من قراءات لي، وقفت على عبارة أعجبتني وهي التي تُرى في العنوان. وزاد من إعجابي بها أنّي رأيتها منسوبة إلى الشاطبي، إمام الأندلس. فأزمعت اتخاذها عنوانا لموضوع أريد كتابته عن الوحي والهوى، وقد فعلت، بتوفيق من الله. ولما آلَ الموضوع إلى ابني عبد الرحمن، رضي الله عنه وأرضاه، للمراجعة الأخيرة والنشر. تبين له أن نسبة القاعدة للشاطبي لا تثبت. ولما كان في كتاب الموافقات كلام رائع عن الوحي والهوى، يحوم حول هذا المعنى، قررت إبقاء العنوان، مع الإشارة إلى أنّ نسبة العبارة للشاطبي لا تصح، من باب الأمانة العلمية، وإن كانت في ذاتها غاية في الصحة والسداد، وسيتبين ذلك من ما جاء في البحث.
العنوان قاعدة عظيمة لضبط التدين عند بني البشر. وإن غابت هذه القاعدة صار الدين لغير الله، كيف لا، وهوى النفوس، وهو أرضي النزعة، يشارك وحي السماء في توجيه البشر .. هي حالة من الشرك الأكبر لكنّها خفيّةٌ. وغياب هذه القاعدة له وبالٌ آخر لا يقل خطورةً عن الأول، المذكور قبلاً، في أن يصير الدين لغير الله! وأما الوبال الثاني فهو أن يفقد المسلمون المعيارَ الرئيسَ في التَّقْويم، إنْ تقويمَ المبادئ، وإنْ تقويمَ الأشخاص.
ولما كانت القاعدة تقول إنّ الضدين لا يجتمعان، نستخلص منها أن لا يجتمع الوحي والهوى، ولا يجتمع الحق والباطل، ولا يجتمع الخطأ والصواب. والذي هو أعجب من العجب، أن نجد عند بعض المسلمين اليوم بل عند أكثرهم، اجتماع الضدين؛ الوحي والهوى، ولو سُئِل ما السبب؟ لم نجد جوابا صوابا إلا كلمة الهوى! لأنّ الهوى مُعظَّمٌ لدى بعض النفوس البشرية، ولقد حملت لنا هذا المعنى آيةٌ كريمة في كتاب الله (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)، وهل من تعظيم للهوى أعظم من أن يصير إلهاً يعبده صاحبه من دون الله؟!
وحتى لا تستغرب بعض العقول هذه العبارة، سآتي بدليل شرعي: عن عدي بن حاتم قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: (يا عدي اطرح هذا الوثن). وسمعته يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، فقلت: إنّا لسنا نعبدهم؟! قال: (أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه، فتلك عِبادتهم)). فلعل المراد صار واضحا. وكم يُحل الهوى حراماً، ويُحرم حلالاً، لأصحابه فيطيعونه! ومادام الهوى بهذه المثابة من منافسة الوحي، فلا بد من زيادة بحث في الهوى.
ولا أريد أن أعرف الهوى تعريفا لغويا، أرجع فيه إلى قواميس اللغة، لأنّي أريد تقصي الاستعمال الشرعي لمفردة الهوى، فآثرت تعريفها من خلال استعمالها في سياق النصوص الشرعية، وسأختار نصوصا محدودة، تجنبا للإطالة، من الوحيين استعملت فيها كلمة الهوى، لتقصي استعمال هذه المفردة:
. (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا).
. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى).
. (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).
. (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ).
. (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ).
وقد خصَّ الله تبارك وتعالى بعض أنبيائه بخطابات يحذرهم فيها من الهوى:
. (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إ ِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
. (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ).
. (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
وتؤكد آيات في كتاب الله أنّ ترك الهوى طريق إلى الجنة: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
وجاء في السنة الصحيحة أحاديث تتعلق بالهوى:
. عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى).
. عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيخرج في أمَّتي أقوامٌ تتجارى بهِم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، ولا يبقى منه عرقٌ ولا مِفْصَل إلا دخله).وما أظن النصوص السابقة إلا واضحةً تماماً فلا حاجة للشرح.
وأما نصوص الشرع الأخرى، فكلها جاءت في ذم الهوى، وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (ما ذكر اللهُ الهوى في كتابه إلا ذمَّه). وثبت (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ هَوَانَا عَلَى هَوَاكُمْ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَوَى كُلُّهُ ضَلَالَةٌ). وقال الشاطبي في الموافقات، وهو يتحدث عن آيتي النجم: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى): (فَقَدْ حَصَرَ الْأَمْرَ فِي شَيْئَيْنِ: الْوَحْيِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ، وَالْهَوَى، فَلَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُمَا مُتَضَادَّانِ، وَحِينَ تَعَيَّنَ الْحَقُّ فِي الْوَحْيِ توجَّه لِلْهَوَى ضِدَّهُ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى مُضَادٌّ لِلْحَقِّ). ويقول أيضاً: (ولعل الفِرق الضالة المذكورة في الحديث (يعني حديث الافتراق) أصل ابتداعها اتباع أهوائها دون توخِّي مقاصد الشرع).
ويقول ابن رجب: (والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنه الميل إلى خلاف الحق”، ثم قال: “وقد يطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقًا). ويقول أحدهم سمعت ابراهيم بن أدهم يقول: (الْهَوَى يُرْدِي وَخَوْفُ اللهِ يَشْفِي، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يُزِيلُ عَنْ قَلْبِكَ هَوَاكَ، إِذَا خِفْتَ مَنْ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاكَ). وكل هذه النقول السابقة توافق مجموع الآيات التي ذُكرتْ عن الهوى قبلاً.
وأولى الخلق أن يكون منزهاً عن سلطان الهوى نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى في وصف نبيه (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى). فما ينطق إلا بالحق الذي يوحى إليه، وهو عليه الصلاة والسلام مُبَرَّءٌ من كل ميل إلى ما يخالف الوحي الذي ائتمنه الله تبارك وتعالى عليه، فتبارك الله أحسن القائلين.
وإنّ بني آدم الذين شاءهم الله خلائف في الأرض، لعمارتها بالحق الذي علمه الله للبشر، عن طريق كتابٍ منزلٍ، ونبيٍ مرسلٍ، حياتُهُم على الأرض نهباً بين وحيٍ وهوىً، والفوز والفلاح في الآخرة معقودٌ باختيار العبد المخلوق بينهما (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو: فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها).
بقيت عندي آية كريمة هي التي سيكون لها بإذن الله وتوفيقه، النصيبُ الأوفى مما يعين الله عليه، في هذا البحث: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). وعندما كنت أتلو تلك الآية الكريمة (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا…) منذ سنين عددا، وجدتني مشدوداً إلى إطالة الوقوف معها، فاطلعت على معظم التفاسير، ووجدتهم اختصروا القول في تفسيرها، لكونها صريحة واضحة. وانتهيت، مع نفسي، إلى أنّ عندي زيادة على ما في كتب التفسير، ليس زيادة في معنىً سكت عنه المفسرون، لكنْ زيادةٌ تتناول أسلوب تطبيق الآية عمليا. وقد استقرأت من الآية الكريمة أنّها تشكل أعظم وأصرح وأخطر وأخصر خطابٍ من الله إلى الناس، وإنّي أسميتها آية المفاصلة بامتياز! أمر الله نبيه فيها بالمفاصلة مع المخالفين، وأمر كل المسلمين بالمفاصلة، أيضاً، ومعلوم في الأصول أنّ كل خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام خطاب لكل فرد في الأمة، ما لم توجد قرينة على الخصوصية، ولا قرينة هنا.
