Skip to main content

كَيْفَ وَمَتَى فَقَدْنَا البُوصلَة؟!

By الخميس 30 ربيع الثاني 1444هـ 24-11-2022ممقالات

مقدمة
إنّي استعملت كلمة البوصلة، وهي آلة صغيرة تُستعمل لتحديد الجهات، وما أظنّها عربية، ولكنّها استعربت يوم أجازها بعض مجامع اللغة العربية. وقد استعملتها استعمالاً مجازياً، طلباً لمزيد من الإيضاح، وإلا فالمفقود الذي أعْني، أعلى شأناً، وأعظم فقداً، وأخطر مآلاً من تلك الآلة الصغيرة! إنّ الذي أعنيه أنّ المسلمين فقدوا على مرّ القرون، شيئاً فشيئاً، انتفاعهم بالوحيين، فضلوا السبيل، وخطِئوا صحة الانتماء،
فضعف فيهم الولاء.

ما هو الولاء؟
لعلي أفلح في تعريفي الولاء بأنّه أظهر أثرٍ يظهر في حركات وعلاقات وممارسات المسلم المتدين بالإسلام الصحيح على منهج (ما أناعليه وأصحابي). يقول الله تبارك وتعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله عز وجل).
وقال ابن تيمية: (إنّ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوادّ إلا لله، ولا يُعادي إلا لله، وأن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله).
وفي السنة الصحيحة المطهرة كلام رائع عن الموالاة في الإسلام، جاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عندما خرج النبي عليه السلام معه يودعه وهو يغادر إلى اليمن، مبعوثا من قبل النبي  صلى الله عليه وسلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ من كانوا وحيث كَانُوا اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أصْلَحَت، وايم الله لَتَكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينَهَا كَمَا يُكْفَأُ الإِنَاءُ فِي الْبَطْحَاء).
وليس موضوعي الآن البحث العميق في موضوع الموالاة، إنّما إثبات ذلك بالأدلة، لأرجع إلى موضوعي الرئيس، وموضوعي الرئيس هو إجابة تفصيلية جداً لسؤال يردني بكثرة، وهو الآتي: (ما هو الدور الشرعي السياسي الواجب على المؤمنين، ممن ارتضوا لتدينهم منهج (ما أناعليه وأصحابي) في أوضاعنا الراهنة والظروف العالمية القائمة؟ نرجو التفصيل والتأصيل).

تفصيل من أجل الجواب
وأريد أن أحدد نفسي، تجنبا للاستطراد بثلاث جمل، تشكل أساساً للبحث المراد. المسلم الملتزم بالوحيين يوالي الله ورسوله، ومن يوالي الله ورسوله يلتزم سبيل الله تعالى، ويلزم اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وبالأمرين السابقين معا، الالتزام والموالاة، يصبح المسلم أحادي الولاء. لا يوالي إلا من والى الله ورسوله! أما أن يكون للمسلم اليوم عشرون ولاءً، فهذا هو الضياع والضلال! أما الضياع فلأنّه ضيَّع البوصلة فأضاع صحة التوجه، وأما الضلال فلأنّه احتكم لغير الوحي.
ولا بد بين يدي الرد من توصيف الواقع الذي يعيشه المؤمنون الذين يدور في خلدهم مثل هذه الأسئلة وأشباهها. والمسلمون دخلوا نفقا مظلماً لا يجدون إلا أن ينادوا (
هَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)؟! ولكن لا مجيب ولا نصير! هزيمة نكراء هُزمها أهل السنة، بجميع أطيافهم إلا من رحم الله، أفاقوا بعد الصدمة الأولى لا يجدون لسؤال جوابا، ولا يقدمون لأحد لوما ولا عتابا، وحار نخبهم وتاهوا فلا يملكون خطابا، إلا اللف والتبرير، لما قد أصابَ. والذين أخذوا بناصية الأمر ابتداء أناس قفزوا إلى الصدارة سابقين، لا مُؤَهَّلين ولا مُرَأَّسين! وكانوا عن كل نصح معرضين، (فالأنا) لا تعترف بشريك ولا ناصح إلا ما وافق الهوى! وإنّ النكبة والمأساة ليست بنت الساعة ولا القرن! إنّه حساب تراكمي، تنوء به الحواسيب وأربابها. ولكن استحضار المعاني الشرعية، والتعاليم الدينية، يستطيع حل ما يُعجز الحواسيب.
وقد حان الوقت للإجابة عن السؤال المطروح في العنوان (كيف ومتى فقدنا البوصلة؟!). ولن يكون همي استعراضاً تاريخيا دقيقا لما جرى. إنّما البحث عن مواطن الخلل، والوقوف معها ولها بقصد الإصلاح!

