لماذا فاصلة؟ لأنّها ستفصل بين متناقضات مع الدين الحق، جعلها غيابُ العلم، والمنهجِ الحقِّ، والتأصيلِ الشرعيِّ، واسعةَ الانتشار في حياة المسلمين، وصارت بسبب الإلف والمساس الدائم معها، مسلماتٍ وليست متناقضات، وبالتالي فإنّ التفكير بالتغيير قد تلاشى في النفوس!
وهذه مني محاولة لإعادة تذكير المسلمين بهذه الأمور المخالفة للدين من أجل تصحيحها وَردِّ الأمر إلى نصابه. وفوق ذلك كله، فإنّ أكثر المسلمين، ونُخبُهم منهم، بسبب هذا الواقع الذي يَعجُّ بتلك المتناقضات، يفقدون الأهلية للتفاعل مع قضايا المسلمين الإصلاحية، ولا سيما الكبرى والمصيرية، هذا التفاعلُ الذي يُصبح هماً يسكنُ النفوس، ويكونُ وقوداً لدفع عمليات الإصلاح، وما أحوج المسلمين اليوم إلى الإصلاح الديني، الذي يَصلح بصلاحه كلُّ شيء.
إذن، إنّ طرح تلك الأسئلة، وما يعنيه من وجوب المفاصلة بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والخطإ والصواب، بات واجبا لتحقيق الإصلاح المنشود، وهذا هو طريق الإصلاح ولا طريق سواه.
ومن الذي سيطرح الأسئلة؟ أنا العبد الفقير، إلى رحمة الله وعنايته، أودُّ أن أطرح الأسئلة على نفسي محاوراً إياها، لكنّني أحببتُ أنْ أسْتَعْلن بالحوار، لعلي أُسْمِعُ منْ يأذنُ الله له بسماعٍ، أو يَبلغُ الحوارُ المُعلنُ أسماعاً صرفتها الصوارف عن النذارة، فيُحدث لها ذكرا! وعلى كل حال فهو مني محاولة جديدة لإبراء الذمة، وإقامة الحجة، وهي بيني وبين ربي!
وأُعَرِّفُ نفسي فأقول: أنا مسلمٌ، ولله الحمد، في بداية العقد الثامن من العمر، ليس لي مِنْ صفةٍ تُؤهِّلني لخطاب المسلمين إلا أنّني حملتُ همَّ الإسلام في وقتٍ مبكرٍ، وتفاعلتُ مع كل قضية إسلامية، من موقع مستقل، ولمْ أنضمَّ إلى أي نشاط إسلامي عام، إلا ما اخترته لنفسي من خط دعوي على قدر حالي، وكان يكبرُ معي كلما تقدم بي العمر، وزاد ثقل الهمِّ الإسلامي الذي أحمل. ولا بد أن أبين، حتى لا يكون الغموض ذريعة لسوء الظن، فإنّ الحيادَ الذي التزمته عفوياً، وعَصمني اللهُ به من أن تَسْتهويني التياراتُ الفكرية العديدة التي ملأت سوح المسلمين وتجمعاتهم، ومازالت في ازدياد، ولمْ تَزِدِ المسلمين إلا خبالاَ! وقد كان فضلُ الله علي عظيماً، أنْ شَرحَ صدري، ووفقني إلى أن بدأت مسيرتي الإسلامية الواعية على منهج الوحيين؛ القرآن والسنة الصحيحة، فَمَلآ كلَّ جوانبِ النفس. وأما ما يتصل بالعلوم الشرعية، وأسلوب الإلتزام، فلم أكن أبغي مِنْ طريقٍ إلا منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وكنت ولا زلت، وذلك من توفيق ربي، أجد الغُنْيَة والكفاية في الوحيين، ما أبعدني عن الخوض مع الخائضين، من تضخيم دور العقل أو الرجال، أو منهج التقليد، على حساب تعطيل العمل بالوحيين، وكل ذلك أزرى بالمسلمين، خلال قرون مضت، ولا زال. وكان ذلك الحياد في ازدياد مع الأيام، حين يُحَصْحِصُ الحقُّ، ويَظهرُ إفلاسُ كُلِّ ما سوى الوحيين من دعوات! وحالُ المسلمين اليوم تَسُرُّ العدو، وتُحزِنُ الصديق! وما ذلك بخافٍ على ذي نظر! ولم يبق من ناصحٍ إلا بقيةٌ من الغرباء، وفق وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم (ناسٌ صالحون قليل، في ناسِ سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثرُ ممنْ يُطيعُهُمْ).
ولِمَنْ تُوجَّه الأسئلة؟ إنّها تُطرح على كل مسلم يحمل همَّ الإسلام، طاعةً لله وابتغاءَ مرضاته، مُنزَّها عن كل غرض دنيوي أرضي شخصي! وإنّي لأعتمد في طرحي، إنْ يَسَّرَ الله، التأصيلَ والاتباعَ، مستبعداً كُلَّ نزعةٍ أو فكرٍ أرضيٍ غريبٍ، يريد منافسة الوحيين. وأعزف عن كل ما خلّفه علم الكلام من تركةٍ ضَيَّعتِ الوِجْهَةَ، وأضَلَّت الطريق، حين كان يُتَّبَعُ أسلوبُ إلقاء المسائل الشرعية في تيه الفلسفة وعلم الكلام، لإضاعة هدي الوحي في ذلك العُباب من حشو الكلام، وحجبه عن العقول لإضلالها. والحق يأبى كل ذلك. والوحي روح الإسلام، فلا إسلام بلا وحي!
وقد يَدَّعي مُدَّعٍ أنّه لم تَجْرِ محاولة لتجريد الإسلام من الوحي! وأقول إنّ تعطيل جزئيةٍ من الوحي بترك العمل بها تضييع لدين الإسلام، وعمل لا يرضي الله! قال تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ). والآية الأخرى (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا). ولا تبرؤ ذمة مسلمٍ إن كان تعامله مع ما أنزل الله انتقائيا، فهذا عين ما نعاه الله على الكفار (أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وبالتداعي المنطقي أجدني مضطرا لأن أردَّ على مدعٍ افتراضي آخر، خشيةً من كتمان علم يجهله كثيرون من الناس. فقد يقول المدعي إنّ بعض العلماء لم يهجروا نصوصا شرعية بالكلية، ولكنّهم تركوا العمل بظواهر تلك النصوص وأولوا معانيها! وأقول: ما رُمِيَتْ عقيدة المسلمين بشرٍ أشدَّ من التأويل. ولنتدبر هذا الحديث الصحيح، الذي لم يسمع به أكثر الناس بل أكثر العلماء. عَنْ أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: (كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ نِسَائِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ، فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَضَيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ: (إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ). فَاسْتَشْرَفْنَا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ: (لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ) قَالَ: فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ، قَالَ: وَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ). في الحديث معنىً خطير، وهو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، بين أنَّ مَنْ أوَّلَ القرآن يُقاتل كمَنُ كذَّب بنزول القرآن. فماذا يقول الذين يدافعون عن الأشاعرة، ويعتبرونهم من أهل السنة والجماعة؟ وهم الذين يَتَلقوْن عقيدتهم في الله، ويربون عليها أجيالهم، من قصيدة جوهرة التوحيد:
وكلُّ نصٍ أوهمَ التَّشبيها**أوِّلْهْ أو فَوَّضْ، ورُمْ تنزيها
واستكمالاً للفائدة ولأهمية الموضوع أنقل سطوراً عن التأويل وخطره، لابن القيم، من كتابه الموسوم: (إعلام الموقعين عن رب العالمين). يقول رحمه الله: (فأصل خراب الدين والدنيا، إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط؛ بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد).
