Skip to main content

(هَلَاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ)

By الخميس 26 صفر 1444هـ 22-9-2022ممقالات

حديثٌ عجيبٌ رهيب غريب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك قوله: ((هَلَاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ) فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْكِتَابُ وَاللَّبَنُ؟ قَالَ: (يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُحِبُّونَ اللَّبَنَ فَيَدَعُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعَ وَيُبْدُونَ)).
أما أنّه عجيبٌ فلأنّ الناس في هذا الزمان، وقد ابتلوا بالصوارف والملاهي، مما يُصَدَّر إليهم ممن لا يريد لهم الخير، وغير ذلك مما صنعوه بأنفسهم، فعاشوا بعيدين عن دينهم، وهو في متناولهم، فحاقت بهم البلايا والرزايا من كل جانب، وهم في خوض يلعبون، لاهيةً قلوبهم عن الحق ناكبون

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول

وأما أنّه رهيب فلِما فيه من نذارةٍ شديدةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تصل بالأمة إلى الهلاك، وهم عن التذكرة معرضون (هَلَاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ).
وأما كونه غريباً، ولست أعني الحديث الغريب الذي هو من أقسام حديث الآحاد، في علم المصطلح، ولكنّها غربة السنة بين الناس اليوم، فلا يعرف الناس اليوم من سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام إلا الأقلَّ، وهذا الذي يعرفونه منها لا يسلم عند أكثر الناس من الضعيف أو الموضوع المكذوب، وإلى الله المشتكى!
ولننتقل إلى التأويل والشرح النبوي، لهذا الهلاك الذي توعد به المسلمين، حتى لا نذهب بذلك المعنى الخطير في غياهب التأويل الباطل الذي استمرأه العقل المسلم، تحت تأثير ضغطٍ فكريٍ ممنهجٍ، من تسلط الفكر الاعتزالي الذي سربته الفلسفة وعلم الكلام، فصار ثقافة غزت العقل المسلم، ونازعت الوحي على مكانته في العقل المسلم!!! وكل ذلك مكّن له، وأعانه على اختراق العقل المسلم، حين ترك الناس لزوم الوحي والالتصاق به، لموجات ثقافية غريبة، غزت المسلمين في عقر دورهم، وإلى الله المشتكى.
ولما سمع الصحابة ذلك الحديث من نبيهم عليه الصلاة والسلام بادروا السؤال، وكيف يكون القرآن مصدرا لهلاك الأمة، بين لهم عليه الصلاة والسلام أحسن البيان فقال: (يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ). وهذا المنعطف الكبير والخطير الذي حدث في مسيرة المسلمين التاريخية الثقافية، والذي يمكن وصفه دون تحفظ ولا مواربة، بأنّه منعطف خطير، لما أحدثه في العقل المسلم، حين استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فتحرر من بعض سلطان الوحي ليسبح في فضاء العقل، على تفاوت في حجم تلك الطامة من مكان إلى مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان! ولعلي لا أكون قد أخطأت التقدير إذا قلت لعل العصر الذي نحن فيه يسجل ذروةً في الخط البياني الذي يمكن رسمه لرصد ذلك المنعطف الخطير.
وشرُّ ما ابتلي به المسلمون في دينهم، أن أصابتهم فتنتان تلد إحداهما الأخرى، وهما فتنة تأويل نصوص الوحيين التي تفضي إلى تبديل الدين، فلا يغدو الدينَ الذي ارتضاه الله لعباده! وتهمة التأويل التي يحاول أهل التأويل دفعها عن أنفسهم والتبرؤ منها، زاعمين أنَّ خصومَهم هم الذين رموهم بها، نجد نبينا صلوات الله وسلامه عليه يُكذب دعواهم المبطلة بما أعلم به أصحابه وأولياءه عن هذه الفتنة، وهي فتنة تأويل القرأن على غير ما أراد الله، وها هو النص بين أيدينا (وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ).
وأستعير عددا من السطور، من كتاب كثير النفع مشهور، للشيخ الدكتور(عابد محمد السفياني) سعودي، واسم الكتاب (الثَّباتُ والشُّمولُ في الشَّريعة الإسلامية)، وهو فريد في بابه، وهو استعراضٌ لموجات معركة التبديل التي اجتاحت المسلمين. أنصحُ بقراءته بل بدراسته، وهو موفور في النت، ويمكن تحميله بسهولة. ولكي أفتح شهيتكم لاقتنائه ومدارسته، استعرت هذه السطور منه: (… ولم يكتفوا بذلك، بل عادوا على “الوحي” الرباني يحاولون تبديله حتى لا يجد المصلحون مرجعا يصححون عليه الفساد الذي طرأ على البشرية. ولقد امتنع عليهم تبديل “الكتاب” و”السنة” وهما الحق الذي أنزله الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأرسله به إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، ذلك بأنّه وحي تكفل الله بحفظه نعمة منه وفضلا كما قال تعالى: (إنّا نحن نرلنا الذكر وإنّا له لحافظون) فلجأ هذا الفريق إلى حيلة أخرى فأخذ في تبديل المعاني الشرعية فجعل السنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا، والتوحيد تخلفا وخروجا إلى الانحراف، والشرك تقدما وتوحيدا، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة وهكذا. والكتاب والسنة بين يدي المسلمين، يقرأون نصوصهما على غير مراد الله لا ينجو منهم من هذه الفتنة إلا من رحم ربك، وصُدِّر هذا الفهم إلى الأمم الأخرى، وتواصى على نشره أعداء البشرية سواء في داخل الأمة أوخارجها، فترى أئمة الغزو الفكري في العالم يقرأون الكتاب والسنة ويدرسونها ويحرفون معانيها ويسعون في فتنة التبديل. وينشرون دراساتهم وكتبهم لتحقيق هذه الغاية.
ولكن المسلمين اليوم قد أحاطت بهم هذه الفتنة كما أحاطت بالبشرية في أكثر مراحلها، وهي تحيط بها اليوم من جميع أقطارها، وليس لنا ولا لها أن ننتظر رسولا جديدا يرفع هذه الفتنة بإذن الله، ولكن علينا أن نستمسك بالكتاب والسنة ونحذر من فتنة التبديل، ونتبع ما كان عليه نبي هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وما ربي عليه أصحابه رضوان الله عليهم لنكون بفضل من الله من الطائفة التي تقوم بالحق ، وبهذا يتحقق لنا أهم أسباب النصر، ولم يبق بعد ذلك إلا الصبر على بذل الجهد وإحسان العمل لنتغلب على الأعداء، ونحول بين البشرية وفتنتهم
). انتهى الاقتباس

