وقع تحت ناظري كلام، عنونه كاتبه (الرمي بالحجارة الكبيرة)، ولم أقاوم شهية الرد، لأنَّ بيت القصيد في ما كُتب، ومن خلال سطور الكاتب، إلغاءٌ لأعظم الواجبات الشرعية، وأخطرها اليوم، وطريق الخلاص الوحيد، اليوم، للمسلمين مما هم فيه، وزاد الكاتب على تلك الجناية العظيمة، أن سَفَّهَ من يحملون هذا الهم، ويَؤزون المسلمين لاستيعابه، والعمل على تحقيقه، وهذا شأن (المفكرين)! ومن يسعه السكوت أمام باقعة كهذه؟! ولنقرأ بعض سطورٍ مما كتب: (الحديث الذي يملأ الدماغ هو الحديث عن (الأمة) وقضاياها وآمالها وهذه العاطفة جميلة وحيوية لكن هذا الأسلوب في التعامل مع المسائل المختلفة لا نجني منه سوى الشعور باليأس والإحباط، وبعض الناس يتخذون منه طريقاً للتهرب من حمل أي مسؤولية أو الالتزام بأي شيء).
إنّها كما أسلفت، محاولة التصدي لأعظم مطلب، وأكبر هدف، وأرجى عملٍ، يعالج واقع المسلمين المتردي، وفق منظورٍ شرعيٍ تأصيلي. وما أكبرها من كلمات، وما أظلمها من افتراءات، وما أبطلها من آراء وتوصيات! تقال في معرض الحديث عن آكَدِ واجبٍ شرعيٍ إصلاحيٍ، للنهوض بالمسلمين من وهدتهم، بل لإخراجهم من النفق المظلم الذي دخلوا أو أُدخلوا فيه.
ومن ذا الذي ينكر أنّ أمة الإسلام غائبةٌ، غَيَّبَها بُعدُ المسلمين عن الوحيين، ليُسْلِسُوا قيادهم، بعد ذلك، للعقلانيين والمفكرين، بديلا عن العلماء الربانيين، حين استحق المسلمون وصف نبيهم لحالٍ ستأتي عليهم (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ؟ قال: لا ولكنّكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت). وها قدْ أتتْ تلك الحال، وصدق الله ورسوله، ولو بَسَطنا العبارة النبوية حسب المعطيات الواقعية اليوم، فنقول: أنتم، أيها المسلمون، تعدون اليوم مليار ونصف مسلم على وجه الأرض، لكنَّ وزنكم النوعي في العالم يساوي غثاء السيل. وجاء في لسان العرب: (الغُثَاءُ، بِالْمَدِّ وَالضَّمِّ، مَا يجيءُ فوقَ السيلِ مِمَّا يَحْمِلُه مِنَ الزَّبَدِ والوَسَخِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ). والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه، بعلمٍ وفهمٍ، هو حلُّ هذه المعادلة التي تركها نبينا عليه الصلاة والسلام لفهمنا:
(مليار ونصف مسلم عدداً = غثاءَ السَّيْلِ، وزناً وقدراً) لماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟
وللتعاطي مع مناقشة هذه المعادلة، ومحاولة حلها، أرى تقسيم البحث إلى فقرات، فذلك يؤمن حسن العرض، وبالتالي يقرب الفهم للقارئ، إن شاء الله.