كلام ابن القيم، عجيب خطير، يشرح ويحذر من داءٍ وبيلٍ، وقد فعل الشيء نفسه آخرون من العلماء، وما خلا قرنٌ من مثل أولئك، ومع ذلك فقد فشا ذلك الانحراف، وتَمَكَّنَ ذلك الداء، فأهل الأهواء لم يضيعوا فرصهم، للنيل من دين الأمة. والأمة تنتظر العدول الذين حدَّث عنهم نبي الأمة عليه الصلاة والسلام، ومع أنّ الحديث اختُلف في ثبوته، كما ذكر شيخنا الألباني، ومع ذلك فقد استشهدَ به أحيانا لصحة معناه، مع الإشارة إلى عدم ثبوته سندا، وكان يقول عن مثل هذه الأحاديث (تَصحُّ مَعنىً، ولا تصحُّ مَبنىً). (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين). فإلى أولئك العدول الذين تنتظرهم الأمة، أوجه خطابي! فمن وعى الهدف الاستراتيجي العظيم، استرجاع الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية، واستوعب سلم الأولويات في العمل، فهو أخو الإيمان، ورفيق درب، وشريك منهج، والمسألة في غاية الوضوح والشفافية، وأبعد ما تكون عن التعقيد والمناورات!
وما هي مناسبة طرح الأسئلة الآن؟ أنا لا أقول إنّ الإسلام اليوم مستهدفٌ عالميا، ومحلياً، ومن بعض أبنائه الشاردين، بل أقول بملء فمي: إنّ أهل السنة هم المستهدفون! ومع ما يُرى ويُسمعُ ويُمارسُ اليوم، فإنّ المكر بالإسلام السنيِّ وأهله، صار مكشوفا ومعلناً. وأستأذن في فتح قوسين يضمان اقتباسا هو عنوان لكتاب، لا أستطيع أبدا أن أحيِّد نفسي عن الإعجاب بالكتاب، وعبقرية مؤلفه، وأستطرد فأقول: لعل هذه هي المرة الأولى، في ما أذكر، التي أصف فيها مؤلفا أو كاتبا أو عالما بهذا الوصف خلال رحلتي العلمية، والمطبوعة بطابع ديني. ولا أتوقع أبداً، أنّي سأنجو من نقد وقد يكون لاذعا، سواء اطلعت عليه أم لم أطلع، فالأمر عندي سيان! لكنّي أقول لمن فعل، ومن على وشك أن يفعل، ما أظن أحدا ينتقدني لو كانت له حالي أثناء القراءة! إنّي لم أقرأ الكتاب، بل درسته دراسة واعية، والأهمُّ من ذلك، أنّي في كل لحظات القراءة لم يفارقني الشعور بل الحرص أنّ دافعي للقراءة هو حملي همَّ الإسلام، وما شعرت بإعجاب، مرةً، إلا لأنّي وقفت في ما أقرأ على شيء لبى عندي حاجة في النفس، لسد ثغرة في تعاملي المضني مع حمل الهمّ الإسلامي المؤرق، ليس إلا! وفي كل لحظة كان ينتابني فيها شعور الإعجاب، كان ينافسه شعورٌ بالإحباط، في أنّه لم يكن في نخب المسلمين المعاصرين، صوتٌ أو رؤيةٌ، تستحق مني مثل ذلك الإعجاب. لم يكتف الرجل بأن يجعل عنوان كتابه (استهداف أهل السنة)، والاختصار من طبيعة العنوان، وكأنّي به أراد أن ينبه القارئ إلى تلك (الأعاجيب في السياسة)، فجعل العنوان أسطراً، بدل الكلمات! لحمل القارئ، ممن اعتاد قراءة الصحف، أن يتذرع بالصبر ويقرأ الكتاب فينتفع به، وينفع غيره، والمنفعة هنا أكبر بكثير وكثير من أن تكون مصلحة خاصة ضيقة! ولقد جعل العنوان كالآتي: (استهداف أهل السنة، من يتزعم العالم الإسلامي، السعودية أم إيران؟ المخطط الاستراتيجي للغرب وإسرائيل وإيران للسيطرة على الشرق الأوسط واقتلاع النفوذ السني).
وإنّي لأجزم أنّ قراءة ذلك الكتاب فتحت أمامي أفقا فسيحا من أمل عريض، بعد توفيق الله. إنّنا ونحن ماضون، بتوفيق الله، لتحقيق الهدف الاستراتيجي الكبير، وهو استرجاع الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية، من خلال العمل وفق محوري الدعوة على بصيرة، والتصفية والتربية، فإنّي أزف إلى حاملي ذاك الهمِّ الكبير، خلاصة نتائج علمية في علم الجيوسياسة، وتطبيقات هذا العلم ونظرياته على الواقع الذي نعيش اليوم، ولقد جاءت تلك الخلاصة في ما صرح به الدكتور نبيل خليفة، وهو عالم سياسة، لبناني ماروني، في كتابه المذكور، يقول الدكتور خليفة: (وعلى ذلك فإنَّ القرن الحالي وبسبب عناصر أربعة، وهي: الديموغرافيا، الاقتصاد، الوسطية المكانية، والحيوية الدينية، التي اجتمعت في أهل الإسلام السني، فسيكون الإسلام هو الديانة الأولى ، والجهة التي تقابل أمريكا في النظام العالمي الجديد). ولا أتمنى أن ينبري مستدركٌ عليَّ، ليقول: هل صار المسلمون يتلقون بُشراهم بفلاحهم، من علوم السياسة، ورجل ماروني؟!
ولن أردَّ مفنداً القول، لأنّي ما أظنُّه صَدَرَ عن علمٍ وفهمٍ، ولكنَّ بياني إشفاقٌ على أجيالنا من أن تُفتَنَ بكلامٍ، وما أكثره، لا يريد وجه الله! إنّ ربنا خلق لنا الأسباب التي نعالج باتخاذها مصائبنا التي لا تحصى، بدءاً من علل أجسامنا، إلى تخلفنا، وتداعي الأمم علينا، وهذا الذي في كتاب الدكتور خليفة من الأسباب، كالدواء الذي صنعه لنا، أو اكتشفه، من ليس مِنَّا، وربنا أمرنا بالانتفاع به. نحن نسير في معالجة مشكلاتنا وفق ما علمنا الله ورسوله، وأبيح لنا كل ما في الأرض من أسباب، مهما كان مصدره، وفق منظومة الحلال والحرام، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فتبارك الله أحسن الخالقين، وله الحمد في الأولى والآخرة.
