Skip to main content

فَانْظُرُوا مَا هُمُومُكُمْ

By الثلاثاء 18 رجب 1442هـ 2-3-2021مدراسات

يقول مالك بن دينار: (إِنَّ الْأَبْرَارَ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِأَعْمَالِ الْفُجُورِ، وَاللَّهُ يَرَى هُمُومَكُمْ، فَانْظُرُوا مَا هُمُومُكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ).

الحقُّ، والحقَّ أقول: إنّني بِهَمَّيْنِ عظيمَيْنِ لَمَسْكون، وما أنا بشاكٍ إلى بشرٍ أياً يكون (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ). وما أنا، إن شاء الله، بمفتونٍ ولا محزون.
ولكنّني أفصح عما يَسكُنُني على مَلَإٍ، مُحرضاً ومُبيِّناً ومُذَكِّراً! فالخطوب نزلت بسوح المسلمين ألوانا، وكأنّ الناس في غمرة ساهون! ومن نكد الدنيا أن صار خصوم المسلمين وأعداؤهم يبحثون لهم عن الحلول، ويلتمسون لهم المخارج، كما قال الشاعر القديم:

ويُقضى الأمرُ حين تغيب تَيْمٌ … ولا يُسْتأذنونَ وهم شهودُ

ونخبُ المسلمين عن ذلك مُعرضون، لكل امرئ منهم شأن يغنيه. وما تزال فكرة الكتابة في هذا الموضوع تُلحُّ علي منذ فترة ليست بقصيرة، ولكنّني كنت أتذرع بالصبر والأمل، لعلي أرى في الناس صحوةً لما آل إليه الحال، وبارقةً تلوح، أنّهم بدؤوا يتحدثون عن تغيير، وبأسىً أقول: ولكنَّ الظن خاب!

أريد أن أتحدث عن هذين الهمَّيْن، مُعَرِّفاً بهما، ومُبيِّناً لهُما، لعلَّ قلوباً ترجو الله والدار الآخرة، وتتمنى أن تُسهم في مشروع خلاصٍ للمسلمين، بعد أن دخلنا النفق المظلم، وعزَّ المجير، وقلَّ النصير، ولم يبق من أمل إلا باللجوء إلى العليِّ القدير. أجلْ، لعلَّ قلوباً تَصْغى لذينك الهَمَّين، وتَعقدُ العزمَ على توجهٍ جديدٍ، يقتضيه حَمْلُهُما والعملُ لهما! فنجد أنفسنا قريبين من بداية الطريق الصحيح … فما هُما الهمَّان؟
الأول منهما، أن يَعُمَّ ويَنتشرَ منهج (ما أنا عليه وأصحابي) بين المسلمين، لا لأنّه أحسن المناهج وحسبْ، بل لأنّه، وهذا ما أدين الله به، لا منهجَ يُرضي الله، ويُحقق الفلاحَ إلّاه. ولي كلامٌ كثير مكتوب، وكلام في مناقشاتٍ لي مع كثيرين بهذا الصدد. وكان لا يعجبهم، أعني النخبَ، هذا الكلام، ويقولون: إنكَ تَتحَجَّرُ واسعاَ، وتَودُّ أنْ تفرض اختيارك الشخصي على الآخر! وكنت لا أزيد على القول: إنَّ اختيار منهج (ما أنا عليه وأصحابي) ليس من عقلي وذوقي، ولا من شيخٍ لي أتَّبعُه، أو تنظيمٍ حزبي ألتزمه. إنّما هو اختيارُ نبيِّ الأمة صلى الله عليه وسلم، لكل من يريد السلامة، من شر الافتراق في الدين، وقد حذَّر النبيُ عليه الصلاة والسلام أمَّتَه من أن يقعوا فيه كما وقع اليهود والنصارى، فتكون عاقبتهم خُسْراً. ويكاد لا يخلو موضوعٌ منشورٌ لي على موقعي من كلام عن المنهج، ولكأنّي كنت نافخاً في رماد.

لقــد أسمعــتَ لو ناديتَ حيّاً … ولكنْ لا حيــــــــاةَ لمنْ تُنادي

ولو نارٌ نفختَ بها أضاءتْ … ولكنْ أنتَ تَنفخُ في رمـــــــــادِ

ولعلي لا أطيل الوقوف مع الهم الأول، وهو منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، فلقد أكثرت فيه القول، ووفيته حقه، بإذن الله تبارك وتعالى (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). وإلى الله المشتكى. ويقول المفسرون: (الهلاك والحياة مستعار لِلْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ).
أمّا ثاني
الهَمَّين، فهو غيابُ أمَّةِ الإسلام، أو غثائيتُها. وأثر هذا الحدث العظيم والخطير، في حياة المسلمين، على الأصْعدة كلِّها. وبين يدي حديثنا عن الأمة وغيابها أود أن أقول: أراني في غنىً عن تعريف غياب الأمة وخطورته، وآثاره في حياة المسلمين المعاصرة، فما من مشكلة صغيرة أو كبيرة في حياة المسلمين، على كل الأصعدة، إلا وغيابُ الأمة سببٌ رئيس في ذلك. والنظر الثاقب في الحياة الإسلامية المعاصرة يوضح ذلك. وأكتفي بالقول: إنّ غياب الأمة غيابٌ للدولة المسلمة، والحاكم المسلم، وبهما يقوم أمرُ المسلمين ويَرتقي، وكم من الأهداف والمصالح يُعطَّلُ بغياب تلك الثلاثية. وهذا الإيجاز يغني بحول الله، عن شرح طويل.
ولطالما جعلت حواري مع النخب، لأعوامٍ خلت، مُرَكَّزاً حول هذا الهَمِّ! وما أكثر ما كتبت فيه على الموقع! ولقد استيقنت من قراءة بعض ما يكتبون، وسماعهم وهم يحاضرون، والإصغاء لهم في المجالس يناقشون، حقيقةَ أنْ ليسَ لِهَمِّ غيابِ الأمةِ عندهم أدنى حضور! وأكاد على ذلك أُقْسِم. بل لقد اكتشفت بعد مناقشات مع بعض أولئك، أنّهم لا يرون موضوع غياب الأمة مشكلة تحتاج المعالجة في واقع المسلمين. ولا تشكلُ سببا مركزيا لهزائم وخيبة وتخلف المسلمين! بل لقد قال بعضهم، إنّا لا نرى ما ترى أنّ الأمة غائبة!
وبدأت مع نفسي البحث عن سببٍ لهذا الخَواء والإعراض، فوجدت بعد تقليب الأمر، أنّ الذين أراهم من حولي، من مُهتمين بالشأن العام، في ظاهر أمرهم طوائفُ ثلاثة:
طائفةٌ، هُم من منسوبي الإسلام السياسي، أو من مؤيديه، لا يرون ذلك العَرَض بل المَرض، لأنّه لم يرد في أدبيات التنظيم، ولا تبدو لديهم توجيهات محددة حول موضوع الأمة، فهم وفق ما يُلقنون لا يرون المشكلة ذات موضوع! وهم دوماً للنتائج السريعة مشدودون! وقس على هؤلاء أتباع التجمعات المشيخية.
وطائفةٌ، قد أهمَّتْهم أنفسهم، من أصحاب العواطف والعواصف، والذين لا منهج يضبط حركتهم. طلابُ زعامة، تُحَرِّكُهم من داخلهم نزعةُ النجومية، ومن الخارج الدهماءُ وهيشاتُ الأسواق، التي قال عنها نبينا صلى الله عليه وسلم محذرا: (وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ). وقال الزبيدي: (الهوشة، الفتنة والهيج والاضطراب والهرج). وكل ذلك قد تجرعناه سُمّاً في الأحداث السورية، والواقع لا يُكذب قائلاً، ولا يُصدق مُكابراً.
وأما الثالثة من الطوائف، فعوامٌ استقطبتهم الفئات السابقة، لا رأي ولا موقف، يميلون أنَّى مالت الريح! ومع ذلك فهم الذين يشكلون الرأي العام (الجمعي)، فأين كلُّ أولئك من هَمِّ غياب الأمة، ومنهج استردادها، ليكون التمكين والأمان والرفعة؟!
وبين هؤلاء جميعا، تتميز غربةُ المنهج الحق، وأنا واحد من الغرباء، والحمد لله. فوجدتُني عندهم منبوذا مخذولا، وذلك يُفرحُني ويُسعدُني، ويَرفعُني، بإذن الله. أما أولئك الذين تَحَرَّوْا رشداً، وعلى المنهج الفذ (ما أنا عليه وأصحابي) يكادون يكونون لِبًدا، وهم على الطريق القويم سائرون، لم تثبطهم الغربة، بل بها يَنشُطون، أقول لهم: صبراً، فسنبصر ويبصرون، بأيِّنا المفتون؟!