وماذا نقصد بكلمة المفاصلة، وما صلة الآية بذلك؟
المفاصلة مأخوذة من الفصل، وجاء في كتاب الله وصفٌ لكتاب الله (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ). وفسر الشيخ السعدي الآية قائلاً: (إنّه (يعني القرآن) حقٌ وصدقٌ بينٌ واضحٌ، وهو القول الذي يفصل بين الطوائف والمقالات، وتنفصل به الخصومات). وأرى أنَّ الإسهاب في شرح لفظة وفكرة المفاصلة ضروري جداً، في ما نحن في صدده، لكي تأخذ هذه الآية الجامعة الموقع الذي أراده الله لها في حياة المسلمين الدينية. ولنبدأ في تفسير خطاب الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية الجامعة. إنّ مفهوم المفاصلة في الآية الكريمة يتجسد في قول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: إنّ من لا يستجيب لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم للناس إلى دين الإسلام بكل مفرداته، فهو لازال في موقعه الأول مقيما على كفره، وإن كانت لديه أعذارٌ في تأخير الاستجابة والتلكُّؤُ، بزعمه!
وقد بدا لي هذا الفهم، وانقدح في ذهني أنّ قوله تعالى لنبيه (فَاعْلَمْ) هي توجيه لنبيه أن يفاصل، ومعنى يفاصل هنا أن يترك المعرضين وغير المستجيبين لاختيارهم، وهو الإعراض وعدم الاستجابة، لأنّهم فعلوا ذلك بفعل سلطان الهوى واستحواذه عليهم، وليس لأعذار وتعليلات يقدمونها للنبي عليه الصلاة والسلام، تبريرا لتأخرهم وتلكُّئِهم في الاستجابة. وقد يقبلها منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصاً منه على ألا يُفَوِّت عليهم فرصة الدخول في الإسلام! وما هي في حقيقتها إلا مناورات لكسب الوقت، وجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مواقف مهادنة (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ). والله يعلم ما في قلوبهم، وأنّها لا تحمل نية صادقة في الدخول في الإسلام. وقد حذر الله نبيه من ذلك في قوله (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ). وللرسول صلوات الله وسلامه عليه مواقف معروفة مع المشركين، من هذا القبيل. منها ما جاء في صحيح مسلم: عَنْ سَعْدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي وَقَاصٍّ قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ستة نفر فقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطرد هؤلاء لا يجترءون عَلَيْنَا قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ، وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسْمَيْهِمَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ما يشاء اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)).
وذكر ابن كثير رواية عند ابن جرير الطبري أطول من هذه، ولم أقف على قول فصل في سندها، لكنّي ذكرتها لكون رواية مسلم تشهد لبعض فقراتها: عَنْ خَبَّابٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيّ)ِ قَالَ: (جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فَوَجَدُوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ، قَاعِدًا فِي نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقَّرُوهُمْ فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ وَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وفود العرب تأتيك فنستحي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ، قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالُوا: فاكتب لنا عليك كتابا، قال: فدعا بصحيفة وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية، فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصحيفة من يده، ثُمَّ دَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ).
وقصة الأعمى في سورة (عبس) واضحة ولا تحتاج تفسيرا في أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عن الأعمى وتلهى عنه وهو مشغول بكلام مع أحد الكفار، فعاتبه ربه في ذلك. ولا شك أنّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان لمصلحة إسلام الكافر، وليس ازدراء للأعمى المسلم.
أعود قليلا إلى الوراء لأذكر القارئ بأصل الفكرة التي نحن في صددها. قلتُ، وأنا أشرح فهمي لآية (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ…) إنّ النبي صلى الله عليه وسلم حينما لا يستجيب له بعض المدعوين، قد يبرروا تأخرهم ببعض تبريرات، وقد يقبلها منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصاً منه على ألا يُفَوِّت عليهم فرصة الدخول في الإسلام، بل في محاولة لإعانتهم على أنفسهم، في لحظة مفارقة دين الآباء والأجداد لاعتناق الدين الجديد. لكنّ الله أراد لنبيه مفاصلة أولئك الذين يريدون كسب الوقت، لا لصالح الدخول في الإسلام، بل لتدبير مكيدة لنبي الإسلام ومن معه! فجاءت لفظة (فَاعْلَمْ) في الآية.
