Skip to main content

شَأْنُ اللّه … إعْرِفُوهُ وَلا تَتَكلّفُوه!

By الأثنين 13 صفر 1443هـ 20-9-2021ممقالات

مقدمة
وأُفَضِّلُ أنْ أبدأ بتفسير العنوان، فإنّي قصدت أن أقول: إفهموا ما المقصودُ بشأن الله، ولكن لا تتكلفوا البحث في أسبابه وتأويلاته، بل ردوه إلى صاحبه. فالتفكر محمود في أمر، مذموم في آخر، على غرار ما جاء في الحديث الحسن (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله). وكثيرا ما قرأت في كتب العقيدة عبارةً نُسبتْ إلى بعض الصحابة، ومنهم علي رضي الله عنه في ما أذكر، أو لبعض العلماء تقول: (القدر سر الله فلا تتكلفوه)، وبالقياس أقول: (شأنُ الله، سرُّ الله فلا تتكلفوه).
وفي الإسلام أدبٌ قرآني، ينبغي التذكير به، مادمنا نتكلم في قضية تتطلب هذا الأدب. ففي سورة الكهف، بعد الحديث عن الاختلاف في عدة أهل الكهف، قال تعالى مخاطبا نبيه، ومُعَلِّماً أدبًا ينبغي التحلي به، لدى البحث في المسائل التي شاءها الله أن تبقى غير قاطعة. يقول ربنا تبارك وتعالى: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا). ويقول ابن كثير في تفسير الآية: (فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا). و(شأن الله) أحرى أنْ يُتأدَّبَ معه بمثل هذا الأدب.

تكلمت سابقا في موضوع (شأن الله)، وهو موضوع عقدي مهم، وعندي على الموقع مقالٌ مؤصلٌ في ذلك الموضوع. والآن أريد التذكير بإيجاز بهذا الموضوع، ليكون مدخلا لكلام جديد عندي يتصل (بشأن الله). كما أنّي سأعرض لبعض تطبيقات خاطئة له، عند بعض المسلمين، لضبط طريقةِ التعاطي مع بعض قضايا عقدية تواجه المسلمين، يخوضون فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير! فأقول مُذكِّراً: موضوع (شأن الله)
عظيمٌ، لأنّ الله عظيم. وقال تعالى واصفاً نفسه: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). ولابد في البداية من تحديد مفهوم عبارة (شأن الله)، وخير تفسير ما جاء به الحديث الصحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: (مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعُ قَوْمًا، وَيَضَعُ آخَرِينَ).
وضروري أنْ يُعلم أنّ كلمة (يوم) في الآية تعني كل وقت وكل لحظة، وليس الوقت الممتد من الفجر إلى الغروب. وهذا معروف في كلام العرب، ومن أمثلته في الكتاب الكريم: (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) أي حين ظعنكم، وحين إقامتكم.
وشأنه تبارك وتعالى، كما تبين من الحديث، هو أمره وأقداره، ومشيئته، وتصرفاته في الخلق والكون. وكل ذلك من الغيب، ولا سبيل إلى التعامل مع الغيب إلا بالتسليم الكامل والقبول بيقين، لأنّ الغيب فضاءٌ خارج مُتناول العقل والحواس البشرية كلها. ومن لم يُهْدَ إلى ذلك، فقد خَطِئَ طريق التوحيد الصحيح، في توحيد الله في أسمائه وصفاته.
و(شأن الله) تبارك وتعالى، لا ينبغي أنْ يُناقش، أو يكونَ موضوع حوار ونقاش، تتناوشه الآراء والاجتهادات، والأهواء، ولو بين المرء ونفسه! وأبرز ما في ذلك الخطأ أنْ يُنْسِيَ الناسَ كيف ينبغي التعامل مع الغيب، فيبدأون في إعمال عقولهم، والغيب لا يقبل مقاربة العقل له، إلا ليقول لصاحبه: هذا غيبٌ لا ينفع معه إلا التسليم. وحين يُعمِل الناسُ عقولَهم، فيتحدثون بالسبب والعلة، ويُخضعون ذاك الشأن العظيم، أعني (شأن الله) لمفاهيم عقولهم المحدودة، واستنتاجاتها الأرضية المرفوضة، يُبعدون النجعة، ويُجانبون الحقيقة، ويقعون في المحظور، بل يضلون الطريق الموصل إلى الله تبارك وتعالى. وهل من محظورٍ أكبرُ من التقحم على الشأن الإلهي بالعقل البشري؟ وما أصدقها من كلمة كنت أسمعها منذ الصغر من المسنين، الذين لم يُؤتوا علماً، لكنّهم كانوا يصدرون عن فطرهم السليمة، التي لم يُفسدها تدخل الفلسفة والعقل والجدل، يقولون: (دع الأمر لصاحب الأمر).
وعلى كل مسلم أن يدرك أنّ معنى قوله تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) تعني كل ما قد يعتري النفس البشرية من معرفة الخالق العظيم، بأسمائه وصفاته وشؤونه، عن طريق قصور في استكمال مطالب التوحيد، حينما تشرب قلوب بعض البشر الفلسفة التي عظَّمها المعتزلة، فضلوا بها وأضلوا، وصرفت العقل عن الوحي إليها، فصار العقل البشري بها نِدّاً للوحى! فالآيةُ تحمل معنى التحذير من ذلك المنزلق، وكلما شُوِّشَ الأمر على الناس، فليأووا إلى ركن التوحيد ففيه الخلاص.
ولا ينبغي أن يُناقش (الشأن الإلهي) إلا من خلال الفهم العميق والدقيق لأسماء الله وصفاته جل شأنه، فهي المرجع الوحيد لذلك، ليس إلا. أليس الله تبارك وتعالى هو القائل (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) والقائل: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ).

أحاديث توضيحية عن (شأن الله)
وسأذكر بعض الأحاديث التي تُبيِّن بوضوح (شأنَ اللهِ) تبارك وتعالى مع خلقه. ونبدأ بسيِّد الخلق محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولنقرأ خطاب الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته على بعض المشركين من العرب، وانتبِهوا لمن كان الخطاب في هذه الآيات! إنّه للعارف بربه، الطائع لأمره، المبلغ لوحيه، حامي جناب التوحيد ومعلمه للناس! إنّه رسول الله عليه الصلاة والسلام (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)، هل تغيب هذه الحقيقة التوحيدية عمن يُعلم الناس التوحيد؟! لكنَّ الله تبارك وتعالى شاء أن يُعلم الناس أنّ الرسل لا يُقبل منهم تلك التجاوزات (الافتراضية)، فكيف بمن هم دونهم في العِلم والخشية والمنزلة؟ ولنتذكر، زيادة في الإيضاح، آيات سورة الحاقة (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَفهل يَعبَثُ بالوحي من ائتمنه ربُّه عليه، وأرسله لتبليغه للناس!؟ فالأسلوب في الآيتين واحدٌ وواضح، على أنّه تعليمي وتحذيري للبشر، عن طريق التمثيل بالمعصومين من الرسل، الذين اختارهم الخالق العليم العظيم، لحمل رسالاته للخلق، وليس لتحذير الرسل المعصومين!
وفي صحيح مسلم عَنْ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ: (أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِى يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ فَإِنِّى قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ). رجلٌ جعل من عقله القاصر، وفهمه الكليل، حَكَماً على فعل الله وتدبيره، فاستحق أن لا يُبَرَّ قسمُه، وأن يُحبَط عمله، عياذاً بالله.
وامرأة يجعلها حُبُّ ابنها تقول كلمة تفرحها عن ابنها المريض، فتصبح بتلك الكلمة متأليةً على الله. ولننظر هذا الحديث: (افتقد النبي صاحبه كعباً، فقال: (مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟) قَالُوا: مَرِيضٌ، فَخَرَجَ يَمْشِي حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: (أَبْشِرْ يَا كَعْبُ) فَقَالَتْ أُمُّهُ: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ يَا كَعْبُ، فَقَالَ النَّبِيُّ: (مَنْ هَذِهِ الْمُتَأَلِّيَةُ عَلَى اللَّهِ؟) قَالَ: هِيَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (مَا يُدْرِيكِ يَا أَمَّ كَعْبٍ؟ لَعَلَّ كَعْبًا قَالَ مَا لَا يَنْفَعُهُ، أَوْ مَنَعَ مَا لَا يُغْنِيهِ)). رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أماً عاميةً من كلمة تقولها كل أم عن ولدها، وهي من التألي على الله. وأبسط تفسير للتألّي على الله، أن يقول الرجل عن الناس فلان في الجنة وفلان في النار، من غير برهان ولا دليل، والتألي على الله هو التدخل في (شأن الله).