متى وكيف كانت البداية؟
ظهر الإسلام في جزيرة العرب، وليس لدى العرب من أفكار أو نزعات ثقافية إلا الشعر الذي كانوا يسمونه (ديوان العرب)، ويكاد يكون الثقافة الوحيدة التي تعايشهم ويعتدُّون بها. ونزل عليهم القرآن، وخاطبهم الوحي الثاني، وهو السنة، فأُشْغلوا بشيء هو أكبر من كل شيء! وصار العرب فسطاطين؛ مؤمناً ومشركاَ، والحدود بينهما أوضح من أن تكون مادةً للجدل، وإقحامَ العقل في غيبٍ لم يخلق له. وساد ذلك الحال حتى غطى قرونا ثلاثة استحقت من الله ومن رسوله وصفا بأنّهم خير الناس. ففي المتفق عليه، عن عبد الله بن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسبِقُ شَهَادَة أحدِهمْ يَمِينه وَيَمِينه شَهَادَته). وجاء في شرح مسلم: (كناية عن التسرع في الشهادة والحلف والحرص عليها ولو لم يطلب إليها وهو عنوان قلة الورع والمبالاة في الدين). ولقد استحق أهل القرون الثلاثة الخيرية في الناس، لتكون مرجعية أهل الإسلام إليهم حتى تقوم الساعة، لصفاء دينهم من أن يخالط سماويَّتَه دخنُ الأرض ودخلُها.
ثم تبدل الحال بعد أن خرج الإسلام من جزيرة العرب، ودخل الناس من شتى الأصناف البشرية في دين الله أفواجاً، ودخلت معهم ثقافاتٌ وأفكارٌ ملأت قلوبهم ونفوسهم، وهي أرضية المصدر والمنشأ، وأسوأ ما دخل على المسلمين، عن طريق من أسلم من غير العرب، الفلسفةُ وأفانينُها، وما كانوا يعرفونها. وحدث تفاعل وتداخل بين الثقافات الأرضية ودين الإسلام. وكان يتراءآ لبعض المتحمسين لهذا الخلط، أنّهم سيخرجون بمُركبٍ جديد من هذه المكونات الكثيرة. ولكنَّ طبيعة الأشياء تفرض نفسها، كالماء والزيت يستحيل خلطهما، وإن كان يبدو لدى المزج والتحريك الشديد أنّ العنصرين صارا واحدا. فكيف يمكن خلط ما هو إلهيٌ وسماويُّ الطبيعة مع البشري الأرضي؟! لكنّ الذين تولوا كِبْرَ ذلك العمل المستحيل، وهم المعتزلة، وظَّفوا عناد العقل البشري، ليُقدموا، بزعمهم، جديدا نافعا، فلم يأتوا إلا بكل مشبوهٍ ومُشَوَّهٍ، ذلك هو العلمُ التلفيقيُ الذي حاولوا تصويره أنّه علم إسلامي، وألصقوه بأهل الإسلام زوراً. إنّه علم الكلام، الذي يصادر ويصادم في قواعده العقلية والأرضية الوحي المنزل من فوق سبع سماوات! وكان في المسلمين سماعون لتلك الأصوات الجديدة، بل الأراجيف والأباطيل. وكان (علم الكلام) وهو خليطٌ من بعض تعاليم الإسلام الصافي وشوبٍ من الفلسفة اليونانية وثقافات أخرى. ومن هذه البدايات بدأ الخلل يدب في دين الأمة، يرافقه وهاءٌ في الصلة بين المسلمين ونصوص الوحيين، بعد أن دخل الساحة جديدٌ يلهيهم عما أنزل الله إليهم! وبدأ علم الكلام يلعب دوره في الاستدلال، وطريقة قراءة النصوص، من خلال كتب أصول الفقه التي شُحنت بعلم الكلام. ما عجل خروج المذهبية، وقد ولد التعصب معها! لأنّ المذهبية لم تأت بها حاجةُ الواقع الشرعي لها، إنّما جاء بها نزعة التفرق والتشرذم، ورافق ذلك ظهور الفرق التي بدأت تفارق الوحيين الذين هما أصل الدين، وتقيم دعاويها على الأهواء والعقل وتعظيم الرجال! ولم يكن هذا التوصيف استنتاجا مني وحكما، إنّما جاء به قول الله تعالى المنزل من فوق سبع سماوات (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، فالأمرُ محسومٌ من صاحب الأمر (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). استجابةٌ للوحي أو طغيانٌ الهوى، ولا توجد منطقة وسطى ما بين ذينك الحالين!
لقد بدأت في التاريخ الإسلامي الشرعي مرحلة اتسعة فيها زاوية الانفراج بين الوحي وممارسة الدين، وكان طابع تلك المرحلة البعد عن روح الدين بإضعاف مرجعية الوحي، ما شكل مناخاً مناسبا لنمو الفرق التي فارقت وناكبت الوحي. والتي يُغذيها الهوى والعقل، الذي لم يستنر بنور الوحي، وعلم الكلام الذي قعده الذين أشربوا في قلوبهم الفلسفلة، من أبناء الإسلام، وهذه المرحلة هي التي أسميتها، فقدان البوصلة! ولذلك حذرنا منها نبينا صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يارسول الله؟ قال: {الجماعة}. وفي رواية: {ما أنا عليه وأصحابي}). ومن هنا كان المنعطف الخطير.