ولقد تبين لنا، أنَّ الآية التي نحن في صددها، نص قاطع في أنّ مكر الكفار قد يغيب عن علمه البشري، لكنَّ عالم الغيب والشهادة يُعلمه أنّ مجرد الإعراض من أهل الكفر عن الاستجابة له دليل استجابتهم لهوى أنفسهم في البقاء على كفرهم، ويترتب على ذلك المفاصلة الفورية لأولئك، حتى لا يُدخلوا نبي الله عليه الصلاة والسلام في دوامة كسب الوقت والمناورات! وبكلمات أخر، إنّ الله تبارك وتعالى يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك مع هؤلاء المعرضين أو غير المستجيبن، اجتهاده البشري القائم على الحرص على تسهيل استجابتهم، وتعجيل إسلامهم، وتذليل العوائق، لعلم الله، في أنّ مُجرَّد الإعراض عن الحق هو رفض له، والحق أسمى من أن يُسْتَجْدى من المترددين معه!
ولهذا الحسم، ولتلك المفاصلة، نظائر في كتاب الله، فجزاء الإعراض والصدود عن الحق، عقوبةٌ من جنس العمل، وهي إعراضُ الله عمن ارتكب ذلك، وأمر نبيه أن يتركه لاختياره وهواه. وللشيخ السعدي كلام طيب يوضح الفكرة، في تفسير قول الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). يقول الشيخ السعدي في التفسير: (أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية. {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلا أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله. كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}).
وننتقل الآن إلى مرحلة ثانية، ولعلها بيت القصيد، في أن ننقل تلك المفاصلة التي أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يطبقها مع المعرضين المتلكئين في الاستجابة له، إلى كل مسلم عامة، وإلى من وفقهم الله تبارك وتعالى إلى اتباع منهج (ما أناعليه وأصحابي) وهم يقومون بواجب الدعوة إلى الله على بصيرة، وبخاصة ونحن نعيش مرحلة ديدن الناس فيها شحٌ مطاعٌ، وهوىً متبعٌ، وإعجابُ كلٍ برأيه. وذلك واجب على كل مسلم من وجهين؛ الأول أنّ ما يؤمر به النبي، من ربه، هو أمرٌ لكل مسلم، ومن الوجه الثاني، فإنّ الله خاطب الناس بقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). وما أحوج المسلمين اليوم إلى المفاصلة في دينهم، وقد تمادوا جدا في المجاملة والمسايرة في أمور الدين، ومخالفة الوحيين، إرضاء أو استرضاء للمخالفين، وهذه الجناية الكبيرة تعصب برؤوس الكبار والنخب قبل العوام. ولابد أن نعلم يقينا أنّ المفاصلة في الدين هي التي ستوصل المسلمين إلى ما أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بتحقيقه في أكثر من حديث وأكتفي بحديثين:
الأول: (إنَّها ستكونُ فتنةٌ. فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟! أو كيف نصنعُ؟ قال: ترجعون إلى أمْرِكم الأوَّلِ).
والثاني: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
ولنؤكد على هاتين العبارتين في الحديثين: (ترجعون إلى أمْرِكم الأوَّلِ) و (حتى ترجعوا إلى دينكم)، والمقصود واحد. ولابد أن أشير إلى أمر هام، وثيق الاتصال بمشروعنا الاستراتيجي المركزي، الذي لا ينبغي أن يتقدمه مشرع ولا أن يسبق همَّه همٌ، ألا وهو استرجاع الأمة الغائبة، وما أكثر ما قلت وكتبت، أنّ الذي غيَّبَ الأمةَ بعدُ المسلمين عن الوحيين، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا، وما يسترجعها إلا ردُّ المسلمين إلى الوحيين، وهذا ما جاء في الحديثين السابقين، والمفاصلة التي مازلنا نتحدث عنها، بند أساسي لتحقيق ذلك.