ولعله من باب تشويق القراء للحصول على الكتاب المذكور، ودراسته، وليس قراءته، ليتعرفوا على شهادات علمية، صادرة عن دراسات رصينة، ونظريات معترف بها، من أناس موضوعيين، فيعلم المسلم المكانة التي أراد الله من المسلمين أن يضعوا أنفسهم ودينهم فيها، بعد أن أضحى المسلمون في ذيل الركب، وقد تداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وكأنّي بالدكتور خليفة، يريد أن يقول للمسلمين، من خلال عبارات قوية في كتابه(ولأهل السنة خاصة، والاستثناء والتأكيد، ليس مني، بل هو من الباحث د. نبيل خليفة). أن يفهموا أنّ الرياحَ اليوم تهب مواتيةً لرفعتهم وسيادتهم في هذا العالم، وأنّها ستملؤ أشرعتهم حاضراً ومستقبلاً، رغم ما يبذله العالم بأسره في الكيد لهم، وعليهم أن يسلكوا كل سبيل، ويتخذوا كل سبب لتحقيق ذلك! وأستأذن في نقل عبارت أخرى مُشوقة ونافعة عن الدكتور خليفة. يقول في الكتاب:
(إنّ الاستغراب مما يقع اليوم، والاندهاش من الأحداث المتتالية، أصاب فقط من لم يكونوا على دراية بما يواجه المنطقة منذ ما يزيد على ثلث قرن عاشوا في ظل التاريخ ولم يتبينوا وجهه الصحيح، ولا وجهته المرسومة). ويتابع كلامه فيقول: تحت عنوان (أهل السنة في مواجة العالم): (في مواجهة العالم المسيحي: بفرعيه البروتستنتي(الولايات المتحدة، وألمانيا)، وفرعه الكاثوليكي (فرنسا وإيطاليا وأوربا)، وفرعه الأنغليكاني (بريطانيا)، وفرعه الأرثوذوكسي (روسيا). وخلاصته؛ أنّ الكتلة السنية هي في مواجهة مع الحضارة الغربية المسيحية! وفي مواجهة مع العالم اليهودي: إسرائيل وأجهزتها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية. والصهيونية وامتداداتها في كل أنحاء العالم. وفي مواجهة مع العالم الشيعي الإيراني: بكل أهدافه ومطامحه ومطامعه لتزعم العالم الإسلامي وفرض سيطرته الكاملة على شرقي المتوسط. وفي مواجهة العالم الهندي: استمرارا للصراع الهندي الباكستاني حول الانفصال وحول كشمير وحول الكتلة السنية في الهند، وهي في حدود 150 مليون نسمة فقط. وفي مواجهة مع العالم الصيني: انطلاقا من مشاكل مقاطعة كنغ سيانغ على امتداد102 مليون متر مربع، في غرب الصين، وما يزيد على 50 مليون مسلم يشكلون أزمة للمجتمع الصيني، الذي يخشى من امتداد العالم الإسلامي داخل الصين).
لقد طال أمد الضياع والشتات، وأمور المسلمين في انحدار، وانقضى من عمر الأمة ما يقارب القرن إلا قليلا ولا شيء إلا الهزائم. ولقد سقط كل إدعاء، وانكشف كل مخبوء، وخسر المراهنون والمتاجرون والمغامرون، ومن هم بأمر الأعداء يأتمرون! لقد خاب القوميون، والملاحدة اليساريون، وحتى الإسلام السياسي المنظم! ومرت سبعون سنة من حياة المسلمين، ولم يفرحوا بانتصار حقيقي، وبخاصة على صعيد تحقيق الأهداف الإسلامية الكبيرة. رغم ما كان يحدث من مهرجانات وأفراحٍ وهتافٍ وتصفيقٍ لانتصاراتٍ وهميةٍ مزعومةٍ!
حتى كانت أحداث السنوات العشر الأخيرة، وكانت النكسة الكبرى لأهل السنة، حلت بدايتها في سوريا، والأيام حبلى، وما أحد يعلم ما في غد! فالصفويون ومن معهم، ومن وراءهم، لن يقفوا عند حد، بل لهم من الأهداف الاستراتيجة ما جعلوه لهم عقيدة دينية رغم بطلانه. ويبذلون كل شيء من أجل تحقيق تلك الأهداف، وبؤرة ذلك الكيد، كما لا يخفى، دولة ايران، ومن يناصرها في العالم، وقد تبين بالظن الراجح أنّهم كُثُر، ولكنَّ الله أكبر. ولقد وقع ما وقع في السنوات العشر الأخيرة، وهو عند كل ذي بصرٍ وبصيرةٍ، وغيرةٍ على الإسلام وأهله، نازلةٌ من أعظم النوازل التي أصابت أهل السنة! ومع ذلك فقد انتهى كل عملٍ إلى الصفر. وانقلب سباق (الزعامات) في ميدان النجومية، وتغليب المصالح الشخصية، الذي كان يُغطَّى بالتشدق والضجيج والادعاءات الكاذبة، انقلب هروبا من كل مسؤولية، وتحلُّلاً من كل تبعةٍ. وانغمس كلٌ من الأدعياء في شأنٍ له يغنيه، وهمٍ شخصيٍ يُقصيه ويُنسيه ما قدمت يداه، ولكن الناس لا ينسون، ورب الناس لا ينسى، وسيجد (المتاجرون) ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحدا. ودخل المسلمون نفقا مظلما لا يعلم إلا الله متى وكيف سيخرجون منه!
ولقد صَدَّق السُذَّج من المسلمين الأكاذيب والدعايات التي يروجها من صنعوا الهزيمة، بقولهم: (لقد كانت مؤامرة كونية، تمالأ فيها على المسلمين أهل الأرض جميعا ورموهم عن قوس واحدة، ففيم التلاوم؟) وما علموا أنّ إيمان كل مسلم يرد تلك الفرية، فالله لن يتخلى عن نصرة دين الإسلام وأهله، إلا إن أخلَّ المسلمون بالمواثيق التي واثقهم عليها ربهم (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) و(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) و(إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) و(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ). وغير ذلك كثير في كتاب الله. ولن يقال لمن تولوا قيادة الأحداث في سوريا، وخاصة ممن زعموا أنّهم تحركوا باسم الإسلام، إلا ما قال الله للمسلمين يوم أحد (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ومن تلك المنعطفات كلها، والضلالات وبطلانها، والمأساة وعمقها، أردت أن أطرح أسئلة فاصلة، تفصل بين الحق والباطل، وتنهي الضياع ومن أوصل إليه، وتستصرخ الضمائر لعودة وتوبة وأوبة إلى الله، تعيد المسلمين إلى كنف خالقهم بعد أن شردوا، وإلى أن يستمسكوا بالعروة الوثقى بعد أن فرطوا، وإلى الوفاء بمواثيق الله بعد أن خانوا. وأن يعودوا إلى سبيل الله المستقيم، بعد أن اتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيله فضلُّوا.
أجل إنّها أسئله فاصلة بين العيش في زمن الخداع والضياع، والعودة إلى التسليم والانقياد والاتباع، أسئلة فاصلة بين من أخلد إلى الأرض يحركه الأصل الطيني الخائب، وبين من يرتفع ويسمو ليعمل بأمر السماء، ومنهج الوحي المنزل. أسئلة تنهي واقع المهادنة والمسايرة والمصانعة، بمنهج مؤصل (ما أنا عليه وأصحابي)، وعليه تكون المفاصلة، وعلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية الإسلامية الكبرى، ولا تجدي تلك المواجهات إلا بالأمة الحاضرة! أمَا تكفي الهزائم المتلاحقة خلال القرن الماضي، حيث لم يسجل المسلمون أي انتصار، في زمن التشرذم وغياب الأمة الواحدة!