المنعطف الخطير
وأجدني أمام هذا المنعطف الخطير، في تاريخ المسلمين الشرعي، أمْيَلَ إلى توسيع البسط والشرح مني إلى الاختصار، لأنّ الأمر يحتاج بيانا شافيا. أبدأ القول ببيان ما هو مقصودي بالمنعطف، ولِمَ نعتُّه بالخطورة؟
أما المنعطف، فأستأذن في إعادة جملة قلتها قبل أسطر (بدأ الخلل يدب في دين الأمة، يرافقه وهاءٌ في الصلة بين المسلمين والوحي…). فأسأل، أوليس وهاء الصلة بين المسلمين والوحي المنزل منعطفا خطيراً؟ أوليس ترك العمل بالوحيين والاحتكام إليهما، في كل شأن، نازلة خطيرة، وأي نازلة؟! كلُّ ذلك أصاب المسلمين في فترة من غياب الوعي، وضعف في التديُّن، واختلاط في المنطلقات، ولقد تَجَسَّدَ كلُّ ذلك في الاستسلام لدعاة التأويل والتبديل، وتركِهم يحققون نواياهم السيئة ضد الإسلام الحق، ومن هنا كان المنعطف الخطير!
وقد يَعِنُّ للقارئ سؤال، وما الذي حرَّك دعاة التأويل والتبديل، وأزَّهم ضد الإسلام؟ والجواب، أنّ ظهور الإسلام وانتشاره الحثيث، أهوى بكيانات وعروش وصروح كانت تشاد على الكفر، وتجمعت فلولها بعد اندثارها، لعلهم ينتقمون لها من الإسلام وأهله. وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد كُتبتْ كتبٌ وبحوثٌ من متخصصين، منهم مسلمون كالشيخ (حسين المؤيد، وهو شيعي عراقي ترعرع ودرس في إيران، ثم وصل مرتبة آية الله في قم، ومنَّ الله عليه بالهداية منذ سنوات، فعاد إلى الإسلام الحق، والحمد لله)، ومثل (الخبير والباحث السياسي اللبناني الماروني، الدكتور نبيل خليفة)، ومما أكده هذان وغيرهما من الباحثين، أنّ العالم اليوم يشهد تكتلاّ (صليبياً- صهيونياً- صفوياً) ضد الإسلام السني. دراسات وأبحاث ومؤلفات خطيرة وصحيحة، يؤتى لها بشواهد حية من الواقع، تُراجع في مظانِّها لأهميتها. وكما وُجد بالأمس سَمَّاعون للأصوات المرجفة الآثمة، فهم اليوم على الشاكلة نفسها، وإلى الله المشتكى. ودعاة التأويل والتبديل، فرق ضالة استجابت لأهل العداوات ضد الإسلام! والمسلمون الذين يريدون الله والدار الآخرة واجدون في أصول دينهم، الكتاب والسنة، ما يبصرهم بالمواقف الصحيحة الملتزمة، ويعصمهم، بإذن الله من أن يكونوا آذاناً للباطل، بل يكونون آذانًا لنصرة دينهم الحق، وتوعية إخوانهم، من أن يقعوا في حبائل المتهوكين والمرجفين وكل أعداء الحق وما أكثرهم! وعجيبٌ كيف يفقد مسلمٌ البوصلة، وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا). أجل، لو لم يكن في كتاب الله غير هذه الآيات، لكانت كافيةً لِرَدِّ المسلمين إلى الالتصاق بالوحيين، وعدم الرضا بغيرهما أصلا ومرجعاً لدين الله. ويحسن أن نقرأ تفسير الشيخ السعدي للآية. يقول رحمه الله: (أمَرَ برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى رسوله أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما.
فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها {ذَلِكَ} أي: الرد إلى الله ورسوله {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم
). انتهى الاقتباس من تفسير السعدي.
ويجب أن نَعِيَ أنّ الله تبارك وتعالى جعل رد التنازع إلى كتابه وهدي نبيه، فقط! لأنّه ليس للإسلام مرجعٌ في غير الوحيين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها! وكل من أضاف على تلك الحقيقة شيئا فقد صنع مِعْولاً يُسهم في هدم الإسلام في نفوس أبنائه! حيث ضيعوا الهداية، مع أنّ النصوص بين أيديهم، حين خاضوا في بحر التأويل والتنقيب عن المعاني الباطنة، التي وسوست لهم بها عقول المتهوكين من (أهل العقل)، مقرونةً بتصويبِ وإيجاب مقولة ترك العمل بظاهر النصوص، بل صوروا لهم ذلك كفرا، كما قال أحمد