قال لي أحدهم: أراك ويراك آخرون مسكوناً، بهَمِّ إستعادة الأمة الغائبة، ويقول إنّه يوافقني على ذلك. ولكنّه يسأل، ألا ترى أنّ اندفاعك باتجاه ذلك الهدف (استرجاع الأمة الغائبة)، يشغلك عن مهمات إصلاحيةٍ ضروريةٍ، المسلمون في أمس الحاجة إليها؟ أو أنّك ترى أنّه لا يمكن الجمع بين أعمالٍ إصلاحيةٍ فرعيةٍ، والعمل لتحقيق ذلك الهدف؟
فأجبت باختصارٍ وحسْمٍ، لا يجدي ولنْ ينجحَ، مع غياب الأمة، مشروعٌ إصلاحي! رأسُ الأمرِ، وذروة سنامه، العملُ لاسترجاع الأمة، فإن عادت عادَ الخيرُ كلُّه، وانفتحت الآفاقُ المسدودة وأشرقت، وكل ذلك بإذن الله وتوفيقه.
وقال آخر نحن معك، في أنَّ الأمة غائبة! ولكن ما السبيل إلى استرجاعها؟ قلت: عملٌ دؤوبٌ في دعوةٍ على بصيرةٍ، وتصفيةٍ وتربيةٍ. قال، وياللعجب مما قال: أترضى أن تعمل جنباً إلى جنبٍ مع الأشعري والصوفي؟! قلت وهل يرضى أولئك بمنهج (ما أنا عليه وأصحابي)، والتصفية والتربية، والدعوة على بصيرة؟! قال: عُدنا إذن إلى الاختلاف والافتراق. قلت كأنّك تريد أن تقول لي: فلنتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه! وانتهى الحوار، وانقطع سببه! والآن تكفي المقدمات ولندخل في الموضوع.
ومن الطرق التي أحرص على التزامها، في بعض ما أكتب، أسلوب الوقفات، بمعنى تقسيم الموضوع إلى مجموعة أفكار، كل واحدة تُغطَّى بشكل كامل بوقفة. وذلك ييسر عمل الكتابة، ويجعله أكثر تنسيقاً. ويَحول دون أن تتطاير بعض الفِكَرِ، لدى تزاحمها في الذهن، وتَنُدَّ عن قلم الكاتب. وإلى الموضوع، على بركة الله.
الوقفة الأولى: لا بد من تقعيدٍ لطريقة العمل، والاستعانة بعلوم عصرية مساندة. من ذلك أن نُلِمَّ بمصطلحين، من علم التخطيط، يعينان بتوفيق الله، على إيضاح بعض ما نطرح. ويلقيان ضوءاً على كثير من الأفكار، فيسهل فهمها.
التخطيط الاستراتيجي: هو تخطيط عام شامل، طويل الأمد، لتحقيق هدف كبير.
التخطيط التكتيكي: هو تخطيط مرحلي (أمده قصير)، غايته تحقيق الأهداف الجزئية المختلفة، التي يحددها التخطيط الاستراتيجي.
والنوعان السابقان لا بد أن يعملا معا، والعلاقة بينهما علاقة تلازم لا تنفك، وترتيب لا يجوز تجاوزه. وفشل أحدهما فشل للآخر. والاستراتيجي يستوعب ويتضمن في الغالب التكتيكي. والتخطيط الاستراتيجي بدون التخطيط التكتيكي قول بلا عمل، وهدف بلا تحقيق.
والتخطيط التكتيكي، إذا كان يعمل في فضاء ولا يدور في فلك استراتيجيٍ يضبطه ضياعٌ للوقت، وتبديدٌ للمال والجهد، وعملٌ بلا أمل، وسعيٌ دون هدف.
وقد تحدث بعض من يكتبون في علوم الاستراتيجية، أنّه في حالات كثيرة يثبتها الواقع يمكن للعمل التكتيكي أن يجهض الاستراتيجي ويضاده، وهذا انحرافٌ، ولا شك.
على ضوء ما تقدم، ومع يقيننا أنّ مثل ذلك الفكر التنظيمي، وإن كان غربي المنشأ، فإنّه لا يتعارض مع الدين الحق، شأنُه شأنُ علوم كثيرة أخذناها من الغرب، ودخلت عالمنا، وانتفعنا بها، مادامت لا تخالف الدين، ولا نستبدلها بنص واحد مما منَّ اللهُ به علينا من الوحي، والحكمة ضالة المؤمن (وهذا ليس حديثا، بل هو حكمة).
والآن، دعونا نرتب أهدافنا الإسلامية وفق ذلك. إنّ الهدف الإسلامي الأعظم أن نعود بالإسلام إلى مربعه الأول، لتعود الأمة الغائبة، التي تفرز تلقائياً دولة الإسلام على منهاج النبوة، والتي تحمل كل الواجبات والمسؤوليات لتألق دولة الإسلام، بما تحمله من ألق الوحيين على الأرض في كل ما تأتي وتذر، وتكون منارة على الأرض، يهتدي بها كل أهل الأرض.
وذلك معنى الاستخلاف الذي ذُكر في آيات الكتاب المبين. فالمسلمون ما وُجدوا ليعيشوا وحدهم، ويضبطوا أمورهم، وينتهي الاستخلاف! (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). إنّ الاستخلاف أن تعمُر الأرضُ بما يشيعون فيها من تعاليم الإسلام، يسبق كلامَهم إلى الناس تطبيقُهم له، في بلدانهم، وتعاملاتهم.!!! والله سائلهم عن ذلك. وإن لم يكنْ المسلمون حملةَ رسالةِ السماءِ إلى الأرض فمن يكون؟ وهل على وجه الأرض، وتحت أديم السماء، بشرٌ عندهم وحيُ الله محفوظاً إلى يوم القيامة، سوى المسلمين؟! على حين أنّ أصحاب الديانات السابقة بدلوا وحرفوا وغيروا! فليفطن كل مسلم إلى هذا.
وهذا الهدف الإسلامي الإستراتيجي (أن نعود بالإسلام إلى مربعه الأول، لترجع الأمة الغائبة، وتقام دولة الإسلام على منهاج النبوة) يحتاج تحقيقه إلى زمن طويل، يتجاوز العقود. وإلى عملٍ شاقٍ كبير علمي مؤصل، على ما جاء عن الله ورسوله. ولكي يتحقق هذا الهدف العظيم لا بد من إنجازات كبيرة ومتعددة تسبقه، وتؤسس له، وهي بمجموعها تندرج تحت عنوان (الأهداف التكتيكية). ومن أسوأ ما يجهض العمل، أي عمل وأي هدف، أنْ يُجعل التكتيكيُ استراتيجياً،
والاستراتيجيُ تكتيكياً، وكثيرا ما انتكس العمل الإسلامي بهذا العكس. لذلك قلتُ لا تقدم الأهداف الإصلاحية الجزئية على الهدف الكبير والرئيس، وهذا ما عبر عنه سابقا، بأنّ الهدف التكتيكي قد يتعارض مع الهدف الاستراتيجي الكبير ويتضادان وتكون النهاية، فشل الإثنين.

الوقفة الثانية: ولْنحاول وضع برنامج لبعض أهم تلك الإنجازات، على سبيل المثال وليس للحصر. وإلا فكلامنا لا يعدو التنظير المستلهم من نصوص الوحيين، أما التطبيق العملي والواقعي، فله أهله وأربابه، إن شاء الله. ومن ذلك، فإنّ موضوعنا سيتركز بإذن الله على محاور ثلاثة:
أولاً: مناقشة إشكالية: هل الدولة تسبق الأمة أم العكس؟
ثانياً: هل الأمة غائبة حقا، وما هو مفهوم الأمة، وما دليل غيابها؟
ثالثاً: ما هو الطريق إلى استرجاع الأمة الغائبة؟

أ. دولة الإسلام لا تقوم إلا إذا كانت أمة الإسلام حاضرة وليست غائبة، أو غثائية
ولا زال أكثر النخب يمارون في ذلك، لاسيما أهل الإسلام السياسي! والأدلة على ذلك كثيرة، فإنّهم لا يزالون يعيشون مسلسلا انتحارياً من محاولات يائسة وطائشة، لإقامة دولة الإسلام بالدم، عن طريق الثورات والانقلابات المسلحة، ولم ينالوا خيرا حتى الآن، ولا يزالون كذلك، لأنّهم على الطريق الخاطئ، وهيهات. بل إنّ ما هو شرٌ من ذلك أنّهم انشغلوا وأشغلوا الناس بإصرارهم على ذلك الهدف الضائع (الدولة قبل الأمة)، الذي خَطِئوا الطريق إليه، وأهدروا من أجله أهم مقومات استرجاع الأمة الغائبة، مثل التصفية والتربية، والدعوة على بصيرة، واشتغلوا بالتربية السياسية والتعبئة الدائمة، من أجل ذلك الهدف الضائع، فلم يزدادوا منه إلا بعداً؟
واختصارا للوقت والكلام، سأكتفي بأقوى الأدلة على أنّ الأمة هي التي تأتي بالدولة، وليس العكس. ولنستحضر الآن صورة وتاريخ المرحلة المكية التي كانت الطور الأول من عملية تأسيس الإسلام في الأرض. وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع تلك الحقبة، ولنطرح السؤال الآتي: ماذا كان الهدف في تلك المرحلة؟
وأعتقد أنّ الجواب المتفق عليه دون مخالف (بناء الأمة). ذلك هو الهدف الذي عمل من أجله النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة. ولم يشغل صلى الله عليه وسلم نفسه ولا المؤمنين معه، آنئذ، بغير العمل لذاك الهدف: بناء الأمة التي ستحمل الإسلام، وتدافع عنه، وتُرسي قواعده في الأرض، ليكون دين البشرية الخاتم، ولا دين سواه، إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها. حتى القتال لم يكن مأذوناً به في تلك الفترة، كي لا يشغل عمّا هو أهم، وهو بناء الأنفس على طريق بناء الأمة. ولمّا مالت بعض النفوس إلى اللجوء إلى القوة، بسبب ازدياد أذى المشركين على المؤمنين في مكة، نزل النهي الصارم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا). ولعلها حكمة مُرادة، أنْ يتم بناء أنفس نواة الأمة تحت ظروف صعبة، وأذى مستمر، ومعاناة شديدة، فالمهمة شاقة، والشدائد تصنع الرجال.
ومعلوم أنّه لمّا بلغ البنيان تمامه، انتقل النبي عليه السلام بالأمة التي صنعها على عينه إلى المدينة، بأمر من ربه، ليُقيم بها دولة الإسلام الأولى، التي ستبدأ مهمات الدعوة للدين الجديد ونشره، والجهاد من أجل ذلك. ومن استعراض المرحلة المكية، نستخلص الملمح الأهم، وهو (أنْ لا دولةَ بلا أمةٍ حاضرةٍ، واللُّهاثُ سعياً إلى الدولةِ، والأمةُ غائبةٌ، عملٌ عبثي، وقد يُضيِّع الدولةَ والأمةَ معاً، فضلاً عما يُهدر من دماء، ويُهدم من بناء، ويُنشط من أعداء، لأنّ ما هو تكتيكي قد قُدم على الأصل الاستراتيجي!).
ولنتذكر هذه المفارقة، القرآن ينزل ويأمر المسلمين بعدم القتال طيلة مدة الفترة المكية، ثلاث عشرة سنة، ولمّا أسست الدولة في المدينة، كان أول وأعظم منجزاتها الجهاد من أجل الدفاع عن الإسلام وأهله. ولنتذكر أنّ معركة بدر الكبرى وقعت في السنة الثانية للهجرة. والعاطفيون من المسلمين اليوم، وبعض أهل الإسلام السياسي يريدون اليوم إعلان الحرب على العالم كله، والأمة غائبة، ودولة الإسلام لم تولد بعد!
ولنجاح تطبيق هذا الأسلوب
في التعا
طي مع متلازمة (الأمة والدولة
)
ل
ا بد من عملٍ تربويٍ مُعمّقٍ، حتى يغدو ارتباط المسلم بالأمة عفوياً وتلقائياً بل فطرياً، كارتباطه وانتمائه لأسرته. وحُق لكثير من الأجيال الشابة المسلمة أنْ يَضْمر عندهم شعورُ الانتماء للأمة، وما يُشيعه ذلك الشعور في النفس من معان راقية سامية واعدة. لأنّهم فتحوا أعينهم على أمة غائبة محتضرة، سُرق دورها، وصار يتكلم باسمها حكامٌ أو أحزابٌ أو جماعاتٌ، هُم بعض الأمة ولا يُمثلونها، لكنّه ظُنَّ أنّهم الأمة. وصار التغني بالأمة أناشيد وشعارات مفرغة من كل مضمون.
إنّ الأجيال التي تُربى في حال حضور الأمة وقوتها يخرجون أسوياء كالطفل الذي نشأ في حضن أمه تنتقل إليه بالتأثير، ودفء المحضن، كل المشاعر الطيبة النبيلة تجاه الأم والأمة. وغياب الأمة الطويل كغياب الأم، حري بصُنع أجيال عاقَّةٍ ومُعاقةٍ عن العمل الجاد النافع..!
ألم يَأْنِ للمسلمين أنْ يقولوا بصوت واحد: الأزمة غياب الأمة..! فلتُبنَ الأمة من جديد، ولنوفر كل جهد لذلك الهدف الوحيد، وكفانا مغالطة للحقائق.