أولاً: وقبل أي حديث أريد أن أطرح السؤال الآتي على كل قارئٍ، وأبدأ بكاتب السطور المردود عليها، لو قرأ!هل تداعت الأمم على المسلمين كما أنبأنا نبينا صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ وهل وزن المسلمين اليوم، عند أهل الأرض، يعادل الغثاء كما قرر النبي عليه الصلاة والسلام، أم لا؟
إنّ الذي تشهده العيون على صفحة الواقع أنّ المساجدَ ملأى، والمآذنَ تَصدح، والحرمين الشريفين مُكتظانِ طيلة أيام السنة بالحُجَّاج والعُمَّار والزُّوَّار. فأين ذهبَ ذلك الوزن لمليار ونصف مسلم؟! وأضرب مثالا واقعيا يعرفه كل أحد. ففي منتصف عام 2013 تقريبا، عقد في مصر مؤتمر إسلامي حاشد، حضره 500 عالم مسلم، وجاء في البيان الختامي الذي ألقاه الشيخ محمد حسان العبارات الآتية: (لقد اتفق العلماء المجتمعون على وجوب الجهاد لنصرة إخواننا في سوريا بالنفس والمال والسلاح، وبكل أنواع الجهاد والنصرة، وما من شأنه إنقاذ الشعب السوري من قبضة القتل والإجرام من قبل النظام الطائفي، ووجوب العمل على وحدة المسلمين في مواجهة تلك الجرائم واتخاذ الموقف الحاسم الذي يبرئ الأمة أمام الله تعالى). فما الذي خرج إلى صفحة الواقع من تلك المقررات؟ وهل أحس أحد في العالم بذلك المؤتمر، فلنبحث عن المغزى؟ لا قيمة لأولئك العلماء ولو كانوا خمسة آلاف، بل عشرة، بل خمسين ألفا، ما داموا لا يأوون إلى ركن شديد، وليس من ورائهم أمةٌ مرهوبةُ الجانب، فهي غائبة أو غثائية. والعلماء لا يخيفون العالم لا ببياناتهم، ولا بقاماتهم، ولا بلحاهم وعمائمهم، وجببهم، ولا بانتماءاتهم! إنّما بالأمة التي يصدرون عنها، وهيهات.
ويحضر الآن إلى مخيلتي قصة الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه، في مقابلته الشهيرة مع رستم ملك الفرس، وأسلوب تصرفه في ذلك اللقاء المفعم بكل معاني العزة والثقة التي يتحلى بها الفرد المسلم، وفي أشد الظروف، مادام يعيش في كنف الأمة الحاضرة. وكان ربعي بن عامر معاقا بسبب شدة عرجه، وصعوبة مشيه وحركته، لكنّه تميز بطلاقة اللسان والقدرة على التفاوض، حيث أرسله سعد بن أبي وقاص إلى قائد الفرس رستم فكان من أنجح السفراء والمبعوثين السياسيين نظرا لصلابة عقيدته وشجاعته وإخلاصه في المهمة. ويبدو في نهاية المقابلة تأثر رستم بكلام ربعي رضي الله عنه، بادياً ذلك في كلامه وجنوحه إلى اللين، ما أثار رفض من حوله، حتى قالوا له كما تروي الروايات: (فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة)، ولم يكن الذي غير موقف رستم تأثره وخشيته من شخص ربعي وما قال. إنّما ذهب تفكيره إلى القوم الذين هم وراء ربعي، وأدرك رستم أنّ ربعياً كان يصدر في كلامه عنهم وليس عن ذاته، فكان منه ذلك التراجع. فلنقارن في أذهاننا قصة ربعيٍ رضي الله عنه وما تمخضت عنه، مع مؤتمر خمسمائة عالم وما آل إليه.
وأستأذن أن أختم هذه الفقرة بسؤال، هل بعد ما قاله نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وما قيل عنه من شرح وتطبيق، هل يُخطِئُ ذو بصرٍ، وذو بصيرةٍ حقيقةَ وواقعيةَ غيابِ الأمة وغثائيتها؟ إلا أن نُضطر لذكر قوله تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور).