والآن، ما هي المفاصلة بمعناها الشرعي والتطبيقي؟
أولاً: لا زلت أُبدئُ وأعيد، ولا أملُّ، وأقول: ما أحوج المسلمين إلى المفاصلة في (زمن غربة الدين)! ومن هم الغرباء اليوم، إلا أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي)؟! فهم أحق بالمفاصلة، وهم أهلها. وعلامَ يفاصلون؟ إنّهم يفاصلون على أصل واحد، وهو الوحيان. فلْيَتعلَّم أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) أنّهم لا ينبغي أن يدخلوا مع أي مخالف في تفصيلات ومفردات الاختلاف، فذلك إضاعة للوقت بلا جدوى ولا ثمرة. والواجب على أهل الحق، بادئ ذي بدء، أن يضعوا المخالف أمام مسؤوليته الكبيرة، ومخالفته الشنيعة، في أنّه فارق الوحي إلى الهوى، وأقوى دليل على ذلك، وأشد إدانة، الآية التي نحن في صددها (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). وكم أضاع المسلمون من أوقات يوم فتحوا باب الحوار على مصراعيه فلم يحصدوا إلا مزيدا من تعميق الخلاف، وشدة التعصب له من الأطراف المخالفة. وأضرب مثلا من واقع التاريخ العلمي للمسلمين. لقد دخل المسلمون في مناظرات وجدال مع الأشاعرة حين ظهروا بعقيدتهم التي فارقوا فيها ما كان عليه النبي وأصحابه، وأهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، وكان الخلاف في أصول العقيدة والتوحيد، وفي أسماء الله وصفاته، وهل هي على الحقيقة أم المجاز؟ وقد أُلِّفت كتبٌ عديدة، في تأكيد عقيدة المسلمين الصحيحة، القائمة على منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، لتِبيان مخالفات الأشاعرة، ولم يظهر أي أثر لتغيير عند المخالفين! بل سجل التاريخ العلمي حادثة تشكل تجسيدا فاضحا للتعصب عند الفرق المخالفة! لقد منّ الله على أبي الحسن الأشعري بهداية إلى الحق، فألف كتابا في تراجعه عن المذهب الأشعري والعودة إلى العقيدة الصحيحة، سماه (الإبانة عن أصول الديانة)، ومن أوضح وأصرح عباراته في ذلك الكتاب، قوله: (الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله تعالى وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون) وذكرُه للإمام أحمد دون غيره من الأئمة، لأنّ الإمام أحمد وعلماء الحنابلة هم وحدهم الذين تصدوا للأشاعرة. ولكن الأشاعرة، إلا من رحم الله، أصروا على تعصبهم للباطل، حتى إنّ بعض رؤوسهم قالوا: إنّ كتاب الإبانة مفترىً على أبي الحسن الأشعري، ولا علاقة له به، وإنّ الأشاعرة لم ولن يتغيروا! وألفت في ذلك كتب ومن جملة ما قيل في نسف كتاب الإبانة تضليلاً: (إنّ أبا الحسن كتب الكتاب تقية تحت وطأة تهديد سنابك خيول الحنابلة). ولولا خشية الإطالة، لتكلمت أكثر في موضوع كتاب الإبانة، ولجئت بنقول تثبت بطلان دعوى نفي صلة الكتاب بالأشعري، لكي يترك المتعصبون غلوهم، ويرجع الشاردون عن الوحيين لِيَعبُّوا من معينهما ويفارقوا علم الكلام وأهله. وكتب كثير من علماء السنة ردودا على مزاعم الأشاعرة، وعلى رأس أولئك ابن تيمية.
