي المرجع الثاني والأخير في الشرع الإسلامي، في كل نواحي الحياة من أمور غيبية اعتقادية أو أحكام عملية، أو سياسية، أو تربوية. وأنّه لا يجوز مخالفتها في شيء من ذلك لرأي أو اجتهاد أو قياس، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله في آخر كتابه الشهير (الرسالة): (لا يحل القياس والخبر موجود)، ومثله ما اشتهر عند المتأخرين من علماء الأصول:(إذا ورد الأثر بطل النظر)، و(لا اجتهاد في مورد النص). ومستندهم في ذلك الكتاب الكريم، والسنة المطهرة. أما الكتاب الكريم، ففيه آيات كثيرة، أكتفي بذكر بعضها في هذه المقدمة على سبيل الذكرى {فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين}.
قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (الأحزاب: 36).
وقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} (الحجرات: 1).
وقال: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} (آل عمران:32).
وقال عز من قائل: {وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيداً. من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} (النساء:80).
وقال: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (النساء:59).
وقال: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} (الأنفال: 46).
وقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (المائدة: 92).
وقال: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور: 63).
وقال: {يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} (الأنفال: 24).
وقال: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين} (النساء13 – 14).
وقال: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} (النساء: 60-61).
وقال سبحانه: {إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} (النور).
وقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (الحشر: 7).
وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب: 21).
وقال: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 1-4).
وقال تبارك وتعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل: 44). إلى غير ذلك من الآيات المباركات، التي في السياق نفسه.
وأما السنة، ففيها الكثير الطيب، مما يوجب علينا اتباعه عليه الصلاة والسلام، اتباعا عاما في كل شيء من أمور ديننا، وإليكم النصوص الثابتة منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)، قالوا: ومن يأبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). أخرجه البخاري.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، فاضربوا له مثلا، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيه مأدبة، وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس) أخرجه البخاري أيضا.
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، فانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق) أخرجه البخاري ومسلم.
عن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وإلا فلا). رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة والطحاوي وغيرهم بسند صحيح
وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه). رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه وأحمد بسند صحيح
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهم ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض). أخرجه مالك مرسلا، والحاكم مسندا وصححه
وفي تلك النصوص من الآيات والأحاديث أمورٌ هامة جداً يمكن إجمالها فيما يلي:
1. إنّه لا فرق بين قضاء الله وقضاء رسوله، وأنّ كلا منهما ليس للمؤمن الخيرة في أن يخالفهما، وأنّ عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم كعصيان الله تعالى، وأنّه ضلال مبين.
2. أنّه لا يجوز التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم كما لا يجوز التقدم بين يدي الله تعالى، وهو كناية عن عدم جواز مخالفة سنته صلى الله عليه وسلم، قال الإمام ابن القيم في “إعلام الموقعين” (1/58): {أي لا تقولوا حتى يقول، وتأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضي}.
3. أنّ المطيع للرسول صلى الله عليه وسلم مطيع لله تعالى.
4. أنّ التولي عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إنّما هو من شأن الكافرين، أهل النار والعذاب المهين.
5. وجوب الرد والرجوع عند التنازع والاختلاف في شيء من أمور الدين إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم “1/54”: (أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل “يعني قوله: {وأطيعوا الرسول} إعلاما بأنّ طاعته تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنّه أوتي الكتاب ومثله معه. ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول). ومن المتفق عليه عند العلماء أنّ الرد إلى الله إنّما هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. وأن ذلك من شروط الإيمان.
6. إنّ الرضى بالتنازع، بترك الرجوع إلى السنة للخلاص من هذا التنازع سبب هام في نظر الشرع لإخفاق المسلمين في جميع جهودهم، ولذهاب قوتهم وشوكتهم.
7. التحذير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما لها من العاقبة السيئة في الدنيا والآخرة.
8. استحقاق المخالفين لأمره صلى الله عليه وآله وسلم الفتنة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
9. وجوب الاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمره، وأنّها سبب الحياة الطيبة، والسعادة في الدنيا والآخرة.
10. إنّ طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لدخول الجنة والفوز العظيم، وأنّ معصيته وتجاوز حدوده، سبب لدخول النار والعذاب المهين.
11. إنّ من صفات المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر أنّهم إذا دعوا إلى أن يتحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى سنته، لا يستجيبون لذلك، بل يصدون عنه صدوداً.
