قاعدة عظيمة، أهمتني وأغمتني كثيراً، في مسيرتي العلمية الشرعية. أمَّا أنَّها أهمتني، فما انتفعت بعد توفيق الله انتفاعي بها في التحصيل والتحرير للمسائل العلمية الشرعية.
وأمّا أنَّها أغمتني، فلست مبالغاً إذا قلت: ما من يوم، بل ما من ساعة من ليل أو نهار، أقف على مُخالَفَةٍ أو مُخالِفٍ لها، بتعمد وإصرار، وليس بجهل أو عدم دراية، إلا أغمتني وأحزنتني، لأنّي أكون على يقين أنّ ذلك مؤشرُ خللٍ، ونذيرُ شرٍ، إذا استمر وتراكم! لأنّ النتيجة أنْ يُبَدَّل الدينُ غيرَ الدين..!
وكنت أحرص أنْ أصفها بالقاعدة الذهبية، وأقول لمن حولي من طلاب العلم، لو أنّي واجدٌ صفةً أعلى وأغلى لوصفتها بها. ثم هُديتُ إلى أنْ أسمِّيَها (القاعدة المَرْضِيَّة) لأنّها تُرضي الله أولاً، ثم تُرضي طالب العلم الذي يعمل بها، لأنّه يعلم أنّ الله راضٍ عنه، لأنّه طائعٌ له بتطبيقها.
ولا زلت أحتفظ بالتسمية الجديدة لنفسي والخواص، فما أعظمَها من قاعدة..! ماذا لو أنّها كانت ديدنَ كلِّ طالب علم، بل كل عالم، يقول القول فيُتلقَّى منه، ويسري في الناس، فيجمعهم على الحق الذي أراده الله من عباده .. أمَّا أنْ يُحِلَّ طلاب العلم أنفسهم منها، بل العلماء، راغبين عنها إلى قواعدَ أنتجتها عقولهم، والعقل ما لم يكن بالوحي مهتدياً، فليس له من قائد إلا الهوى. أوليس البشر مأمورين بما أُمر به الرسل..؟ (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ). خيارٌ واضحٌ جداً، بين الحق أو الهوى. أوليست سبيل الله إلا واحدة..؟ وهل في غيرها سلامة..؟ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
هذان مطلبان، طالبَ اللهُ تبارك وتعالى بهما مَن يريد الفوز من عباده. مباعدة الهوى، واتباع سبيله .. ومن ضل عنهما فقد خَطِيءَ طريق الجنة (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وما السبيلُ إليهما..؟
القاعدة المَرْضِيَّة (استدل ثم اعتقد). وبمَ يكون الاستدلال؟ وهل في دين الله من استدلال بغير الوحيين؟ وحينما ينضبط أمر الاستدلال في الدين، على ما بيَّنا، فذلك وحده هو الذي يجعل المسلمين، في أي زمان ومكان، يعيشون حالة الأمة الواحدة الحاضرة القوية..! فأين المسلمون من هذه الحال اليوم..؟ أمتهم غائبة، ولقد صار أمرهم فُرطا. ولمَّا يسلكِ المسلمون بعد السبيل الموصل إليها…؟
إنّ الشرود قديمٌ، وتراكمُ قرونٍ..! لقد فقد المسلمون البوصلة، حين بدلوا وعكسوا، وصارت قاعدتهم (اعتقد ثم استدل). وبالتشبيه السياسي الغربي (وضعوا الحصان وراء العربة)، فهل يصلون..؟ أمَا آنَ لكل مسلمٍ أنْ يُدرك الفرق بين طريقين. من يستدل ثم يعتقد، يصل إلى حيث أراده الله أنْ يصل، وكيف لا، وقد جعل الوحيَ قائِدَه..! أما من اعتقد ثم استدل، فإنّه يصل كل مكان، إلا حيث يريد الله له..! لأنّه جعل الهوى قائِدَه. الأول يقول: أريد أنْ أكون مسلماً ربانياً، فيسلك الطريق الموصل، فيصل. والآخر يقول: أريد أنْ أكون مسلماً على منهج الفرق التي قال عنها النبي عليه السلام: (كلها في النار إلا واحدة)، فلا يجد في الوحي لما يريد طريقاً، فيتبع السبل، فتفرق به عن سبيل الله.