ب. ما هو مفهومُ أمةِ الإسلام؟ وما دليل غيابها؟
أمة الإسلام لها مفهومان: ماديٌ عدديٌ، ومعنوي غيبيٌ. أما المفهوم الماديُ العددي، فهو ما يتداول عند البحوث الإحصائية، والدراسات المتعلقة بالسكان من حيث العدد وأماكن التموضع، ومقارنة الموارد بعدد السكان، وغير ذلك مما له الصفة الإحصائية.
وأما المفهوم المعنوي الغيبي، فهو محسوسٌ ملموسٌ بآثاره. وأقرب مفهوم لحضور الأمة، ما يمكن استنتاجه من فحوى الخطاب في النصوص الآتية وأمثالها، وما أكثرها في كتاب ربنا تبارك وتعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ).
وقوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى). وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا). وقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ). وقوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ). وقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا). وقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). وقوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وسيأتي بإذن الله مزيدُ إيضاحٍ.
والآيات السابقة كلها تتحدث عن أمور غيبية، وقوة خفية، بل عن معجزات حدثت بأمر الله وقدرته لنصرة الإسلام وأهله، وهذه هي الآثار المحسوسة لحضور الأمة. ولنقارن ذلك مع حياتنا المعاصرة التي غابت منها كل تلك الآثار، لأنّ الأمة غائبة. ولأنّ الله تخلى عنا وأوكلنا إلى أنفسنا (رفض بعضهم استعمال تخلى الله عنا، ويضيعون الفكرة بالمؤآمرة الكونية). (لا بد من مناقشة توضيحية) نقول: الله تخلى عنا في سوريا، ويقولون هروبا: إنّ العالم كله وقف مع النظام (مؤامرة كونية).
ولو راجعنا قواميس اللغة، لاستقصاء معاني لفظة (أمة)، نخرج بالآتي، مع اختصار غير مخل:
1. ليس في قواميس اللغة معنىً واحدٌ لكلمة الأمة، يقول ابن الأنباري في كتابه (الزاهر في معاني كلمات الناس): (إنّ الأمة تنقسم في كلام العرب إلى ثمانية أقسام، منها:
. الجماعة قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ).
. الزمان، بمعنى المدة قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ).
. الدين قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)
).
وكل المعاني المعجمية السابقة لكلمة الأمة، تتناول معانيَ محسوسة مادية، ولا تنفعن في بحثنا، حيث إنّا حددنا أنفسنا بالمفهوم المعنوي للأمة الإسلامية. وهو الأكثر أهميةً في بحثنا، لمناسبته لمصطلحي حضور الأمة الإسلامية وغيابها، أو فاعليتها وغثائيتها. وللتأكيد نعيد القول: إنَّ المفهوم العددي لا يناسبنا قطعا في موضوعنا. فنحن مع أمور معنوية غيبية، تظهر وتختفي آثارها، وفق معطيات معينة، فتشكل واقع غياب الأمة وحضورها.
ولنقرأ الحديث الآتي، قبل أن نعطي التعريف النهائي المناسب للأمة: عن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا). قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
والآن قولوا بربكم، وبأمانة، هل تداعت الأمم من كل أفق أم لا؟ وهل الأمة في مرحلة الغثائية، ولم تُغن عنها كثرتها أم لا؟ وهل بِيعَ الدمُ المسلم في سوريا، بأبخس الأثمان، في مقايضات ومزايدات وصفقات، لا ناقة للسوريين فيها ولا جمل أم لا؟ ثم قولوا لي بربكم هل كان ذلك ليكون لو كانت الأمة الواحدة، التي تُنصر بالرعب مسيرة شهر، والتي يَرمي اللهُ عنها ويَحمل، وهي قويةٌّ في حضورها؟! وهل كانت نكبة فلسطين لتحدث والأمة حاضرة. وهل كان لإيران أن تتحكم اليوم بأربع بلدان عربية لو أنّ الأمة حاضرة؟!
وإذا أ
معنا النظر في الحديث السابق، نجد أن
ّ
النبي صلى الله عليه وسلم ترك لنا
معادلة تحتاج إلى حل،
في قوله: (أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ
). ولو بسطنا العبارة
النبوية بالمعطيات الواقعية اليوم، فنقول: أنتم اليوم مليار ونصف مسلم على وجه الأرض، لكنَّ وزنكم النوعي في العالم يساوي غثاء السيل. وجاء في لسان العرب؛ (الغُثَاءُ، بِالْمَدِّ وَالضَّمِّ، مَا يجيءُ فوقَ السيلِ مِمَّا يَحْمِلُه مِنَ الزَّبَدِ والوَسَخِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ).
والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه، بعلمٍ وفهمٍ، هو حل هذه المعادلة التي تركها نبينا عليه الصلاة والسلام لفهمنا: مليار ونصف مسلم عدداً = غثاءَ السَّيْلِ، وزناً وقدراًلماذا؟
الذي تشهده العيون على صفحة الواقع أنّ المساجدَ ملأى، والمآذنَ تَصدح، والحرمين الشريفين مُكتظانِ طيلة أيام السنة، بالحُجَّاج والعُمَّار والزُّوَّار. فأين ذهبَ ذلك الوزن لمليار ونصف مسلم؟! وأضرب مثالا واقعيا يعرفه كل أحد. ففي منتصف عام 2013 تقريبا، عقد في مصر مؤتمر إسلامي حاشد، حضره 500 عالم مسلم، وجاء في البيان الختامي الذي ألقاه الشيخ محمد حسان العبارات الآتية: (لقد اتفق العلماء المجتمعون على وجوب الجهاد لنصرة إخواننا في سوريا بالنفس والمال والسلاح، وبكل أنواع الجهاد والنصرة، وما من شأنه إنقاذ الشعب السوري من قبضة القتل والإجرام من قبل النظام الطائفي، ووجوب العمل على وحدة المسلمين في مواجهة تلك الجرائم واتخاذ الموقف الحاسم الذي يبرئ الأمة أمام الله تعالى). فما الذي خرج إلى صفحة الواقع من تلك المقررات؟ وهل أحس أحد في العالم بذلك المؤتمر، فلنبحث عن المغزى؟ لا قيمة لأولئك العلماء ولو كانوا خمسة آلاف، بل عشرة، ما داموا لا يأوون إلى ركن شديد، وليس من ورائهم، أمة مرهوبة الجانب، فهي غائبة أو غثائية. والعلماء لا يخيفون العالم لا ببياناتهم، ولا بقاماتهم، ولا بلحاهم وعمائمهم، وجببهم! إنّما بالأمة التي يصدرون عنها، وهيهات.
وكما يقال، الشيء بالشيء يذكر. فلقد خطب داعية سعودي، في الفترة نفسها، خطبة جمعة في مسجد عمرو بن العاص في القاهرة، ألهب فيه حماس المصلين، حين قال: (نحن اليوم ننتظر الخلافة، وأقسم بالله أنّها قادمة، وما يحدث في بلاد الإسلام من تصفية وجهاد ما هو إلا تهيئة للأمة لتكون أهلا لحمل الخلافة). ثم تظاهر المصلون أمام المسجد هاتفين: (والخلافة جاية جاية رغم أنف العلمانية)! وماذا أعددت لها يا عريفي أنت وكل العلماء المؤتمرين، وكأنّ الخلافة تقوم كما يقام مؤتمر خطابي فاشل كمؤتمركم! وكل هذا جرى ورآه وسمعه نخب المسلمين، ولا زال أكثرهم يماري ويتمارى في مسألة غياب الأمة!!! لكنّهم لو كانت لهم البصيرة النافذة، رغم عمى أبصارهم مجازياً، لرأوا أنّ المؤتمر لم يحرك ساكنا في العالم، وأنّ كل من في العالم يعلم أنّ المؤتمرين لم يكونوا يصدرون عن أمة حاضرة من ورائهم، وأنّ عديد المسلمين، ولو جاوز المليار، فإنّه مجرد عدد لا شوكة لهم في العالم. ولقد عرف العالم ذلك من قراءة الواقع المعاش، والمراقب بعلم وتبصر، لا مجرد تسجيل معلومة.
ولنتذكر قصة الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه، في مقابلته الشهيرة مع رستم ملك الفرس، وأسلوب تصرفه في ذلك اللقاء المفعم بكل معاني العزة والثقة التي يتحلى بها الفرد المسلم، وفي أشد الظروف، مادام يعيش في كنف الأمة الحاضرة. وأرى أن أُذكر ببعض فقرات تلك المقابلة، لموافقتها للسياق الذي نحن فيه: (صحابي جليل، كان معاقا بسبب شدة عرجه وصعوبة مشيه وحركته، لكنّه تميز بطلاقة اللسان والقدرة على التفاوض، حيث أرسله سعد بن أبي وقاص إلى قائد الفرس رستم فكان من أنجح السفراء والمبعوثين السياسيين نظرا لصلابة عقيدته وشجاعته وإخلاصه في المهمة.
ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائل وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إنّي لم آتكم وإنّما جئتكم حين دعوتموني، فإنّما تركتموني هكذا وإلا رجعت…
). ويبدو في نهاية المقابلة تأثر رستم بكلام ربعي رضي الله عنه، بادياً ذلك في كلامه وجنوحه إلى اللين، ما أثار رفض من حوله، حتى قالوا له كما تروي الروايات: (فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل الى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إنّ العرب يستخفُّون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب).
لم يكن الذي غير موقف رستم تأثره وخشيته من شخص ربعي وما قال. إنّما ذهب تفكيره إلى القوم الذين هم وراء ربعي، وأدرك رستم أنّ ربعياً كان يصدر في كلامه عنهم وليس عن ذاته، فكان منه ذلك التراجع.

وأرجع ثانيةً، إلى حديث تداعي الأمم، ومفهوم غثائية الأمة. ففي بعض الأحاديث النبوية نظائر لهذا الحديث. ففي المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ: اقْرَءُوا (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا)). وشرحُهُ في مرقاة المفاتيح: (أَيْ: جَاهًا وَمَالًا، أَوْ لَحْمًا وَشَحْمًا، لَا يَعْدِلُ وَلَا يَسْوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، أَيْ: لَا يَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَمَنْزِلَةٌ).

وبعدُ، فلقد اتضحت حالة الغثائية التي تعانيها أمة الإسلام، بجلاء ما بعده جلاء، لأعداء الإسلام، وهم يقيمون حساباتهم الاستراتيجية على هذا الفهم، ولما تدخل بعض عقول بعض نخب المسلمين، فواها!
وصفوة القول، حول مفهوم حضور الأمة وغيابها، أو غثائيتها وفاعليتها، أنّ المفهوم العددي للأمة مستبعدٌ بشهادة الواقع الذي نعيش، والمسلمون كعديد الطَّيْس، ووزنهم عند أهل الأرض صفر. ومن ذلك، لا بد من أن نعبر عن مفهوم حضور الأمة وغيابها في واقع المسلمين. بما يلي، فنقول: إنّ حضور الأمة في حياة المسلمين أبعد ما يكون عن العدد، إنّما هو استحقاقهم رضا اللهِ عنهم، وعنايتَه بهم، ورعايتَه لهم، وتوفيقَه وتأييدَه ونصرَه لهم، حينما يستقيمون على الطريقة، فيقيمُ ربهم لهم الوزن الكبير، والشأن العظيم، بين دول الأرض، فيعيشون في جوار ربهم وكنفه، وتأتيهم دنياهم مُذللةً بأمر ربهم، هو مولاهم الحقّ.. هذا هو حضور الأمة، ولا شيء سواه. وإن كانت الأخرى، فلا وزنَ ولا شأنَ ولا توفيقَ ولا تأييدَ ولا نصرَ، إنّما يَكِلُ اللهُ المسلمين إلى أنفسهم، ولا يغني ذلك عنهم من شيء، وتلك حالة الغثائية!
ولا بأس أن نعبر عن الفكرة بكلمات أُخَر. فنقول: إن استقامَ المسلمون على أمر الله، وكانوا على ما كان عليه النبيُّ وأصحابُه، أظلَّتهم مظلةٌ من رضا ربهم وعنايته ورعايته وتوفيقه وتسديده ونصره، فحفظتهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ومن بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم. (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).
وبعض المفسرين يقولون إنّ مثل هذه الآيات ليست للجن وأهل الكتابين فقط، بل يطبق مفهومها ومنطوقها على المسلمين أيضاً، عملاً بالقاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المناسبة).
وأما إنْ عَتَوا عنْ أمرِ ربهم، فإنّهم يعيشون مكشوفين من كل جهة، تتداعى عليهم الأمم من كل أفقٍ، ويَكِلُهم الله إلى أنفسهم، بعد أن أخلُّوا بأعظم شرطين في كتاب الله، وهما: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) و (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
هذا هو مفهومُ حضورِ أمة الإسلام، وهذا هو رصيدُ المسلمين الحقيقي الذي ينفعهم في دنياهم وأخراهم، ولا يحتاجون سواه. أما غياب الأمة أو غثائيتها، فعاقبته مشهودة ملحوظة مُعاشة، في واقع المسلمين وهوانهم على أهل الأرض، بعد أن هانوا على رب السماء، لا تُخطئها عينٌ، ولا يَندُّ عنها فهم.
ولتقريب الفكرة أكثر أقول: إنّ حياة المسلمين، والأمة غائبة، أشبه بحياة الجاليات المسلمة في الدول الأجنبية. إنَّ الشعور المريح والمطمئن لهم في غربتهم، من حسنِ تعامل الدولة المضيفة، مع وجودهم فيها، ومنحهم حقوقهم كاملة، وكذلك حسن تعامل الشعب المضيف لهم، ما يشكل مظلة أمان تظلهم وتسعدهم. رغم تناقضاتٍ كثيرة بين تدينهم ونظام وعوائد المجتمع من حولهم. إلى حد أنّ ذلك الواقع بكل تناقضاته وتقلباته، والتعايش معه، يبدأ شيئا فشيئا يفقدهم أو ينسيهم الشعور بانتمائهم لأمة، ويفقدهم الشعور بعزة المسلم. بسبب ذلك الانتماء، وليس لدستور يضمن حقوق الأقليات، أو حسن ضيافة يفرضها ادعاء التحضر والمجاملات، وذلك واقع لا ثبات له ولا دوام. بل إنّهم قد يمرون بظروف يرون الإسلام عبئا ومصدر قلق وتوتر لهم، بسبب إجراءات أمنية قد تتخذها الدولة المضيفة، فيعيشون حالة من الانفصام، والتوجس والتخوف.
فمهما كان شعور المسلمين بمواقف مرضية، وأحوال مريحة في حال ضحك الدنيا لهم، فما ذلك إلا آنيٌ موقتٌ لا يدوم، وترجع الأمور لتحمكها النزعات العصبية والدينية وكره الإسلام، من كل أهل الأرض، في حين أنّ الإسلام، وهو الدين الذي ارتضاه الله لكل البشر، يستوعب بتعاليمه وواقعيته كل النزعات البشرية، ويضمن لها السلامة والحياة المستقرة إن تعاملت مع الإسلام على أنّه الديانة السماوية الخاتمة.
لقد أطلت في توصيف الحالة، لأنّي وجدت الفكرة مُسْتَغْلِقَةً حتى على أكثر النخب! وتحضرني الآن قصة واقعية جاءت مناسبتها، كمثال واقعي لما نحن في صدده. وجَدتُني ذات مساء، منذ ثماني سنوات، ضيفاً في بيت أحد منظري الثورة السورية وزعمائها. وكان المجلس حاشداً. وكان يدور حوار بين بعض الحاضرين وصاحب البيت حول موضوعٍ عنوانه أنّ الأمة تعاني من أربعة أمراض الفقر والمرض والجهل والتخلف، وعن طريقة معالجة هذه الأمراض، وكثر الخوض في ذلك. واستمعت طويلا، ثم استأذنت صاحب البيت بالتداخل. وركَّزت على موضوع غياب الأمة فقلت: أين الأمة التي تريدون معالجتها من هذه الأمراض الوبيلة، هل هي حاضرة أم غائبة؟ إنّكم تعالجون مريضا افتراضيا، فليحول الجهد كل الجهد لاسترجاع الأمة الغائبة أولا، ثم عالجوا ما شئتم،! ثم قلت لهم: الناس يُقتَّلون الآن في سوريا، فعالجوا هذه القضية، وابحثوا أسبابها وكيفية معالجتها. ثم تداخلت ثانيةً، بعد أن تكلموا في ما يجري وتقويم مجريات الثورة. فقلت لم أسمع أحداً ممن يتحدثون عن الثورة، لا في هذا المجلس ولا في مكان آخر، يُشير إلى العدو الحقيقي الذي يقاتل السوريين، وأسهبت في التأكيد على كيد وخطر الصفويين، وأنّهم هم العدو فلنحذرهم. والعجيبُ، وليس بعجيبٍ، أنّني ومن كان بصحبتي خرجنا بانطباعٍ أنّني لم أكن مقبولاً، ولا مُرحباً بي في المداخلتين، لا عند المضيف، ولا عند الحضور، وأعرف ذلك، تماما لأنّني كنت أُغردُ خارج سربهم!
ولعلكم أدركتم مغزى القصة الذي يتلخص في أمرين: أولهما أنّ المشهد والموقف يصدق ما أقوله دائما، إنّ مسألة غياب الأمة أو غثائيتها، هو خارج وعي أكثر نخبنا! والأمر الثاني، مثال واقعي، عن إشكالية التمحور في محاولة الإصلاح حول الأمور التكتيكية، والأمر الاستراتيجي غائب، ويضيع عندئذٍ الأمران. وقد كتبت وقلت أكثر من مرة، عبارة: (لا يُجدي عملٌ إصلاحي والأمة غائبة)، ولم تُعجب كثيرين، لأنّهم ليسوا مقتنعين، ولا يشعرون بحقيقة وخطورة غياب الأمة. أوليس عجيبًا أن يحاضر في استامبول، أستاذ جامعي سعودي، منتمٍ إلى تنظيم إسلامي سياسي، لمدة ساعة ونصف عن الديمقراطية مادحا ومحببا بها، ولم يدر أنّ أمة المسلمين غائبة؟!

بهذا القدر نكون بحول الله قد انتهينا من الإجابة عن سؤالين أساسيين، هما: ما هو مفهومُ أمةِ الإسلام؟ وما دليل غيابها؟ وبقي عندنا السؤال الثالث (ما هو طريق استرجاع أمة الإسلام الغائبة)، وسيكون، بإذن الله، عنوان الوقفة الثالثة.

الوقفة الثالثة: بعد أن اتفقنا على أنّ الأمة غائبة وغثائية، فلا بد أن ننتقل إلى الجانب العملي وهو المعالجة. والسؤال الآن، ما هو الطريق إلى استرجاع الأمة الغائبة، ونقلها من حالة الغثائية إلى الفاعلية؟
إنّ بعث الأمة المسلمة من جديد، بعد غيابٍ وغثائيةٍ، يتعلق بأمر واحد: هو إعادتها إلى الوحيين اللَّذَيْن كان البعدُ عنهما سَببَ غُثائيتِها وغَيبوبتِها. ولمّا كانت الأمة مجموعة أفراد، فالمقصود ببعد الأمة عن الوحيين بعدُ أفراد المسلمين. إذن، عملية استرجاع الأمة الغائبة تبدأ من تعاهد أفراد المسلمين بتربية تعيدهم إلى الوحيين، فإن عادوا عادت الأمة لتكون لهم الحصن والملاذ والتمكين، وهو الوضع الطبيعي الذي يجب أن يكون عليه المسلمون دائما. وإذا عادت الأمة المسلمة الغائبة ستأتي من رحمها الدولة المسلمة على منهاج النبوة، وتقوم يومئذٍ كلمة الله في الأرض.
ولا يفوتنا العلمُ، أنّ الله قادر على تحقيق كل تلك الأهداف، وهو تبارك وتعالى مستغنٍ عن البشر جميعا، لكنّه شاء، وله المشيئة وحده، أن يكون لبني آدم حظٌ ونصيبٌ في ذلك، وهذا هو الابتلاء في الحياة الدنيا، الذي يترتب عليه الثواب والعقاب في الآخرة، فلنرِ الله من أنفسنا ما يرضيه عنا.
إنّ غياب الأمة غياب لأكبر أهداف المسلمين على هذه الأرض. ففي السياسة فإنّهم في مؤخرة الركب لأنّه لا وزن لهم ولا قيمة. وقد نال أعداؤهم منهم كل نيل، وما زالوا يخوضون معاركهم الخاسرة ولم يحرزوا نصرا واحدا حقيقيا، إلا بالأماني والادعاء. وفي الاقتصاد هم أسرى نظام اقتصاد عالمي، لا يعرف الحلال والحرام، يحركه الجشع الرأسمالي. وقد استَخْذَى المسلمون ونخبُهم، إلى حَدِّ أنّنا بتنا نراهم بدلاً عن التوافر على عملٍ دؤوبٍ، لإيجاد نظام اقتصادي إسلامي، نسمع من بعض النخب مقولة (وهل يقوم اقتصاد بلا ربا ؟).! وصار التساهل في أمر الربا ديدنَ أكثر أهل الفتوى في كل بلاد المسلمين. وكثيرة هي القضايا المصيرية الغائبة لغياب الأمة. فلنرفع عقيرتنا قائلين: إنّ الهمّ الذي يجب أن يسكن قلب كل مسلم اليوم أنّ الأمة غائبة فكيف تعود؟ لأنّ كل مشكلات المسلمين على تنوعها من هنا تبدأ، وهنا تنتهي! فالأمة قبل كل شيء كيان وجماعة، ويد الله على الجماعة، ولا يعترف الإسلام والمسلمون بأي جماعة سوى الأمة الواحدة، وللأمة إمام وليس أئمة. وتلك هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ). جماعة واحدة لا جماعات، وإمام واحد لا أئمة. وإلا (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا). وصدق رسول الله.
إنّ الطريق لبعث الأمة يسيرٌ في الكلام؛ دعوةٌ على بصيرةٍ، وتصفيةٌ وتربيةٌ. لكنّه في ميادين العمل ينتظر الرجال والمنهج والإخلاص، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. إنّها ثورة على الأنفس قبل كل شيء، لأنّ التصفية والتربية، والدعوة على بصيرة، عمليتان تتطلبان البشر المخلصين، والمنهج الصحيح.