12. وإنّ المؤمنين على خلاف المنافقين، فإنّهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بادروا إلى الاستجابة لذلك، وقالوا بلسان حالهم وقالهم: {سمعنا وأطعنا}، وأنّهم بذلك يصيرون مفلحين، ويكونون من الفائزين بجنات النعيم.
13. كل ما أمرنا به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجب علينا اتباعه فيه، كما يجب علينا أن ننتهي عن كل ما نهانا عنه.
14. إنّه صلى الله عليه وآله وسلم أسوتنا وقدوتنا في كل أمور ديننا إذا كنا ممن يرجو الله واليوم الآخر.
15. وإنّ كل ما نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما له صلة بالدين
والأمور الغيبية التي لا تعرف بالعقل ولا بالتجربة فهو وحي من الله إليه. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
16. وإنّ سنته صلى الله عليه وآله وسلم هي بيان لما أنزل إليه من القرآن.
17. وإنّ القرآن لا يغني عن السنة، بل هي مثله في وجوب الطاعة والاتباع، وإنّ المستغني به عنها مخالف للرسول عليه الصلاة والسلام غير مطيع له، فهو بذلك مخالف لما سبق من الآيات.
18. إنّ ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما حرم الله، وكذلك كل شيء جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما ليس في القرآن، فهو مثل ما لو جاء في القرآن لعموم قوله: (ألا إنّي أوتيت القرآن ومثله معه).
19. إنّ العصمة من الانحراف والضلال إنّما هو التمسك بالكتاب والسنة، وأنّ ذلك حكم مستمر إلى يوم القيامة، فلا يجوز التفريق بين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تسلمياً كثيرا.
أيها الأخوة الكرام هذه النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة كما أنّها دلت دلالة قاطعة على وجوب اتباع السنة اتباعا مطلقاً في كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإنّ من لم يرض بالتحاكم إليها والخضوع لها فليس مؤمنا. وإنّي أريد أن ألفت نظركم إلى أنّها تدل بعموماتها وإطلاقاتها على أمرين آخرين هامين أيضا:
الأول: إنّها تشمل كل من بلغته الدعوة إلى يوم القيامة وذلك صريح في قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] وفسره صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث: {وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة} متفق عليه وقوله: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل النار} رواه مسلم وابن منده وغيرهما “الصحيحة 157”.
والثاني: إنّها تشمل كل أمر من أمور الدين لا فرق بين ما كان منه عقيدة علمية أو حكما عمليا أو غير ذلك فكما كان يجب على كل صحابي أن يؤمن بذلك كله حين يبلغه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي آخر عنه كان يجب كذلك على التابعي حين يبلغه عن الصحابي، فكما كان لا يجوز للصحابي مثلا أن يرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في العقيدة بحجة أنّه خبر آحاد سمعه عن صحابي مثله عنه صلى الله عليه وسلم فكذلك لا يجوز لمن بعده أن يرده بالحجة نفسها مادام أنّ المخبر به ثقة عنده وهكذا ينبغي أن يستمر الأمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد كان الأمر كذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين.
ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا السنة النبوية وأهملوها بسبب أصول تبناها بعض علماء الكلام وقواعد زعمها بعض علماء الأصول والفقهاء المقلدين، كان من نتائجها الإهمال المذكور الذي أدى بدوره إلى الشك في قسم كبير منها، وردِّ قسمٍ آخرَ منها، لمخالفتها لتلك الأصول والقواعد. فتبدلت الآية عند هؤلاء فبدل أن يرجعوا بها إلى السنة ويتحاكموا إليها فقد قلبوا الأمر ورجعوا بالسنة إلى قواعدهم وأصولهم فما كان منها موافقا لقواعدهم قبلوه وإلا رفضوه وبذلك انقطعت الصلة التامة بين المسلم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة عند المتأخرين منهم فعادوا جاهلين بالنبي صلى الله عليه وسلم وعقيدته وسيرته وعبادته وصيامه وقيامه وحجه وأحكامه وفتاويه. فإذا سئلوا عن شيء من ذلك أجابوك إما بحديث ضعيف أو لا أصل له أو بما في المذهب الفلاني فإذا اتفق أنّه مخالف للحديث الصحيح وذكروا به لا يذكرون ولا يقبلون الرجوع إليه لشبهات لا مجال لذكرها الآن. وكل ذلك سببه تلك الأصول والقواعد المشار إليها وسيأتي قريبا ذكر بعضها إن شاء الله تعالى
). انتهى الاقتباس من الشيخ الألباني.