تجاوزات في الفهم والتطبيق
ومن الناس من يستغلق عليه بعضُ ما نَزَل مِنْ عند الله، أو ما أتانا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفهم غير الصحيح ينتج عنه تطبيقٌ غير صحيح، وهذا يحدث عند أهل العلم، كما يحدث عند عوام الناس. ولن أبدأ كلامي عن زلات عوام المسلمين، فهُم جهال، وقد يُعذرون أو لا يعذرون، لكن المشكلة أنّنا نقف على كلامٍ لعلماءَ في القديم والحديث، ولكُتَّابٍ ومتحدثين وخطباءَ معاصرين، يتجاوزون الحد الصحيح في تعاطيهم مع شأن الله، حتى يقعوا في ما لا يرضي الله. وسنستعرض صورا من تلك التجاوزات البشرية، وهي من علماء وليس من عوام.
وأحب التأكيد أنّي لا أتهم العلماء بارتكاب الأخطاء في تفسيرات وتأويلات، ولكنّي أُخطِّؤهم، ابتداءً، في ولوجهم مولجاً خاطئا ألجأهم إلى (التخبط) في تأويلات وتفسيرات كان يسعهم فيها القول: هذا (شأن الله) لا نتكلفه، ولا نخوض فيه، فهو تبارك وتعالى (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ فيصونوا أنفسهم من الزلل، ويكفون الناس شر الاختلاف، ويكون ذلك خيراً وأحسن تأويلاً. وستأتي، إن شاء الله، إيضاحات أخرى لدى طرح الأمثلة.
مسألة أخرى، وثيقة الصلة بما نحن في صدده، وهي أنّ بعض العلماء في القديم، وقعوا في محذور التدخل بعقولهم في شأن الله تبارك وتعالى، عن غير قصد في الغالب، حينما فتحوا بابا للنقاش حول موضوع (العذر بالجهل)، وكان الأمر سائغا وصوابا، حين كان الهدف منه معرفة الحدود التي يمكن أن يَعذر الناسُ المسلمَ بجهله، في بعض أحكام الدين، وهل هو مفرطٌ ومضيعٌ، أم أنّه قام بما أوجب الله عليه، وهذا الأمر لا يكون لعوام الناس، لكن المعني به من لهم في ذلك سلطانٌ وأمرٌ ونهيٌ ومناصحةٌ وإرشادٌ. لكن هذا البحث والتدقيق ما لبث أن تحول عند بعض المشتغلين به إلى الدخول في ما لا ينبغي أن يكون، كالبحث هل يَعذرُ اللهُ فلاناً بجهله، أم لا؟ وهو تدخلٌ صريحٌ في شأن الله تبارك وتعالى، بل هو تجاوزٌ وذنبٌ، ولْأُوضّحِ الفكرة بالمثال الآتي:
قال عليه الصلاة والسلام: (كانَ رجلٌ ممَّن كان قبلكم لم يعمل خيراً قطُّ؛ إلا التوحيد، فلما احتُضر قال لأهله: انظروا: إذا أنا متُّ أن يحرِّقوه حتى يدعوه حمماً، ثم اطحنوه، ثم اذروه في يوم ريح، [ثم اذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله؛ لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين. فلما مات فعلوا ذلك به. فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم في قبضة الله، فقال الله عز وجل: يا ابن آدم! ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي ربِّ! من مخافتك. قال: فغفر له بها، ولم يعمل خيراً قطُّ إلا التوحيد). وفي رواية (من خشيتك وأنت أعلم).
أطال بعض أهل العلم البحث في هذا الحديث، ولاسيما في الجملة الأخيرة (ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي ربِّ! من مخافتك. قال: فغفر له بها). وكان بحثهم ضمن سؤالين، لِمَ غّفرَ الله له، أو هلْ عَذرهُ بجهله؟ ولا أريد الخوض في مطولات الأقوال، ومتاهات الاجتهادات، وأكتفي باقتباس من ابن حجر، في فتح الباري، يعطي صورة واضحة عن مواقف بعض العلماء من بعض النصوص، التي كان الصواب عدم الوقوف معها للتفسير والتأويل، بل الواجب التسليم بها ولها، لأنّها (شأن الله).
يقول ابن حجر: (قال الخطابي: قد يُستشكل هذا فيقال كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب أنّه لم ينكر البعث وإنّما جهل فظن أنّه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنّه إنّما فعل ذلك من خشية الله. قال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك. ورده ابن الجوزي وقال: جحده صفة القدرة كفر اتفاقا، وإنّما قيل إنّ معنى قوله “لئن قدر الله علي” أي ضيق وهي قوله: ومن قدر عليه رزقه أي ضيق، وأما قوله “لعلي أُضِلُّ الله” فمعناه لعلي أفوته. يقال ضل الشيء إذا فات وذهب، وهو كقوله: (لا يضل ربي ولا ينسى) ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال أنت عبدي وأنا ربك، أو يكون قوله “لئن قدر علي” بتشديد الدال أي قدر علي أن يعذبني ليعذبني، أو على أنّه كان مثبتا للصانع وكان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان، وأظهر الأقوال أنّه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه، وأبعد الأقوال قول من قال إنّه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر).
حرصت أن لا أعرض كل ما وقفت عليه من شروح بعض العلماء للحديث السابق، ففيها ما لا يستقيم أبدا، مما هو واضح في ما نقل ابن حجر. ووجدت في ما عرضه ابن حجر نموذجا للتخبط. وما أظن أحدا يختلف معي أنّ كل تلك التأويلات كانت قاصرة عن تقديم جواب مقنع، لأنّه لا يوجد للمسألة جواب ينقع الغليل، ويشفي العليل، إلا أن يقال (أيها المسلمون شأن الله إعرفوه ولا تتكلفوه). لماذا نبحث وندقق لِمَ غفر الله لفلان؟ فنشرق ونغرب، وقد نصل إلى حالة القول على الله بغير علم، والتألي عليه، تبارك وتعالى! وإذا كان الله تبارك وتعالى قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌفهل لأحدٍ من بعد رسول الله شيءٌ من الأمر؟!