ثانياً: والحقيقة التي لا مراء فيها، ومع ذلك غابت عن أفهام كثير من نخب المسلمين، أنَّ دولة الإسلام، على منهاج النبوة، لا تقوم إلا إذا كانت أمة الإسلام حاضرة وليست غائبة، أو غثائية! ولا زال أكثر النخب يمارون في ذلك، لاسيما أهل الإسلام السياسي! وغيرهم من المفكرين والعلمانيين، والأدلة على ذلك كثيرة، فإنّهم لا يزالون يعيشون مسلسلا انتحارياً من محاولات يائسة وطائشة، لإقامة دولة الإسلام بالدم، عن طريق الثورات والانقلابات المسلحة، ولم ينالوا خيرا حتى الآن، ولا يزالون كذلك، لأنّهم على الطريق الخاطئ، وهيهات. بل إنّ ما هو شرٌ من ذلك أنّهم انشغلوا وأشغلوا الناس بإصرارهم على ذلك الهدف الضائع (الدولة قبل الأمة)، الذي خَطِئوا الطريق إليه، وأهدروا من أجله أهم مقومات استرجاع الأمة الغائبة، مثل التصفية والتربية، والدعوة على بصيرة، واشتغلوا بالتربية السياسية والتعبئة الدائمة، من أجل ذلك الهدف الضائع، فلم يزدادوا منه إلا بعداً؟
ثالثاً: واختصارا للوقت والكلام، سأكتفي بأقوى الأدلة على أنّ الأمة هي التي تأتي بالدولة، وليس العكس. ولنستحضر الآن صورة وتاريخ المرحلة المكية التي كانت الطور الأول من عملية تأسيس الإسلام في الأرض. وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع تلك الحقبة، ولنطرح السؤال الآتي: ماذا كان الهدف في تلك المرحلة؟ وأعتقد أنّ الجواب المتفق عليه دون مخالف (بناء الأمة). ذلك هو الهدف الذي عمل من أجله النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة. ولم يشغل صلى الله عليه وسلم نفسه ولا المؤمنين معه، آنئذٍ، بغير العمل لذاك الهدف: بناءِ الأمة التي ستحمل الإسلام، وتدافع عنه، وتُرسي قواعده في الأرض، ليكون دين البشرية الخاتم، ولا دين سواه، إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها.
وحتى القتال لم يكن مأذوناً به في تلك الفترة، كي لا يشغل عمّا هو أهم، وهو بناء الأنفس على طريق بناء الأمة. ولمّا مالت بعض النفوس إلى اللجوء إلى القوة، بسبب ازدياد أذى المشركين على المؤمنين في مكة، نزل النهي الصارم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا). والآية واضحة ولعلها حكمة مُرادة، أنْ يتم بناء أنفس نواة الأمة تحت ظروف صعبة، وأذى مستمر، ومعاناة شديدة، فالمهمة شاقة، والشدائد تصنع الرجال.
وأحب إيضاح معنى (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) في الآية السابقة. لما كفَّ الله أيدي المسلمين في مكة، عن الاشتغال بأي نوع من أنواع القتال، والتحريش مع الكفار في مكة، ليتفرغوا لتربية نفوسهم على الوحيين؛ ما جاء في القرآن الكريم وما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورمز للتربية على الوحيين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
وأرى ضروريا ونافعا أن أنقل سطورا من كتاب (كيف ندعو الناس؟) للشيخ محمد قطب رحمه الله. يقول فيها:
(والنواة الأم كانت هي الجماعة المؤمنة التي تكونت في مكة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي شكلها الوحي المنزل من عند الله، وصقلها المربي العظيم صلى الله عليه وسلم بما أضفى عليها من روحه، وأعطاها من جهده، وتابع نموها بصبره وجلده وسعة صدره وحكمته وبصيرته. ثم جاءت الابتلاءات فزادتها صقلاً وصلابة وقرباً من الله.
ومن خلال (كفوا أيديكم) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ! ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيراً تكون النواة الأم، ولتغيرت كثيراً صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، ولَتأخَّر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء.
ولكن الأمة الإسلامية تمر اليوم بظروف خاصة، ربما لم تمر بها من قبل، فقد هبطت معرفتها بالإسلام إلى أدنى حد وصلت إليه في تاريخها كله، وأما ممارستها للإسلام فهي أدنى من ذلك بكثير!
ولذلك فإنّ مهمة الدعوة اليوم أخطر بكثير من مهمتها في الظروف السابقة، فلم تعد مجرد التذكير، بل أوشكت أن تكون إعادة البناء، الذي تهاوت أسسه وأوشكت أن تنهار، في الوقت الذي تداعت فيه الأمم
على الأمة الإسلامية من كل جانب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها… الحديث).
وكلنا ثقة أنّ البناء سيعود بإذن الله، وسيعود شامخاً كما كان، والمبشرات كلها تشير إلى جولة جديدة للإسلام، ممكنة في الأرض، على الرغم من كل الحرب التي تشنها الجاهلية في الأرض كلها على الإسلام. ولكنها مهمة شاقة في الغربة الثانية للإسلام: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ). مهمة تحتاج إلى شغل فائق وبصيرة نافذة).