فأين أولئك القوم المبطلون من آياتٍ في كتاب ربنا، ومن أحاديثَ لنبينا صلى الله عليه وسلم، تقطع كل نزاع، وترد كل افتراء، أو شبهةٍ يثيرها الأفاكون الذين اعتمدوا فرية التفريق بين الله ورسوله، وبين القرآن والسنة، وكلاهما منزل من فوق سبع سماوات على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يريدون بتلك الفرية ضرب الإسلام جملة وتفصيلا! بل أين هم من تلك القارعة التي تقرعهم في أُمِّ رؤوسهم! إنّها ذلك الحديثُ الذي يرويه أبو هريرة، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ). وفي رواية: (لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما).
فرسولنا صلوات الله وسلامه عليه تركنا على المحجة البيضاء النقية ليلها كنهارها لا يضل أو لا يزيغ عنها إلا هالك، تركنا على الكتاب والسنة، وتركنا على طريقة واحدة وليس على طرق متعددة، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، صراطي أي سبيلي أي طريقي، وهذا نص في القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يفيد أنّه لا طَريقَ توصل إلى الله تبارك وتعالى إلا هذا الطريق الواحد، الذي عرفنا به ربنا في كتابه، وحذرنا من أن نسلك سبلا غير سبيل الله، فتضل بنا عن سواء السبيل! ونرى نبينا وهو الذي خاطبه ربه في محكم التنزيل قائلا: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، يشرح تلك الآية الفاذة، التي تصف سبيل الله المستقيم، شرحا مع التمثيل على الأرض حتى يقطع النبي صلى الله عليه وسلم، كل باب للتأويل والتحريف الذي اعتاد أهل الفرق الناكبة عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، والتي توعدها النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بالنار في حديث الافتراق! أجل لقد اعتاد أهل تلك الفرق ولوج أبواب التأويل الباطل والتحريف، لمصادرة المعنى الذي أراده الله في ما أوحى من نصوص، ليواطئ باطلهم وأهواءهم. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ، وَعَنْ شِمَالِهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا، وَهَذِهِ السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}).
ويعلق ابن تيمية في مجموع الفتاوي تعليقا طيبا على حديث ابن مسعود فيقول: (وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ، الَّذِي يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ، هَذَا الْمِثَالَ وَتَأَمَّلَ سَائِرَ الطَّوَائِفِ مِنْ الْخَوَارِجِ ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةِ وَمَنْ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِثْلِ الكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَهُ سَبِيلٌ يَخْرُجُ بِهِ عَمَّا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَيَدَّعِي أَنَّ سَبِيلَهُ هُوَ الصَّوَابُ – وَجَدْت أَنَّهُمْ الْمُرَادُ بِهَذَا الْمِثَالِ الَّذِي ضَرَبَهُ الْمَعْصُومُ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ عَنْ الْهَوَى. إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى. وَالْعَجَبُ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُصَرِّحُ بِأَنَّ عَقْلَهُ إذَا عَارَضَهُ الْحَدِيثُ – لَا سِيَّمَا ِفي أَخْبَارِ الصِّفَاتِ – حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى عَقْلِهِ وَصَرَّحَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى الْحَدِيثِ وَجَعَلَ عَقْلَهُ مِيزَانًا لِلْحَدِيثِ فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ عَقْلُهُ هَذَا كَانَ مُصَرَّحًا بِتَقْدِيمِهِ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَيَكُونُ مِنْ السَّبِيلِ الْمَأْمُورِ بِاتِّبَاعِهِ أَمْ هُوَ عَقْلُ مُبْتَدِعٍ جَاهِلٍ ضَالٍّ حَائِرٍ خَارِجٍ عَنْ السَّبِيلِ؟ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ). ثم يقول: (كَمَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُسَمِّي مَا وَضَعَهُ ” أُصُولَ الدِّينِ ” وَهَذَا اسْمٌ عَظِيمٌ وَالْمُسَمَّى بِهِ فِيهِ مِنْ فَسَادِ الدِّينِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. فَإِذَا أَنْكَرَ أَهْلُ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ ذَلِكَ قَالَ الْمُبْطِلُ: قَدْ أَنْكَرُوا أُصُولَ الدِّينِ. وَهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى أُصُولَ الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا مَا سَمَّاهُ هَذَا أُصُولَ الدِّينِ وَهِيَ أَسْمَاءٌ سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ بِأَسْمَاءِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَدْ بَيَّنَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ قَدْ بَيَّنَ فُرُوعَ الدِّينِ دُونَ أُصُولِهِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ).