فلنغادر السطور السابقة، وقد حمَّلنا في ذواكرنا العبارة الآتية: (إنّ المسلمين عاشوا، ولا يزالون يعيشون فتنة التبديل التي ولدتها فتنة التأويل التي أنبأنا عنها نبينا في الحديث الذي
بين أيدينا
).
ولما كان أمر التأويل بهذه المثابة من الخطورة في الدين، وعلى التحرير الصحيح لمعنى كلمة التأويل، يعتمد تبيان الخطأ من الصواب في كثير من مسائل الدين ولا سيما في الاعتقاد. وعلى ذلك فإنّ العلماء اهتموا في تجلية أمر التأويل، فقالوا:
إنّ للتأويل ثلاثة مدلولات:
الأول
: بمعنى التفسير، وهذا ما درج عليه الطبري رحمه الله في قوله وتأويل قوله تعالى كذا. والشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله سمى تفسيره (محاسن التأويل).
والثاني: بمعنى ما يؤول إليه الأمر (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ). وفي سورة يوسف: ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا). وكلا النوعين المذكورين حق.
والثالث
: صرف المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن عن حقيقته إلى معنى مرجوح مؤول، وهذا هو التأويل الفاسد، ومطية الشر التي امتطاها أهل البدع والأهواء، لتواطىء النصوص أهواءهم، وتوافق عقولهم القاصرة، وأكثر ما أعملوا ذلك في نصوص الأسماء والصفات في الكتاب والسنة. وهذا النوع الثالث من التأويل هو المرفوض المذموم. وكم جر التأويل على هذه الأمة من ويلات؟ وهل أفسد على الناس دينهم، وأخرجهم من دائرة الاتباع التي هي أصل الدين وروحه إلا التأويل؟ وهل خرج الخوارج، ورفض الروافض، واعتزل المعتزلة، وضلت كل الفرق التي خالفت الوحيين، إلا بالتأويل…؟
ولا يستوي حديثٌ عن التأويل، ما لم يُذكر حديث خاصف النعل الذي نبأنا فيه نبينا عليه الصلاة والسلام لأول مرة عن فتنة التأويل الخطيرة التي ستجتاح المسلمين حينما يستبدلون عقولهم بالوحي المنزل من فوق سبع سماوات. استجابة لشرور الاعتزال الذي جاءت به الفلسفة. عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: (كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ نِسَائِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ، فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَضَيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ: (إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ)، فَاسْتَشْرَفْنَا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ: (لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ) قَالَ: فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ، قَالَ: وَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ).
في ال
حديث معنىً خطير، وهو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم
بيّن أنَّ مَنْ أوَّلَ القرآن يُقاتل كمَنْ كذَّب بنزول القرآن. فماذا يقول الذين يدافعون عن الأشاعرة، ويعتبرونهم من أهل السنة والجماعة؟ وهم الذين يَتَلقوْن عقيدتهم في الله، ويربون عليها أجيالهم، من قصيدة جوهرة التوحيد:

وكلُّ نصٍ أوهمَ التَّشبيها أوِّلْهْ أو فوّضْ، ورُمْ تنزيها

أي عقل هذا، وأي مسلم ذاك، الذي يقبل أن يُنَزِّه العبدُ اللهَ عما لم ينزه عنه نفسه، ولم يُنَزِّهْهُ عنه نبيه، وهو أعلم الخلق بربه، ولم يفعل ذلك أحدٌ من أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية؟!؟! (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟).
ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، ما إن يسمعوا من نبيهم قولا حتى يطيروا به ليتواصوا به كما أمرهم نبيهم، حين رباهم فأحسن تربيتهم، عَن ابْن مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ). وهذا عبد اللَّه بن رواحة رضي الله عنه، آخذٌ بخطام ناقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، يرتجز ويقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير في رسوله

قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله

بأنّ خير القتل في سبيله يا رب إني مؤمن بقيله

إنّي رأيت الحق في قبوله اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

فانظروا كيف ضمَّنَ ابنُ رواحةٍ رضي الله عنه في أرجوزته ذلك الحكم النبوي القاطع، الذي فهمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فتيء ينشدها ليسمعها من لم يشهد النبي حين قالها. (اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله لله درك يا ابن رواحة، فطنت لدلالة الاقتران، فناديت بأرجوزتك أهل التأويل وبشرتهم بالقتل منذ أربعةَ عشرَ قرنا، وبنو ديني، اليوم، ما زالوا لم يفهموا ما فهمتَ حتى الآن، وقد أسْلَمَنا التأويلُ إلى التبديلِ، وألقانا التبديلُ في قاع التعطيل! وأكثر الوجوه لم تَتَمعَّر، فياربِّ رُحماك!

واستكمالاً للفائدة، ولأهمية الموضوع، أنقل سطوراً عن التأويل وخطره، لابن القيم، من كتابه الموسوم: (إعلام الموقعين عن رب العالمين). يقول ابن القيم رحمه الله:
(فأصل خراب الدين والدنيا، إنّما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنّه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط؛ بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد).