ومع أنّي أوضحت رأيي، عن التدخل في شأن الله، إنْ في العنوان، اختصاراً! أو في تضاعيف الكلام ومع ذلك، فلا زال عندي عن الحديث الذي بين أيدينا، بعض التعليق.
أقول:
لو أنّ بيت القصيد في الحديث أن يَعْلم الناس لِمَ غفر الله لذلك الرجل، لبين لنا نبينا ذلك، لأنّه يريد أن يُعلِّمَنا لا أن يُحيِّرَنا، ويجعَلنا نختلف! فما بيت القصيد إذن؟ إنّه تعليمُ الناس أنّ سيرة الرجل التي قُصّتْ عليهم، تجعل كل سامع يعتقد، أنّ فعل ذلك الرجل من خلال الفهم البشري كفر، وسيكون من أهل العذاب الشديد، ومع ذلك تُفاجيء نهاية الحديث الناس بخلاف ما توقعوه..! لماذا؟ لأنّهم حكموا بعقولهم التي لم تُؤت من العلم إلا قليلا. وبتلك العقول يبيحون لأنفسهم التدخل في شأن الله، الذي وصف نفسه بالعدل والرحمة التي وسعت كل شيء، والذي يعلم السر وأخفى، فيطلع على أحوالٍ وأسرارٍ تنطوي عليها نفوس عباده، لا يعلمها في الكون إلا هو! ويعلم جل شأنه ما وقر في قلوبهم من حق، فيشاء برحمته وعدله أن يجزيهم به، ولو خالفوه بأعمالهم، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
وباختصار فلنجعل الآيات الآتية، أصلاً وقاعدةَ لكل أمر يتعلق بشأن الله تبارك وتعالى (إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ). وإذن فلن نضل سواء السبيل، إن شاء الله.
فأي مصلحةٍ، وأي كسبٍ يحققهما العقل البشري، حين يتقحم بضعفه البشري على شأن خالقه، فيوبق نفسه بأكبر ذنب؟ وهو التألي على الله والقول عليه بغير علم. ولا أستثني من هذا الحكم الشديد، إلا من أقدم على هذا الفعل، ليس بغرور العقل المتطاول، أو طيش المخلوق الذي ما عرفَ ربَّه، ولم يرجُ له وقاراً، ولكنه انزلق في هذا المنزلق، علماء ودعاة تمادوا في حدود الاجتهاد، ولم يوقفوا عقولهم حيث أوقفهم خالقهم، بخطابه لهم،(أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ). وما أقول في حقهم، إلا أنّهم لم يخرجوا من حظيرة الظفر بالأجر أو الأجرين، إن شاء الله، ولا زال حسن النية شافعا لهم!
ولعلي أضيف مثلا ثانيا، لحالةٍ تجاوز فيها بعض العلماء ما لا ينبغي تجاوزه، وأدخلوا العقل في تفسير شأن الله تبارك وتعالى، ولم يخرجوا أيضا إلا بتخبطٍ، مشوشٍ، مشوهٍ! ففي حديث الشفاعة الطويل، برواية أبي سعيد الخدري، ويعنينا الآن من الحديث الجزء الأخير منه، (ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَت الْأَنْبِيَاءُ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَبَقِيَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. قَالَ: فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ -أَوْ قَالَ قَبْضَتَيْنِ- نَاساً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ احْتَرَقُوا حَتَّى صَارُوا حُمَمًا. قَالَ: فَيُؤْتَى بِهِمْ إِلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: الحياة، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ. قال: فَيَخْرُجُونَ مِنْ أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ، وفِي أَعْنَاقِهِمْ الْخَاتَمُ، عُتَقَاءُ اللَّهِ. قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا تَمَنَّيْتُمْ ورَأَيْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَإنّ لكم عِنْدِي أَفْضَلُ منه. فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَمَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: رِضَائِي عنكم، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا).
والذي نحب التركيز عليه في حديث الشفاعة، (قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا قَدْ أَخْرَجْنَا مَنْ أَمَرْتَنَا، فَلَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ. قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَت الْأَنْبِيَاءُ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَبَقِيَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. قَالَ: فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ -أَوْ قَالَ قَبْضَتَيْنِ- نَاساً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ احْتَرَقُوا حَتَّى صَارُوا حُمَمًا).
ولننظر ملياً في هاتين العبارتين: (فَلَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ)، و (فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ -أَوْ قَالَ قَبْضَتَيْنِ- نَاساً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ احْتَرَقُوا حَتَّى صَارُوا حُمَمًا). العبارتان تجسدان شيئا عظيما من عجائب وأهوال يوم القيامة! إنّه شأن الله تبارك وتعالى، في أن يُخرج من النار من لا خير فيهم، كما جاء في الحديث، ويقبض في القبضتين من أهل النار، كما جاء في الحديث (نَاساً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ). ويأبى بعض العلماء، هداهم الله، إلا التدخل في شأن الله، فيقولون ما مفاده إنّ العبارات المذكورة ليس ظاهرها مقصوداً، بل يتأولون من عقولهم مستثنىً محذوف ( لم يعملوا خيرا قط إلا الصلاة). ولقد فتح بعض أولئك العلماء، ومن يؤيدهم جدلا طويلا مع الشيخ الألباني رحمه الله، حول نشره أحاديث الشفاعة والتركيز على العبارات التي أشرنا إليه. وقد بلغ ببعضهم الاندفاع وراء ما ذهبوا إليه، إلى اتهام الشيخ الألباني بأنّه من دعاة الإرجاء، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم، والله..! ولو سأل سائل ما هي حجتهم ودعواهم؟ لقلنا، وذلك موجود في كلام لهم منشور، إنّهم شكلوا قناعات عقلية، وقعدوا قواعد عقدية، يعلمونها للناس، في أنّ تارك الصلاة كافر على كل حال، وأنّه خالد في النار. وقد جاء في حديث الشفاعة، ما يخالف قواعدهم وقناعاتهم، فاستشكلوا، ذلك ولم يجدوا من مخرج إلا التأويل، فأولوا ووقعوا في ما عابوه على الأشاعرة وغيرهم ممن أضلهم التأويل! وبناء على ذلك أطالوا الجدل مع الشيخ الألباني، إلى حد رميه بالإرجاء…!
وليتهم وقفوا عند ذلك، مع أنّي لازلت أحسن بهم الظن، بل ذهبوا يطبقون قناعاتهم العقلية، وقواعدهم العقدية، في شأن الله، حول إخراجه جل وعلا من النار من لم يعمل خيرا قط، وحمَّلوا النصوص ما لا تحمل من معانٍ، زينتها لهم عقولهم، ومنهم من نعى على الشيخ الألباني استشهاده بالأحاديث التي فيها تلك العبارت، مع أنّها صحيحة، وطلبوا منه العمل بالروايات التي لا تحمل تلك العبارات، لتوافق قناعاتهم العقلية، وقواعدهم العقدية، التي جعلتهم لا يستسلمون لشأن الله إلا بعد إخضاعه لما ذهبوا إليه، من تأويلٍ وليٍ لأعناق النصوص! والعجيب أنّ أولئك العلماء، جميعا معروفون بنقدهم الأشاعرة، وينعون عليهم تأويل النصوص التي تخالف عقولهم كما يعلمون طلابهم، ما جاء في قصيدة جوهرة التوحيد، لناظمها (برهان الدين إبراهيم اللقاني)، وهي أصل عقيدة التوحيد عند الأشاعرة، والبيت المقصود قوله:

وكل نصٍ أوْهمَ التشبيها … أوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تنزيها

والله إنّي لا زال عجبي لا ينقضي، كيف يُقبل هذا الكلام من مُسلم! (وكل نصٍ أوهم التشبيها)، ولقد أقاموا عقيدتهم على أنّ بعض نصوصٍ في القرآن والسنة، لا ينبغي العمل بها إلا بعد تأويلها، لتصير موافقة لعقولهم. وعندهم أنّ الأخذ بظواهر النصوص يفضي إلى الكفر. وانظروا ما يقوله أحد الشاردين عن المنهج الحق، وهو أحمد الصاوي، في حاشيةٍ على تفسير الجلالين: (لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر).
وبمثل هذا تورَّط بعض علماء التوحيد في السعودية، مع ما جاءت به بعض الأحاديث الصحيحة التي تتحدث عن شأن الله، فأخضعوها لعقولهم، وراحوا يؤولونها، وكان يسعهم، أن يقولوا: هذا شأن الله، ويسلموا تسليما…!
ومن أراد تفصيلاً، يجد بُغيتَه، في تفريغ مجموعةٍ من الأشرطة للشيخ الألباني، حول هذا الموضوع، والتفريغ موجود في موسوعة العقيدة للشيخ الألباني، وهي موجودة في المكتبة الشاملة، وأختار منها هذه السطور: (فمثل هذا الحديث حينئذ يوجب علينا أن نجري عمليّة تصفية على هذه الآثار الّتي تروى عن السّلف في تكفير تارك الصّلاة فما كان منها غير ثابت استرحنا منها ولا نوجد تعارضا بينها وبين الأحاديث الدّالّة على أنّ تارك الصّلاة تركا غير مقرون بالجحد فإنّه لا يكفر ولا يرتدّ عن الدّين وما كان منها ثابتا تأوّلناه كما نتأوّل الآثار عفوا الأحاديث المرفوعة الّتي تروى عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والّتي يتبادر إلى الذّهن أوّل ما يتبادر أنّه {أي تارك الصلاة} ليس مُسْلِماً، كالحديث المعروف مثلا في صحيح مسلم وغيره (من ترك الصّلاة فقد كفر). فلا بدّ حينذاك من تأويل هذا الصّحيح من المرفوع كذاك الصّحيح من الموقوف تأويلا يتّفق مع النّصّ الصّريح الّذي ذكرناه آنفا حيث يخرج من النّار غير المصلّين. وهذه أيضا كلمة بمناسبة أنّ الآثار أيضا ينبغي تحرّي الصّحّة فيها في كثير من الأحيان.ويؤكّد ذلك قوله عليه الصّلاة والسّلام بعد أن يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال ذرّة (يقول الله: شفعت الملائكة والأنبياء والمؤمنون ولم يبق إلاّ شفاعة أرحم الرّاحمين فيقول أخرجوا من لم يعمل خيرا قط).
ويقول في موضع آخر: (وإذا جاء الحديث حديث الشّفاعة في الصّحيحين صريحا في أنّ من كان تاركا للصّلاة بل ومن لم يعمل خيرا قطّ يخرج من النّار فما ينبغي أن نقول عنه إنّه كافر بالمعنى الّذي يتبادر إلى ذهن السّامع أي إنّه مخلّد في النّار هذه هي من شؤم أخذ الآثار الّتي تروى عن السّلف دون بحث وتحقيق وفي قضايا هامّة جدّا كمثل تكفير المسلم الّذي يشهد أن لا إله إلاّ الله وهذه الشّهادة الّتي قال فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (من قال لا إله إلاّ الله نفعته يوما من دهره)). انتهى الاقتباس من الألباني.