ويضيف: (وَعَامَّةُ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ إنَّمَا تَطْرُقُ مَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا كَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ ” وَقَالَ مَالِكٌ ” السُّنَّةُ سَفِينَةُ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ “. وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ وَالشَّرِيعَةَ وَالْمِنْهَاجَ: هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي يُوَصِّلُ الْعِبَادَ إلَى اللَّهِ. وَالرَّسُولُ: هُوَ الدَّلِيلُ الْهَادِي الْخِرِّيتُ فِي هَذَا الصِّرَاطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} {وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ). انتهى الاقتباس من مجموع الفتاوي.

أيُّ جاهل، بل أي مفترٍ، بل أي ضالٍ، بل أي متآمر، هذا الذي يخط سطورا ملئت كذباً وتضليلاً وافتراءً…؟! ولنقرأ بعض ما خطت اليد الآثمة!
يقول الكاتب: (لـــطـــالمـــا مـــزجـــت الــكــتــب الـديـنـيـة مـن تفاسير وشـروح للسنة بـين الـقـرآن والـحـديـث، الحديث يتلو الآية في السطر نــفــســه، لــتــصــور قــضــيــة مــا، وحــجــة هـــذا الــجــمــع لا غـبـار عـلـيـهـا حــين يـجـاب تـسـاؤلـنـا عـن سـبـبـه، بــأن الـسـنـة مكملة لـلـقـرآن وشـارحـة لـه. لـكـن، هل كل ما في كتب الحديث سنة؟ وهل كانت هذه السنة التي لم تتحدد بشكل واضح ونهائي، مقصورة على هـذه الوظيفة، الـــشـــرح والإكــــمــــال، أم أنــهــا عــارضــت الــقــرآن فــي مـواضـع ليست بالقليلة، مما دعا علماء الأصــــول لـعـقـد فــصــول حــول حـاكـمـيـة الـسـنـة عـلـى الــقــرآن، وهل هي مقبولة أم لا؟ مــــاذا ســيــحــدث لـــو أنــنــا جـربـنـا لمــرة واحــدة أن نفصل بينهما، لــو أنــنــا نــظــرنــا إلـــى كـل واحد منهما بمعزل عن الآخر، بمعنى أن ندون قضايا القرآن الـعـقـديـة الـكـبـرى، وبـرنـامـجـه الأخـلاقـي، وأحـكـامـه الفقهية، دون استشهاد بحديث، وفعلنا الــشــيء نـفـسـه مــع الــحــديــث، بحيث نـدون قضاياه الكبرى وبرنامجه الأخلاقي وأحكامه الفقهية دون استشهاد بآية، فـسـنـجـد أنــنــا فـــي المـحـصـلـة النهائية قد خرجنا بإسلامين لا إســلام واحـــد. لمــاذا حكمت بـهـذا الحكم؟ لأن التناقضات بـــين إســــلام الـــقـــرآن وإســـلام الحديث ليست بالقليلة. نحن أمــام بـارادايـم مختلف. هناك أحكام كثيرة وليست بالقليلة، يختلف فيها حكم الـقـرآن عن حــكــم الــحــديــث. ولا يـتـوقـف الأمر عند اختلاف الأحكام، بل إن التصور العام الـذي يخرج بـه دارس الــقــرآن يـخـتـلـف عن التصور العام الـذي يخرج به دارس الحديث. سأسوق لذلك أمثلة تدعم ما ذكرت).
إنّني لا أخفي عن القارئ أنّني في عجلة من أمري، ولولا خشيتي من التأثم بترك الكتابة بقصد البيان والتحذير، لا بقصد الرد فالباطل مكشوف وله سوابق كثيرة وما أحسب الكاتب إلا فرخا من فراخ محمد ديب شحرور الهالك، وأنتظر الخروج السريع لأنّي كأنّي وأنا أواكب هذه السطور كالماشي بين الميلين في المسعى، أو يقطع وادي محسر بين مزدلفة ومنى، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مَن هذا حاله بأن يسرع ويهرول فهو في مناطق عذاب. وبقي علي أن أبين للناس خطأه وخطله الفاحِشَيْن في ضرب الأمثلة على دعواه الباطلة.
أول الأمثلة التي ضربها ليثبت التعارض بين القرآن والسنة حديث: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْوَائِدَةُ وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ).
