من الخبرة والمعاناة، ومن أجل مسيرٍ إلى الهدف لا يتعثر، ومن حِرص على الدعوة إلى الله أنْ لا تنكفأ، ومن باب النصح للمسلمين … أخط هذه السطور:
لقد كان ما في هذه السطور موضوع جلسات عديدة مع دعاة من الشبان في دمشق، فرج الله كربتها، حين سمعت بعض الشكوى، ولحظت بعض التململ، ورصدت بعض التعثر … ومن أجل أنْ لا يكون ذلك صرت أقول للشباب الآتي:
قبل أي تحرّك على طريق الدعوة إلى الله تعهد نفسك بتهيئةٍ وتعبئةٍ لتلك المهمة العظيمة التي هي خيرُ مهمةٍ يَندب المسلم، لا سيما الشبان إليها أنفسهم، ويملؤون بها أوقاتهم. بل، ويتقربون إلى الله بها (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). ويجب أنْ يُتعامل مع هذه المهمة بما تقتضيه التسمية (مهمة) وهي مشتقة من الهمّ، فلا بُد أنْ تُصبح الدعوة إلى الله همّاً للشاب المسلم، تبيت معه وتصحو، وتأكل معه وتشرب. ولأنّها هامة وخطيرة فلا ينبغي أنْ تتوقف الحركة فيها قبل بلوغ الغاية، ولا أنْ تتراجع الخطى، أو يفتر العزم، ولا أنْ تكون هناك رِدة إلى الوراء، أو سقوط على الطريق.! ففي ذلك كله سلبية كبرى تنعكس على صاحب الشأن، وعلى من حوله من الناس.
ولقد كان مني التركيز على أمور ثلاثة: (المنهج، الغربة، إنّما الناس…)، وكُنت أُسميها (أثافي الدعوة). والأُثْفِيَةُ هي واحدة من ثلاثة أحجار يُرْكَزُ عليها القدر فوق النار. وقد اخترت جعلها في العنوان (ركائز) بعيداً عن حوشي اللفظ…
أولاً: المنهج … قبل الخطوة الأولى على طريق الدعوة إلى الله، سل نفسك: أي إسلام سأدعو إليه؟ ولعل نفسك، أو أحداً علم بسؤالك هذا يسألك: وهل هناك أكثر من إسلام؟ وهذا السؤال لا يزال يكتنفه غموض حتى عند بعض السائرين على طريق الدعوة إلى الله، ومن يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم غيرهم جنداً من جنود الإسلام! والجواب عن هذا السؤال الكبير يأتينا من نبينا صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح الذي اشتهر بحديث (الافتراق): عن عوف بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة) وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي).
والحديث كثر الكلام فيه بين مُبينٍ لخطورته، حاثٍ الناس على العمل بحذافيره، وبين محاولٍ استبعادَه من ساحة العمل الإسلامي، بنقد سنده تارة، وتأويل متنه أو رده تارة أخرى، لمُواطئة واقع الأمة المتشرذم، وإعطاء الاختلاف وصف الشرعية، ابتغاء الحفاظ على وحدة الأمة، زعموا … وفي الحقيقة، فإنَّ كلَّ ذلك محاولاتٌ، لتغييبِ الحديث من حياة المسلمين، ليرتع دعاة الافتراق، وأهل البدع، وأصحاب الأهواء، ويلعبوا إذا غاب أهل منهج (ما أناعليه وأصحابي) والحديث في ذلك يطول. ولمنْ يُفاجأ بهذا الكلام، أُورد ما جاء في السلسلة الضعيفة، من حديثٍ موضوعٍ، قَلَب الوضَّاعون والعابثون المعنى فيه رأساً على عقب فقالوا: (كلها في الجنة إلا فرقة واحدة وهي الزنادقة)، وقد أوردت هذا الكلام على بطلانه لأدلل على أنّ هذا الحديث العظيم، أعني حديث (الافتراق) مُستهدف، من طوائف كثيرين.
فوقوع المسلمين في الافتراق الذي حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم منه، حقيقة مثل ما أنّكم تنطقون، والنجاة من الافتراق المُفضي إلى النار، لا يكون إلا بمنهج (ما أنا عليه وأصحابي)، وهو اختيار النبي عليه السلام للأمة التي تُريد الخلاص والفلاح، وليس اختيار عقل من عقول أهل الأرض، من السادة والكبراء. فعلى كل من يُريد السير في طريق الدعوة على بصيرة أنْ يتشبّع ويتضلّع من منهج (ما أنا عليه وأصحابي). ويعلم بيقينٍ، ويُعلم الآخرين أنّ الله لا يقبل إلا إسلاماً واحداً هذا عنوانه ومنهجه. مما يوفر على الداعية عناء الجدل والأخذ والرد، والخوض في متاهات الاختلاف. وبخاصة مع انتشار من يُريدون تعويم المسألة، قائلين: الإسلام هو الشهادتان فمن نطق بهما فهو المسلم، وإنْ حمل إسلاماً ملؤه البدعة والخرافة.!