ومما يعجب له المرء، أن نلاحظ أنّ كرَّ الجديدين جعل أصوات الإصلاح في مجتمعات المسلمين اليوم تخفت، وكأنّ أهل الحق هادنوا أهل الباطل، لكنّ الحقيقة أنّه لا وجود للمهادنة، لأنّ أهل الحق لا يهادِنون، ولكنّ الباطل وأهله انتفشوا في فترات مضت وطال أمد الانتفاش، وترتب على ذلك ظهور مرحلة غربة الدين، بسبب انتشار الفرق الناكبة عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وصارت تمثل الكثرة في مجتمعات المسلمين، ولنعلم أنّ الله ذم الكثرة في قوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). يوضح الفكرة كلام النبي صلى الله عليه وسلم في وصفه للغرباء زمن الغربة (ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، منْ يعصيهم أكثر ممن يطيعهم). ولعل هذه الحال الراكدة تعقبها الانطلاقة الكبرى في تاريخ المسلمين فتتحقق الآمال الشاردة، وتسود الأحوال الواعدة. وكل كلامنا، وكل ما نأتي ونذر اليوم، مسخر بعد توفيق الله وإذنه، لتحقيق تلك الآمال والمقاصد الشرعية.
ثانياً: كيف تكون المفاصلة؟ يجب أن يعلم من البداية، أنّ المفاصلة ليست خصومةً ولا عداوةً ولا قطيعةً ولا شجاراً ولا سباباً! ومعاذ الله أن تكون المفاصلة وسيلة إلى قطيعة رحم! إنّها مفاصلة في الخلاف الديني غير المعتبر شرعا، وتبقى العلاقات الأخرى على ما هي عليه. ويحضرني الآن أثرٌ صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنّ رجلا جاء إلى ابن عمر فقال: إنّي أحبك في الله، قال: فاشهد علي أنّي أبغضك في الله! قال: ولم؟ قال: لأنك تلحن في أذانك، وتأخذ عليه أجراً). وأذكر أثراً آخر: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: (أَعْرَسْتُ فِي عَهْدِ أَبِي فَآذَنَ أَبِي النَّاسَ، وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ فِيمَنْ آذَنَّا، وَقَدْ سَتَرُوا بَيْتِي بِبِجَادٍ أَخْضَرَ، فَأَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ فَدَخَلَ فَرَآنِي قَائِمًا، فَاطَّلَعَ فَرَأَى الْبَيْتَ مُسْتَتِرًا بِبِجَادٍ أَخْضَرَ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ أَتَسْتُرُونَ الْجُدُرَ؟ قَالَ أَبِي واسْتَحْيَى: غَلَبَنَا النِّسَاءُ يَا أَبَا أَيُّوبَ، قَالَ: «مَنْ خَشِيَ أَنْ يَغْلِبَنَّهُ النِّسَاءُ فَلَمْ أَخْشَ أَنْ يَغْلِبَنَّكَ» ، ثُمَّ قَالَ: «لَا أَطْعَمُ لَكُمْ طَعَامًا وَلَا أَدْخَلُ لَكُمْ بَيْتًا» ثُمَّ خَرَجَ رَحِمَهُ اللهُ). هكذا كان صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تأخذهم في الله لومة لائم، ويتفاصلون في الدين، حين تكون مخالفة الوحي!