قال الألباني: الحديث صحيح. وهذا ما استغربه كاتب المقال، حيث قال: (والأغــرب مـن ذلك أنّ الشيخ الألباني صحح هذا الـحـديـث أيـضـاً ولــم يـجـد فيه غرابة، هــــذا مــثــال صــــارخ عـلـى الـتـعـارض الـحـقـيـقـي بــين إســلام الـــقـــرآن، وإســــلام أهـــل الــحــديــث، كيف تكون الوائدة في الجاهلية فـي الـنـار، ونحن نقرأ فـي القرآن (ومـــا كـنـا مـعـذبـين حـتـى نبعث رســـولا)؟ وكـيـف نـقـرأ فـي الـقـرآن (وإذا المـــوؤدة سـئـلـت بــأي ذنـب ُقتلت) ثم نقول إنّ المـوؤدة أيضاً من أهل النار).
ولو كان الكاتب باحثا عن الحق، ليس باغيا للفتنة، وهل من فتنة أكبر من أن يَكتب للملإ كما نراه منقولا، قبل قليل؟!! (هــــذا مــثــال صــــارخ عـلـى الـتـعـارض الـحـقـيـقـي بــين إســلام الـــقـــرآن، وإســــلام أهـــل الــحــديــث). ولم يخطر بباله أن يراجع أقوال علماء الأمة، وبخاصة علماء الحديث، لكنّه لا يُحسن ذلك لأنّه لا يريده!
ولنثبت بعض أقوال لبعض مشاهير العلماء، ولنبدأ بالشيخ الألباني، وقد أخذ عليه الكاتب تصحيحه لحديث الوائدة. ذكر الشيخ الألباني الحديث في (تحقيق كتاب مشكاة المصابيح) وصححه. ثم علق على الحديث قائلا: (ظاهر الحديث أنّ الموؤدة في النار ولو لم تكن بالغة، وهذا خلاف ما تقتضيه نصوص الشريعة: أنّه لا تكليف قبل البلوغ، وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة أقربها عندي إلى الصواب أنّ الحديث خاص بمؤودة معينة، وحينئذ فـ (ال) في (المؤودة) ليست للاستغراق بل للعهد. ويؤيده قصة ابني مليكة، وعليه فجائز أنّ تلك الموءودة كانت بالغة فلا إشكال. والله أعلم).
ورأيت أن أذكر نص الحديث، الذي ذكرت فيه (قصة ابني مليكة) التي أشار إليها الشيخ قبل قليل، تتميماً للفائدة. (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَخِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّنَا مُلَيْكَةَ كَانَتْ تَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، هَلَكَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شَيْئًا؟ قَالَ: (لَا) قُلْنَا: فَإِنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ أُخْتًا لَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شَيْئًا؟ قَالَ: (الْوَائِدَةُ وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ الْوَائِدَةُ الْإِسْلَامَ فَيَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهَا)). وهذه القصة قواها عدد من العلماء كالبخاري في التاريخ الكبير، والدارقطني في العلل، والإلزامات. ومن الواضح أنَّ هذا الحديث الذي حمل هذه القصة التوضيحية في أنّ الوائدة والموءودة المحكي عنهما في الحديث هما شخصيتان محددتان باسم ونسبة، ما جعل حديث ابن مسعود خالياً من إشكال نكارة المتن، بعد أن قيد عمومه حديث ابني مليكه رضي الله عنه، وبناء على علوم الحديث فإنّ أكثر العلماء صححوه بضميمة (حديث ابني مليكة). وإلى هذا القول مال ابن عبد البر وابن القيم وغيرهم من أهل العلم. قال ابن عبد البر، في التمهيد، في معرض كلامه عن هذا الحديث: (وهو حديث صحيح من جهة الإسناد إلا أنّه محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة، فكانت الإشارة إليها والله أعلم، وهذا أولى له، ما حمل عليه هذا الحديث لمعارضة الآثار له وعلى هذا يصح معناه، والله المستعان).
وقال ابن القيم في
(
أحكام أهل الذمة): (الجواب الصحيح عن هذا الحديث: أنّ قوله (إنّ الوائدة والموءودة في النار) جواب عن تينك الوائدة والموءودة، اللتين سئل عنهما، لا إخبار عن كل وائدة وموءودة).
ونقل العظيم آبادي في (عون المعبود) عن صاحب {السراج المنير} قوله: (فلا يجوز الحكم على أطفال الكفار بأن يكونوا من أهل النار بهذا الحديث لأنّ هذه واقعة عين في شخص).

وننتقل الآن إلى الإشكال الثاني الذي أثاره الكاتب، وهو حديث ضعيف لا يستحق تلك الزوبعة، ولكنّه الجهل…!
(دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك؛ قال: مر رجلان [مسلمان] [ممن كان قبلكم] على قوم لهم صنم (وفي رواية: يعكفون على صنم لهم) لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب [شيئا] ، قال: ليس عندي شيء. فقالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا. فخلوا سبيله. قال: فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب ولو ذبابا. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل. قال فضربوا عنقه، قال: فدخل الجنة). من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة.
ولقد خرج الشيخ الألباني الحديث في الضعيفة لأنّه موقوف على صحابي، والحديث الموقوف من أقسام الضعيف. ويقول الشيخ، رحمه الله، حيث خرَّجه: (ولقد كان الداعي إلى تخريجه هنا وبيان كونه موقوفاً: أنّه كثر السؤال عنه في كثير من البلاد الإسلامية، وشاع تداوله؛ هذا؛ وإنّي لأستنكر من هذا الحديث: دخول الرجل النار في ذباب؛ لأنّ ظاهر سياقه أنّه إنّما فعل ذلك خوفاً من القتل الذي وقع لصاحبه، كما أنّني استنكرت قول الإمام محمد بن عبد الوهاب في المسألة: (الحادية عشر: أنّ الذي دخل النار مسلم؛ لأنّه لو كان كافراً؛ لم يقل: ” دخل النار في ذباب!) فأقول: وجه الاستنكار أن هذا الرجل لا يخلو حاله من أمرين:
الأول: أنّه لما قدم الذباب للصنم، إنّما قدمه عبادةً له وتعظيماً، فهو في هذه الحالة لا يكون مسلماً؛ بل هو مشرك، وهو ظاهر كلام الشارح الشيخ سليمان رحمه الله (ص 161): ” في هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل وأنّه يوجب النار، ألا ترى إلى هذا لما قرب لهذا الصنم أرذل الحيوان وأخسه وهو الذباب كان جزاؤه النار؛ لإشراكه في عبادة الله ” إذ الذبح على سبيل القربة والتعظيم عبادة، وهذا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}.
والآخر: أنه فعل ذلك خوفاً من القتل كما تقدم مني، وهو في هذه الحالة لا تجب له النار، فالحكم عليه بأنه مسلم دخل النار في ذباب يأباه قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} الآية، وقد نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر به صلى الله عليه وسلم، فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
).
إذاً حاصل قول الشيخ الألباني أنّ الحديث السابق يَصحُّ وقفُهُ على سلمان الفارسي رضي الله عنه، ولكنّه ضعيفٌ مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يُحتج به. وبذلك تسقط دعوى هذا الكاتب المتعالم الدّعي، التي استنبطها من بحث كان فيه حاطبَ ليلٍ!

وأحببت أن أهدي القارئ لبحثي هذا هديةً، وهي معلومة قيمة، لا شأن لها بالبحث الذي بين أيدينا، ولكنّها لصيقة ببحث (الحديث الموقوف) الذي هو من أقسام (الحديث الضعيف)، أهديها للقارئ لقاء صبره وتحمله، قراءة هذا البحث، رغم كونه موضوعا باطلاً مفترىً، دفعَ كاتبَه إلى نشره الجهلُ والحقدُ، أو أنّه اسْتُعْمِل لذلك! ومع ذلك كان الرد عليه واجبا شرعيا، دفاعا عن دين الله، الذي استباح أعداؤه اليوم حصونه المنيعة، التي لا يقاويها الجهل والكيد، وإن كانا من باب (الحرب بالوكالة). وبئست الأصالة والوكالة!
الفائدة: متى يكون للحديث الموقوف حكم الرفع؟
شرطان لا بد منهما أن يجتمعا. أولهما: الصحة، وتعني أن يكون سند الحديث إلى الصحابي الذي يوقف عليه الحديث، صحيحاً. وأما الشرط الثاني: ألا يكون متن الحديث الموقوف مما يقال بمجرد الرأي والاجتهاد والاستنباط، أو أن يكون كلاماً في شأن من شؤون الغيب، فإذا اجتمع هذان الشرطان: صار الموقوفُ مرفوعاً. وإذا غاب أحدُ الشرطين المذكورين بقي على وقفه، ولا يصح رفعه.

وينتقل الكاتب إلى باقعة أخرى فيقول: (حـديـث آخــر يـعـارض الـقـرآن هــو حــديــث «أنــتــم شــهــود الـلـه فـي الأرض»، أي أن مـن شـهـد له المسلمون بـالـنـار فهو فـي الـنـار، ومـن شـهـدوا لـه بالجنة فهو في الـجـنـة)!