كلام ابن القيم خطير، يشرح ويحذر من داءٍ وبيلٍ، وقد فعل الشيء نفسه آخرون من العلماء وما خلا قرنٌ، من مثل أولئك، ومع ذلك، فقد فشا ذلك الانحراف، وتَمَكَّنَ ذلك الداء، فأهل الأهواء لم يضيعوا فرصهم للنيل من دين الأمة. والأمة تنتظر العدول الذين حدَّث عنهم نبي الأمة عليه الصلاة والسلام، ومع أنّ الحديث اختُلف في ثبوته، كما ذكر شيخنا الألباني، ومع ذلك فقد استشهدَ به أحيانا لصحة معناه، مع الإشارة إلى عدم ثبوته سندا، وكان يقول عن مثل هذه الأحاديث (تَصحُّ مَعنىً، ولا تصحُّ مَبنىً): (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين). فإلى أولئك العدول الذين تنتظرهم الأمة، أوجه خطابي!
وقال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوي: (لم يكن في الصحابة من تأول شيئا من نصوصه، أي نصوص الوحي، على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت. وَأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ هَذَا مَا ظَهَرَ إلَّا مِمَّنْ هُوَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالِاتِّحَادِ كَالْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّة نفاة حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ).
وفي إنكار التأويل الكلامي ومناهج الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري:
(وَثَبَتَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ شَيْءٌ مِنَ الْأَهْوَاءِ يَعْنِي بِدَعَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضِلَةِ فِي غَالِبِ الْأُمُورِ الَّتِي أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعُهُمْ وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَزَجُوا مَسَائِلَ الدِّيَانَةِ بِكَلَامِ الْيُونَانِ وَجَعَلُوا كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ أَصْلًا يَرُدُّونَ إِلَيْهِ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْآثَارِ بِالتَّأْوِيلِ ، ولو كان مستكرهاً. ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أنّ الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف).
وبناء على هذا المنهج العلمي الصحيح، فقد
ترجم ابن عبد البر لهذا الحديث، في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) بقوله: (باب فيمن تأول القرآن أو تدبره وهو جاهل بالسنة). ثم قال تحته: (أهل البدع أجمعْ أضربوا عن السنن، وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة، فضلوا وأضلوا. نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق والعصمة). ا.هــ

وجاء عن عمر بن الخطاب قوله: (مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْهَاهُ إِيمَانُهُ وَلَا مِنْ فَاسِقٍ بَيِّنٍ فِسْقُهُ، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْهَا رَجُلًا قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى أَزْلَفَهُ بِلِسَانِهِ ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ).
فهل يفيق المسلمون اليوم من سباتهم الفكري، وسوء اتباعهم في الدين، فيتبعون أهل التأويل الباطل المنحرف، ويعرضون عن اتباع ما أمر الله به أن يُتبع! ومن يتابع أجهزة التواصل يرى كل يوم أفاكا منحرفا، ديدنه تزكية الأشاعرة الذين هم أهل التأويل الفاسد، وينالون من العلماء الربانيين الذين تصدوا لهم على مر القرون، وفندوا كل مزاعمهم! ومتى يعقلون ويرددوا مع ابن رواحة (اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله).