كيف السبيل إليها إذن؟ إنّها مفاصلة بالحكمة والموعظة الحسنة. لأنّها دعوة إلى الله، والله يقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). وزيادة في الإيضاح سنضرب الأمثال، قد يكون لصاحب المنهج الحق أخٌ وليكن شقيقاً، أو قريباً، أو جاراً، ينتمي إلى إحدى الفرق المفارقة لمنهج (ما أنا عليه وأصحابي)، ولتكن صوفية أو أشعرية أو قرآنية. فنقول للأخ صاحب منهج (ما أناعليه وأصحابي) إجلس مع هذا الشخص، وقل له بهدوء أنّكما لستما متفقين في انتمائكما الديني، فإنّكما بين أشعري وصاحب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، والفرق كبير، فمن يقول إنّ الله في السماء كما قال عن نفسه (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)، وأكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، أشهرها حديث الجارية في صحيح مسلم، وهو حديث طويل أُثْبِتُّ هنا الجزء الأخير الذي يناسب الموضوع (فَقَالَ لَهَا (أَيْنَ اللَّهُ). قَالَتْ فِى السَّمَاءِ. قَالَ: (مَنْ أَنَا). قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)). والحديث كما الآية السابقة واضحان لا يحتاجان إلى شرح. والأشاعرة، يقولون: من قال إنّ الله في السماء يكفر! ويمثل هذا الحال قول الشاعر (سارتْ مُشرِّقةً وسرتُ مُغرِّباً**شتَّانَ بينَ مُشرقٍ ومُغربِ). وأفْهمْهُ بوضوح أنَّ من يَعُبُّ من الوحيين لا يمكن أن يترك ما تعلم منهما إلى قول من يقلد عقل بشرٍ مثله! ولا يمكن أن يكون بين الطرفين حوار منتج لا ختلاف مصدر التلقي بينهما. ثم اخْتمْ معه قائلاً: ها قد بينت لك الحق والواقع فأبرأت ذمتي عند الله، وأقمت الحجة عليك، وقد لا يعجبك كل ما قلت وهذا شأنك. ولكن علينا أن نتعايش بسلام وود، في باقي شؤوننا من أجل ما بيننا من أخوةٍ، وصلة وآصرة. ويبقى التواصل والحديث في كل شيء إلا الدين، من أجل أن لا تكون قطيعة، ويبقى كلُّ واحد في نظر الآخر خاطئاً!
وأما ما هو متداول بين الناس من مقولات، يسمونها أدب الحوار، والرأي والرأي الآخر، فذلك مكانه صالات السياسة، التي تُعنى بالشأن الأرضي، وليس مع ثوابت الدين وأمر السماء. وما يخلط بين الأمرين إلا جاهل أو مغرض! فلو تحاور الناس في السياسة، فمرجعيتهم أرضية من صنع عقولهم ولا إلزام! أما في الحوار الديني فالمرجعية إلى الوحيين، ومن رفضهما فليس من الله في حلٍ ولا حرمٍ! لأنَّ كل المتحاورين مأمورون أن تكون مرجعيتهم دينية، إلى ما أنزل الله، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دور للعقل في الحوار الديني. وفي الحوار الديني لا توجد تنازلات بين الأطراف، ولا يوجد التقاء في منتصف الطريق، فالدين لله تبارك وتعالى، وليس للخلق من الأمر شيء، وما عليهم إلا الالتزام والتطبيق.
ومن أسوأ ما ربيت عليه أجيال المسلمين في ثلثي القرن الماضي، مقولةٌ جاء بها الإسلام السياسي، وجعلوها قاعدة ذهبية في التعامل بين المسلمين (نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه)، ورحم الله شيخنا العثيمين لما ذكرت له قال: (بل هي قاعدة خشبية).
