زاوية، بل رُكن ركين في دين الإسلام، نسيها أو تناساها المسلمون اليوم، يوم انغمسوا أكثر مما ينبغي في ماديات الواقع والحياة، إنّه دور الضعفاء في التفاعلات الجارية على الأرض، كالتي نعيش.
وكلمة الضعف والتفكير فيها محبط، لا سيما إذا اسُتحضر معها المفهوم الأرضي ومعاييره. لكن الدين يرى الضعفاء (بخصائص معينة) هم المُرشحين للتغيير الكبير في كل عصر، ولنقرأ فواتح سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ). كما يعتبرهم عنصراً أساسياً لتحقيق النصر.
وقبل الإيضاح أقول: إنّ حصر الحسم للصراع في ميدان القتال، وقعقعة السيوف، وأزيز الطائرات، ودوي المدافع، بل وفي العمليات الانتحارية (مع التحفظ الكامل عليها)، نظرة قاصرة متجاهلة للواقع، مخالفة للدين، بل هي إلى المادية والعلمانية أقرب، إذ ترى الصراع محكوماً بقوانين الأرض فقط.
نعود إلى الضعفاء، ونستكمل الحديث باستحضار روايات ثلاث للحديث الآتي:
(هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ).
(هل تنصرون إلا بضعفائكم؟ بدعوتهم وإخلاصهم).
(أبغوني الضعفاء، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).
والرواية الأولى أخرجها البخاري في باب الجهاد فقهاً منه وتأكيداً للدلالة الحقيقية التي قد تخفى على كثيرين، فللضعفاء دور في الصراع بين الحق والباطل الذي لا يتوقف إلى قيام الساعة، لا يقل عن الدور القتالي.
والرواية الثانية: تُبين ما الذي رشح ضعفاء الأمة لهذه المنزلة وهذا الدور الذي ليس لغيرهم حتى من الأقوياء، أو مَن يظنون أنفسهم، وهماً، كذلك. وللدين وللعقيدة معايير مغايرة، ونظرات مُباينة لكل ما ألفه الناس، يشهد لها الأدلة والوقائع في التاريخ. فالإسلام يُعبيء كل الناس في مواجهة التحديات من أي نوع كانت، فلا أحد في المجتمع الإسلامي خارج إطار التكليف والواجب والمسؤولية، بفوارق تتوازى مع القدرات والمؤهلات. فالضعفاء الذين لا دور لهم في مواجهات القوة، رشّحهم الإسلام ليكونوا رِدءاً بدعواتهم وإخلاصهم وأعظم بهما من سلاحين، وإن شئنا قلنا بالتعبير السياسي المعاصر تلك هي (القوة الناعمة) بل الربانية التي تُجعل في نحور الأعداء قبل آلة الحديد والنار. وفي ذلك إشارة إلى أنّ الجانب الروحي والعبادي في المجتمع المسلم يجب أن ترتفع وتيرته في الظروف الصعبة، لأنّه هو (العمق الاستراتيجي) كما يقولون..! وتعلق الأنظار، وأحياناً القلوب، في ميادين الصراع والقتال دون غيرها من المواقع اجتزاء للحقيقة.
وما أُريد أن يصل إلى الناس هو أنّ الضعفاء لا يجوز أن ينكمشوا ويُخرجوا أنفسهم من الصراع بين الحق والباطل. بل إنّ عليهم واجبات يجب تنفيذها لتُهيأهم للدور الذي حدّث عنه نبي الأمة. وكأنّي بنبي الأمة، وهو الذي أوتي جوامع الكلم، بأبي هو وأمي، ميز دور الضعفاء في مواجهات الأمة مع أعدائها عن غيره من الأدوار باستعماله أسلوب القصر (فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم) وأسلوب الاستفهام مع أداة الاستثناء المفيد للحصر والذي يؤدي الغرض نفسه (وهل تنصرون إلا بضعفائكم). ومن ذلك يستمد الضعفاء قوتهم التي تُحيل ضعفهم قوة، قد تفوق القوة المسلحة في الصراع. ويُمكن أن نوجز تلك الواجبات بما يلي:
أولاً: إذا كان المقاتلون يبذلون جهدهم وأرواحهم لمواجهة الأعداء، فإنّ على الضعفاء أن يبذلوا جهدهم ليحققوا وصف الإيمان في أنفسهم، فيتحقق لهم موعود ربهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِين). (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا). فتكون لهم دعوة صالحة تُحيط من وراء العاملين والفاعلين في كل الميادين.