ولْننتقل إلى الأمر الثاني الذي جعل الله فيه هلاك أمته، في الحديث (هَلَاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ). إنّه اللبن! فما المقصود باللبن؟ ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوابه سلبياتٍ في شأن اللبن، حيث قال: (وَيُحِبُّونَ اللَّبَنَ فَيَدْعُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعَ وَيُبْدُونَ). ولقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلى انغماس الناس في الدنيا وتركهم الواجبات الشرعية الأخروية، مثل شهود الجُمَع والجماعات. أما قوله عليه السلام: (وَيُبْدُونَ) فمعناها يذهبون إلى البادية طلبا للبن وغيره، ولقد جاء في الحديث: (مَنْ بَدَا جَفَا، وَمَنْ تَبِعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطَانِ قُرْبًا، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بُعْدًا).
وأقرب تقريب لفهم المقصود النبوي للحديث الذي بين أيدينا، استعراضُ أحاديث صحيحة تتحدث عن الموضوع نفسه، وأبرز تلك الأحاديث، قوله عليه السلام: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). وجاء للحديث رواية ثانية: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله، أدخل الله تعالى عليهم ذلا لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم).
وجاء في البخاري، عن أبي أمامة الباهلي قال: ورأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل). وقد ترجم البخاري للحديث بقوله: (باب ما يُحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، أو مجاوزة الحد الذي أمر به).
ولنتأمل القاسم المشترك بين الحديثين، وكيف بين حديث (العينة) ما أُجْمِلَ في حديث أبي أمامة الباهلي، من أنّ تسليط الذل ليس هو لمجرد الزرع والحرث بل لما اقترن به من الإخلاد إليه والانشغال به عن الجهاد في سبيل الله، فهذا هو المراد بالحديث، وأما الزرع الذي لم يقترن به شيء من ذلك فهو المراد بالأحاديث المرغبة في الحرث فلا تعارض بينها ولا إشكال. ومن الملاحظات في التجمعات البشرية، أن الغلو في السعي وراء الكسب يلهي صاحبه عن الواجب الشرعي، ويحمله على التكالب على الدنيا والإخلاد إلى الأرض والإعراض عن الجهاد، كما هو مشاهد من الكثيرين من الأغنياء.
ويؤكد هذا المعنى أحديث نبوية منها (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا)، ومن أبرز تلك الأحاديث، ما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ولقد اخترت لكم ما جاء في تفسير علامة الشام، جمال الدين القاسمي. يقول رحمه الله: (القول في تأويل قوله تعالى: [وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]، وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات. ومن أهمها: صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوّهم. وقوله تعالى: [وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] أي: ما يؤدي إلى الهلاك أي: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، وذلك بالتعرض لما تستوخم عاقبته، جهلا به.
وقال الراغب: وللآية تأويلان بنظرين، أحدهما: إنه نهي عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهوّر في الإقدام، والثاني: إنه نهي عن البخل بالمال، وعن القعود عن الجهاد. وكلا المعنيين يراد بها. فالإنسان، كما أنه منهيّ عن الإسراف في الإنفاق، والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل والإحجام عن الجهاد، ولهذا قال تعالى: [وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا] وقال: و[َلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ] ، ولمّا كان أمر الإنفاق أخصّ بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال، لتجرد المهاجرين عنها، وقد اشتهر في هذه الآية حديث أبي أيوب الأنصاري، رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ وابن حبان في (صحيحه)، والحاكم في (مستدركه) وغيرهم … ولفظ الترمذيّ: عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم. فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر. وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد. فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل عليهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة.. فقام أبو أيوب الأنصاريّ فقال: يا أيها الناس! إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها! فأنزل الله تعالى على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم يردّ علينا ما قلنا [وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] فكانت التهلكة الإقامة على الأموال، وإصلاحها، وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم
).
ولقد علق الشيخ الألباني على مثل هذه الأحاديث، فقال: (لا بد إذا من أن يُعنى العلماء العارفون بأحكام الإسلام الصحيح بدعوة المسلمين إلى هذا الإسلام الصحيح وتفهيمهم إياه ثم تربيتهم عليه كما قال الله تعالى:(ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)، هذا هو الحل الوحيد الذي جاءت به نصوص الكتاب والسنة كما في قوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وإلا فكيف يأتي نصر الله؟ فمن المتفق عليه دون خلاف ولله الحمد بين المسلمين أنّ معنى (إن تنصروا الله) أي: إن عملتم بما أمركم به: نصركم الله على أعدائكم، ومن أهم النصوص المؤيدة لهذا المعنى مما يناسب واقعنا الذي نعيشه تماما حيث وصف الدواء والعلاج معا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)). انتهى الاقتباس من كتاب جامع تراث الشيخ الألباني.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)

والحمد لله رب العالمين