ولا بد من مقدمة بسيطة. بين يدي طرح الأسئلة. إنّها أسئلة انطلقت من الواقع المأزوم، والنكبة التي حلت، وركام السنين الذي يشهد بالهزائم. واستلهمت الحلول الشرعية من نصوص الوحيين. لكنّها لا تخرج، بعد بذل الوسع، والبحث والتأصيل، عن كونها اجتهاداتٍ واستنباطاتٍ بشرية، لا أدعي لها عصمةً من خطإ أو خطلٍ أو خللٍ. والمرء قليل بنفسه، كثير بأخيه. وليتقبلها مني كل من يريد الإصلاح، على أنّها ورقة عمل متواضعة، تنتظر المناصحة والمؤازرة، وتغنى وتسترشدُ بكل تصويب وتوجيه مادام المنطلق واحدا! (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). وإلى الأسئلة الفاصلة:
السؤال المركزي الأول … حينما ينظر المسلم الحريص على سلامة دينه، وصحة تدينه، ويرى أنّ الاختلاف صار واضحا بين المسلمين، ومن ورائه من يؤيده ويشرعنه، بل ويدعو إليه على أنّه رحمة! يلجأ إلى نصوص الوحيين، يبحث عن الصواب، حتى لا يكون الأمر اتباعا للهوى. ولا بد من أن يستوقف المسلم الباحث بتجرد وتأصيل، نصان:
أولهما، قول الله جلَّ وعلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وصف الله صراطه المستقيم بأنّه واحد لا يتعدد، وذلك بذكر لفظة (صِرَاطِي) بصيغة المفرد، وهي مضافة إلى لفظ الجلالة بياء المتكلم، ليفيد ذلك التركيب أنّ السبيل إلى الله واحدة لا تتعدد، ومن قال بالتعدد فقد كذَّبَ اللهَ في قرآنه. وزاد الله تبارك وتعالى التأكيد على أنّ سبيله واحدة بقوله مباشرة بعد أمره بلفظة (فاتَّبِعُوهُ): (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). فلا سُبلَ توصل إلى الله إلا سبيلا واحدا. وأين هذا الحق الإلهي المبين، مما تفتريه بعض العقول البشرية مثل قول بعض المشائخ، (الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق)، كذبوا وايم الله.
ولأهمية عقيدة أنّ سبيل الله واحدة، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد شرح الآية السابقة بأسلوب تصويري. عَنِ ابْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: (خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا بِيَدِهِ، ثُمَّ قال: (هذا سبيل الله مستقيما) وخط عن يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: (هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ). ثُمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)). فالنبي عليه الصلاة والسلام أكد ببيانٍ وافٍ أنّ السبيل إلى الله واحدة، وصور السبل المكذوبة بخطوط قصيرة، وأكد أنّ كل من زعم وجود طريق إلى الله غير طريقه الواحد، فإنّه شيطانٌ يدعو إلى ذلك السبيل ولو تسمَّى باسمِ مُسلمٍ، وتزيَّا بزيِّ مسلمٍ. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قال: تركنا محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفُهُ الْجَنَّةُ، وَعَنْ يَمِينِهِ جَوَادٌ وَعَنْ شِمَالِهِ جَوَادٌ، وَثَمَّ رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ فِي تِلْكَ الْجَوَادِ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنْ أَخَذَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ الْآيَةَ). وجدير بالتذكير أنّ الله تبارك وتعالى ختم الآية السابقة بقوله: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). بما يزيد المعنى قوة، فتأكدت الأهمية يوم جعلها الله وصية لعباده.
أما ثاني النصين الذي يستوقف المسلم أثناء بحثه في أمر التدين الصحيح، وهو الحديث الصحيح المفترى عليه! وهو حديث افتراق الأمة: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة، وفي رواية: ما أنا عليه وأصحابي).
والحديثان السابقان بينهما تكاملٌ من أكثر من وجه. ولعل أهم وأوضح وجه من أوجه التكامل هو الآتي: فالحديث الأول يؤكد أنّ السبيل إلى الله واحدة لا تقبل التعددية، ولزم من ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكد في الحديث الذي شرح فيه الآية، أنّ كل سبيل غايرَ سبيلَ الله، ولو جاورها، فإنّه مذموم مرفوض، وقد أخذنا هذا النعت من قوله عليه الصلاة والسلام: (وخط عن يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: (هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)). الله أكبر، كلُّ سبيلٍ غيرِ سبيلِ الله عليها شيطانٌ يدعو إليها، فكيف تكون موصلة إلى الله؟ ويأتي الحديث الثاني، وهو حديث الافتراق، ليضيف إلى تلك السبيل الواحدة التي لا تقبل التعددية، وصفاً جديداً موضوعياً، تتميز به بين السبل الملفقة الكاذبة، هو (ما أنا عليه وأصحابي)، وكيف تخفى هذه العبارة النبوية، والتي هي قطعة من الوحي، وكيف يُقبل من مسلم، أنْ يُشكلَ تدينه على منهج آخر غير منهج (ما أنا عليه وأصحابي)؟!
وإنّي حينما أذكر حديث الافتراق، أصفه بأنّه الحديث المفترى عليه. لأنّ الحديث رغم شهادة كبار علماء الأمة له بالصحة، لكنّنا نرى في القديم والحديث بعض العلماء ممن ضاقت أفهامهم عن استيعاب معناه، فوصفوه بالضعف تارة، وبالنكارة أخرى، ومنهم من أبعد النجعة أكثر. ولعلي أضرب المثل بمن بذل كل ما يستطيع للتصدي لحديث افتراق الأمة من أجل إبعاده عن ساحة العمل، لا لشيء إلا لأنّه يعترف ببعض تلك الفرق المذمومة والمتوعدة من قبل النبي عليه الصلاة والسلام، ويُكثر من الدفاع عنها، وعلى رأسها الأشاعرة. وأسوق بعض ما قال في هذا الصدد، لا على سبيل الرد، فما قاله لا يستحق الرد لأنّه فعل ذلك على طريقة القاعدة المنكوسة (اعتقد ثم استدل)، فهو أبعد عن العلمية والصواب. ولكنّي أريد إطلاع القارئ على ذلك الزيف. يقول: (فأول ما ينبغي أن يعلم هنا أنّ الحديث لم يرد في أي من الصحيحين، برغم أهمية موضوعه، وقد روي الحديث بهذه الزيادة من طريق عدد من الصحابة: عبد الله بن عمرو، ومعاوية، وعوف بن مالك وأنس، وكلها ضعيفة الإسناد، وإنّما قووها بانضمام بعضها إلى بعض. والذي أراه أن التقوية بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، فكم من حديث له طرق عدة ضعفوه، كما يبدو ذلك في كتب التخريج، والعلل، وغيرها. وإنّما يؤخذ بها فيما لا معارض له، ولا إشكال في معناه). ويضيف أيضا: (وهو يفتح بابا لأن تدعى كل فرقة أنّها الناجية، وأنّ غيرها هو الهالك، وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة وطعن بعضها في بعض، مما يضعفها جميعا، ويقوي عدوها عليها، ويغريه بها).
والسؤال الذي أود طرحه على من يعجبه كلام القرضاوي السابق، فضلا عمن يعمل به: لمصلحة مَنْ يُحارِبُ الحديثَ ويَستبعدُه من حَيِّزِ العمل؟ فيُحْرمُ المسلمون من أعظم نُصحٍ، وتحذيرٍ وتوجيهٍ، يقدمه النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين، حتى لا يزري الافتراق والبعدُ عن الوحيين بهم، كما أزرى باليهود والنصارى من قبل. والجواب، لمصلحة الفرق الناكبة عن طريق الوحيين، والدفاع عنها وكأنّ الله تعبد المسلمين بذلك! وربنا يحذرنا من هذا المنعطف الخطير بقوله: (ولَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). وقوله: (إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). وأعيد للتأكيد، فكما أنّ سبيل الله لا تقبل التعددية، فإنّ المنهج الذي يجب أن يقيم كل مسلم تدينه عليه وهو (ما أنا عليه وأصحابي) كذلك، ولن يقبل الخيار أيضا، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). وإنّه لوحي ولا شك!