وأختم هذا الكلام الطويل، الذي لم يكن بُدٌ من الإطاله فيه، لأهمية الموضوع، وأي موضوع؟ إنّه (شأن الله)، بإيجازٍ، تلخيصاً وتدقيقاً، وهو خلاصة الخلاصة. فأقول: خلاف لا أول له ولا آخر، هل الذين لم يعملوا خيرا قط كانوا يُصلون أم لا يُصلون؟ ووصل الأمر ببعضهم إلى رد الرواية الصحيحة، أو تحميلها من المعنى ما لا تحمل. وكم كان يُجنب الأمة الاختلاف، تركُ العقل ومخرجاته، والوقوفُ مع نصوص الوحيين، فنقول لربنا سمعنا وأطعنا، (فشأن الله) لا ينفع فيه إلا التسليم…!
وأكتفي بما طرحتُ، إلى الآن، وأحسب أنّي قد وفقت في تقريب موضوع (شأن الله) من الأفهام، بتوفيق الله، والحمد لله على نعمائه

توظيف عوام الناس لشأن الله، في الاستلال الخاطئ
ذكرنا في ما سبق نوعا من التعاطي الخاطِئ مع (شأن الله)، موجوداً عند أهل العلم. وننتقل الآن إلى نوع من التعاطي مع (شأن الله) يفعله العوام، تـقودهم بعض النخب، وهو توظيفهم لشأن الله توظيفاً خاطئا، واستدلالهم به على ما لا يدل عليه. ولا يجد المنصف بعد التدقيق إلا أن يقول إنّ المحرك والمحرض لهؤلاء القوم ما هو إلا الهوى، نستعيذ بالله من أن يغلبنا، ونتابع الحديث، إن شاء الله، بعد أن أورد بعض الأمثلة من الواقع الذي نعيش.
كثيرا ما يحدث وأنا أتحدث، في مجلس عن الأشاعرة، وأنّهم خالفوا في منهجهم العقدي منهج (ما أناعليه وأصحابي)، في اتخاذهم التأويل أصلاً لفهم نصوص الوحيين حسب قواعدهم العقلية. واستحقوا أن يوصَفوا بأنّهم ليسوا من الفرقة الناجية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. مع أنّنا لا نكفرهم، بل نَعُدُّهم من الضالين، ونحذر من بدعهم ومخالفاتهم، وأمرهم إلى الله! وينبري بعض من في المجلس ليسأل: أليست النسبة الأكبر من الجماهير المسلمة من الأشاعرة، وكذلك علماؤهم؟ أوَ لا يعني ذلك أنّهم على الحق…؟! والجواب عن ذلك، أنّ الكثرة لا قيمة لها في دين الله، لأنّ الله تبارك وتعالى يقول: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). ونُعيذ أيَّ مسلم أن يقول على الله ما لا يَرضى من القول، كما قال المشركون قديماً، وقد حكى الله عنهم ذلك، في كتابه المبين (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).
ويقول
السعدي
في تفسير هذه الآية
: (هذا إخبار من الله أنّ المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله، بالقضاء والقدر، ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم. وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه، كما قال في الآية الأخرى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ … } الآية.
فأخبر تعالى أنّ هذه الحجة، لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل، ويحتجون بها، فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم، فلم يزل هذا دأبهم حتى أهكلهم الله، وأذاقهم بأسه
).
ويتابع السعدي قوله: (وإنّ الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة، وإرادة، يتمكن بها من فعل ما كلف به، فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله، ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر، ظلم محض وعناد صرف).
ثم يقول: (فالله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم، بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم، فإن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا كفوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر، وأنكر المحسوسات، فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله، ومندرجا تحت إرادته). انتهى الاقتباس من تفسير السعدي.
فالعبرة إذن، في ما أنزل الله، وما صَحَّ عنْ رسول الله، وما سوى ذلك من كلام في الدين هُراءٌ، لا يُعتدُّ به. ومناسبة هذا المثال لموضوعنا وهو (شأن الله)، أنّ المرجع في تقويم الصواب والخطأ، لا يرجع إلى كثرة انتشار ذلك بين المسلمين، أو قلته، ولا إلى من وفق في عمل، وحقق فيه نجاحا! إنّما المرجع نصوص الوحيين، حينما تفهم عل ظاهرها، على ما عليه سبيل المؤمنين.
ويحسن هنا أن أذكر بقاعدة عقدية، وهي (ما كلُّ ماخلقَ اللهُ تبارك وتعالى، وهو كثير، يعني أنّ الله يحبه). فقد يوجِدُ الله قدَراً مخلوقاتٍ لا يُحبها، لأنّه يكرهها شرعاً. فلنميز إذن بين ما شاءه الله قدراً، أو كوناً، وما شاءه شرعاً أو دينا، ولا يحب إلا ما شاءه دينا أو شرعا. ولننظر هذه الآية، (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)، ف
إنَّ الله خلق كلاً من الشكر والكفر، قدرا وكوناً، لكنّه لا يرضى الكفر لعباده لأنّه لا يحبه شرعاً، ويرضى لعباده الشكر لأنّه يحبه شرعاً.