الصاويفيحاشيته علىتفسيرالجلالين: (لا يجوز تقليد ما عدا المذاهبالأربعةولو وافق قولالصحابة والحديث الصحيح والآية،فالخارجعن المذاهب الأربعة ضالمضل،وربما أداه ذلك إلىالكفر،لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر). وحين يكون الضلال والضياع عن الاهتداء إلى المعنى الظاهر للنص الذي هو مراد الله، يكثر التأويل، وتتعدد الفهوم، ويحل الاختلاف والافتراق بديلا عن الوحدة والاتفاق. ويجب عندئذ الاحتكام إلى ما كان عليه أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، فهم القدوة في الفهم، وإليهم مرجعية العمل.
نلخص المسألة إذن بالآتي: كل اختلاف سببه تعطيل النص، أو عدم معرفته للوصول إلى الاستدلال الصحيح به، يجب أن ينتهي بالرجوع إلى الآية (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍالآية). وكلُّ اختلافٍ وتنازعٍ في معنى النص، وكيف يكون العمل به، يجب أن ينتهي بالرجوع إلى ما كان عليه أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. ولا يجوز ولا ينبغي أن يقول المسلمون بلسان مقالهم ولا بلسان حالهم، ياربُّ رددنا التنازع إلى الآية، فلم ينتهِ! ورددنا التنازع، في معنى النص، وكيفية العمل به، إلى القرون الثلاثة فلم ينته! وهذا هو الضلال، بل أصل الضلال وجرثومته. لأنَّ الله تبارك وتعالى لم يأمرنا برد التنازع إلى كتابه، وهدي نبيه، وإلى ما كان عليه أهل القرون الثلاثة، إلا لينتهي التنارع، وإلا فالمشكلة تكون عندنا وفينا، وكأنّ من كان دأبهم التنازع والاختلاف، لم يقرؤوا، ولو مرةً، قول ربهم: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)! ولقد اختصر الإمام مالك المشكلة في قوله: (أو كلما جاءنا رجلٌ أجْدَلُ من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء).
وفي الواقع المعاصر، بعد أن تحكمت ظاهرة مخالفة الوحي، وتقديم العقل والرجال، بدأت نصوص الوحيين تفقد قدسيتها عند بعض المسلمين وبخاصة العوام منهم! ووجدت المدرسة العقلية التي استدعتها العصرنة، وتأليه العلم في العالم فرصتها لتمكين دور العقل، الذي بدأ بالظهور كلما ازدادت مفارقة الوحي! وفجأة خرج دور جديد لتضخيم فكرة الإعجاز العلمي في الإسلام وفتحت له مؤسسات في كل الدول الإسلامية، وألفت له كتب تدرس في الكليات والمعاهد الشرعية. وأعتذر عن كلام صريح لا بد أن أثبته هنا ابتغاء وجه الله، وذباً عن دينه، من كيد من يزعمون الإصلاح، لكنّهم لا يحسنونه! ومن تلك الشريحة المولعون بموضوع الإعجاز العلمي، فقد ركبوا مطيتين للوصول إلى مرادهم، هما: لي أعناق النصوص، لتحميلها معنىً غير الذي أريد له أن تحمل. زكثرت الاستشهاد والاحتفاء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة. وقد أحدثت هاتان المطيتان تماماً ما أحدثت مطية التأويل عند العقلانيين، وأشهرهم الأشاعرة الذين يقدمون العقل على النقل إذا اختلفا (تبديلا في الدين). رافق هذا الانحراف الترويج لاستبدال لقب (مفكر إسلامي) بديلا عن شيخ أو داعية، وقد استهوى هذا اللقب الجديد بعض العلماء والدعاة، وصار اللقب الجديد مطروحا في الفضائيات. وما لبثت أن أطلت علينا فتنة (اليسار الإسلامي)، التي كانت طبخة منتنة طبخت في مختبرات الكيد والمكر للإسلام وأهله. وقد مهد لهذه الفتنة (جودت سعيد)، الذي كان محسوبا على الدعاة، وظل سنين عددا يدس السم في الدسم. ثم استوى أمر اليسار الإسلامي فقدم لنا رواده؛ محمد ديب شحرور، خالص جلبي، علي منصور كيالي، عدنان ابراهيم، وعدنان الرفاعى. وتصدروا الفضائيات التي تسمي نفسها إسلامية، حتى في ليالي شهر رمضان!
ومن كنوز السنة، التي خفيت على الكثيرين، حديثٌ يحمل ذلك الحوار الفريد، بين النبي صلى الله عليه وسلم وحذيفة ابن اليمان رضي الله عنه، حول المراحل التي سيمر فيها المسلمون حتى قيام الساعة، ولا أتردد لحظة أن أقول: إنّ ذلك الحوار الفريد، شاءه الله، أن يكون بياناً وإرشاداً للمسلمين، بل لكل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، وإنّي لأقول إنّه حقيقٌ أن يكون ورقة عمل، في أحوال عصيبة ستصيب المسلمين! بل لقد أصابتهم فعلا! ولنقرأ بعضا من ذلك الحوار:

ورقة عمل
(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعمْ» فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ». قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِى وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ». فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: «نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: «نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ». فَقُلْتُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»).
ولكل
مسلم اليوم يَعِنُّ له سؤالٌ كالذي بين أيدينا
(ما هو الدور الشرعي السياسي الواجب على المؤمنين؟ في وضعنا الراهن والظروف الحالية، نرجو النفصيل والتأصيل!).
أقول له، ناصحاً ومرشدا، ل
ا
تنظر حولك، ول
ا
تسأل أحداً! بل أصغ ِ إلى حديث
حذيفةَ رضي الله عنه
تجد
الجواب
الشافي، والرد الكافي،
وقد لُقِّنَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة. ولكل مسلم يسأل ما العمل؟ وأين النجاة؟ فإنّ الجواب بين يديه، إن كان يريد أن يستغني بالوحي المنزل عن مخرجات العقل والهوى، في حالات الإخلاد إلى الأرض! (واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ). ولأنّ النص الذي بين أيدينا جرعةٌ مكثفةٌ بامتياز! لذلك، فإنّها تتطلب القاريء النابه واللماح، الذي يتجرد عن كل شيء سوى الولاء للوحي، أن يقرأ السطور وما بينها وما وراءها! ويُحسن الانتقال مع كلمات (الخير والشر)، حين تحدد المراحل المختلفة لمصابِ أمة الإسلام! وبالتدبر لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، مع المقارنة بالواقع المُعاش، فقد لا يختلف اثنان أنّ المسلمين يعيشون اليوم الحالة الأخيرة التي وصل
إليها حذيفة رضي الله عنه مع نبيِّه عليه الصلاة والسلام. (فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: «نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: «نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ». فَقُلْتُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»).
أما المسلمون اليوم، والنخب منهم،
فقد
استهوتهم د
يمقراطية أهل الكفر
اليوم، يحاضرون من أجل بيانها للناس، وإقناعهم أن
ّ
ها المخرج الوحيد من النكسة والنكبة، ووالله لو أقسمت أن حماسَ أولئك للديموقراطية أشد من حماسهم لــ (ما أنا عليه وأصحابي) ما كنت حانثاً إن شاء الله. وفصيل من الإسلام السياسي اختار الولاء لقتلة السنة وذبحهم، وخفَّ كبيرهم إلى أولياء نعمته في طهران ليشارك في جنازة القاتل، ويقدم واجب العزاء في قتله.
وأحب أن أضيف طامة أخرى في التاريخ الإسلامي، وهي أنّ انتشار المذهبية والعصبية المرافقة لذلك. وكثرة مخالفة الوحيين، في مسائل تبنتها المذاهب فلم تعد مخالفة! ما جعل الفِرَقَ المخالفةَ للوحيين ترتعُ وتلعبُ. وانتشر التَّصَوُّر المُشَوَّه بين عوام المسلمين وبعض خواصهم، في أنّ اتباع المذاهب اتباع للوحي، ويستدلون ببيت البوصيري في بردته:

وكلهم عن رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم

فكان الخطأ الأول والأشنع خطأ البوصيري نفسه، حيث يجعل البيت المذكور يتكلم عن كل الأنبياء الذين سبقوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ويزعم أنّهم كلهم استمدوا علومهم من علم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا زعم باطل، وقول على الله بغير علم، وليس عليه أثارة من علم، وعندما نقرأ البيت السابق والبيت الذي قبله، نرى فداحة الخطأ الشرعي والتجاوز العقدي، يقول البوصيري في البيت الذي يسبق البيت المذكور:

فاق النبيين في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ولـــــــــم يدانــــــــوه في علــــــم ولا كــــــــــــرمِ

وكلهــم عــــن رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الدِّيَمِ

وعلم الأنبياء جميعا وحيٌ، يوحي الله به إليهم ويعلمهم ما يشاء من خلاله. وليس عندنا دليل شرعي واحد على أنّ الأنبياء يتعلم بعضهم من بعض!
وأما الخطأ الثاني الذي لا يقل فداحة عن الأول أنّ بعض الأتباع من أهل التصوف والمتعصبين للتمذهب، صاروا يستشهدون ببيت البوصيري (وكلهم عن رسول الله ملتمسٌ) على أنّ المقصود به الأئمة الأربعة، ويأتون به ليردوا على من يعترض على مخالفة النصوص، وبخاصة ما هو منتشر بين المذاهب، حتى صار الاجتهاد البشري مقدما على ما جاءت به النصوص! وتمادى الشرود عن الوحيين، وتقديم أقوال الرجال، إلى نشر مقولات باطلة، وأحاديث موضوعة مكذوبة من مثل (الاختلاف رحمة)، والحديث الباطل (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، ومفهوم (البدعة الحسنة)، وغير ذلك. وانتشار الكثير من البدع تحت مسمى البدع الحسنة وهي باطلة، جعل المسلمين يعيشون بالبدع وللبدع، والأدهى من ذلك أنّ حديث افتراق الأمة، وأهميته لضبط واقع المسلمين اليوم، تعرض لحملة شعواء من علماء ودعاة، وكلها محاولات شيطانية لاستبعاد الحديث من حياة الأمة، وقد نجحوا، مما زاد الفرق المخالفة التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم نشاطاً وطغيانا وعبثاً في الدين. ولنعد إلى حديث الافتراق.
وكان جديرا أن أقول قولا قبل الآن بكثير، إنَّ المعتزلة وتأثيرهم الكبير في المسيرة الدينية، مع ضميمة تسلل الفلسفة عن طريق علم الكلام إلى كتب المسلمين الدينية. شكل هجمة كبيرة للعقل على الوحي. وأورد هنا كلاماً لرائد المدرسة العقلية المعاصر محمد عبده، الذي يلقبونه بالإمام يقول: (اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا يُنظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل). كبُرت كلمةً تخرج من فيه إمام…!
وبضميمة حديث (الافتراق)، وتدبره (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يارسول الله؟ قال: {الجماعة}، وفي رواية: {ما أنا عليه وأصحابي}). لا يُفهم من قوله عليه السلام في حديث حذيفة رضي الله عنه: (دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُم إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَاأنّ الدعاة في ديار المسلمين صاروا كفاراً يدعون إلى الكفر، كلا إنّهم (مسلمون) يدعون إلى جهنم، لأنّهم يدعون إلى إسلامٍ ليس إسلام الفرقة الناجية (ما أنا عليه وأصحابي). فهم خارج الفرقة الناجية، بل هم يقيناً من الفرق الإثنتين والسبعين الباقية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم بأنّها في النار، ولا شك أنّ دعوتها ودعاتها إلى النار، إلا أنْ يتوب الله على من يتوب منهم حين يرجع إلى الفرقة الناجية! على أنّه قد لا تخلو تلك الفرق من فرق خرجت من الملة بكفر بواح أصلاً. ومع ذلك تبقى الأمة وأفرادها يحتفظون بوصف الإسلام، ونرى العبادات تقام، لكنّ البدع تغلب السنن، والتقليد يغلب اتباع الهدي. ولعل مثل هذه الأحوال هي التي تظهر فيها غربة الإسلام وتتأكد، وأُذكر بصفة الغرباء التي ذكرها نبي الأمة عليه السلام: (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