ولا أستطيع، بل لا أرضى أن أغادر الحديث عن الواجب في استرداد الأم الغائبة وطريقته، دون عرض حديثٍ عظيمٍ، يجلو البصر والبصيرة، ويؤكد على أنّ المهمة كبيرة، والحِمل فيها ثقيل. ولنقرأ حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، عندما خرج النبي عليه السلام معه يودعه وهو يغادر إلى اليمن مبعوثا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قال له عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي، وَإِنَّ أَوْلِيائِي مِنْكم الْمُتَّقُونَ، من كانوا وحيث كَانُوا، اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ، وايم الله لَتُكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكفأ الْإِنَاءُ فِي الْبَطْحَاءِ).
وليتأمل القاريء هذا التشبيه النبوي، في وضوح بيانه، ودقة دلالته، وهو قبل ذلك نبوءة نبينا عليه الصلاة والسلام عما سيصيب أمته. لقد بين نبينا صلى الله عليه وسلم أنّ أمة الإسلام ستُكفأ عن دينها، بالطريقة نفسها التي يُنثر فيها الماء من الإناء، بإمالته ليفرغ ما فيه. ومن الذي سيفعل ذلك؟ إنّ دين الأمة سيُكفأ بأيدي أبنائها، وليس بأيدي أعدائها الخارجيين! ودققوا أنّ النبي عليه السلام ندب أولياءه المتقين لإصلاح ذاك الفساد (إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ)..! فكم أضاعت المكابرة، والمماحكة الحق عند كثير من الناس..؟ فأين الذين سماهم النبي عليه الصلاة والسلام، ووصفهم في حديث معاذ (بأوليائه المتقين)، وندبهم للإصلاح؟ لقد عم الفساد وطم، وانكفأ دين أمة الإسلام كما يكفأُ الإناء لنثر ما فيه! فأين أولياء النبي يصلحون ذلك الفساد العريض؟!
إن
ّ عملية الاصلاح لاسترجاع الأمة ليست وهمية أو افتراضية! إنَّ محلها أفراد الأمة الذين تصلح الأمة بصلاحهم. والقائمون بتلك المهمة، هم العلماء والدعاة، ولا أحد سوى أولئك. ويجب أن تتلاشى من حياة الأمة ألقاب وأوصاف من مثل منظر ومفكر ومحلل، فهؤلاء أسهموا في سقوط الأمة أكثر من إسهامهم في خلاصها، لأنّهم يصدرون عن العقل والواقع والهوى، وتتخطفهم مشارب شتى، وليس لهم منهج، وإلا لما رضوا بتلك المسميات الوافدة، ولو كانوا على منهج الحق، لاختاروا الشرف العظيم أن يلقبوا دعاة أو علماء (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). والداعية مكانه الصحيح مع الناس وبينهم، وليس في صالونات السياسة، وعلى كراسي الوزارة، أو المجالس النيابية، أو مشاركا في النشاط والاجتماعات الحزبية، ولو كانت التسمية (حزبا إسلاميا).
وماذا نفهم من هذه النذارة النبوية الخطيرة؟ إنّ الذي يحذر منه نبي الأمة صلى الله عليه وسلم أمر هو إحدى الكبر، وهل أخطر من أن يُكفأ دين الأمة..؟ يعني أن تصبح بلا دين، أو بتعبير أدق أن تصبح على دين غير مقبول عند الله، فهو في النتيجة (كَلَا دين). لقد بين عليه السلام من الذين ستناط بهم تلك المهمة المباركة العظيمة (إِنَّ أَوْلِيائِي مِنْكم الْمُتَّقُونَ، من كانوا وحيث كَانُوا، اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ، وايم الله لَتُكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكفأ الْإِنَاءُ فِي الْبَطْحَاءِ). فيا لها من مهمة خطيرة، لا يقدر عليها ولا يحسنها إلا المتقون! وهم المعنيون بقول نبيهم عليه السلام (إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ). ولن تتقدم تلك المهمة، مهمة في الأهمية، ولن ينفع المسلمين عمل مهما كان عظيما، إن لم يسبقه إنجاز تلك المهمة. فأي خير يُرَجَّى والأمة غائبة؟ فأين أنتم يا أيها المتقون؟ يا أولياء محمد؟ أروا ربكم من أنفسكم، وأعدوا أنفسكم لمهمة لا يحسنها غيركم، ولا يستحق شرف إنجازها إلا أنتم. إنّ إصلاح ما فسد من حال الأمة، هو (بالتعبير النبوي) ملء دين الأمة من جديد، بعد أن كُفيء. فلا تستثقلوا الحمل، ولا تستعظموا المسؤولية، فيدُ الله فوق أيديكم، وتدبيره قبل تدبيركم، وما النصر والتوفيق إلا من عنده، فتوسلوا إليه بإخلاصكم، يَكْفِكُم ما وراء ذلك! وإنّ تلك المهمة قد استحقت منذ زمن بعيد، لكن لم تجد لها قائما بها. ومن يدري، والعلم عند الله، فقد يكون تعالى قد ادخر أجرها لكم؟!
والأمر الذي يستوقفني مرات، وأعجب من كيفية تعاطي الناس، حتى النخب أحيانا، معه. حينما تُنشر صور، ويُعرض فيلم، وتُذاع تصريحات مسيئة إلى الإسلام وإلى النبي صلى الله عليه وسلم من كفار لا يتوقع منهم غير ذلك، ولو كان غير ذلك لكان نفاقا أو مجاملة! فيُسْتَخَفُّ الناس، ويقومون ولا يقعدون، وتقوم المهرجانات، وتقام الندوات، وتعقد المؤتمرات، وتتحرك المظاهرات. والمُنْكي والمُبْكي أنّه يساء للإسلام ونبيه، في ديار الإسلام، أضعاف ذلك، ومئات المرات في اليوم الواحد، من أبناء الإسلام، بل من بعض المتدينين، بل من بعض العلماء، حينما يهجرون سنته ويعطلون هديه بنشر البدع، وتقديم أقوال الرجال والعصبيات من شتى الأشكال على سنته وهديه، ولا يتحرك أحد! وبكلام آخر مستعار من النبي عليه السلام يُكفَأُ دين الأمة وبفعل أبنائها، والكل ساكت. أما فعل مارق كافر برسوم أو كلام، يقيم الناس ولا يقعدهم. فلا يستغربن أحد، إذن، كيف وصلت أمة الإسلام إلى الغثائية والاحتضار! لا أحد يرضى أن يساء إلى الدين وإلى النبي، لكنّه فرق كبير بين معالجة علمية حضارية يرودها علماء ودعاة الأمة من موقع الثقة والمسؤولية، وبين تحرك غوغائي جاهل من فعل العوام، يسيء أكثر مما يصلح، ويفتح الأبواب لكل مندس مغرض مريد للفتنة.
والذي ينبغي إيضاحه للناس، أنّ دين الأمة حينما يُكفأ لا يكون بفعل الكفار والملحدين والزنادقة، لكنّه من عمل المبتدعين، المعطلين للوحيين، التاركين منهج (ما أنا عليه وأصحابي) من أبناء الإسلام، وهم ولا شك أهل الفرق الذي حدث عنهم النبي عليه السلام في حديث الافتراق، ومن ساروا في ركابهم، ليغدو الدين الذي عليه الناس غير دين الله الحق. وكما ذكرنا سابقا، الدين غير المقبول عند الله، هو في النتيجة كَلَا دين. فبهذه الطريقة الخافية على كثيرين يُكفَأُ دينُ الأمَّة.
إنّ أسوأ ما وقع المسلمون فيه، وأعني نخبهم، أنّهم لم يُحسوا شرعيا وعلميا وواقعيا بغياب الأمة، لأنّهم ظنوا أنّ الدولة تقوم بدور الأمة، وقد أخطأوا الفهم، وقد أغراهم بهذا الفهم أنّهم يريدون الطريق الأسهل، والوقت الأقصر، لتحقيق إصلاح أحوال المسلمين، ومن هنا أوتوا، ولن يحققوا ما يريدون لأنّهم ضلوا الطريق إلى الهدف. وللنخب وهمٌ آخر، أنّهم يعتقدون أنّ دور الأمة الغائبة، يمكن أن يقوم به جهات أخرى حاضرة. وفاتهم شيء مفصلي، أنّ الأمة إذا غابت لا يعوض غيابها لا الدولة، ولا الحكام، ولا الأحزاب، ولا المؤسسات الدينية بمشايخها وعلمائها، بل كل أولئك قد يكونون، بواقعهم المريض بسبب غياب الأمة، معيقين، أو مؤثرين في الاتجاه المضاد لاسترجاع الأمة!

الوقفة الرابعة: أنهينا الكلام، بتوفيق الله، في الوقفة الثالثة عن (كيفية استرجاع الأمة الغائبة). وقد حددنا الطريق لهذا المشروع العظيم بمحورين رئيسين؛ دعوةٍ على بصيرة، وتصفيةٍ وتربيةٍ. وهناك أمر مُهمٌ، ومبعث أهميته أنّه المُتَمِّمُ لهذين المحورين، والضامنُ للنجاح في تطبيقهما، بعد توفيق الله. وهو: أن لا يبقى هاجس النتائج، وحمل همها، ملازماً باستمرار للعامل في كل حين، مما يشغل التفكير، ويشتت التركيز
ويُبَعثِر الجهد. وإنّ عنصر الزمن في عملية البناء والإصلاح، يسبب قلقا كبيرا للعاملين الذين يستعجلون النتائج، طلبا للاستمتاع بنشوة النجاح والانتصار، وهو مما جبل عليه الناس. ولكنْ إذا صار هذا الهاجسُ عبئاً على المنهج، ومعيقاً للتقدم، وجب التخلص منه، لاسيما حين يكون الطريق طويلاً، والواجب ثقيلاً، والمشروع عظيمًا. ولكل أجل كتاب. والنتائج وأمدها إلى الله وحده منتهاها، وليس للبشر من الأمر شيء.
ولنْ يُفلِحَ في صفوفِ هذه المسيرة المباركة، بإذن الله، مُتَعَجِّلٌ، همُّهُ المحطةُ الأخيرة، وشهودُ لحظةِ إعلان النصر. فإذا رأى المسيرَ قد طال به، فسَيُعالُ صبرُه، وتـضيقُ نفسه، ويبدأ يخبط خبطَ عَشْواء، يُفسد أكثر مما يُصلح، لأنّ نفسه وعقله وقلبه تتعلق بالنتائج فقط، ولم يُعِدَّ نفسه للعمل الدؤوب لتحصيلها! ولَكَمْ أَجْهَضَ استبطاءُ النتائجِ منْ عملٍ لتحقيق أهداف سُمِّيَتْ إسلاميةً، لكنَّ التخطيط والطريق كان جاهلياً. وأشدُّ ما أزرى بمثل تلك التجارب، أنّ استطوال الطريق، واستبعاد الهدف، صارا عبئا على المنهج، فبدأ القفز فوق المراحل للاختصار والاستعجال، فكان الخُسران. وما جَرَّه العملُ غيرُ المُمَنْهَجِ من رزايا وبلايا. ولنقرأ خطاب ربنا لنبينا: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ). وقد فسرها الشيخ السعدي بقوله: ({إمَا نُرِيَنَّكَ} إياه في الدنيا فتقر بذلك عينك، {أو نتوفينك} قبل إصابتهم، فليس ذلك شغلاً لك. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} والتبيينُ للخلق. {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} فنحاسبُ الخلق على ما قاموا به، مما عليهم، أوضيعوه، ونثيبهم أو نعاقبهم).
والذي يستعمله الله تبارك وتعالى من المسلمين على عمل إصلاحيٍ، لمصلحة الأمة المسلمة، لا يجعلُ همَّهُ إلا تجريدَ النِّية وإخلاصَها لله تبارك وتعالى أولا، ثم ضبطَ عمله بالمَنهج الحقِّ، وحُسنِ الاتباع. أما النتائج، وكلُّ ما هو من شأنها، فيُفوِّضُ الأمر في ذلك إلى الله، ويحرص وهو على الطريق أن يتواصى ومن معه بهذا الأمر الخطير، أمر النتائج!
ولو سألنا كل مهتم بالنتائج ويُظهر الخوف من الفشل، ويظل قلقاً، بسبب هذا الهم الذي يَحْمِلُهُ، ولم يُحَمَّلْهُ، هل أنت أحرص وأغير على دين الإسلام من ربك الذي أنزله؟! إذن، ما فائدة هذا الهاجس وهذا القلق، الذي يعيق العمل وقد يحبطه؟!
وقد يكون حمل هم النتائج، والمبالغة فيه، يصدر عن نقص في التوحيد، وغباشة في الرؤيا، نعوذ بالله من ذلك! وقد لا يكون حمل همّ النتائج صادرا عن الانحراف السابق، إنّما قد يكون عن حرص شديد على تحقيق النتائج مبالغٍ فيه، يَخرج عن المقبول والمعقول، ويحدث حالة من الخلل والإرباك في العمل! وقد يكون أحيانا نتيجة اندفاع عاطفي شديد وراء النتائج. وسيكون المثل الذي أضربه لهذه الحالة التي نتحدث عنها مفاجأة لبعض القراء، إلى حد أنّ بعضهم قد يرفضه، وقد يكون عالما. وما كان لي أن أتحمل مسؤولية هذا الكلام المدهش، لولا أنّي وقفت على كلام لعالم رباني معروف تكلم به، إنّه ابن تيمية رحمه الله. إنّ الذي تكلمناه في السطور السابقة عن إشكالية هاجس النتائج وحمل همها، والاندفاع العاطفي باتجاهها، تَجَسَّد في شخصيةٍ إسلاميةٍ فَذَّة. إنّه الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهأنذا أنقل عن ابن تيمية أسطراً قرأتها منذ أكثر من ربع قرن، في رسالة ابن تيمية الموسومة (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وهي نفيسة في بابها فلتُقرأ .. وأُحب أنْ يُشاركني الأخوة القراء فهمها، واستيعاب كل جوانبها، وأنْ يوافقوا معي على أنّنا أحوج ما نكون إليها في محنتنا، ولا أقصد محنة السوريين، لأنّها في الحقيقة محنة الأمة كلها، وليست الأولى ولا الأخيرة! إنّ القصة التي بين أيدينا، هديٌ منهجيٌ في التعامل مع الأزمات برباطة جأشٍ، وثقةٍ بموعودِ الله، وضبطٍ للأمور كما أمر الله، وعلّم رسول الله. وإنّنا، ويا للأسف، والأمةُ غائبةٌ، نتعامل مع المشكلات، مهما كبرت، بأسلوب إطفاء الحرائق هنا وهناك، دون أي اهتمام وتدخلٍ في ما سبق الحرائق وما سيلحقها.
إنّنا يجب أنْ نواجه ما يُحاك ضدنا، بعون الله، ثم بالأمة الحاضرة القوية، أما المواجهة ببعد عن الله، وأمة ضعيفة غائبة، فلا يعدو إطفاء الحرائق. كفانا اشتغالاً وانشغالاً بالأعراض، ولنُوجه اهتمامنا وكل ما أوتينا إلى الأمراض، وما هو إلا مرض واحد: غياب الأمة. لقد أطلت فأعتذر، وسأترككم مع تلكم الأسطر، ولي إليكم عودة.
بعد أن يذكر ابن تيمية فضائل عمر والأحاديث التي وردت أنّه مُحدَّث، وأنّه لو كان بعد نبينا نبيٌ لكان عمر، وأنقل واحداً من تلك النصوص لتتضح الصورة وهو ما جاء في الترمذي من قول النبي عليه السلام: (
إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ). فيُقدم لما يريد بتلك النصوص ليقول:
(فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة، ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم، على أن يرجع في ذلك العام، ويعتمر من العام القابل، وشرط لهم شروطا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة. وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى»، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: «بلى»، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه» ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، قال: «بلى»، قال: «أقلت لك: إنّك تأتيه العام؟» قال: لا، قال: «إنّك آتيه ومطوف به».
فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت لذلك أعمالا. وكذلك لما مات النبي صلى الله عليه، أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر: إنه مات. رجع عمر عن ذلك.
وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله ألا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها» فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: «إلا بحقها» فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعلمت أنّه الحق). انتهى كلام ابن تيمية.
و
بعد أن نقلت كلام ابن تيمية بالح
رف، أريد أن أضيف كلاما لم يقله ابن تيمية عن عمر رضي عنه، لأنّ أهل زمانه لم يكونوا يحتاجون إلى جرعة قوية. وما أريد أن أقوله الآن، تعليقاعلى حادثة الحديبية، هو كلام بتركيز أكثر، وصراحة أكبر، لأنّ أهل زماننا بحاجة إلى ذلك، وقد فشى فيهم هذا الذي أصاب عمر. أقول بصراحة، وقد لا تعجب بعض النخب، إنّ ما حصل مع عمر رضي الله عنه، هو فرطُ عاطفيةٍ تجاه قضايا كبرى يريدها أن تتحقق لصالح دين الإسلام، لكنّ الإفراط في تلك العاطفية، والتمحور حول هاجس النتيجة، كان يحول بينه رضي الله عنه وبين موقف سديد آنِيٍّ! ولكنّه وبعد البيان له، يزول عنه التأثير العاطفي، ويصيبه الندم، ويؤوب إلى الحق والصواب. وهذا ليس اتهاما أتهم به عمر الفاروق رضي الله عنه، حاشاي، وأعوذ بالله من ذلك، ولكنّي سأنقل قريبا وصفَهُ لما أصابه، بلسان حاله. ولندقق الآن في تلخيص المشكلة. رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بقضاء مبرم قضاه الله تبارك وتعالى، وأوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد بلغه للناس للعمل به، فهل يُتوقع أن يخفى كل ذلك على عمر رضي الله عنه، وهو من هو؟ ولنقرأ جواب النبي عليه السلام لأسئلة عمر المتلاحقة: (يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: (بلى)، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: (بلى)، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّي رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه)). ومع ذلك يصر عمر رضي الله عنه على متابعة السؤال: (أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، قال: (بلى). قال: (أقلت لك: إنك تأتيه العام؟) قال: لا، قال: (إنّك آتيه ومُطَّوِّفٌ به)).
وبعد ذلك كله يذهب عمر رضي الله عنه إلى أبي بكر رضي الله عنه، ويعيد له الكلام السابق. وجاء في بعض الروايات، كما في مسند أحمد، أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه: (يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ حَيْثُ كَانَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ. قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ). وذُكر في المسند أنّ عمر رضي الله عنه قال بعد ذلك: (مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا). وهذا يدل دلالةً صريحةً على أنّ عمر رضي الله عنه كان وقافا أوابا إلى الحق، برغم ردود فعله الأوَّلية، والتي وصفْتُها بالعاطفية، لأنّها وبكل أسفٍ وأسىً، تلازمنا في كل شؤوننا.
ولقد تكرر هذا الموقف مع عمر، مراتٍ أُخر، مثل موقفه من موت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نُقل أنّ عمرَ رضي الله عنه أنكرَ موته أولا، وقيل إنّه هدد من يقول ذلك بالقتل، وقد اختلف الرواة في ثبوت ذلك. فلما قال أبو بكر: إنه مات، رجع عمر رضي الله عنه كعادته وفاءَ.
والإشكال الثالث كان لعمر رضي الله عنه، كما ذكر ابن تيمية، مع قضية قتال مانعي الزكاة. قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: (كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله ألا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال له أبو بكر، رضي الله عنه: ألم يقل: «إلا بحقها» فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى اللله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنّه الحق).
ومما نقل في هذه الحادثة أنّ عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: (يا خليفة رسول الله تـألف الناس). فغضب أبوبكر وقال لعمر: (أجبارٌ في الجاهلية، خوارٌ في الإسلام؟). وبعض العلماء ضعف ذلك. ولذلك يقول ابن تيمية: (فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت لذلك أعمالا).
ثم يُخرج لنا ابن تيمية، رحمه الله، النتيجة الرائعة، من الكلام السابق، والتي يجب أنْ نقف معها طويلاً، فيقول: تحت عنوان، (مرتبة الصديق ومرتبة المحدث)، (ولهذا نظائر تبين تَقدمَ أبي بكر على عمر، مع أنّ عمر رضي الله عنه مُحَدَّثٌ، فإنّ مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدَّث، لأنّ الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدَّث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم). انتهى كلام ابن تيمية