ومعلوم أنّه لمّا بلغ البنيان تمامه، انتقل النبي عليه السلام بالأمة التي صنعها على عينه إلى المدينة، بأمر من ربه، ليُقيم بها دولة الإسلام الأولى، التي ستبدأ مهمات الدعوة للدين الجديد ونشره، والجهاد من أجل ذلك. ومن استعراض المرحلة المكية، نستخلص الملمح الأهم، وهو: أنْ لا دولةَ بلا أمةٍ حاضرةٍ، واللُّهاثُ سعياً إلى الدولةِ، والأمةُ غائبةٌ، عملٌ عبثي، وقد يُضيِّع الدولةَ والأمةَ معاً، فضلاً عما يُهدر من دماء، ويُهدم من بناء، ويُنشط من أعداء، ومن أراد تحقيق كبريات الأهداف الإسلامية بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلن يحصد إلا الهشيم! بل الهوان والذل والضياع.
ولنتذكر أنَّ غزوة بدر الكبرى كانت أول عمل جهادي قام به المسلمون تحت مظلة دولة الإسلام الأولى، التي أسست في المدينة، بعد ثلاث عشرة سنة من عمل دؤوب لبناء الأمة في مكة. وقد وقعت تلك المعركة الفاصلة في السنة الثانية للهجرة. ولنتذكر حين نقرأ قول ربنا تبارك وتعالى مخاطبا أهل بدرٍ والنبي عليه الصلاة والسلام على رأسهم: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، كيف يكون حال المسلمين، وجهاد المسلمين، والتصدي لأعداء الدين، وهم في كنفِ أمةٍ حاضرةٍ، ودولةٍ ذاتِ سيادة، وإمامٍ أعظمَ يقود الركب، فيأتيهم النصر المبين، وهم أذلاء في كل شيء مما يُعد للقتال من بضاعة الأرض، ولكن كانوا أعزة في أعلى مراتب العزة بإيمانهم وصدقهم مع ربهم ونبيهم!!!
ولنقارن تلك الحال مع أحوال المسلمين، وهم يزعمون اليوم، أنّهم يجاهدون في سبيل الله، ولا أمة حاضرة، ولا دولة لها سيادة، ولا إمامَ يوحد الكلمة والراية والصف، فماذا جَنوا، وهذي جراح سوريا لم تندمل بعد!!! يأتينا أهل الفكر اليوم، ليقفزوا من فوق كل أمرٍ ومعنىً شرعيٍ، وليخططوا لنا بفكرهم وعقلهم، فمن أين يأتي النصر، ولو أنصف الكاتب، لألصق آخر عبارة قالها (النتيجة عطالة دائمة ومفتوحة!)، بكل ما يصدر عنهم من قولٍ أو فعلٍ أو تنظيرٍ! والواقع السوري أكبر شاهد.
والعاطفيون من المسلمين اليوم، وبعض أهل الإسلام السياسي، ومن سُموا بالمفكرين يريدون اليوم إعلان الحرب على العالم كله، والأمةُ غائبة، ودولةُ الإسلام لم تولد بعد! فهل هذا هو الضياع والعطالة الدائمة المفتوحة، أم العملُ الشرعيُّ المؤصلُ من أجل استرجاع الأمة وحضورها، مقدمةً لقيام دولة الإسلام الحقيقية، وليست التلفيقية التي يريدها مفكرو اليوم، على أسس سياسة العولمة، والديمقراطية المضللة؟! فما لكم كيف تحكمون؟!
ولنجاح تطبيق هذا التوجه الشرعي المؤصل في التعاطي مع متلازمة (الأمة والدولة) لا بد من عملٍ تربويٍ مُعمّقٍ، حتى يغدو ارتباط المسلم بالأمة عفوياً وتلقائياً بل فطرياً، كارتباطه وانتمائه لأسرته. وحُق لكثير من الأجيال الشابة المسلمة أنْ يَضْمر عندهم شعورُ الانتماء للأمة، وما يُشيعه ذلك الشعور في النفس من معان راقية سامية واعدة. لأنّهم فتحوا أعينهم على أمة غائبة محتضرة، سُرق دورها، وصار يتكلم باسمها حكامٌ أو أحزابٌ أو جماعاتٌ، هُم بعض الأمة ولا يُمثلونها، لكنّه ظُنَّ أنّهم الأمة. وصار التغني بالأمة أناشيد وشعارات مفرغة من كل مضمون.