ثالثاً: إنّ المفاصلة على الدين، لا يقف أثرها عند المتفاصلين، ولكنّها تتعدى ذلك، لتصبح ثقافة في المجتمع الذي يكون فيه أهل الحق الذين يقومون بواجبهم الشرعي في المفاصلة! وحين تسود تلك الثقافة فإنّ حالة من التميز تظهر في المجتمع، وبالتالي يحاصر الخطأ، لأنَّ عملية المفاصلة هي في حقيقتها عمل دعوي على بصيرة، ولكنّه تطبيق عملي ولا يكتفي بالدعوة النظرية. ولما تسود تلك الثقافة، تبدأ تختفي من المجتمع المسلم ظاهرة أسميتها في بعض ما كتبتُ (إسلام الصالونات)، يلتقي الناس من كل الأطياف ويفتحون مناقشات شرعية حول مشكلات موجودة في المجتمع تنتظر الحل. ويطول النقاش لأنّ معظم الحاضرين يشتركون في الحوار، وكلٌ يدلي برأيه دون مصادمات، لأنّ الناس اتفقوا ابتداء على احترام كل ما يطرح، وفرص المشاركة متكافئة للجميع، وينتهي والمشكلة لم تحلَّ لأنّ حرص الجميع منصب على طرح كل الآراء لإثراء اللقاء، دون حمل أي همّ للوصول إلى حل. وهكذا تبقى مشكلات معلقة يزيدها الزمن تعقيدا، وتتولد من ذلك فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، لأنّه ليس في (إسلام الصالونات) مؤهلون للإصلاح، والعملية مخادعة للنفس، بعمل وجهد وهميين، لا ثمرة منهما، وتصبح المسألة أقرب إلى تزجية الوقت وإثبات الذات والثرثرة! والنتيجة سراب بقيعة!
وعودا على بدء فإنّ انتشار ثقافة المفاصلة خير علاج لهذا الواقع الإسلامي المأزوم. وإنّ المفاصلة تبين وتذكر الناس في أنّ في الإسلام نصوصا مقدسة تحسم الاختلاف بِرَدِّ التنازع إلى الله ورسوله (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) عن طريق أهل العلم وطلبته، وينتهي دور (إسلام الصالونات).
وتَصَدُّرُ الرويبضة للكلام، هو من أعراض الحالة المرضية التي تصيب الناس، حين يغيب الدين الحق عن الحياة، ولنقرأ هذا الحديث: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). وهذا العَرَضُ المَرَضِيُّ لدى المسلمين، هو من أكبر الدلائل على غياب الأمة أوغثائيتها، فلنعتبر!
رابعاً: رأيت أن أجعل خاتمة البحث، كلاما منقولا عن تفسير السعدي، لأنّي وجدته أوفى مما جاء في باقي التفاسير. يقول رحمه الله: ({فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أي: فاعلم أن تركهم اتباعك، ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه، ولا إلى هدى، وإنما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} فهذا من أضل الناس، حيث عرض عليه الهدى، والصراط المستقيم، الموصل إلى الله وإلى دار كرامته، فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء فاتبعه وترك الهدى، فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟ ولكن ظلمه وعدوانه، وعدم محبته للحق، هو الذي أوجب له: أن يبقى على ضلاله ولا يهديه الله، فلهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: الذين صار الظلم لهم وصفا والعناد لهم نعتا، جاءهم الهدى فرفضوه، وعرض لهم الهوى، فتبعوه، سدوا على أنفسهم أبواب الهداية وطرقها، وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها، فهم في غيهم وظلمهم يعمهون، وفي شقائهم وهلاكهم يترددون. وفي قوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} دليل على أن كل من لم يستجب للرسول، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول، فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب إلى هوى).
بقيت عندي فائدة لغوية حديثية تتعلق بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهديها لمن قرأ المقال: الهوى، لغةً هو ميل النفس، لكنّ استعماله في النصوص الشرعية كان بمعنى الميل إلى خلاف الدين الحق. وفي السنة حديث واحد جاء فيه لفظ الهوى بمعنى ميل النفس الإيجابي، غير المذموم شرعا، وهو في الصحيحين وغيرهما، واللفظ هنا للبخاري: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقُولُ أَتَهَبُ المَرْأَةُ نَفْسَهَا؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ) قُلْتُ: مَا أرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ). وقد جاء في البخاري (يسارع في هواك) أي: يحقق لك مرادك بلا تأخير.
والحمد لله رب العالمين