وأقول: ما أحوجنا، وقد كثُر في الأمة المتشدقون والمتفيهقون. وغاب منها الصِّديقون، فصار الاحتكام في المحن العصيبة إلى العقول والعواطف، بتأثير ضغط الواقع الشديد في كل اتجاه، وبكل ما تحمل الكلمة من معاني الشدة. وأعني بالمتشدقين والمتفيهقين، وهي ألفاظ نبوية، من يُحبون اليوم أنْ يُقدَّموا للناس على أنّهم (مفكرون إسلاميون) وهي الترجمة الحرفية لما عليه الغربيون من وجود كلمة (thinker) يعني مفكر، وهل يتلقى المفكر إلا عن عقله، وهل العقل معصوم؟ إنّه التقليد لأهل الكفر، الذين يفتقرون إلى الثوابت، ولا يجدون إلا عقولهم فيتخبطون بها ومعها في كثير من شؤون حياتهم! وما أزرى بالأمة، ويزري، إلا تركُ المسلمين للعلماء الذين يفترض فيهم أنْ يكونوا (صِديقين) بما استحفظوا من الوحيين، والالتفافُ حول المفكرين الذين لا يملكون إلا بضاعة الأرض!
ومِنْ تنَطُّع أولئك المفتونين، أنّ أحدهم سئل عن مرتبة المفكر، فقال: إنّها فوق الداعية والعالم، وقد كذب والله. وتذكرني حال المسلمين اليوم، بقول بعض الأدباء اللبنانيين: (إذا صار جُهالُنا رؤوسَنا، فبحكم الطبيعة، أننا سنسير إلى الوراء!). ولم تأت مشكلات المسلمين الدينية، إلا من المفكرين، وكلهم من المدرسة العقلية، ودأبهم تقديم العقل على النقل، وإلى الله المشتكى.

أيّها الناس: أقول بملء الفم، لا ينبغي أنْ تحول هيبة عمر رضي الله عنه، وكلنا نطأطيء الرؤوس إجلالاً لتلك الشخصية، من أنْ نَنْفُذ إلى مغزى كلام ابن تيمية. يجب أنْ نعترف وأنْ نفهم، وأن نُعلم أجيالنا، أنّ الذي جعل عمر يُراجع النبي وهو يعلم أنّه لا ينطق عن الهوى، ويقول إنّ محمداً لم يمت، ويتوعد القاتل بسيفه، ويتردد في قتال المرتدين، شيءٌ واحد، إنّه: حُكمُ العاطفة على تلك الشخصية الفذة المحدَّثة..! أنسته ثوابت وحقائق وهو من هو، لكنّه سرعان ما يَدَّكِرُ ويؤوب. فهل نحن والنُخب من رجالنا بمنأى عن أنْ يُصيبنا ما أصابه، وبيننا وبين ما آتاه الله بعد المشرقين..! كفانا نتلمس الحلول عند أهل العقول، ونستبعد أهل العلم والأصول..!
إنّنا لن نجد الخلاص، ولا الرشاد ولا العصمة عند الرجال، إنّها في نصوص الوحيين، قبل أنْ يلوي العقل والهوى وضغط الواقع أعناقها. ومستجدات الأمور ليست عذراً في فعل المحظور..! وليس في عقول أهل الأرض حلُّ نوازلَ تنزل بمن على الأرض..! إنّما الحلول في ما نزل من فوق سبع سماوات، من خالق الكون ومدبره، فلا تُبعدوا النصوص، ولا تبتعدوا عنها.
لكنّ المعالجة السماوية للأزمات لا تعجب (المتعجلين)! فمعالجةُ أمةٍ وصلت مرحلة الغثائية، وما بعدها من الاحتضار، تُعد فيها عشرات السنين وأكثر، وأمدها أبعدُ بكثيرٍ، من تطلعات المتعجلين! ومن يُمَنِّي بالمعالجات السحرية ليس ناصحاً، وليس قادراً، وليس عالماً. إنّما هو تسجيل المواقف، أو سبيل الشيطان.