استدلال خاطئ آخر، لشأن الله، في عالم السياسة
ولم يقف الاستدلال الخاطئ، بسبب الفهم الخاطئ، لنصوص (شأن الله) عند بعض النخب، وأكثر العوام، تبعا لهم، عند المخالفات السابقة التي فندناها، والحمد لله، بل تجاوز ذلك إلى صور أخرى من التعاطي غير الصحيح، لتسويغ ما لا يصح شرعا في عالم السياسة، أيضا. وبمجرد أن يُمَرِّرَ الواقع حدثاً، يصبح ذلك التمرير تصويبا لذلك العمل وإجازة له، وكأنّ في الواقع الرقابةَ الشرعيةَ، والأخلاقيةَ والعقليةَ، وليس شيءٌ من ذلك موجوداً، لأنّ الواقع ما هو إلا تسمية لتجمع الناس، وفيه كل ما عند الناس من حق وباطل وخير وشر، وخطإ وصواب إلى غير ذلك، مما يكتنفه الواقع، فمن أين تأتي الرقابة؟
ومن غريب وعجيب
ذلك، أنّني كنت في مجلس، تدار فيه أحاديث عدَّة، في موضوعات إسلامية مختلفة، فبادرني أحدهم بسؤال، ما تقولُ في (صلاح الدين الأيوبي)، أليس قائداً مسلما، أجلى الصليبيين عن أرض فلسطين، أولم يكن أشعرياً، ألم ينصره الله؟
ومعروفٌ أنَّ القصدَ من السؤال، تصويب ما عليه الأشاعرة من مخالفات عقدية، بدليل أنّ الله وفق صلاح الدين لتحقيق النصر على الصليبين، وأنّ الأشاعرة لا يختلفون مع منهج (ما أنا عليه وأصحابي). وإذن فلا ضير أن يتولى المفاصل الحساسة في الدولة المسلمة على منهاج النبوة أهل الفرق الناكبة عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي)! ويكون ذلك في الوقت نفسه، من أصحاب تلك المقولات، منطلقا من تلك المقدمات السابقة الخاطئة، للوصول إلى نتيجةِ تصويبِ وتمريرِ وتسويغِ مخالفات كثيرة يعج بها الصف الإسلامي، والتنظيم الحزبي، ويكتنفها العمل الإسلامي. والفكرة منتشرةٌ بين الناس، وأصحابها يُكثرون من طرحها، في تجمعات الناس وبإلحاح، ليتصدوا لأهل منهج (ما أناعليه وأصحابي). لأنّهم يدركون أنَّ كلَّ معاركهم في النهاية خائبة! وهل أفلح بشرٌ يتصدى بعقله وكل ملكاته الطينية للوحي؟!
وفي الوقت نفسه، وبالإصرار ذاته، يرمون إلى التشكيك وإرباك مشروع التصفية والتربية، الذي عليه أهل منهج (ما أناعليه وأصحابي)، ويا للأسف، فإنَّ بعض من يتولون كِبْرَ هذا الدور الهدام، هُمْ من النخب، والعلماء، والمشايخ البارزين!
وجواباً على ذلك نقول: إنّ المسلمين، كلَّ المسلمين، مأمورون أنْ يعبدوا الله وفق ما تأتي به نصوص الوحيين، وأن يخططوا لكل قضاياهم على ما يأمرهم به ربهم في كتابه، وعلى ما يعلمهم نبيهم في هديه. أما الحالات الفردية لأفراد وقد تكون لجماعات، وإن ذكروا في النصوص الصحيحة، نماذجَ، لحالة من حالات (شأن الله) تبارك وتعالى، فهذه لا تكون للأسوة والقدوة والتعليم، لأنّها قد تكون مخالفة للنصوص والأوامر الشرعية، ولكنّها ذُكرت لِيَعْلَم الناس أنَّ لله شأناً وحكماً وأمراً، وليس للناس تفسير ذلك بعقولهم، لأنّه غيبٌ استأثر الله بعلمه، وعَلَّم عبادَه النتائجَ، لأنّها التي تعرفهم بشأن الله، ولم يُعلِّمْهم الأسباب والتعليل، لأنّ ذلك لا يعنيهم، لأنّه من (شأن الله)، والله لا يُسأل عما يفعل، وإنّما المطلوب من العباد الإيمانُ والتسليم! وأزيد الفكرة وضوحا بالأمثلة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ
)
.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
:
(نَزَعَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ غُصْنَ شَوْكٍ عَنِ الطَّرِيقِ إِمَّا كَانَ فِي شَجَرَةٍ فَقَطَعَهُ فَأَلْقَاهُ وَإِمَّا كَانَ مَوْضُوعًا فَأَمَاطَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ بِهَا فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)، وفي رواية أخرى للحديث
: (كانَتْ شَجرةٌ تُؤْذي الناسَ، فأتاها رجلٌ فَعزَلها عَنْ طريقِ الناسِ، قال: قال نبيُّ الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلقد رأيْتُه يتقلَّبُ في ظِلِّها في الجَنَّةِ).
بغي تمارس الزنا، وهو من أعظم الذنوب، رقَّ قلبها لكلب كاد يقتله العطش، ولا يقدر أن يبلغ الماء. فأتت له بالماء بموقها فسقته. فغفر الله لها ذلك الذنب العظيم!
ورجل أسرف على نفسه ولم يعمل خيرا قط، يرى في طريق الناس غصن شوك يعرقل سير السابلة على الطريق، فيزيله من طريق الناس، فيجازيه الله ويغفر له. ولنقرأ ما جاء في آخر الرواية الثانية للحديث (فلقد رأيْتُه يتقلَّبُ في ظِلِّها في الجَنَّةِ).
وأسأل: هل نُعلِّمُ المسلمين هذين الحديثَين ونقول اتخذوا البَغيَّ، والرجلَ الذي لم يعمل خيرا قط إسوة؟! وإنّنا لا نستبعد أن نجد من المسلمين من يفهم الفهم الخاطئ، كأن لا يبالي بارتكاب الحرام، لأنّه سيقوم بين الفينة والأخرى بعملٍ بسيطٍ، كالذي فعلته البغي، أو كالذي فعله الرجل الذي لم يعمل خيرا قط، ليَحظى بما حظيت به تلك البغي، وذلك الرجل، من المغفرة قياساً!
لكنْ لابدَّ من بحثٍ أعمقَ، لنصل إلى العبرة من الحديثين، وكلِّ ما هو على الشاكلة نفسها، من أحاديث (شأن الله). ولابد من التأكيد ابتداءً، على ما قلناه قبلاً أكثر من مرة، من أنَّ مثل تلك الأحاديث ليست لاتخاذ الأسوة والقدوة منها، إنّما لتحمل إلى الناس علمين متلازمين. علماً عن عملٍ، هو من الذنوب التي يعرفها كل الناس ويرتكبها منهم كثيرون، كالزنا، في حديث البغي، وعدم فعل الخير قط، كما في حديث الرجل. وَعِلْماً ثانياً عن عملٍ، هو من فعل الخير، وهو خفيفٌ يسيرٌ، كسقي كلبٍ عطشٍ، وتنحية غصن شوكٍ من طريق السابلة، والناس يجهلون ويزهدون بالأجر المترتب على مثل ذينك العملين. ثم تأتي النتيجة المفاجئة عن الثواب الذي منحه الله لمن فعل ذلك! وذلك هو الدرس والعبرة والمغزى، الذي يجب على الناس تحصيلها من تعلم أحاديث (شأنُ لله)، أما سِرُّ ذلك وتَعْليلُه، فذلك فوق أن يحيط به العقل والفهم البشري!
وحتى لا يُتركَ عقلُ الناس في حيرةٍ وتخرصٍ، يتعين على العلماء والدعاة، أن يدركوا كيفية التعاطي مع أحاديث (شأن الله)! وكيف يقدمونها للناس، وما هي الدروس التي يجب أنْ تُتَعلَّمَ منها، وأخيرا كيف تُتَرجمُ تلك الأحاديث إلى عمل. وإن اقتصر التعليم على القراءة، وشرح الألفاظ والمعنى العام، فلا نستبعد أن يتعلم الناس من عقولهم علماً يصادم مراد الله، وعصمة هذا الدين!
ولا نعجب حينئذ أن نُلفِيَ فئاماً تتعامل مع أحاديث (شأن الله)، تعاملاً مصلحياً غيرَ شرعي، كما ذكرت آنفا، هو أبعد ما يكون عن مراد الله، وعصمة هذا الدين. مثلُ إنسانٍ يفهم قول ربنا تبارك وتعالى (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها)، فهمًا أعوج! فتُسَوِّلُ له نفسُه أن ينطلق إلى عملِ معصيةٍ تتوق لها نفسه، وقد هيئَ مبلغا من المال، يدخره لدفعه صدقةً فوريةً، يزعم أنّها تُكفِّر الخطيئة التي بين يديها، وأحاديث كحديث البغي والكلب، والرجل وغصن الشوك، حاضرة في ذهنه لطرحها على الناس، تبريراً لما هو عليه، عن طريق الاستدلال الخاطئ! فأين ضاع مفهوم الخشية من الله، والتوبة النصوح، والندم والأوبة، والإنابة إلى الله، مع طبيعة هذا النوع من التعامل المصلحي غيرِ الشرعي، المُتَلَبِّسِ بالهوى الفتان! وهي ولا شك وليدة تربية خاطئة، وعلمٍ ناقصٍ، فالحذر الحذر أيها الدعاة. ووالله، لقد قُصّـتْ لي قصص، حين كنت في السعودية، عن أناس، بأسمائهم، سعوديين ومقيمين، يحجزون التذاكر للسفر في إجازة إلى بلد يُتعاطى فيها الزنا والخنا، عياذاً بالله، وفي اللحظة نفسها يحجزون العودة مباشرة إلى مكة لأداء عمرة مكفرة، زعموا، قبل أن يرجعوا إلى بيوتهم. هذه ممارسة واقعية حقيقية، تعبر أوضح تعبير عن أنَّ في فهم كثير من المسلمين عوجاً، في استيعاب أحاديث (شأن الله)، وكذلك في تعاملهم معها، وكل ذلك وليد خلل في التعليم والدعوة، ونسأل الله صلاح الأحوال، والهداية لكل المائلين عن الطريق القويم.
أحاديث شأن الله لا تُقدِّم للمسلمين الأسوة والقدوة، لكنّها تعرف الناس بأسماء ربهم الحسنى، وصفاته العلى، من خلال بعض أفعالٍ لربِّهم، لا تدركها عقولهم وأفهامهم، إلا من خلال قَصَصٍ تَقُصُّها عليهم النصوص الصحيحة. ولذلك كان مني التحذير في هذا المقال من تَقَحُّم العقولِ البشريةِ، على شأن الله، فيوقعها ذلك في أسوأ عاقبة، وهي التألي على الله! والقول على الله بغير علم!
وطلباً لإيضاحٍ، إضافي، نَرجع إلى حديث الرجل الذي أسرف عل نفسه ولم يعمل خيراً قط، ثم أمر بنيه إذا مات أن يحرقوه ويذروه رمادا في البر والبحر، حتي لا يبعثه الله. فلمَّا بعثه الله، سأله لِمَ فعل ذلك، فأجاب من خشيتك يارب، فغفر له. فهل لو طبق رجل مسلم (السيناريو) نفسهَ وبحذافيره، فهل يلقى الخاتمة نفسَها؟ وهل يتَّخِذُ عند الله عهداً أن لا يعذبه؟ من هنا قررتُ قبلاً، أنَّ أحاديث شأن الله لا تُقدم للمسلمين الأسوةَ والقدوةَ! ولْيُركِّزِ الدعاةُ والمعلمون والموجهون والمربون على الدروس التي ينبغي أن تستفاد، وليس على قراءة واستظهار النصوص، ثم تعاد وتعاد، دون أن تترك في نفوس المتلقين، أي حصيلةٍ أو زاد!