ومن ذينك النصين، اللذين يستوقفان المسلم، وهو يبحث باستمرار عن صحة تدينه، وقوة التصاقه بالوحيين، والنصان يجريان في موضوعهما من وادٍ واحدٍ، أستنتج السؤال المركزي الفاصل الأول: هل في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دليل واحد على وجود سبيل ثانٍ أو خامسٍ أو عشرين؟ وهل في كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام مخالف لقول ربنا (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وقوله: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) وبعد، أليس الأصل لصحة كل تدين، ولمن يريد الله والدار الآخرة، أن يقيم تدينه سائراً على صراط الله المستقيم؟ ومتبعاً المنهج القويم (ما أنا عليه وأصحابي)؟ وهل أمام أي مسلم خيارٌ في ذلك، وهل تبرأُ الذمة عند الله بغير ذلك؟ فإلامَ يبقى الاختلاف، ويستمر الجدال، وتترى المصائب؟؟!!). وآخر ما أهدي إلى الإخوة مع هذا السؤال قول الله تبارك وتعالى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
السؤال المركزي الثاني … حديثٌ لا ينقضي عجبُ المسلم، وحتى غيرُ المسلم حين يقرؤونه، ويستحضرون في مخيلاتهم صوراً لا تنتهي عن واقع المسلمين اليوم بين أهل الأرض! فإلى القراءة الواعية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ، من كل أفقٍ، كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
ومع استحضار الواقع المأزوم، الذي يعيشه المسلمون اليوم، يستنتج المسلمون أنّهم يعيشون أسوأ حالات الضعف والخذلان، وذهاب الريح، والهوان على الله وعلى أهل الأرض. ولا نحتاج أن نبحث لماذا، فتَفرَّق بنا سبلُ الجواب، فتزيد المشكلةُ مشكلةً! ولقد كفانا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين السؤال، (وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟). وكفانا نبينا صلى الله عليه وسلم الجواب (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ). ولقد كتبت وتحدثت أكثر من مرة أنّ النبي عليه الصلاة والسلام تركنا مع معادلة رياضية، للتفكير في حلها من أجل المعالجة. ما هي المعادلة وفق معطيات اليوم؟ (طرفها الأول مسلمون يعدون في العالم مليارا ونصف المليار= طرفها الثاني غثاء السيل، وزنا وأهمية في العالم). فما الحل يا نخب المسلمين وقادتهم؟
ويحسن أن نضيف للحديث السابق حديثا آخر، لأنّهما يجريان من واد واحد. عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
تعليق سريع عن الحديثين معاً. نبوءتان من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين عن أسوأ حال سيصيب المسلمين. وقد عبر عن تلك الحال في الحديث الأول بالنتيجة، وهي (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ، من كل أفقٍ، كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). وفي الحديث الثاني عبر عن تلك الحال، بالنتيجة أيضاً: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). أما عن الأسباب الموصلة لتلك الأحوال، فنستنتجها ببساطة من الحديثين، إنّها الابتعاد عن الوحيين؛ علماً وعملاً. فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم غثائية الوزن مع كثرة العدد (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ). وما الذي يحيل كثرة العدد إلى غثاءٍ إلا حبوطُ العمل لأنّه فقد شرطي القبول؛ (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). فإسلام الوجه لله، هو الإخلاص لله في العمل بتحرير النية على ذلك، وهو محسن، والإحسان بمعنى موافقة السنة، في ما يعمل. وأما في الحديث الثاني، فالسبب استحلالهم وارتكابهم ما حرم الله من الذنوب والمعاصي، ومثل لها (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد).
وأعيدُ عبارةً قلتها قبلاً إنّ قراءة هذين الحديثين، مع استحضار الواقع المأزوم الذي يعيشه المسلمون اليوم، يدركون أنّهم يعيشون أسوأ حالات الضعف والخذلان وذهاب الريح، والهوان على الله، وعلى أهل الأرض، وهُمْ في ذيل الركب العالمي، وقد تداعت عليهم الأمم، وأصابهم الذل الذي سلطه الله عليهم كما في الحديثين. فالذي سلط الذل هو الله، بسبب ذنوب الناس، والذي يرفع ذلك عنهم هو الذي سلطه عليهم، إن رجعوا إلى دينهم. ويؤكد المعنى ويتممه، أن أضيف للحديثين حديثا ثالثاً؛ (إنَّها ستكونُ فتنةٌ. فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟ أو كيف نصنعُ؟ قال: ترجعون إلى أمْرِكم الأوَّلِ).
بعد هذه الإحاطة السريعة بالأحاديث السابقة، والصور فيها واحدة عما آل إليه أمر المسلمين، في شتى بقاعهم، فما نحن فاعلون؟ الصورة لخصها النبي عليه الصلاة والسلام بكلمة واحدة، هي من أجمع المفردات العربية دلالةً (ذُلّاً)! إنّ الغالب من المسلمين ليسوا على حال ترضي الله، وقد تخلى الله عنهم عقوبة لهم، وأوكلهم إلى أنفسهم، فعمَّهُم كُلُّ بلاءٍ، وفارقَهم كلُّ خيرٍ!
وإنّ حالة الغثائية تعني غياب الأمة، وما أحوج المسلمين اليوم إلى توصيف حالهم التي آلوا إليها بسبب ذنوبهم التي خلَّفها فيهم بُعدهم عن الوحيين في العلم والعمل. وما هي المعالجة؟ لقد ذكرنا التوصيف قبلاً، أكثر من مرة. أما المعالجة، فمشروعُ دعوةٍ إلى الله على بصيرة، يواكبُها جهدٌ كبير للتصفيةِ والتربيةِ. وهذان المحوران الأساسيان من العمل الإصلاحي الشرعي، هما اللذان سيحققان بإذن الله وتوفيقه، في الوقت نفسه، الهدف الإسلامي الاستراتيجي العظيم الذي أسميناه، (استرجاع الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية). وحتى الآن، لم أقف على أي ذكرٍ لمثل هذه الأهداف الإصلاحية المركزية عند معظم النخب، الذين تصدروا قيادة الحراك الإسلامي، في السنوات العشر الماضية التي انتهت بالهزيمة النكراء. بل هم قد شغلوا بمشاريع حداثية علمانية ديموقراطية، وإلى الله المشتكى.
ولا زال بعض النخب بل أكثرهم غير مقتنعين بأنّ الأمة غائبة، لأنّهم لم يستوعبوا بعد هذا المصطلح، ولا أسبابه، ولا تداعياته، ولا طرق علاجه. إنّهم يرون الحديث عن غياب الأمة أو غثائيتها أمراً متخيلاً وافتراضياً، غير حقيقي. ولكي أخرجهم من الوهم والخيال إلى الحقيقة، أعزز النصوص السابقة عن غياب الأمة وغثائيتها، بحديث معاذ رضي الله عنه، فيكون قاطعا للنزاع في مسألة غياب الأمة. عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (عندما خرج النبي عليه السلام معه يودعه وهو يغادر إلى اليمن، مبعوثا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قال له النبي: (إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ من كانوا وحيث كَانُوا اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ، وَايْم الله لَتَكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكفأ الْإِنَاءُ فِي الْبَطْحَاء)).