ثانياً: أن يعلموا أنّ ذنوبهم تحجب النصر عن الأمة كما حُجب عن أصحاب نبيهم من قبل في معركة أحد بفعل بعضهم الذين عصوا الأمر متأولين غير قاصدين. فعوقب الجميع بحجب النصر عنهم، بعد أنْ أذاقهم حلاوته في أول المعركة (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ولقد قال بعض السلف: (ما نزل بلاء إلا بذنب وما رُفع إلا بتوبة).
ثالثاً: إنّ الدعاء عبادة تكاد تغيب من حياة المسلمين. وهل يُعقل أن تغيب من حياتهم عبادة..؟ وكيف يُضيعونها..؟ كثيرون يستغربون أن نقول إنّ الدعاء عبادة، والرسول عليه السلام هو الذي يقول ذلك: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ) والذي يحرص على الصلاة والصيام والزكاة والحج لأنّها عبادات، يلزمه الحرص نفسه في عبادة الدعاء. ولقد توعد الله تبارك وتعالى، تارك تلك العبادة فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). والتفسير الصحيح لكلمة (عبادتي) في قوله تعالى: (يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) أي: عن دعائي. وما أشد تأثير قوله تعالى في نفس المؤمن بل نفس كل إنسان (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ). وإذا كان الدعاء مأموراً به كل مسلم، فهو بالضعفاء ألصق وأليق، فهو سلاح الضعفاء الذي يستمدون منه قوتهم ودورهم الحاسم (بدعوتهم وإخلاصهم).
رابعاً: والإخلاص تجريد النية لله عز وجلّ في كل ما يأتي المسلم ويذر. والحديث الصحيح يُوضح معنى تجريد النية: (مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتكْمل الْإِيمَان). فحركة الإنسان المسلم في كل شأن على الأرض تكون غايتها رضا الله وطاعته (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
والإخلاص أصل من أصول الإسلام، وغيابه يُحبط العمل، فلا تقبل صلاة ولا عبادة، ولا يُرفع دعاء، ولا يصح إيمان (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). وفي الآية الأخرى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ).
خامساً: وهذا البند ليس من الواجبات وإنّما يُعين على أدائها، ففيه تطييب لخواطر الضعفاء، والقاعدة: (وما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب ). أقول: الضعف وصف قد يكون سببه فيزيولوجياً، أو فيزيائياً، أو مرضياً، أو تكتيكياً أو..أو..أو.. وقد يكون اختيارياً تكاسلياً..! والمهم أنّ وصف الضعف ليس وصفاً سلبياً، إن لم يكن من النوع الاختياري، وكيف يُحمل النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الوصف السلبي دوراً إيجابياً مميزاً في الصراع..؟ إنّه وصف إيجابي مادام الضعف ليس من اختيار صاحبه، تقاعساً عن أداء دوره..! ولمّا فضّل رسول الله المؤمن القوي على المؤمن الضعيف فإنّ ذلك التفاضل لا يكون إلا في حالة الضعف المختار، وليس المفروض. وهل من مفخرة للضعفاء أكبر من قوله عليه السلام (أبغوني الضعفاء) وهو لفظ معناه طلب التقرب والتحبب من الضعفاء والإحسان إليهم، فكأنّهم خاصته صلى الله عليه وسلم، ليعرف الضعفاء قدرهم ودورهم، ولا يضنون به على الأمة..! وكيف يضنون وهم من الأمة..؟
وأخيراً … فالمسلمون الذين هم أهل الصراع مع الباطل، لأنّهم وحدهم أصحاب الحق في هذا الوجود، يُسَخِّر الله لهم في معاركهم مع الباطل كل مخلوقاته. ولا ينقضي عجبي من حديث: (لما أغرق الله فرعون قال: [آمنت أنّه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل] قال جبريل: يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال (طين) البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة). وكلما قرأته قلت: وفي النفس حسرة، كيف يُهزم من الله معه..؟ وسُرعان ما أقول للنفس لا جواب إلا (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا) … والحمد لله على نعمائه
_______________
*المقال كُتب ونشر بتاريخ 22/2/2013 على صفحات التواصل الجتماعي…