إنّ الأجيال التي تُربى في حال حضور الأمة وقوتها يخرجون أسوياء، كالطفل الذي نشأ في حضن أمه تنتقل إليه بالتأثير، ودفء المحضن، كل المشاعر الطيبة النبيلة تجاه الأم والأمة. وغياب الأمة الطويل كغياب الأم، حري بصُنع أجيال عاقَّةٍ ومُعاقةٍ عن العمل الجاد النافع..!
ألم يَأْنِ للمسلمين أنْ يقولوا بصوت واحد: الأزمة غياب الأمة..! فلتُبنَ الأمة من جديد، ولنوفر كل جهد لذلك الهدف الوحيد، وكفانا مغالطة للحقائق.
وما هي الأعمال النافعة التي يضيعها دعاة استرجاع الأمة، حسب رأي الكاتب، وماذا حقق دعاة السياسة، والدولة المدنية، والمفكرون من إصلاحات نافعة للمسلمين؟ وإذا لم يكن إصلاح الدين هو أسُّ الإصلاح وأصله، فماذا حقق منه دعاة الإصلاح العلماني، الذي يحاكي طريقة أهل الكفر في الإصلاح، ويرغب عما جاء به الوحيان؟! إنّ الجهد الرئيس لاسترجاع الأمة يقوم على محورين إصلاحيين، هما: الدعوة إلى الله على بصيرة، والتصفية والتربية، تحت مظلة منهج (ما أنا عليه وأصحابي). فأي عملٍ أو أعمالٍ إصلاحيةٍ دينيةٍ، تتقدم أو تُقدم على تلك الأعمال؟ وماذا يمكن أن يقدمه الآخرون؟ ثم إنّ العاملين في حقل الإصلاح الديني يجب أن يكون بين أيديهم سلم للأولويات الشرعية، فأرونا سلمكم، وماذا فيه، يا أهل الفكر؟!
حقائق شرعية، وتأصيلات منهجية، واستدلالات بالوحي وليس بالعقل، وبعد ذلك يأتي من كتب ليُهدر كل ذلك، مستشهدا بمثلٍ عامي يقول: (مينْ كبَّر الحجر ما رمى)، وذهب يُبدئ ويُعيد في مَقامته الحجرية، التي يمكن دحض ما فيها من اتهامات وافتراءات، والتقول على الآخرين بما يظنه يقوي منطقه في ما زعم … أجل يكفي للرد عليه بيتُ المتنبي، بدل المثل العامي الذي اتخذه له منطلقا، ودليلاً ومُتَعَلَّقا. يقول أبو الطيب:
وإذا كانت النفوس كبارا … تعبت في مرادها الأجسام
وأرى بيت المتنبي، كافيا للرد على المَقامة الحجرية، والدعوى الفكرية، والنزعة لمسخ الآمال والأهداف والهمم. أما الذين يجاهدون في الله حقَّ جهاده، ليقومَ حكمُ الله في الأرض، من خلال الدولة المسلمة، على منهاج النبوة، هم الذين يعملون، بتأصيل ودأب، على استرداد الأمة الغائبة، لأنّ دولة الإسلام لا تقوم إن لم تكن الأمة حاضرة.
ولكن حين تُمسخ الأهداف، وتُصَغَّر الواجبات، ويُحَكَّمُ الفكر في قضايانا ومشكلاتنا، ونَتَّخِذُ الوحيين وراءنا ظهريا. نجد أنفسنا هوينا لنلتصق بالطينية، لنرضى ما يرتضيه لنا أمم الأرض، ونظام العولمة، ومن قبله العلمنة، فننادي بالدولة المدنية، التي تأتي بها الديموقراطية، فلا نحتاج عندها لا إلى حجرٍ كبيرٍ ولا صغيرٍ. فتضمر الآمال، وتسوء الأحوال، ويرضى المسلمون من الغنيمة بالإياب، لينعموا بالسلم الأهلي، الذي يمن به عليهم كل أصدقاء اليوم، الذين كانوا ألد أعداء الأمس، يوم كان يُسمع لنا صوت إسلامي!
وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلآ أنت نستغفرك ونتوب إليك