وليتأمل القاريء هذا التشبيه النبوي، في وضوح بيانه، ودقة دلالته، عما سيصيب أمته. لقد بين نبينا صلى الله عليه وسلم أنّ أمة الإسلام ستُكفأ عن دينها بالطريقة نفسها التي يُنثر فيها الماء من الإناء، بإمالته ليفرغ ما فيه. ومن الذي سيفعل ذلك؟ إنّ دين الأمة سيُكفأ بأيدي أبنائها، وليس بأيدي أعدائها الخارجيين! ودققوا أنّ النبي عليه السلام ندب أولياءه المتقين لإصلاح ذاك الفساد (إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ)..! وكيف يكون ذلك الإصلاح إلا بدعوة إلى الله على بصيرة، وتصفية وتربية؟ فأين الذين سماهم النبي عليه الصلاة والسلام، ووصفهم، في حديث معاذ (بأوليائه المتقين)، وندبهم للإصلاح؟ لقد عمّ الفساد وطم، وانكفأ دين أمة الإسلام، كما يكفأُ الإناء لنثر ما فيه! فأين النخب؟ أين المصلحون؟ أين أولياء النبي يصلحون ذلك الفساد العريض؟! أين الرجوع إلى الوحيين فإنّه علاج لكل فساد وخلل؟!
لقد جاء حديث معاذٍ رضي الله عنه قاطعاً لكل نزاع وخلاف، ضيَّع في جولاته ومناظراته أجلَّ وأعظمَ الأهداف الاستراتيجية التي يجب على المسلمين أن يسعوا لتحقيقه، إنّه استرجاع الأمة الغائبة. وجاء حديث معاذٍ رضي الله عنه بالبيان الشافي على الحقيقة وليس المجاز، ليصف حال الأمة، الذي يقطع الجدل القائم بين نخب المسلمين حول موضوع غياب الأمة! (وَايْم الله لَتَكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكفأ الْإِنَاءُ فِي الْبَطْحَاء). وذهاب دين الأمة كان عن طريق البعد عن الوحيين، وفتح باب التأويل،
وانتشار البدع، وكل ذلك أعطى الفرص للرويبضة، فاحتلت الشاشات، وعلت المنابر تبث الباطل يمينا وشمالاً، والمصلحون من الغرباء المضيق عليهم (وأودُّ أن أفتح قوسين لأبين أنّ المصلحين قديما وحديثا قد نال منهم كيد الحكام الظلمة، ولكنَّ المكرَ الكبّارَ الذي لحقهم كان من بعض أهل الدين وبعض العلماء! ومثال ذلك ما قاله ابن حجر الهيتمي، فقيه شافعي ومحدث، في ابن تيمية، وقد سئل في فتاواه الحديثية ص 114 عنه فقال: (ابن تيمية عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله). ثم يضيف: (وإياك أن تصغي إليهما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله، وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدودوتعدوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم وليسوا كذلك)).
وبمثل هذا المكر يحال بينهم وبين مدارج الإصلاح، بالإحراج بقصد الإخراج. وإن لم ينجح كان السجن هو البديل. ورغم حرصي على عدم الإطالة، فإنّي لم أستطع مقاومة إلحاح النفس على إثبات تلك السطور، التي تُخرج إلى العلن، وتسلط النور على شيء أريدَ التعتيم عليه. أفرزه غياب الأمة الذي مازال يماري فيه أكثر النخب. وكنت قبلا أصف المشكلة على أنّها غياب الأمة أو غثائيتها، والآن سأزيد، وأقول وذهاب دينها، وفق منطوق كلام النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ. وصار علينا أن نقول عن الحل: استرجاع الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية، أو تجديد دين الأمة، وكلها أسماء لمسمىً واحد!
إنّ عملية الاصلاح لاسترجاع الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية، أو تجديد دين الأمة، وكلها أسماء لمسمىً واحد! ليست وهمية أو افتراضية! إنَّ محلها أفراد الأمة، الذين تصلح الأمة بصلاحهم. والقائمون بتلك المهمة، هم العلماء والدعاة، ولا أحد سوى أولئك. ويجب أن تتلاشى من حياة الأمة ألقابٌ وأوصافٌ من مثل منظر ومفكر ومحلل، وإن هي إلا أسماء سماها الغربيون، لأنّ السقف عندهم الفكر، والمسلمون عندهم منحة الرحمن، الوحيان! وتلقف المستغربون من أبناء جلدتنا تلك الألقاب وظنوها كنزاً، وتَسَمَّوا بها فخورين، وهي عندهم فوق الوحي، ولست بمتجنٍ على أحد. فلقد كتب أحد المنظرين على (الفيس)، حين سئل عن الألقاب الثلاثة المفكر والداعية والعالم، فقال: (أدناها الداعية، وأوسطها العالم، وأعلاها المفكر)، ولا غرابة في ذلك، لأنّه مفكر!! وإنّ أولئك المستغربين قد أسهموا في سقوط الأمة أكثر من إسهامهم في خلاصها، لأنّهم يصدرون عن العقل والواقع والهوى، وتتخطفهم مشارب شتى، وليس لهم منهج، وإلا لما رضوا بتلك المسميات الوافدة، ولو كانوا على منهج الحق لاختاروا الشرف العظيم أن يلقبوا دعاة أو علماء (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). والداعية مكانه الصحيح مع الناس وبينهم، وليس في صالونات السياسة، وعلى كراسي الوزارة، أو المجالس النيابية، أو مشاركا في النشاطات والاجتماعات الحزبية، ولو كانت التسمية (حزبا إسلاميا).
إنّ غياب الأمة، أو غثائيتها، أو انكفاء دينها، غياب لأكبر أهداف المسلمين على هذه الأرض، وهو القيام بعمارتها كما أراد لهم ربهم، وما من مشكلة صغيرة أو كبيرة في حياة المسلمين، على كل الأصعدة، إلا وغيابُ الأمة سببٌ رئيس في ذلك. وإنّ الأمة إذا غابت لا يعوض غيابها لا الدولة، ولا الحكام، ولا الأحزاب، ولا المؤسسات الدينية بمشايخها وعلمائها، ولا الإسلام السياسي المنظم وقادته، بل كل أولئك قد يكونون، بواقعهم المريض بسبب غياب الأمة، معيقين، أو مؤثرين في الاتجاه المضاد لاسترجاع الأمة!
والنظر الثاقب في الحياة الإسلامية المعاصرة يوضح ذلك. وأكتفي بالقول: إنّ غياب الأمة، غيابٌ للدولة المسلمة، والحاكم المسلم، وبهما يقوم أمرُ المسلمين ويَرتقي، وكم من الأهداف والمصالح يُعطَّلُ بغياب تلك الثلاثية.