أحاديث (شأن الله)، وتوظيفٌ سياسيٌ باطلٌ
وأتابع جوابي عن تساؤل الرجل الأول، حول الخلط بين مسائل العقيدة، وقضايا السياسة، من أجل استدلالات لصالح ممارسات ومواقف معاصرة، طال الجدل فيها ولم ينته، في ما يخص العلاقة بين الدين والسياسة! فأقول إنّ الله تبارك تعالى، وجل شأنه، كما غفر لبغي بعملِ خيرٍ بسيطٍ، ولرجلٍ لم يعمل خيراً قط، بعمل خير بسيط. كذلك، لسبب لا يعلمه إلا الله، يجري النصر، الذي تنتفع به الأمة كلها على يديِّ رجل مسلم، رغم ما عنده من مخالفات بينة لا تخفى، ومرةً أخرى نقول إنّه (شأن الله) وبذلك نُسَلِّمُ، ونَسْلَمُ، فلا نقول على الله مالا نعلم! ولابد من تفصيلٍ، هو آتٍ، بإذن، وإليكموه.
لابد من إضافة بحث فقهي بسيط، بين يدي الشرح. فأقول: إنّ من شأن الله قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، فينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، ولا علم لنا إلا ما علَّمنا. ولأهمية الموضوع لابد من تفصيل مناسب، في موضوع النصر في الإسلام، استنتجه العلماء واستخرجوه، من دراسة بعض الوقائع والنصوص. وها هو التفصيل باختصار.
للنصر أنواع ثلاثة، نُظِمَتْ في أبيات شعرية:

ونصرُ الله أنواعٌ فحاذرْ … بجهلٍ أن تسيءَ الظن حاذرْ

فكونيٌ لأقـواهـم إذا مـا … تساووا في المعاصي والكبائرْ

وآخـرُ من تفضُّله تعالى … وحكمته فيُعطي النصــر كافرْ

كنصرِ الروم ضدَّ الفرس حتى … يُسَرَّ المؤمنون بذي البشائرْ

وثالثُها لأهــل الدين حقٌ … ومَنْ نَصَرَ الإلهَ يَجِدْه ناصرْ

الأول: (النصر الكوني وشاء الله تبارك وتعالى أنْ يربط نتائج ذلك النوع من الصراع بطبائع الأشياء وما تواضعت عليه عقول الناس، في أنّ النتائج في العادة تُحسم لصالح الفريق الأكثر عُدة وعتاداً ورجالاً، لا سيما إذا كان ذلك النوع من الصراع عَارياً تماماً عن المُثل والأمور المعنوية، فضلاً عن العقدية الدينية. فهو صراع أرضي على مصالح أرضية. وشاء الله أنْ يبقيه أرضياً في نتائجه، ووفق مفاهيم أهل الأرض في سيره.
الثاني:
(النصر التَّفَضُّلي وقد يشاء الله بحكمته، أنْ يُخرج صراعاً ما من دائرته الأرضية، أو بعبارة أخرى من دائرة النصر الكوني الذي تحكمه قواعد الأرض، بعد مشيئة الله ذلك، إلى دائرة النصر التفضلي، ليكون النصر لمن يشاءه الله، وإن كان ليس أهلاً (مستحقاً) للنصر، لحكمة قد يُبَيِّنُها الله لنا أو لا يُبيِّنُها! بمعنى أنّ يَمنح الله النصر لفريق يُقاتل من أجل أهداف أرضية لا تستحق نصر الله، فتستوعب إرادة الله وحكمته نتائج ذاك الانتصار، التي لا يستحقها المقاتلون، لينتفع بها من يشاء الله من عباده المؤمنين. وأوضح مثال يُضرب هو نصر الله الرومَ على دولة الفرس، وكِلا الدولتين عدو للإسلام والمسلمين لدود. لكنّ الله بشّر المؤمنين بذاك الانتصار قبل وقوعه، وفرّحهم ومنّاهم به، لأنّه سيزيل من طريقهم دولة فارس، وهي أعتى الدولتين، بِيَد الروم، وكفى الله المؤمنين قتالهم (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
الثالث:(النصر الاستحقاقي)، وهو في حقيقته إنجاز لموعود الله لمن يستحق النصر، وهذه بعض النصوص التي تؤكد وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين:
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
(وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
فالمؤمنون كُلفوا بالإعداد للقتال إعداداً مقيداً بالاستطاعة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وإيضاح ذلك أنّ النصر في الإسلام لا يأتي به المُقاتلُ وسلاحُه، إنّما يأتي به الله عندما تكون عُدَّةُ المؤمن وعَتادُه عقيدتَه، وإخلاصَه، وتسليمَه.! (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وما أكثر ما كفى الله المؤمنين القتال حين صدقوه، بجنودٍ لم يَروها (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).
بعد هذا الاستطراد الذي فرضته المناسبة
، لكن
َّ
الخيرَ في ذلك، إن شاء الله
، لأهميته في واقع المسل
مين ال
م
عاصر.
أقول م
ُ
ع
َ
ل
ِّ
قا
ً
، انتصار
ُ
جهة
ٍ
م
ا
انتصارا تفضليا، لا يعني أبداً، أهلية تلك الجهة لاستحقاق نصر الله، وإنّما نصرها الله تفضلا منه، لكن الذي ينتفع بذلك النصر جهة أخرى، شاءها الله، فعلينا، إن كنا صادقين، في ادعائنا ودعوانا، أن لا نخلط الأفهام، ونبعثر الأوراق، لطمس الحقيقة وتحكيم الأهواء! ولعل المقصود قد بَلَغَ، ولا حاجة للإطالة.
وقد يُنْصَرُ من لا يستحقُّ النصر، لمصلحةِ غيره من العباد، وعلى ذلك فليس بالضرورة أن يكون
المنصور تَفَضُّلاً مرضياً عند الله، ولا يعتبر انتصاره تزكيةً له ولغيره، ممن يُعرف من ظاهر أحوالهم، أنّهم ليسوا أهلا لنصر الله، بالمعيار الإسلامي!