المشكلة عنده أنّه يضيق عقله وفهمه عن استيعاب النص فيلقيه بعيدا بدعوى أن
ّ
ه
(حـديـث آخــر يـعـارض الـقـرآن). علماء الأمة على مر أربعة عشر قرنا لم تشكل عليهم تلك النصوص التي استشكلها عقلك وعقول من هم على شاكلتك، فتريدون أن تُؤَذِّنوا بها وتقولوا: نحن الآن بين دينين متعارضين، إسلام القرآن وإسلام الحديث، فتعساً لكم تعساً، إن تقولون إلا كذباً!
لن أقول له إلا جملة واحدة، ثم أحيله إلى أقوال بعض علماء الأمة الكبار، ليدرك أنّ علماء الأمة هم أكابرها، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث الصحيح (البركة مع أكابركم)، فليعرف الأصاغر أقدارهم، ولا يتجاوزوها!
قال النووي في شرح صحيح مسلم: (وفي هذا الحديث استحباب توكيد الكلام المهتم بتكراره ليحفظ وليكون أبلغ، وأما معناه ففيه قولان للعلماء، أحدهما: أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، فكان ثناؤهم مطابقاً لأفعاله فيكون من أهل الجنة، فإن لم يكن كذلك فليس هو مراداً بالحديث، والثاني وهو الصحيح المختار: أنه على عمومه وإطلاقه، وأن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلاً على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا، وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تُحتم عليه العقوبة، بل هو في خطر المشيئة، فإذا ألهم الله عز وجل الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه سبحانه وتعالى قد شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وجبت، وأنتم شهداء الله) ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء فائدة، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة، فإن قيل كيف مُكِّنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سب الأموات؟ فالجواب: أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بِشَرٍّ للتحذير من طريقتهم ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه مما ذكرنا، هذا هو الصواب في الجواب عنه وفي الجمع بينه وبين النهي عن السب).
وقال ابن حجر في فتح الباري: (أنتم شهداء الله في الأرض) أي المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم، قال: والصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين”. وقال العيني: “وحاصل المعنى أن ثناءهم عليه بالخير يدل على أن أفعاله كانت خيراً فوجبت له الجنة، وثناءهم عليه بالشر يدل على أن أفعاله كانت شراً فوجبت له النار، وذلك لأن المؤمنين شهداء بعضهم على بعض).
وأما من المعاصرين، فيقول الشيخ الألباني، في كتابه (أحكام الجنائز وبدعها): (والثناء بالخير على الميت من جمع من المسلمين الصادقين، أقلهم اثنان، من جيرانه العارفين به من ذوي الصلاح والعلم موجب له الجنهة، وفيه أحاديث:
عن أنس رضي الله عنه قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثنى عليها خيرا، (وتتابعت الألسن بالخير)، فقالوا: كان – ما علمنا – يجب الله ورسوله)، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثني عليها شرا، (وتتابعت الألسن لها بالشر)، (فقالوا: بئس المرء كان في دين الله)، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت، فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها شرا، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار، الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الارض، أنتم شهداء الله في الارض، أنتم شهداء الله في الارض)، (وفي رواية: والمؤمنون شهداء الله في الارض)، (إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر).أخرجه البخاري (3/ 177 – 178، 5/ 192 – 193) ومسلم (3/ 53) والنسائي (1/ 273) والترمذي (2/ 158) وغيرهم كثير!
عن أبي الأسود الديلي قال: (أتيت المدينة، وقد بها مرض، وهم يموتون موتا ذريعا، فجلست إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فمرت جنازة، فأثنى خيرا، فقال عمر: وجبت، وفقلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، قلنا: وثلاثة قال: وثلاثة قال: قلنا واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله في الواحد). أخرجه البخاري والنسائي والترمذي وصححه البيهقي (4/ 75) والطيالسي (رقم 23) وأحمد (رقم 129، 204). (ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الاذنيين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرا، إلا قال الله تعالى وتبارك: قد قبلت قولكم، أو قال: بشهادتكم، وغفرت له ما لا تعلمون)
).
ويقول الشيخ في الحاشية: (إعلم أنّ مجموع هذه الاحاديث الثلاثة يدل هذه الشهادة لا تختص بالصحابة، بل هي أيضا لمن بعدم من المؤمنين الذين هم على طريقهم في الايمان والعلم والعقيدة، وبهذا جزم الحافظ ابن حجر في ” الفتح ” فليراجع كلامه من شاء المزيد من البيان. هذا، وأما قول بعض الناس عقب صلاة الجنازة: ” ما تشهدون فيه. اشهدوا له بالخير”! فيجيبونه بقولهم صالح. أو من أهل الخير، ونحو ذلك، فليس هو المراد بالحديث قطعا، بل هو بدعة قبيحة، لانه لم يكن من عمل السلف، ولان الذين يشهدون بذلك لا يعرفون الميت في الغالب، بل قد يشهدون بخلاف ما يعرفون استجابة لرغبة طالب الشهادة بالخير، ظنا منهم أن ذلك ينفع الميت، وجهلا منهم بأن الشهادة النافعة إنما هي التي توافق الواقع في نفس المشهود له، كما يدل على ذلك قوله في الحديث الأول: إنّ لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر).