ولما غابت الأمة صار المسلمون، بين أهل الأرض، في مؤخرة الركب سياسيا، وهم عالةٌ على الآخرين وتبعٌ لهم. لأنّهم لا وزن لهم ولا قيمة، وقد نال أعداؤهم منهم كل نيل، ومازالوا يخوضون معاركهم الخاسرة، ولم يحرزوا نصرا واحدا حقيقيا، إلا بالأماني والادعاء. وفي الاقتصاد هم أسرى نظام اقتصاد عالمي لا يعرف الحلال والحرام، يحركه الجشع الرأسمالي. وقد استَخْذَى المسلمون ونخبُهم، إلى حَدِّ أنّنا بتنا نراهم بدلاً عن التوافر على عملٍ دؤوبٍ، لإيجاد نظام اقتصادي إسلامي، نسمع من بعض النخب مقولة (وهل يقوم اقتصاد بلا ربا!؟( وصار التساهل في أمر الربا ديدنَ أكثر أهل الفتوى، في كل بلاد المسلمين، حتى بلاد الحرمين. وكثيرة هي القضايا المصيرية الغائبة لغياب الأمة. فلنرفع عقيرتنا قائلين: إنّ الهَمَّ الذي يجب أن يسكن قلب كل مسلم اليوم أنّ الأمة غائبة فكيف تسترجع؟ أو غثائية فكيف تفعل؟ أو لا دين لها فكيف يجدد دينها؟ والحلول واحدة مادمنا اتفقنا أنّ العبارات الثلاث السابقة مؤداها واحد لأنّها أسماء لمسمى واحد، بل للمشكلة المركزية الواحدة لأمة الإسلام.
ولابد من أن نعيد القول: إنّنا إذا استبعدنا المفهوم العددي للأمة، الذي له استعمالات لا تتعلق ببحثنا. يكون مفهوم الأمة الذي ينسجم مع الأحاديث النبوية التي ذكرناها أكثر من مرة، أنّ الأمة قبل كل شيء كيانٌ وجماعةٌ (ويدُ الله على الجماعة). ولا يعترف الإسلام والمسلمون بأي جماعة سوى الأمة الواحدة، وأنّ للأمة جماعةً واحدة وليس جماعات، ودولةً واحدة وليس دولاً، وإماماً واحداً وليس أئمة. وتلك هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه: (إلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وحين قال حذيفة: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَا إِمَامٌ)، أجاب النبي عليه الصلاة والسلام: (فاعتزل تلك الفرق كلها، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ كَذَلِكَ) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونستطيع أن نستنبط لمفهوم الأمة وحضورها وغيابها المعنوي والشرعي والذي يتماشى مع الواقع المعاش في واقع المسلمين. مفهوما آخر فنقول: إنّ حضور الأمة في حياة المسلمين أبعد ما يكون عن العدد، إنّما هو استحقاقهم رضا اللهِ عنهم، وعنايتَه بهم، ورعايتَه لهم، وتوفيقَه وتأييدَه ونصرَه لهم، حينما يستقيمون على الطريقة، فيقيمُ ربهم لهم الوزن الكبير، والشأن العظيم بين دول الأرض، فيعيشون في جوار ربهم وكنفه، وتأتيهم دنياهم مُذللةً بأمر ربهم، هو مولاهم الحقّ، إن قوتلوا قاتل عنهم، وإن هددوا دافع عنهم، يكفيهم كلَّ الأعداء ويذلل لهم كلَّ صعب، هو معهم دوما ولا يكلهم إلى أنفسهم طرفة عين. هذا هو حضور الأمة حقيقة، ولا شيء سواه. وضده ما عليه كل المسلمين في شتى ديارهم، فلا وزنَ ولا شأنَ ولا توفيقَ ولا تأييدَ ولا نصرَ ولا تمكين. وإن شئنا تفسيرا نبوياً لغياب الأمة بشيء ثابتٍ شرعاً بالدليل، وإن كنا لا نستطيع تفسير كيفيته بالعقل، فقوله عليه الصلاة والسلام: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)، وكما كان ربه تبارك وتعالى ينصره بالرعب على أعدائه، فلا زال ربه قادراً على أن ينصر أتباعه، والقائمين بسنته وهديه على أعدائه وأعدائهم من بعده.
وللطرفة، وللحقيقة الجادة أقول: كنت ذات مرة أشرح موضوع غياب الأمة وحضورها، وكنت لازلت في الشام، فقال أحد الحاضرين إنّ الفكرة تحتاج إلى مزيد من التقريب من الأفهام. فقلت ألا تتذكرون مصطلحا عسكريا تردد في سوريا يوم كانت المعارضة تطالب أمريكا والمجتمع الدولي بإقامة منطقة حظر جوي فوق سوريا؟ فيحول ذلك الحظر دون اقتراب أي طائرة من أي جهة في العالم، ويشل أيضا حركة الطيران السوري داخل سوريا. قلت: إذا كانت التكنولوجيا التي اخترعها البشر تستطيع من بعيد أن تنجز مثل ذلك الإنجاز الدفاعي العسكري، ولله المثل الأعلى، أليس ربكم بقادر أن يحمي المسلمين في كل أرض من فوقهم ومن تحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فلا ينالهم عدو ولا يصل إليهم مكروه، إن صدقوا ما عاهدوا الله عليه؟ بلى والله، إنّه أهل ذلك والقادر عليه، تبارك ذا الجلال والإكرام. وإذا تولوا تركهم مكشوفين من كل جهة، وسلط عليهم ما شاء من مخلوقاته. (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ).
ألا نقول في نهاية هذه الفقرة التي طالت، لقد تبلور السؤال المركزي الفاصل الثاني: ألم يأن للمسلمين ولنخبهم خاصة، أن يعتقدوا أنَّ غيابَ الأمةِ أو غثائيتَها، أو ذهابَ دينِها، أمرٌ واقعٌ، وليس مجازيا أو افتراضيا، (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)، وهو أمُّ المشكلات في حياة المسلمين المعاصرة، ومصدر هوانهم على الله وعلى الناس، وهو السبب في كل إخفاق وضياع، ولا يجدي أي عمل إصلاحي والأمة غائبة! وهو باب الإصلاح الوحيد الذي يجب أن يلج منه المصلحون الصادقون الناصحون، لا من اعتادوا ركوب موجات كل تغيير، لتحقيق النجومية، ولا شيء غير ذلك؟!
السؤال المركزي الثالث … إنّ الطريق إلى تحقيق ذلك الانجاز الاستراتيجي العظيم، أعني استرجاع الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية، أو تجديد دين الأمة الإسلامية، لا يكون ولن يكون إلا إسلاميا.
فالتوسل إلى الأهداف الإسلامية، لا يتحقق إلا عن طريق الوسائل الإسلامية. أما الخلط الذي وجدناه في التجربة السورية، وهي تجربة مريرة وصادمة، ولكنّها غنية بالعبر لمن أراد أن يعتبر، وبالعلم لمن أراد أن يتعلم! وقد اختلطت فيها كل الأوراق، فلم يعد يتميز الصادق من الكاذب، والأصيل من العميل، والمسلم من العلماني! بل قد رأينا وسمعنا، وكل ذلك موثق، من يزعمون أنفسهم رواد العمل الإسلامي (التائه)، يتحولون إلى دعاة علمانيين يُنَظِّرون للديموقراطية، ويعلنون احترامهم لصناديق الاقتراع، ومن تأتي به تلك الصناديق! بل صرح بعضهم جهارا أنّ السعي يجب أن يكون لإقامة الدولة المدنية في سوريا، وكأنّهم لم يقرؤوا شيئا من دين الإسلام، في يوم من الأيام!