وأرى لزاماً أنْ أختم هذه الفقرة الهامة جدا، لما تتضمنه من مسائل عقدية، بقاعدة عقدية هامة تواضع عليها علماء العقيدة، وهي ذات صلة وثيقة، في موضوع (شأن الله). تقول القاعدة: (لا يجوز للمسلم أن يحكم لأحدٍ من أهل القبلة بجنةٍ ولا نارٍ، إنّما يتمنى للمحسن الجنة، وللمسيء العتق من النار، ويترك الشأن لله).

مغالطة أهل التصوف في فهم (شأن الله)
ولا يفوتني، أن أوضح أنّ لبعض أهل التصوف جنايةً على مفهوم (شأن الله)، وقد طار بها العوام يبثونها في كل مناسبة. وسبب تمسك العوام بشطحات الصوفية، أنّها تنسجم مع واقع العوام في أنّ محركهم في التدين ما يناسب عاطفتهم الدينية، التي تتغذى على غريب الأقوال بل ومردودها، والعاطفة لا تستند إلى العلم إنّما إلى الهوى! إنّهم يربطون بعض الكرامات بالمجاذيب، وببعض العصاة، ويعتبرون ذلك من شأن الله الذي يجب الاستسلام له، علما أنّ عقولهم هي التي وضعت القصص الباطلة! أذكر قصة حدثني بها زميل دراسة، حين لقيته بعد أعوام طويلة من الفراق، وكان عائدا من الحج. وأحببت أن أوجهه، ببساطة إلى ضرورة طلب العلم من مظانه الصحيحة. فذكر لي شيخا له، وقال لي إنّه غير مشهور، لعدم حبه الظهور. وبدأ يثني على دين الرجل، من خلال قصة عن حال من أحوال ذلك الشيخ. مختصر القصة أنّ لهذا الصديق محلا تجارياً يبيع المواد الغذائية. وكان عنده زحام بمناسبة قرب العيد. فجاءته سيدة لم تعجبه من حيث المظهر وبعض السلوك، وطلبت مجموعة مشتريات، وعند الدفع لم تجد معها المبلغ الكافي لتسديد الثمن، فقالت إنّها ستأتيه بالباقي في الغد، وهو تقريبا ربع المبلع ، فاعتذر منها لأنّه لا يعرفها ولم تعجبه، واعتذر لها قائلاً: إنّه لا يبيع دينا، وخيَّرها في أن يسحب بعض الأغراض بقدر المبلغ المتبقي، تُحفظ لها لتأخذها حين تسدد باقي الثمن. فانزعجت وتركت كل الصفقة وانصرفت. قال لي زميل الدراسة القديم، إنّ من عادته في آخر الأسبوع أن يخرج إلى بيت له في أحد المصائف، وقال إنّه في بعض الأحيان يأخذ معه شيخه، وأشار إلى غرفة في البيت وقال إنّه خصصها للشيخ حينما يزوره ويقضي عنده عطلة آخر الأسبوع. وروى الصديق أنّه بينما كان والشيخ جالسَيْن على الغداء، قال لي يا فلان إذا جاءكم زبائن (وقام بحركة توحي بوصف النساء، غير الملتزمات في مظهرهن، وتصرفهن) فأكْرِموهُنَّ، فهُنَّ من أهل الله! فتذكرت ما فعلته مع تلك المرأة، ووعدته أن أفعل.
ثم سألني الصديق عن رأيي بالقصة، التي سمعت، وتعليق الشيخ على ذلك. فنسفت القصة، وقلت كلام باطل. فلم يرتح صديقي، وقال لي كيف تُفَسِّرُ عِلمَه بالقصة، أليس ذلك من الكشف؟ قلت وهل تستبعد أن تكون ذهبت وشكت فِعْلَكَ معها إليه؟ قال لي مستحيل أن تكون له علاقة بامرأة كتلك! ثم تابعت التوجية بوتيرة أعلى، وتوسعت معه عن التصوف وتاريخه، وأنّه دخيل على دين الإسلام، وقد انتشرت الطوائف الصوفية في كل العالم الإسلامي وتستقي أصولها من فلسفاتٍ لا صلة لها بالإسلام.
ورغم التأكيد على أنّ شطحات المتصوفين لا يجوز التعاطي معها ولا إقرارها، ولكن التصوف انتشر بين العوام عن طريق مشايخ التزموا ذاك الفكر مثل كلام الشيخ السابق، وإنّ العوام ليطربون بذكر ذلك الكلام لغرابته ولكونه يصدر عن مشايخ، فيظنون صحته من الناحية الشرعية وهو حرام، لأنّه يُجَرِّؤُ العوام على المعاصي. حينما يسمعون شيخاً يقول عن امرأة منحرفة هي من أهل الله. وذكرتني قصة تلك المرأة، وتعليق الشيخ عليها، بقصةٍ سمعتها كثيرا، وهي على ألسنة كثير من مشايخ الشام. وقد أحببت قبل نشرها التأكد منها، فوجدت أكثر من تسجيل (في اليوتيوب) لعدة مشايخ، دمشقيين يروون القصة. والقصة باختصار، عن الشيخ بدر الدين الحسني، ويلقبونه بالمحدث الأكبر، يقولون إنّه كان يرسل مع أحد طلابه، بمناسبة العيد، الحلويات، مع ليرة ذهبية لكل واحدة، من الساقطات اللواتي يعملن في دار البغاء، على أنّ يسلمهن ما أرسل الشيخ بدر الدين، لكل واحدة باليد، ويقول لهن: إنّ الشيخ يسلم عليكن ويطلب منكن الدعاء…!
ولما انتشر هذا الباطل الصوفي كثيرا بين العوام، فإنّه تسلل إلى كتابات بعض الكتاب والأدباء. ومن أعجب ما قرأت في كتاب (وحي القلم) لمصطفى صادق الرافعي، وكان يعتبر من الأدباء الإسلاميين في مصر! مقالة بعنوان (في اللهب ولا تحترق)، يحكي فيها قصة راقصة، ويبالغ في رسم صورتها، في مخيلة القارئ، حتى إنّه ليحسبها حورية! ولا ينسى الثناء على فنها ورقصها وحسن أدائها، وقدرتها على خطف الأنظار، بل وسرقة القلوب، ثم إذا انتهت، وأوت إلى بيتها، خلعت كل شيء من لوازم الحال السابق، ثم تطهرت وتوضأت، وقامت تصلي، ليقول في النهاية ثانية (في اللهب ولاتحترق!).
أحوالٌ، وسلوكٌ وأعمالٌ تصادم الدين، ولا ترضي الله، تُريد فلسفة التصوف، أن تصورها بأنّها حالةُ تدينٍ خفية لا يعلمها إلا الله، ولمّا كانت خفية سلم أصحابها من الرياء، فبذلك ارتفعوا، وإن كان ظاهرهم الذي يبدو للناس منحطا! حتى جُعِلَ التدينُ الصحيح، في نظر أهل التصوف، عند المجاذيب، وعند المنحرفات من النساء، وإلى غير ذلك من فلسفات باطلة لا أريد التوسع فيها.
الحمد لله أنّ إسلامنا ليس فيه ظاهر وباطن، وليس فيه تقوى تستتر وراء منكر يفعل، أو حرام يستباح! ويريدنا أهل التصوف، أن نغض طرفنا عن الظاهر الساقط، وننفذ ببصيرتنا إلى الحقيقة المتوارية وراءه، وجعلون ذلك من (شأن الله) تعالى الله عما يقولون ويفترون! وقد كذبوا وايم الله، فالراقصة والبغي امرأتان مسلمتان، عاصيتان، إن لم تكونا مستحلتين للمعصية، ويجب جرهما إلى التوبة، ولا تُمدحان على شيء، مادامتا ملابِسَتَيْنِ للمعصية. فإن كان الرافعيُ والشيخُ بدرُ الدين، والشيخ الذي لا أعرفه، وغيرهم، قد رأوا في النساء المذنبات العاصيات، حالا آخر يستتر وراء المعصية، فهذا باطل لا يقبله دين الإسلام، ولا تتسع نصوصه لاستيعابه، وهو لا يُرضي الله على أي حال. ومن زعم أنّ بغي بني إسرائيل، التي غُفر لها، تُشجع على مثل هذا الفهم عند بعض أهل الدين، أقول: إنّه فهم قاصر وقراءة خاطئة لنصوص (شأن الله)، وأذكر بكلام كتبته قبلاً، في أول الموضوع، قلت فيه: (أما الحالات الفردية لأفراد، وقد تكون لجماعات، وإن ذكروا في النصوص الصحيحة، نماذجَ لحالة من حالات شأن الله تبارك وتعالى، فهذه لا تكون للأسوة والقدوة والتعليم، لأنّها قد تكون مخالفة للنصوص العامة، ولكنّها ذُكرت لِيَعْلَم الناس أنَّ لله شأناً وحكماً وأمراً لا يستطيع الناس تفسير ذلك بعقولهم، لأنّه غيبٌ استأثر الله بعلمه، وعَلَّم عبادَه النتائجَ، لأنّها هي التي تعرفهم بشأن الله، ولم يُعلِّمْهم التعليل والتأويل، لأنّ ذلك لا يعنيهم، لأنّه (شأن الله) وحده، والله لا يُسأل عما يفعل، وإنّما المطلوب من العباد الإيمانُ والتسليم!) ولا زلت أردد قراءة العنوان، (شأن الله إعرفوه ولا تتكلفوه).
وآخر مثالٍ، ودليلٍ،
قاطعين، على موضوع (شأن الله)، م
ا
جاء في كتب الحديث عن وفاة النجاشي. فلما مات النجاشي ملك الحبشة، والنجاشي لقب يلقب به ملوك الحبشة، كما يقال لملك الفرس: كسرى، ولملك الروم: قيصر، ونجاشي الحبشة. واسمه أصحمة بن بحر، وكان ملكًا صالحًا، لبيبًا ذكيًا، وعالمًا عادلا، شهد له الرسول عليه السلام بالإسلام والصلاح، وصلى عليه حين مات، وهو الذي آوى المسلمين في هجرتهم للحبشة وأكرمهم، ودفع عنهم أذى قريش.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (نَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ). وفي رواية لأبي هريرة، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (قَدْ مَاتَ الْيَوْمَ عَبْدٌ صَالِحٌ أَصْحَمَةُ. فَأَمَّنَا، وَصَلَّى عَلَيْهِ). وَفِي رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: (إِنَّ أَخَاكُمْ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ) يَعْنِي النَّجَاشِيَّ.
وجاء في مجموع الفتاوى لابن تيمية: (وَكَذَلِكَ النَّجَاشِيُّ هُوَ وَإِنْ كَانَ مَلِكَ النَّصَارَى فِلْم يُطِعْهُ قَوْمُهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بَلْ إنَّمَا دَخَلَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا، لَمَّا مَاتَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، خَرَجَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّهُمْ صُفُوفًا وَصَلَّى عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَوْتِهِ يَوْمَ مَاتَ وَقَالَ: {إنَّ أَخًا لَكُمْ صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ مَاتَ}. وَكَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِيهَا لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يُجَاهِدْ وَلَا حَجَّ الْبَيْتَ بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَا يُؤَدِّ الزَّكَاةَ الشَّرْعِيَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَظْهَرُ عِنْدَ قَوْمِهِ فَيُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ مُخَالَفَتَهُمْ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ).
فكما هو واضح، إنّ الله تبارك وتعالى قد علم من حال النجاشي ما لم يعلمه المقربون من حوله، ولذلك أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام، فجمع أصحابه وصلى عليه، وهي أكبر شهادةٍ للنجاشي أنّه مات على الإسلام. وهذا ما نؤكد عليه بإصرار، مستدلين بأقوى الأدلة، وهو (شأن الله). ولنقارن موقف المؤمنين المطمئنين، أمثال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المرجفين من المنافقين الذين قالوا لما رأوا رسول الله عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة الغائب على النجاشي: (انْظُرُوا إِلَى هَذَا يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ حَبَشِيٍّ نَصْرَانِيٍّ لَمْ يَرَهُ قَطُّ وَلَيْسَ عَلَى دِينِهِ)، منقول من كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية).