ما أعظمها من فرية!
وحديث الافتراق الذي بين أيدينا الآن، تمالأ عليه بعضٌ من المسلمين، وفيهم علماء، تارة يضعفون سنده، وأخرى يصفون متنه بالنكارة، وثالثة يقولون إنّه سبب تناحر الأمة وتباغضها فيجب تركه. كل ذلك ليخرجوه من دائرة العمل، ولماذا؟ لأنّه فضحَ الافتراق وأهله ودعاته، وكيف لداعٍ من دعاة تلك الفرق، وهم الأغلب في الأمة اليوم، أنْ يروي هذا الحديث العظيم، ويأمر الناس بالعمل به، وهو وجماعته أول المستهدفين به..؟ والنبي لم يصف الفرق الإثنتين والسبعين إلا بوصف مختصر خطير أنّها في النار، لكنَّ في الحديث وصفاً آخر مفصلاً فاضحاً مستنتجاً، وهو أنّ كل تلك الفرق تتخالف وتتعارض مع الفرقة الناجية في وصفها النبوي (ما أنا عليه وأصحابي)، وأَسْوِئْ به من وصف، أن يكون فردٌ مسلمٌ، أو جماعةٌ مسلمةٌ، لا يماثلون في تدينهم (ما أنا عليه وأصحابي)…! فماذا يبقى عند من خالف هذا الوصف النبوي من الدين الحق؟! وماذا يرجون يوم الحساب غير النار؟! (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). ولقد رأيت من الضروري جداً، أن أسوق هذه الآية، في هذا السياق الذي نحن فيه، لأنّ بعض العلماء يرون أنّ هذه الآية الفاذة هي الأصل القرآني لحديث الافتراق، الذي نسفه بعض المتعاطفين، إن لم يكونوا أصولاً من أهل الفرق المتوعدة بالنار من رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلها في النار إلا واحدة)، وكأنّما يُرادُ أن يُقالَ للمفترين على حديث الافتراق، ها أنتم لم تتركوا حيلةً ولا وسيلةً لإخراج هذا الحديث الفاصل، بين أهل الحق والباطل، من ساحة العمل، بادعاءاتٍ وأراجيفَ، فما عساكم تقولون في هذه الآية الفاذة؟! لقد خلط المرجفون الأوراق، وقلَّبوا للناس الأمور، ولبَّسوا الحقائق، واتهموا أهل الحق، أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، أنّهم يَتألَّون على الله حينما يصفون من يخالفهم أنّهم (في النار)، وفات كل المرجفين والمُغرر بهم، أنّ نبينا عليه الصلاة والسلام هو الذي علمنا ذلك بقوله في حديث الافتراق: (كلها في النار إلا واحدة)، ونقول لهم خذوا من هذه الآية ما يسوؤكم، فإنّ الله بشر نبيه عليه الصلاة والسلام بأنّ من خالفوه وأصحابه في تدينهم، وهم أهل الفرق المخالفة، فهم أعداء الله ورسوله، والله سيكفي المؤمنين المتبعين هدي نبيهم، والمنافحين عنه شر وكيد أهل الافتراق (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). ونحن نكرر قول ربنا، مبشرين ومنذرين، (ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ولا أدل على أنّ أهل الافتراق وأشياعهم قد أخافهم حديث الافتراق الفاضح لهم، من أنّهم بالإضافة لتصديهم للحديث، كما ذكرنا آنفا، وضعوا من عقولهم المنحرفة عن الحق وأهوائهم التي مالت مع الباطل، حديثاً مفترىً، مِلْؤُه الكذب والتحريف، ليضللوا به جهال المسلمين. ففي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، [3/ 124]، خرج الشيخ الألباني رحمه الله حديثا موضوعاً؛ (تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة، كلها في الجنة، إلا فرقة واحدة وهي الزنادقة). وقد شهد بوضعه أكثر العلماء. ونقل الشيخ الألباني عن ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات) قوله عن رواة الحديث المذكور: (قال العلماء: وضعه الأبرد، وسرقه ياسين الزيات، فقلب إسناده وخلط، وسرقه عثمان بن عفان وهو متروك، وحفص كذاب، والحديث المعروف: واحدة في الجنة، وهي الجماعة).
ولا أحب أنْ أترك حديث الافتراق، قبل وقفات معه لأهميته:
الوقفة الأولى: إنّ الحديث، وهو من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، يُؤكد حتمية الافتراق وأنّه واقع لا محالة، بل إنّه قد وقع. وما ذاك منه صلى الله عليه وسلم إلا تحذير لأمته من أنْ تقع في براثنه، فتفارق دين ربها باتباع السُبل المضلة، كما حدث في أمم سابقة. ذكرها ربنا مُحذراً المسلمين من اتباع نهجهم. ولنقرأ قول ربنا: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ).
الوقفة الثانية: لمّا ذكر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الافتراق محذراً من السير في طرائقه، بيّن صلى الله عليه وسلم سبيل النجاة، وطريقة اتقاء المصير المحتوم للافتراق الذي هو النار. كيف لا وهو، بأبي وأمي، الدال لأمته على كل خير، الآخذ بحجز أبنائها عن النار! إنّه الانتماء إلى الفرقة الوحيدة الناجية من أصل ثلاث وسبعين فرقة. وإنّ النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أنّ الفرقة الناجية واحدة. ومن قال إنّها اثنتان أو خمس أو سبع أو سبعون، فقد احتمل بهتاناً وإثماً كبيراً، لأنّه افترى على الله ورسوله. ومن يرضى لنفسه هذا الموقف إنْ كان مسلماً حقاً يُريد النجاة؟
الوقفة الثالثة: إنّ إنتماء المسلم إلى هذه الفرقة الناجية الوحيدة، ليس اختيارياً، إنّما يجب عليه وجوباً شرعياً. كيف والعبارة ليس شعاراً اختاره زعيم! أو عنوانا من صياغة شيخ! أو رؤية بشرية، مهما كانت ثاقبة! إنّما هو قطعة من الوحي المنزل من فوق سبع سماوات، وهل مع الوحي اختيار؟ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًاوأي اختيار آخر هو اختيار النار، وبئس المصير.
الواقفة الرابعة: إنَّ ذكر العدد في الحديث له مدلوله، وهو بيان أنّ الحقّ لا يحظى أتباعه إلا بالنسبة الأدنى بين البشر، وهذه قاعدة مُطردة ثابتة، أما الحكمة منها فلا يعلمها إلا الله. ومن القول على الله بغير علم أن ندلي بآرائنا وتعليلاتنا البشرية، والخير كل الخير في قول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)! يؤيد ذلك قول ربنا: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، وقوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). وإنّ الخالق العظيم ليربأ بكل مسلم أنْ يكون تدينه تدين القطيع، يرى الكثرة من الناس فينخرط فيها دون تدبر. والله يريد من عباده تدين التبصر، والتدبر والاتباع.
الوقفة الخامسة: إنّ النبي عليه السلام لم يسمِّ تلك الفرقة الناجية باسم حتى لا تُتَّخَذ شعاراً يردد بلا فهم، فيصبح الانتماء لها تشريفاً، وهو انتماء ظاهري لمضمون غامض. إنّما عرفها بوصفٍ محددٍ واضحٍ، فكلما زاد علم وعمل المسلم، تعمق انتماؤه ورسوخ التزامه!
وما أحوجنا اليوم إلى تدبر كلمات مضيئة ه
ادفة هادية، وإلى العمل بمضمونها نُشداناً للسلامة والفوز .. كهذه الكلمات لابن تيمية رحمه الله: (فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَن يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْه فِي كِتَابِه فَلَا يَجُوزُ لأَ حَدِ أَن يَجْعَل الْأَصْلَ فِي الدِّين لِشَخْصِ إلَّا لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَلاَ لَقُول إلَّا لِكِتَاب اللَّهِ عَزّ وَجَلَّ. وَمَن نَصَّب شَخْصًا كَائِنًا مَن كَان فَوَالَى وَعَادَى عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي الْقَوْلِ وَ الْفِعْل فَهُوَ {مِنَ الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا}).