الوقفة الخامسة: أبدؤها بسؤالٍ، اختصاراً، هل هنالك من لا يتمنى عودة الأمة الغثائية الغائبة؟
نعم، وبإيجاز أعدد تلك الجهات، باختصار، مع بعض تعليق إن لزم.
أ. جهات داخلية .. كل مسلم لا يفكر بالتزام منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، مع معرفته له، مهما كانت تبريراته، فإنّه مسؤول عند الله، بإعاقة مشروع استرجاع الأمة. لأنّ ذلك المشروع الدعويٌ والتربويٌ، هو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُقبل عند الله سواه! وهو المنهج الوحيد الذي يمكن أن يستوعب كل المسلمين، لأنّه ليس اختيارا أرضيا، وبالتالىي ليس فيه ما يثير الشحناء والمنافسة، وليس فيه تشريف، بل هو تكليف من نبي الأمة، ومن عاداه أو خالفه، أو تربص به وبأهله، فقد نابذ الله بالعداوة.
وكل من يتطلع إلى كرسي الحكم، في أي بلد مسلم، كما هو حال الحكام الحاليين، فلن يتنازل عن تلك الأمنية. والكل يعلم أنّ الأمة إذا رجعت أسقطت كل تلك الكيانات، التي ليس لها في الإسلام سهم.
ب. جهات خارجية .. كل أهل الأرض لا يتمنون للإسلام أن يكون قوياً بأهله، لأنّه إذا قوي المسلمون وساد الإسلام بتعالميه، فليس على الأرض منهج حياة يقاويه، وسنرى إن شاء الله الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. وهذا لا يناسب من ورث عداوة الإسلام إرثا، فهو يعاديه ولو كان لا يعرفه ولا يفهمه، وهؤلاء أمرهم إلى الله. أنا لا أُعبِّر أحلامَ اليقظة، ولا أتكلم من وحي الخيال. وما من مسلمٍ إلا قرأ المبشرات والوعود في الآيات والأحاديث، وأنا أخاطب نخبة، والحمد لله، فلا حاجة بي للاسترسال والإطالة.
ج. سؤال طُرِحَ عليَّ كثيرا من إخوة في المنهج، وهم محقون في ذلك: هل سيتركنا أعداء الإسلام لتحقيق مشروعنا العظيم في استرجاع الأمة عن طريق الدعوة على بصيرة، والتصفية والتربية، وما أكثر الشواهد من الواقع، والسنوات الماضية؟ وسألزم نفسي بالاختصار في الإجابة، لأنَّ الحديث طويل الذيل، وذو شجون!
1. تكلمنا أكثر من مرة، في تضاعيف الكلام، أنّ المسلمين لا يواجهون أعداءهم بطاقاتهم الأرضية! ولكنّهم حين يضعون أنفسهم في أهلية استقبال نصر الله وتأييده، يكون الله بينهم وبين عدوهم، فينجز لهم وعوده (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) و (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) و(وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا). وما أكثر تلك الوعود!
2. وإضافة لما ذكر في الفقرة السابقة، فإنّ في المسألة تفصيلا، حرصت على إضاحه، لحاجة المسلمين إليه في حاضرهم. إنّ كل معركة تحتاج قبلها إلى إعداد، واستعداد. وأتذكر الآن أنّي قرأت كلاما منذ أكثر من ثلاثين سنة، ولعله لأحد المفسرين، أو غير ذلك، يفرق فيه بين الإعداد والاستعداد. وأذكر أنّي تفاعلت مع الكلام وقتئذ وزدت عليه، وتحدثت به في مجالس كثيرة. ومختصر الكلام أنّ الإعداد يكون لآلة الحرب وكل ما هو مادي (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). ونلاحظ في الآية أنّ الله تقدست أسماؤه، حدد الإعدادات المادية بالاستطاعة، وقد تكون ضعيفة، فهل يؤثر ذلك في نتيجة المعركة؟ والجواب قطعاً لا، لأنّ النصر يأتي من الله تبارك وتعالى، وليس من الإعداد المادي (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). والمقصود التبيان أنّ الله نصر المسلمين ببدر وهم أذلة، أي ضعفاء، وكان المسلمين يومئذٍ ضعفاء في كل شيء إلا في عقيدتهم، والمراد أنّ النصر لا تأتي به القوة ويذهب به الضعف، إنّما هو بيد الله وحده. وقال الشيخ السعدي تعليقا على الآية: (فلا تعتمدوا على ما معكم من الأسباب، بل الأسباب فيها طمأنينة لقلوبكم، وأما النصر الحقيقي الذي لا معارض له، فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده، فإنّه إن شاء نصر من معه الأسباب كما هي سنته في خلقه، وإن شاء نصر المستضعفين الأذلين ليبين لعباده أنّ الأمر كله بيديه، ومرجع الأمور إليه).
إذن ليس المعول في النصر عند المسلمين على الإعداد المادي، واستشهدت كثيرا بالآتي لتوضيح الفكرة: إنّ المسلمين يوم الأحزاب تعبوا ونصبوا كثيرا في حفر الخندق، لكنّ الخندق لم يكن له دور في المعركة، لأنّ الله أرسل الريح لتقاتل عنهم. لكنّ الإعداد المادي قد يكون نافعا في إرهاب العدو. علامَ المعول إذن في الحرب؟ إنّه على
حال المقاتلين مع رب العزة، وهل لديهم الأهلية لاستقبال نصر الله، أو لنقل ليقاتل الله عنهم؟ هنا نقول إنّ المقصود بالاستعداد هو تغيير ما بأنفس المقاتلين، ليكون أهلا لأن ينصرهم الله، وتلك هي التصفية والتربية!
ومن ذلك نقول إنّ الإعداد المادي يمكن تأمينه في أي لحظة ولا يحتاج وقتا طويلا، بل مالا كثيرا، فهو صفقات تجارية، ونسمع في هذه الأيام، في الأخبار أنّ بعض الدول التي تكون في حالة قتال، تقيم جسرا جويا مع الدول التي تبيع السلاح لإمدادها بالسلاح والذخائر.
لكنّ الاستعداد الذي هو إعداد نفوس المقاتلين، بل كل المسلمين يتطلب الوقت الطويل والجهد الكبير ولا ينفع فيه الاستعجال، وضغط الوقت.
3. إنّ التخبط والارتجال، وغياب التأصيل الشرعي، الذي ساد العمل الإسلامي، وحتى ما سُمي زوراً بأنّه جهاد، إضافة لغياب التصفية والتربية لتغيير النفوس إلى ما يرضي الله، كان السبب الرئيس في انتكاسات وهزائم ماضية. وما هو أدهى أنّ أولئك المتعجلون لم يخرجوا من هزيمة، إلا ليدخلوا معركة جديدة يكررون الأخطاء نفسها بل يزيدون عليها ما هو أسوأ! فمن أين سيأتي النصر؟
4. إنّ غياب المنهج، وغلبة العواطف بدلاً عن الضبط والربط، وكثرة الضجيج بلا عمل، كل ذلك كان من شأنه فتح الأعين الأمنية والتركيز على متابعة المسلمين. وأثبتت الأيام أنّه ما من عملٍ اسلاميٍ مسلحٍ حدث إلا كان مخترقا أمنيا! لذلك كانت كل تضحية، كما يسميها مبتدعوه، والصحيح أن يقال كل مغامرة صنعها المتعجلون، قد انتهت بنهايات مروعة مفجعة.
5. لقد أفسد أمر العمل الإسلامي، وسبب كثيرا من النكسات، غياب العمل الممنهج الذي لا سلطان عليه، لا للعواطف، ولا لتسجيل المواقف، ولا لأحلام اليقظة لدى المغامرين. ولكن من أين يأتي العمل الممنهج إذا لم يكون هناك منهج؟! وأوضح ما أريد من كلام أقتبسه من كلام منشور على موقعي بعنوان (ما بعد السقوط). وأعني سقوط الأنظمة الشمولية الظالمة، بسبب الحراكات الشعبية التي جاء بها الربيع العربي، والتي انتهى أكثرها نهايات يائسة بائسة، بعد أن (عُسْكِرَتْ وأُسْلِمَتْ). لقد جاء في المقال: (إنّ الفصيل الغائب، وأعني أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) عن عرس أو مهرجان السقوط  الذي يتسابق إليه، ويتزاحم فيه، أناسٌ كثيرون خلافاتهم كبيرة وكثيرة، لكنْ يوحدهم هدف واحد يستعجلونه، إنّه لحظة اقتسام الكعكة! أما ذالك الفصيل الغائب، فإنّه ينتظر مما يجري، هدفاً مغايراً للآخرين، لا يريد من (الكعكة) شيئاً..! إنّما يريد مناخاً جديداً يرفع الآصار والأغلال، ويضع حداً للحظر والحجر والمصادرة والمحاربة، التي عانى منها الكثيرون، إلى حد الإيذاء الجسدي، والتصفية الجسدية، في كل مكان دون استثناء، وكل ذلك أعاق تحقيق الحلم، بل الواجب العظيم، الذي يعيش له..! استرجاع الأمة الغائبة!
إنّ الذي ينتظره هذا الفصيل، من تلك اللحظة المنتظرة، الحرية التي ستعطى للجميع، وهو منهم، ليتابع تنفيذ مشروعه الذي لم يتوقف، وإنْ كان تعثر بفعل خارج عنه، ذاك المشروع الذي له صفة الثبات، مهما كانت المستجدات والمتغيرات. لأنّ مهمته أنْ يغير الواقع لا أنْ يتغير به مسايرة له..! وأنْ يغير الأنفس لا أنْ يتغير لها ليواطيء أهواءها..! هذا الفصيل متميز لغربته، وغريب بتميزه، تلك الغربة وذاك التميز اللذان لا يكونان حين ينتفش الباطل ويسود، إلا لمن دان الله تبارك وتعالى بمنهج (ما أنا عليه وأصحابي). هؤلاء هم المرشحون لإقامة دولة الإسلام على منهج النبوة، إذا أذن الله، وليس المُخَلِّطين..! إنّها دولة لا يأتي بها انقلاب، ولا ثورة، ولا صناديق اقتراع، ولا سرقة مواقف، بل تأتي بها أمة ربيت على الوحيين المنزلين من فوق سبع سماوات، فلا تقدم بين يديهما ولا عليهما شيئاً من بضاعة الأرض .. ولنتذكر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى في مكة ثلاث عشرة سنة يُعِد بل يصنع تلك الأمة التي أقامت الدولة في المدينة، وكان مقامه بعد قيام الدولة أقل من مقامه لبناء الأمة في مكة. ولنتذكر أنّ تلك الأمة وتلك الدولة أرستا قواعد الإسلام في الأرض، وليس في جزيرة العرب وحسب
).
فإنّ هذا الفصيل راهن على سقوط أنظمة الظلم والظلام والفساد على يد الثائرين المنتصرين بعد ظلمهم، ولم يراهن أبداً على مرحلة ما بعد السقوط، ولمن ستكون الغلبة، ومن سيمسك بزمام الأمور، لأنّه شأن سياسي معقد، لا تصلح فيه النظرة السطحية الساذجة العجلى..! ولا يمت إلى مشروعه الإسلامي بأدنى صلة، وإنْ كان حقيقة يتمنى أنْ يمسك دفة الحكم في أي بلد من يستطيع، بالأهلية والإخلاص، وأنْ يقود البلاد إلى الاستقرار والتقدم، إلى أنْ يقضي الله أمراً كان مفعولاً، بغض النظر عن المسميات والانتماءات. وآخر من يرشحهم لذلك مُدَّعو الدولة الإسلامية، فأولئك أصحاب متاجرة بالشعارت..! فلا زال الانسجام في المواقف إذن، حليف ذلك الفصيل، ولله الحمد، لأنّه يصدر عن منهج علوي.