وبعد أن طال الكلام، ولابد من ذلك، فالموضوع عقدي بامتياز، ولابد من تصحيح مفهومه عند الناس، وسأجعل الخاتمة تلخيصاً لموضوع (شأن الله)، لتثبيت الأفكار في ذهن القاريء وترتيبها:
1. (شأن الله) تبارك وتعالى عظيم، لأنّ الله عظيم. وعلى المسلم أن يتعامل مع هذا الموضوع الخطير بعلم ودراية وحذر. ونُعمل العقل في نصوصه لنفهم ظاهرها، ولا نتكلف الخوض لإيجاد إجابات، ترضي فضول العقل، عن أداة السؤال
(لماذا؟؟؟)، فالإجابات هي ما استأثر بها الله في علم الغيب عنده، جل ثناؤه. والسؤال هو المنزلق الخطير في التعامل، مع هذا الموضوع، وأضرب مثلا: إنّ بغي بني إسرائيل قد غفر الله لها، هذا علم تلقيناه من نص صحيح، ولابد من التسليم له. والنص أعطانا سببا وهو سقي الكلب، لكنّ النصَّ لم يُعطنا تعليلا لذلك، فالعقل البشري عاجزٌ عن الاقتناع بأنّ سقي كلب يغفر تعاطي الزنا، واتخاذه مهنة، كما أنّه لا يقتنع أنّ امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وكذلك العقل البشري لا يستطيع أن يقتنع أنّ جواب (من خشيتك يارب)، من عبد جحد بقوله وفعله قدرة الله على البعث، جعل ذلك العبد مغفوراً له! ولكنّ العقل البشري، الذي استنار بنور الوحي، وصدر عن إيمان، وقر في قلب صاحبه، فعرف الله بكلِّ أسمائه وصفاته، التي عرَّف نفسه بها إلى خلقه، لتكون مقدمة الإيمان الكامل به، يستسلم لكل ما جاء عن الله من خبر أو وصف أوشأن، ويقول (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). فما كان مستحيلا عند العقل البشري، صار بالإيمان ممكناً، بل واجبَ التصديقِ به! فأفعال الله يُتعامل معها بالتسليم وليس بالتعليل. وإذا ألح العقل بطلب التعليل أسكتناه بقول ربنا (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)، أمَّا أن نَقْفُوَ ما وراء النص بالتكلف والتخرص، فإنّما هو تعدٍّ ودخولٌ إلى المُحرَّم، وهو القول على الله بغير علم.
2. ذكرنا أنّ بعض العلماء تكلفوا التفسير والتعليل، وما كان ينبغي لهم ذلك! ولعل الله يغفر لهم ذلك. ولا نتخذ ذلك ذريعة لنطلق لعقولنا العنان في التعامل مع نصوص (شأن الله).
3. ما من حالة من حالات التعاطي الخاطئ من البشر، حتى ولو نخباً، من (شأن الله)، إلا كان من ورائها إشكاليةٌ تعتري الإيمان والتسليم عند صاحبها. وهذا ما فات كل العلماء، الذي دفعهم حسن الظن، أن يفتحوا باب المناقشة لحالاتٍ من (شأن الله)، رجاء معالجة تلك الإشكالية، وهيهات! لأنَّ المعالجة تَكمُنُ، في مراجعةِ الإيمان والتسليم، عند من وجد الإشكالات.

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).