هكذا المسلمون متفرقون متشرذمون، في دينهم ودنياهم. والإصلاح منهم بعيد، لأن
ّ
نخبهم ل
ا
يشعرون بأن
ّ
واقع المسلمين مريض! أكثر النخب ليسوا بمقتنعين أن
ّ
أمة المسلمين غائبة
أو
غثائية
أو ناقصة الدين
كم
ا
في حديث
معاذ، فمن أين سيأتي الإصلاح؟ ه
ا
قد وجدنا أنفسنا في مواجهة السؤال
(ما هو الدور السياسي الشرعي الواجب على المؤمنين؟ في وضعنا الراهن والظروف الحالية، نرجو التفصيل والتأصيل!). فإلى الجواب:

نتائج وعبر وقواعد مستخلصة من كل ما ذكر، هي جوابنا عن السؤال المطروح!
أذكر قبل البدء بعبارة كررتها، وهي عندي قاعدة لا بد أن يرتكز عليها الجواب: المسلم الملتزم بالوحيين يوالي الله ورسوله. ومن يوالي الله ورسوله، يلتزم سبيل الله تعالى، ويلزم اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وبالأمرين السابقين معا، الالتزام والموالاة، يصبح المسلم أحادي الولاء. لا يوالي إلا من والى الله ورسوله!. وأنطلق من القاعدة لأقول:
1. إنّ المسلم صاحب الولاء الواحد لله ورسوله، ولا ينبغي أن يتعدد عند المسلم، وإلا كان يأتي باباً من أبواب الشرك، عياذا بالله. ومن هذا الولاء عليه أن يطلب الأمور من مظانها الشرعية، ومن النصوص تحديداً، وتكون وسيلته إليها وسيلة شرعية.
2. لا نجد حولنا طرحا واحدا إسلاميا، لمعالجة الأهداف الإسلامية في الأمة والدولة والمجتمع، من قبل النخب. وإن وجد مثل ذلك، فشكليٌ ملفقٌ غامض!
3. هل من الإسلام في شيء، وهل العقل المسلم السوي، يقبل أن تتحول الأهداف الإسلامية الكبرى التي تحتاج أدق المعالجات الشرعية التي ذُكرتْ، فتمسخ إلى حلول علمانية سياسية تطبقها كل دول الأرض الكافرة، كالديموقراطية، وصناديق الاقتراع وغيرها؟
4. وهل يَغلب النظامُ العالميُ بأنظمته السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، ما عند المسلمين من نظام حياة منزل من فوق سبع سماوات، عن طريق العلمانيين والعقلانيين المندسين بين الصفوف، وغياب العلماء والدعاة على منهج (ما أنا عليه وأصحابي)؟!
5. وهل من المستحيل أن يتنادى بعض العلماء في الدين والإقتصاد، ليتوافروا على وضع نظام اقتصادي إسلامي يراعي أمور الحلال والحرام، في المعاملات المالية، فينقذ الملايين من المسلمين من ارتكاب أكل الربا، وهو من أشد المحرمات في دين الإسلام (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) أم أنّه العَجْز؟
6. إنّ دولة الإسلام على منهج النبوة لا تقوم والأمة غائبة. ولا بد للأمة أن تسبق في حضورها الدولة المسلمة على منهاج النبوة، بل أعبر تعبيرا لعله يصل بالفكرة التي أريد إلى قرار مكين، إنّ الأمة هي التي تلد دولتها. وأريد أن أعيد إلى ذهن القارئ أنّ لي كلاماً ذكرته كثيرا في كتاباتي، وهو هدي نبينا صلى الله عليه وسلم في صنع الأمة في ثلاثة عشر عاماً، قضاها في مكة، والهدفُ واحدٌ، وهو أن تصنع رجال الأمة الجديدة على عينه صلى الله عليه وسلم، لتكون بعد ذلك الانطلاقة الكبرى.
7. وأمة الإسلام الغائبة لا تعود إلا بعودة أهل الإسلام إلى الوحيين. وأذكر بحديثين، لطالما تحدثنا بهما، حديث (ترجعون إلى أمركم الأول)، وحديث (إذا تبايعتم بالعينة).
8. لقد أوضحنا في كل طروحاتنا، أنّ الطريق لاسترداد الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية، أو إعادة دين الأمة الذي كُفيء، واحد في منطلقاته الشرعية لا يقبل الاختلاف والتضارب والتعددية. والاعتراض الوحيد الذي يبديه السطحيون والعاطفيون، ويشاركون فيه المتهوكين والمرجفين، استطوالُ أمد الإنجاز، وتحقيق الأهداف، وكأنّ الموضوع تفصيل ملابس، أو تصنيع أثاث، أو نزهة ترويح بين الورود والرياحين! والنتائج رهن إرادة الله ومشيئته، ولكل أجل كتاب، وما على أهل الإيمان الصادقين إلا الإخلاص والعمل واتخاذ الأسباب. وقد يثيرون أمرا آخر بقصد التثبيط، وصرف أنظار الناس عن الاشتغال بواجب استحضار الأمة الغائبة، وهو (الأمن) وأنَّ العاملين فيه من زبانية أهل الباطل، وأعداء الحق لن يدعوا المسلمين يتجهون لتحقيق أهدافهم الشرعية، ليخيفوا أنفسهم والناس، ويبرروا تقاعسهم عن القيام بالواجب الشرعي، فيُترك العمل الجاد، ويُهادن أهل الباطل بدعوى الحكمة، ودرءِ الفتنة، زعموا!
ومن الضروري أن أذكر بمفهومنا عن معنى حضور الأمة، فما أكثر من يجهله أو يتجاهله…! وأختصره لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بمفهومي لآية جامعة في كتاب الله. أقول، وبالله التوفيق، إنّ حضور الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية، أو رد الأمة التي كُفِئَ دينها، إلى الدين بعد التصاقها بالوحيين من جديد، هو أكبر استجابة لله ورسوله كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). ووالله لن نخرج من هذا الذي صرنا فيه، وكأنّنا استمرئنا البقاء حيث نحن، والأمور تجاوزت الحضيض، إلا أن يشاء الله إخراجنا، بعد أن نضع أنفسنا في حالة أهلية استقبال فرج الله ونصره، والطريق إلى ذلك ليس بخاف. والله ورسوله لا يزالاني يدعواننا إلى ما يحيينا، إلى حياة هي أسمى وأرقى وأنقى وأتقى حياة يمكن أن توجد على سطح هذا الكوكب، لكي يكون المسلمون في مقدمة الركب والناس تبع لهم، وليس العكس، فلمَ نتلكأُ في الإجابة؟! وإلى متى!؟ وأريد أن أؤكد أنّ ما يدعوننا إليه الله ورسوله، هو خير حياة في ظل دولة الإسلام على منهج النبوة، وكنف أمة حاضرة، يحضر معها كل خير؛ النجاح السياسي، والنجاح الإقتصادي، والنجاح العسكري، والنجاح الاجتماعي، وكل شيءٍ من مقومات الحياة الكريمة.
ولا ينجح إصلاحٌ، ولا يؤتي أكله في حال غياب الأمة، أو غثائيتها، أو انكفاء دينها! ولا بد من التأكيد على أنَّ ما نتحدث فيه عن شأن المستقبل الزاهر ليس من الأماني، أو أحلام اليقظة، كما عبر بذلك بعض الجهال والمتهَوِّكين! إنّما كل ذلك من موعود الله الذي وعد به عباده الطائعين، ومن بشائر ونبوءات النبي الكريم عليه أزكى الصلاة وأتمُّ التسليم. ولولا خشية الإطالة لأتيت ببعضٍ من تلك النصوص التي ملؤها البشارات!

وبعد، فلعل الأمر قد استبان، والمقصود ملأ كلَّ وجدان، وزال كل لبس وروغان، والطريق إلى الهدف، ينتظر الشبان، وأوان الجد قد آن، بعد قرون من الضياع والذل والهوان.

والحمد لله رب العالمين