تعليق من كاتب الرد: إنّ الذي رده الشيخ الألباني من كلام العامة لأنّه مخالف للنصوص، وهو الطريقة نفسها التي يتعامل بها كاتب المقال المردود لبطلانه، مع النصوص، ويكفي أنّ الشيخ الألباني صنف ذلك الكلام بأنّه (بل هو بدعة قبيحة، لأنه لم يكن من عمل السلف).
ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين: (وفي هذا دليل على أنّ المسلمين إذا أثنوا على الميت خيراً دلَّ ذلك على أنه من أهل الجنة فوجبت له الجنة، وإذا أثنوا عليه شراً دل ذلك على أنه من أهل النار فوجبت له النار، ولا فرق في هذا بين أن تكون الشهادة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده لأن حديث أبي الأسود مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم).
ويضيف الشيخ: (إنّ أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودينها وسط بين الأمم والأديان السابقة، فلم تغل كغلو النصارى، ولم تقصر كتقصير اليهود، وهي خير الأمم وأفضلها، وقد جعلها الله شاهدة على الأمم يوم القيامة، فما مِن نبي ولا رسول تنكر أمته أنه قد بلَّغ، إلا وتشهد له الأمة المحمدية بالبلاغ، فيقبل الله شهادتها وقولها، لما لها من الفضل والمنزلة، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}(البقرة :143)، فعلينا أن نستشعر ونعتز بهذه الخيرية، وأن نكون أهلاً لها، وأن نتحقق بما استودعه الله فيها من صفات الخيرية من إيمان بالله عز وجل، واتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)).

بيان وتبيين لأهل الإسلام، ليعلموا ماذا يراد بدينهم ولدينهم، وليس في الخفاء كما هو ديدن أهل المكر! ولكنّه على الملإ في الصحف والفضائيات، ليجعلوا الجاهل والمتشاغل وغير المبالي من المسلمين، يلتبس عليهم الحق، فلا يعرفون المخطىء من المصيب، ولا الصادق من الكاذب، ولا الصديق من العدو، فالمعارك مكشوفة وفي عقر دورنا، ولا مُنكرَ، ولا مُنذرَ، ولا مُتحسِّر، وإلى الله المشتكى.
وفي نيتي الاعتذار عن الإطالة، ولكن خطورة الموقف، وجرأة التجني، وانتفاش الباطل! لا يقبل أي تَعلُّلٍ للمناورة، ولا أي تَحلُّلٍ من المسؤولية! ولو أردت أن أنتهي بعجالة من القول، ومقتضب من النصح، لم أجد إلا الحديث النبوي، الغزيرَ في توجيهه، والصارمَ في تكليفه، والمقتصِدَ في تأليفه (سَتَكُونُ فِتْنَةٌ. قَالُوا: فَكَيْفَ لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَوْ كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: تَرْجِعُونَ إِلَى أَمْرِكُمُ الْأَوَّلِ). لقد علمنا نبيينا صلى الله عليه وسلم كيف نوجز القول، فلا تضيع زبدة الكلام في خضم الحشو من الكلام، وقد استمرأ المسلمون اليوم ما خلفه فيهم علم الكلام من مثلبة، وهي تضييع الحق، وتمييع المسؤولية في كثرة الكلام، وتعدد الأقوال، وكثرة الروايات، وينتهي القول إنّ المسألة مختلف فيها، والأمر يسير، وتكون من مسائل العقيدة! فانظروا رحمكم الله إلى نبيكم بأبي هو وأمي، كيف حذَّرَ وأنْذَرَ بقوله: (سَتَكُونُ فِتْنَةٌ)، ثم فَسَّرَ ونَظَّرَ بقوله: (تَرْجِعُونَ إِلَى أَمْرِكُمُ الْأَوَّلِ). ثمانٌ وعشرون حرفاً، يعالج النبي عليه الصلاة والسلام بها مع أصحابه كبرى المسائل، وخطير المُلِمَّات! فمتى نتعلم؟!

والحمد لله ربّ العالمين