وكثير من المسلمين اليوم لم يعرفوا المنهج ودوره في التدين، وأنّك بالمنهج الحق تنتمي إلى الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، وتعتزل الفرق الهالكة كلها. يقول الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ): (أما إنّه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد). ومُؤدى كلام الأوزاعي النفيس، أنّه ليس للإسلام وجودٌ شرعيٌ حقيقيٌ، إلا على منهج (ما أنا عليه وأصحابي). فلا تميلنَّ عن المنهج، ولا ترغبن عنه، وعض عليه بالنواجذ، ولو انفض عنك الناس، حتى من أولي القربى!
ثانياً: الغربة… قد يُوحِشنَّك أيها الشابُّ الداعية على بصيرةٍ قلة السالكين في الطريق الذي أنت عليه، فاعلم أنّك غريب بمنهجك وفهمك للإسلام الحق، ولا تغرنك الجموع والحشود التي تؤازر الباطل، وتسير في ركابه! ولا يغيبن أبداً عن بالك كلام ربك (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). والغربة في زماننا شهادة من نبيك بأنّك وأمثالك على الحق، والقلة صفة الغرباء. واقرأ بإمعان وتمثل وصف نبيك لحالك ومن معك من الغرباء، يقول النبي عليه السلام: (طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
وليزدكم هذا الوصف قوة وإصراراً، واجعلوا من غربة الدين حالة من التميز والاتباع، ترفعكم بين الناس، بدلاً من أنْ تكون ضِيقاً وعزلة وعقدة، فأنتم أهل الحق بشهادة نبيكم ووصفه.
ولله در ابن القيم رحمه الله فقد وصف الغرباء بوصف، كأنّما يمسك بالقلم الآن ويكتب ما يُعاين، يقول رحمه الله: (فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه وفقها في سنة رسوله وفهما في كتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط، فليُوطِّن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم. فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله، فهو غريبٌ في دينه لفساد أديانهم، غريبٌ في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريبٌ في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريبٌ في صلاته لسوء صلاتهم، غريبٌ في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريبٌ في نسبته لمخالفة نسبهم، غريبٌ في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
وبالجملة فهو غريبٌ في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً. فهو عالمٌ بين جهال، صاحبُ سنةٍ بين أهل بدع، داعٍ إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمرٌ بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف).
وليس بعد ما سبق من كلام كلام، فَعِ أخي الشاب الداعية حقيقة غربتك، واعمل بمقتضاها، ولا تساوم على الحق أحداً.
ثالثاً: إنّما الناس… صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إنّما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة). وتقريباً لمعنى الحديث أقول: تصور أخي خيبة أمل صاحب إبل مئة، يُطعمها ويسقيها، ويقوم بكل شؤونها، ولمّا أراد سفراً، طلب من غلمانه تجهيز بعضها، فجاءه الجواب أنْ ليس فيها جملٌ واحدٌ يصلح للسفر!
أخي الداعية الشاب، وايم الله، لا أُحصي انتفاعي على طريق الدعوة بحديث رسول الله المذكور، الذي يُعرفنا فيه بما لا نعرف عن حقيقة الناس، وما هم عليه، فنُكفى من الهمّ والغمّ الكثير! وكم كانت النفس تذهب حسرات على مَن نكب عن الطريق، أو ارتد إلى الوراء، أو قعد عن المواصلة، أو استهوته الكثرة، فآثر جموعها التائهة عن غربته الراشدة. كم حزنَّا لأحوالٍ، وكم صُدمنا بمواقف، وكم تركنا المُهمة الأساسية لنسترضي مُتقاعساً، أو ننتحل الأعذار لمُتخلّف، أو نُوجد حلاً لمنقلب على عقبيه، أو أو، مُحَمِّلين النفس مسؤولية كل من سقط على الطريق! ولمّا عرفنا الحديث، وفهمنا عن نبينا مُراده، وطبيعة مَن نتعامل معهم من الناس، بتقرير من لا ينطق عن الهوى، هدأت النفس، ونَعِم البال، وانتظم المسير، وصار التفاؤل من منارات الطريق، ولم يعد سلوك الناس ومزاجيتهم مُعكرة للصفو، مُعيقة للسير. وما عُدنا نحمل عن الناس، ما هم أولى بحمله من مسؤولية التذبذب في المواقف، أو التخلف عن الركب.
فامض أخي الشاب في طريق الدعوة على بركة الله، وقد استنار بنور الوحي وأضاء، ووقاك العثرات فيه بإذن الله تجربة من سبقك عليه. واجعل ثلاثية: (المنهج، والغربة، وإنّما الناس…) حاضرة في بالك وحسك ووجدانك، واستعن بالله ولا تعجز…
__________________
* المقال كُتب ونشر بتاريخ 3/9/2013 على صفحات التواصل الجتماعي…