إنّ تحقيق هدف استرجاع الأمة الغائبة له طريقان: دعوة إلى الله على بصيرة، يسايرها جنبا إلى جنب، تصفية وتربية للنفوس (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ). وفهم هذا الطرح والقناعة بالعمل به، يستلزم أن يُلقيَ العاملون المخلصون، على طريق الإصلاح الإسلامي، وراء ظهورهم كل الغثاء الذي ألقاه منظرو السياسة، وأهل الحداثة، وعبيد الفكر الغربي الديموقراطي، في مستنقع العمل السياسي المتمرد، برغم ما رفعه بعضهم من لافتات إسلامية زائفة!
ولازال بين نخب المسلمين وبين هذا المشروع الوجودي الكبيرهوة كبيرة، وكثيرون يرون فكرة غياب الأمة، وما يترتب على ذلك من شرور في واقع المسلمين، فكرة خيالية! بل إنّ أحد المفكرين كتب يتهم دعاة استرجاع الأمة بأنّهم يريدون التهرب من الأعمال الإصلاحية، متسترين بهذا الهدف المثالي غير القابل للتحقيق، وذلك مبلغه من العلم! وسبب ذلك أنّهم رُبوا على الاستعجال، كما منّاهم الذين رَبَّوْهم بشهود لحظات النصر والنشوة، حين يرون نتائج جهودهم في العمل! فلو علم أنّ النتيجة تحتاج حتى تتحقق إلى عشر سنين، لأعرض ونأى بجانبه! وكأنّ هؤلاء ومن ربَّوهم لم يقرؤوا في كتاب الله أنّ الله أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنّه قد يموت قبل أن يرى ثمار أعماله، وهذه هي طبيعة العمل لله، فإنّ العامل ينتظر النتيجة الأخروية وليس الدنيوية (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
ومن يقرأ كتاب الشيخ محمد قطب رحمه الله (واقعنا المعاصر)، يلاحظ تردد كلمة (المتعجلين) بشكل ملحوظ في الكتاب، يرافقها نقد كبير. ومشكلةُ استعجالِ النتائج، من سلبيات ومزالق التربية عند أهل الإسلام السياسي. وإنّ مما يجهض العمل الإسلامي أن تكون عَينا العامل وقلبُه معلقةً بالنتائج، وتراه في قلقِ دائمِ من أجلها، ويصبح هاجس النتيجة عِبْئاً على المنهج. بمعنى أنّ تطبيق المنهج الصحيح لا يُعَوِّلُ على الوقت بقدر ما يُعوِّل ويؤكد على صحة ودقة الأداء، عن طريق التزام المنهج، ودقة تطبيقه! وتظهر النتيجة السيئة لاختلال التوازن بين الواجبات، عند بعض العاملين وقد يكونون في موقع قيادي، أنّ الحرص على استعجال النتائج قد يُعالَج بِقَضْم بعض توصيات المنهج، وقد يحدث ذلك بسبب تململ بعض العاملين، بسبب استطوال الفرحة بالظفر، وتكون النتيجة إجهاض العمل. وكم حدث هذا مراتٍ ومرات، وأدى إلى كوارث!
ولدى مناقشاتي مع بعض الناس حول موضوع؛ أن لا يصبح هاجس النتيجة عبئاً على المنهج وعلى العامل، كان ينبري بعضهم ليناقش بحدة أنّ العامل الذي لا يهتم بالنتائج يكون مستهتراً! وكنت أجيب أنّ الخطأ يقع حينما لا نميز بين العمل الإسلامي وأي عملٍ آخر. إنّ العامل للإسلام قد كُفي التنظير وكُفي المنهج، وكثير من الخطأ في أي عمل يأتي من هذين. ولما كان العامل للإسلام مكفياً في الأمرين، لأنّه يعمل بمنهج أنزل من فوق سبع سماوات لا خطأ فيه، وإنّما يأتي الخطأ من سوء العمل والتطبيق، وهذه مسؤولية العامل. والعامل للإسلام يكون مطمئنا إلى سلامة المنهج، وإذا أحسن عمله، نال أمله، وجاءت النتائج طيبة. من هنا تأتي للعامل للإسلام الطمأنينة على النتائج، مادام يعلم ماذا قدمت يداه.
إنّنا نكثر ونحن نتكلم عن المشروع المركزي العظيم، استرجاع الأمة الغائبة، أو تفعيل الأمة الغثائية، أو تجديد دين الأمة، نكثر من القول أنّ الطريق إلى تحقيق ذلك الهدف ذو مسارين؛ دعوة على بصيرة، وتصفية وتربية، وكل عمل دعوي، تربوي وتعليمي، يحتاج إلى جُهدٍ سديدٍ ووقتٍ مديدٍ، ولا يقبل الاختزال والاختصار. والأهداف الكبرى لا تُتْرك لرغبات الأصاغر وأهوائهم، إنّما هي للأكابر وعلمهم وتجاربهم وتمثلهم لمسؤولية العمل أمام الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في الحديث الصحيح (البركة مع أكابركم). وقد قال المناوي في فيض القدير، في شرح الحديث: (المجربين للأمور المحافظين على تكثير الأجور فجالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم).
ولنحاول الآن تكثيف موضوع السؤال الثالث في صيغة سؤال، فيضاف إلى سابقيه ليطرح على نخب المسلمين: هل من الإسلام في شيء، وهل العقل المسلم السوي، يقبل أن تتحول الأهداف الإسلامية الكبرى التي تحتاج أدق المعالجات الشرعية التي ذُكرتْ، فتمسخ إلى حلول علمانية سياسية تطبقها كل دول الأرض الكافرة، كالديموقراطية، وصناديق الاقتراع وغيرها؟
وهل يغلب النظام العالمي بأنظمته السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، ما عند المسلمين من نظام حياة منزل من فوق سبع سماوات، عن طريق العلمانيين والعقلانيين المندسين بين الصفوف، وغياب العلماء والدعاة على منهج (ما أنا عليه وأصحابي)؟!
وهل من المستحيل أن يتنادى بعض العلماء في الدين والإقتصاد، ليتوافروا على وضع نظام اقتصادي يراعي أمور الحلال والحرام، في المعاملات المالية، فينقذ الملايين من المسلين من ارتكاب أكل الربا، وهو من أشد المحرمات في دين الإسلام، (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) أم أنّه العَجْز؟
محاولة صادقة، إن شاء الله، وهو أعلم بما تُكِنُّهُ الصدور، وتُعقد عليه النوايا، لإبراء الذمة، وإقامة الحجة. بعد أن غابت الأمة، وصار المسلمون في حالٍ لا يحسدون عليها، هانوا على الله، فهانوا على الناس، وتقطعت بهم الأسباب، وصار أمرهم فرطا!
كالعِيسِ في البيداء يَقتلُها الظَّما*** والماءُ فوق ظُهورها مَحْمولُ
إنّ أبناء الإسلام، هم الذين سيندبون أنفسهم، لمعالجة الحال التي آلوا إليها، لبعدهم عن الوحيين، وعن الموقع الذي أراد الله لهم أن يتبوَّأوه بين أهل الأرض مُتَصَدِّرينَ ومُتَمَيِّزين بالوحي الذي خصهم به دون سائر الناس، يَرودُهُم على ذلك الطريق الغرباء من المسلمين، فلم يحقق الأهدافَ النبيلة، والنصرَ المؤزَّر، في سيَر التاريخ على الأرض، إلا الغرباءُ المستضعفون، الذين صدقوا ماعاهدو اللهَ عليه، ولنقرأ فواتح سورة القصص (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ).
والحمد لله أولاً وآخراً