الوقفة السادسة: إن هي إلا نفثات مصدور، وبوح مسكون بهموم بين جنبيه تثور، ولا نجد أكثر من حولنا إلا معرضاً وبالباطلِ مسحورٌ. إنّه قدرنا نحن معشر الغرباء أن نرى هذه المواجهة، وهل نفاجأ؟ ألم يقل لنا نبينا معرفا لنا الغرباء (ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم!). ففيم المفاجأة ومم العجب؟ ولنستبدلهما بالصبر والاحتساب. ولولا التصبر فإنّ الواقع المعاش لا يطاق. الناس من حولنا وعلى رأسهم النخب، لم تغيرهم النكبات على شدتها، ولم يروعهم القادم رغم هوله! وما زالوا عن التذكرة معرضين! ويا معشر الغرباء، لا تذهب أنفسكم حسرات على من تعايشون، حسبكم تذكيرهم، وما أنتم عليهم بمسيطرين، وما عليكم مادمتم أبرأتم ذممكم، وأقمتم الحجة، وأنتم عن منهج الحق تصدرون!
ومن أشد ما يثقل على نفسي بل ويدمي قلبي خاطرةٌ، كثيرا ما تراودني، وما هو أكثر إيلاما، أنّني جربت ذات مرة أن أجعل آخرين حولي يشاركونني تلك الخاطرة. فقلت إنّ أخطر ما في غياب الأمة، أنّنا في غياب الأمة ننشئُ جيلا سيكون ملحدا! قالوا كيف؟ قلت ألا تلاحظون أنّنا أثناء غياب الأمة لم نحقق انتصارا قط، وكل معاركنا كانت خاسرة، ويحاول الحكام ونحاول معهم أن نجعل الهزيمة نصرا، عن طريق الإذاعات، وما تبث من أكاذيب، والمساجد وهي تعج بقنوت النازلة وبكاء الأئمة بأصوات تشق عنان السماء، وأشد منها أصوات المُأَمِّنينَ، ولنقل الشيء نفسه عن خطب الجمعة والدعوات والعبرات. كل ذلك يجري وأجيالنا الصاعدة تسمع وترى وتراقب، والمشاهد لا تلبث أن يذهب فوعها، حتى تنزل نازلة جديدة، وتعاد المشاهد نفسها، وبزخم أشد! ثم سألت ماذا تتوقعون أن يدور في خلد ناشئتنا، وما تتوقعون أن تكون أحاديثهم إذا تناجوا؟! قالوا أخبرنا أنت. فقلت أتصور أن يصل بعضهم إلى الحد الذي يحث نفسه، يسائلها أين الله الذي يدعوه المصلون، وأهلونا منهم، ولم لا يستجيب لهم، وهم يرون على الشاشات، ويسمعون من الأحاديث ما لا يحتمله بشر! وسيكبر أجيالنا وتكبر معهم تساؤلاتهم، وتودي بهم إلى الوجهة التي لا نرضاها!!! فأُفاجأ بالجواب، الله كريم، ولا تبالغ. فاضطررت أن أقول لهم، والله ليس ما سمعتم تخيلا تخيلته. إنّما هو حقائق سمعتها في الثمانينات وبعدها، من أصدقاء من حماه، إنّ ذلك الأمر حدث مع أشخاص ليسوا صغارا، يصرخون بأعلى أصواتهم حينما يرون ما لا يحتمله البشر! وإلى الله المشتكى.
أما نفثات المصدور التي بدأت بها، وسأبينها، فلقد قيل فينا (إنَّ العرب لا يقرؤون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون)، والقول منسوب إلى وزير الدفاع الإسرائيلي منذ خمسين سنة تقريبا. وأضيف كلاما قرأته، نقله أحد الأخوة: (تقول غولدا مائير: عندما أحرقنا المسجد الأقصى، لم أنم طوال الليل، كنت خائفة أن يدخل العرب إسرائيل أفواجا من كل مكان. ولكن حينما أشرقت شمس اليوم التالي، علمت أنّ باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده، فنحن أمام أمة نائمة). وعلّق الأخ: (بل غائبة). وأقول: عرفت الحق مائير، ونخب المسلمين لمَّا بعد..! واسمعوا وعوا لما أقول:
رجل ماروني لبناني، اسمه د. نبيل خليفة، إبن الثمانين، خبير استراتيجي، يحمل الدكتوراه في ذلك التخصص، وفي الفكر السياسي، من جامعة السوربون في فرنسا. وما هو فوق الإعجاب عندي، أن أرى الرجل يصرح بلا مواربة، أنّه حينما يتكلم عن الإسلام يريد أهل السنة وليس الشيعة.
وقد جلست وقتا أقلب الأمر، لعلي أجد مصلحة أو غاية تقنعني بسبب تحامل الكاتب خليفة على الشيعة، إن جاز تسميته تحاملا، فهو بالنسبه له نتيجة علمية. لكنّي لم أرجع من ذلك بطائل، إلا أن أقول، لقد سَلِمَ مما لم يسلم منه بعض المسلمين…!
وقد أهمني وأغمني، مذ اطلعت على التسجيل، أن أرى رجلا حمل الهم نيابة عن أمة، وهو ليس منها، وتحمل ما تحمل من أجل الحقيقة. بينما نجد أهل النكبة منهم من نسي همه وعاد إلى هواه ودنياه! ومنهم من لا زال على هامش الأحداث والحياة! ومنهم من زادتهم النكبة خلافات وانقسامات فوق ما هم فيه، والكل ما زالوا في الجدل غارقين! والمحصلة غيابُ أهل النكبة عن مشروع ٍللحل، بل عن التفكير في حل!
تفاعلات وتغيرات وأحداث سياسية، مستقبلية في منطقتنا العربية الإسلامية. ليست من التخرص ولا التنبؤ ولا التنجيم، إنّما قواعد تحكمها دراسة المقدمات بعناية، وما يستتبعها من النتائج عن دراية. وكأنّي بالكاتب يريد من المسلمين (وأهل السنة خاصة)، والاستثناء والتأكيد ليس مني بل هو من الباحث د. نبيل خليفة. أن يفهموا أنّ الرياحَ تهب مواتيةً لرفعتهم وسيادتهم في هذا العالم، وأنّها ستملأ أشرعتهم حاضراً ومستقبلاً، رغم ما يبذله العالم بأسره في الكيد لهم. وأنا على وجلٍ من ألا أسمع غير الصدى، أصرخ في بني ديني، ألا تبحرون؟
ولعلي لا أبالغ إذا قلت: إنّ الكتاب، لمن يفقه الخطاب، يصلح ورقة عمل لأهل السنة، لو ضُمَّت إلى الملف الشرعي الأصيل، فيكون في ذلك اجتماع العلم الشرعي المؤصل على الوحيين، من علماء حملوا الهم والألم، وفروا إلى الله يلتمسون المخرج في ما أنزل وعلَّم، مع العلم الدنيوي المبني على معطيات الواقع، ونظريات علماء السياسة والاجتماع، المؤصلة على دراسة التاريخ، ورصد حركة البشر على الأرض، وتحليل ذلك من علماء متخصصين، يحللون الأمور بمنظارٍ علميٍ متجردٍ، عن المصالح والأطماع، ويقعدون قواعد علمية تنظم التعايش السياسي السلمي بين أهل الأرض، وتخرجهم من سلطان رجال السياسة المنحازين، وتجار الاقتصاد الطامعين، ودعاة العولمة الظالمين، الذين يريدون أن تحكم العالم اليوم شريعةُ الغاب؛ الحق والحياة فيها للأقوى، ودستورها لا للدين ولا للأخلاق! إنّما هي المنافع والمطامع.
ولو تحقق ذلك الحلم، وياليت، لكانت قفزةٌ رائعةٌ للمسلمين من فوق كل الركام الذي خلفته النكبة، مادياً ومعنوياً، وصرخةٌ تشق الصمت المميت، وتوقظ النائمين السامدين، وتعزل العاطفيين أهل الارتجال، وتجار السياسة وشركاءهم أرباب المال، وإذن، تقوم الحجةُ والله على كل سنيٍ، يريد الله والدار الآخرة!
وأذكر طائفة من أقوال الرجل التي جاءت في كتابه:
(لا ينبغي لنصارى الشرق أن يكونوا حرس حدود لإسرائيل أو الغرب، فسلام المسلمين سلام لهم أيضاً، وإذا وقعت الفتنة فسيكون النصارى أول ضحاياها).
(إنّ أهل السنة نسبتهم من المسلمين ٨٥٪ يعني نحو ١،٤ مليار نسمة، يواجهون العالم النصراني واليهودي والشيعي والهندوسي والبوذي
)
.
ثم يؤكد أن
ّ:
(أهل السنة يقعون في خانة المعتدى عليهم وليس البادئ بالاعتداء!). (وأما الشيعة فقد اتخذوا من “فلسطين” رافعة للسيطرة على عقول المسلمين، مع أن نفوسهم مشحونة بالألم والغضب ضد الأكثرية السنية).
و
يقول: (المواجهة الكبرى في عالم اليوم تقوم بين الحضارة الغربية النصرانية بفروعها الثلاثة، ومعها اليهود، وبين الحضارة الإسلامية السنية التي تتميز بالنواة الإيديولوجية الصلبة، وامتلاك معظم الطاقة في العالم، والسيطرة على عالم الوسط من إندونيسيا إلى المغرب).
ويقول:(وباختصار فإنّ أهل السنة في المشرق مستهدفون سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، فما هو مشروعهم؟ والجواب بكل أسف: ليس لأهل السنة مشروع على امتداد العالم السني!).
ويقول: (فمن المرشح إذن لأخذ مكان الاتحاد السوفياتي؟ وفق الدراسات الأستراتيجية المستقبلية، فالمسلمون(السنة) هم المرشحون لذلك. والقرن الواحد والعشرون، وفق الدراسات الدقيقة، سيكون قرن الإسلام بامتياز، وليس الإسلام بشكل عام، إنما الإسلام السني، لأن السنة يمثلون 85 بالمئة من مسلمي العالم، بينما الشيعة فهم 15 بالمئة فقط.
وفي علم السياسة، قاعدة تقول (إن الديموغرافيا هي التي تصنع التاريخ). ولما كان العالم الإسلامي، يتطور ديموغرافيا بشكل أكبر وأسرع من كل الأجناس والديانات الأخرى، فإنه ، بلا شك، ووفق الدراسات والقواعد، سيصبح الإسلام هو الديانة الأولى في القرن الواحد والعشرين، وبالتالي سيكون له الفاعلية والرأي الأساسي والأول في القضايا العالمية.
ومن تلك الحقيقة، يمكن القول إن العالم اليوم،في حرب ديموغرافية، وتسابق ديموغرافي، بدلاً من سباق التسلح، وذلك هو العنصر الذي يرشح للسيطرة على العالم، وبخاصة إذا أضيف للركن الديموغرافي الركن الاقتصادي.
فما هو حظ العالم الإسلامي، من مسألة القوة الاقتصادية؟ يجب أن نعلم أن ثلثي احتياطي الطاقة من البترول والغاز، في العالم موجود، في المنطقة الإسلامية.يضاف إلى ذلك التفوق الديموغرافي. ولنضف إلى هذين الركنين، المرشحين للسيطرة على العالم. أن المنطقة الإسلامية تمتد من المغرب غربا إلى أندونيسيا شرقا، وهذه المنطقة يسميها هنري كيسنجر (قارة الوسط). ويقول كيسنجر: (إن من يسيطر على [قارة الوسط] يسيطر على العالم كله. ولذلك فعلى أمريكا أن ترحل الي هذه القارة).
ثم إن الإسلام يتميز بأنه ديانة حية ( ديناميكية)، بإيمانها وعقيدتها، وعلى ذلك فإنَّ القرن الحالي وبسبب عناصر أربعة، وهي: الديموغرافيا، الاقتصاد، الوسطية المكانية، والحيوية الدينية، التي اجتمعت في أهل الإسلام السني، فسيكون الإسلام هو الديانة الأولى ، والجهة التي تقابل أمريكا في النظام العالمي الجديد
).
فهل نسمع هذا الكلام ونبقى نائمين متجاهلين، أو متعالمين نرد الحقائق بالكلام الفارغ، لأنّها جاءت من غيرنا حسدا من عند أنفسنا. ولعلي هنا أبوح بسر وهو أنّي كتبت موضوعا حول بحث نبيل خليفة، وكنت أنوي نشره في موقعي، لكنّه بعد تفكير وجدت الخير أن لا أفعل، حتى لا يأتي المنغلقون من أهل الدين، وهم في كل مكان، فيقولوا يريد الشيخ أن يُطَعِّم منهجه بتعاليم مارونية، ويطيرون بها! والذي أقوله: لا نتحرك، بحمد الله وتوفيقه، إلا بمنهج (ما أنا عليه وأصحابي)، ولكنْ نستضيء في الزوايا المظلمة عندنا، لأنّنا لم نخصص لها درساً، بآراء بعض الخبراء المتخصصين. فالدراسات الاستراتيجية ليست في متناول أكثر أهل الالتزام الإسلامي الحقيقي. فما المانع من استعارتها من أربابها إذا تأكدنا أنّهم ناصحون، وأنّ فيها علما عصريا ينفعنا في تحقيق أهدافنا الإسلامية.
إذا كان خليفة يريد أن يقول لأهل السنة ما لخصتُه بتعبيري، إنّ الرياح مواتية، وتملأ أشرعة سفن المسلمين ليكون القرن الواحد والعشرون قرنَ الإسلام بامتياز، أفلا ينبغي على نخب المسلمين أن يهبوا لنصرة دينهم فتتوافق هبتهم، مع هبوب الرياح المواتية؟ أم أنّنا ننتظر من نسخره ليحمل العبء عنا؟!

أقول أخيرا، وسأختم بوصية، فمع حرصنا على وحدة الكلمة، ورصّ الصفوف، إلا أنّي أفتي بالمفاصلة على أمرين لا يقبلان التنازل ولا المجاملة، لأنّهما لم يأتيا من عملية اجتهاد، وإنّما هما نتاج الاتباع الكامل لكل ما أمرنا باتباعه، ثم إنّه لا يوجد في حياة المسلمين أمر حري بأن يقدم عليهما، التزام منهج (ما أنا عليه وأصحابيوالعمل الدؤوب لاسترجاع الأمة الغائبة. ورحم الله شيخنا الألباني كان يقول: (المهم أن لا نموت خارج الطريق).

والحمد لله رب العالمين