أجل إنّها السُبُل، ورغم تحذير الله لنا منها، في الآية المذكورة آنفاً، وبالرغم من الحديث الذي شرح الآية بما يقطع كل لبس، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ) ثمَّ قَرَأَ (وأنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ))، فإنّ المسلمين قد وقعوا في كل ما حُذروا منه، ولن أسأل لماذا، ولن أجيب أو أطلب الإجابة، فالبيان حاضر في قول ربنا تبارك وتعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). قرون عديدة، يعيشها المسلمون، على ذلك النحو، وتلك الطريقة، والخلل في ازدياد، لكنَّ الحقيقة خافية، وإلقاء التبعة دوماً، وتحميلُ مسؤولية الفشل والضياع، للعدو المتربص.
حالة من الركود شب عليها الصغير، وشاب عليها الكبير، وجعلها الإلف مرضاً مزمناً في الأمة، غير قابل للبرء. وكُلُّ ما قوبلَ به ذلك الواقع البائس المتردي، لم يكن حلاً إنّما كان تبريراً، (الاختلاف رحمة) و (الطريق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق)، وأعان على ذلك واقع المذاهب التي فُرضت على المسلمين على أنّها إجماع الأمة، وقدرها المحتوم، وسر فلاحها. وامتص ذلك التبرير كلَّ سلبية تبدو، وكل صوت يعلو..!
ومرحى ثم مرحى ثم مرحى لبرامج التواصل الاجتماعي، كالفيسبوك مثلاً، فمن محاسنها، وهي لا تخلو من مساويء أيضاً، أنّها تسجيل للواقع، ونشاطات الناس المختلفة، بالحرف والصوت والصورة، سجلاتٌ محفوظةٌ لحظةً بلحظةٍ، من غير تعمدٍ لذلك على الأقل، فيما يبدو! فمن الممكن استعراض الماضي القريب، فتقرأ وترى وتسمع وتستنتج ما تريد، مما يسر ويحزن ويخزي.
وأنا أحدد البحث بالجانب الشرعي. فتعالوا إلى تجربة بسيطة. ولنبدأ الاستعراض لسجلات التواصل الاجتماعي، من بداية رمضان الفائت، لنبدأ بالسجال والجدال والخلاف حول إثبات الشهر بين أهل النص والرؤية، وأهل العلم والفلك والحساب، وينتهي الموسم كالعادة بجعجعة بلا طِحْنٍ. ثم ما نلبث أنْ تأتينا مَشْغَلةً أخرى، صلاة التراويح صفتها، عددها، ما الصواب فيها؟ وانظر واقرأ السجالات والخلافات والتراشقات والاتهامات، كل ما كان يُطرح فيما مضى، إضافةً إلى آراءٍ لأعلامٍ جُدد. ثم يُعاجلنا الشهر، فنطوي الملفات، ولم نخرج بطائل. ونجد ملف صلاة العيد، في المصلى، أم في المساجد، وصدقة الفطر أيها أفضل إخراجها مالاً أم قوتاً. ويَفرض الجدلُ حول السِّتِّ من شوالٍ نفسه، وندخل الدوامة ونخرج، كالعادة، بلا طائل. ثم ما يلبث الحج أنْ يأتي بكل خلافاته وما أكثرها..! أي الأنساك أفضل، والمبيت بمنى ووقت رمي الجمار. ثم تأتي الأضحية وأحكامها وهل يحلق المضحي أم لا يحلق، ويشارك في الحديث أهلُ حلق اللحى، ليثبتوا مواقعهم. ثم صوم يوم عرفة، وصوم يوم عاشوراء إنْ جاءا سبتاً، وخلاف لا ينتهي بل وتراشق. هذا هو التاريخ الآني الشاهد على الواقع، ومثله بلا شك، كان قائماً دائماً في ما مضى، لكنّه طار في الهواء ولم يجد من يلتقِطُه.
مشاهدُ مُحرجةٌ مُخزيةٌ مُحزنةٌ، مُحرمةٌ، تتكرر في تاريخ الأمة، واليوم صارت مسجلة رغماً عنا، فزاد الحرج والخزي والحزن. ولا يمكن أنْ أقبلَ أنّها دليل حيوية، وأنَّ فيها إثراءً للفكر وللمكتبة الإسلامية..! إنها تَخبطٌ وتناطحٌ وصراعٌ للأهواء، لأنّها بعيدة عن الهدف، وعن قصد وإصرار. وآخرُ ما يُقال: إنّها لا ترضي الله.
وإنَّ ما يجري ليس عملاً لدين الله، إنّه (حراجٌ) ينشد الزبائن! وكأنّ الاندفاع باتجاه الخطأ هو الأقوى، وصوت الإصلاح، وإرادة التغيير هما الأضعف .. وكلُّ ما يجري في هذه السِّجِلّات، مما يخص الجانب الشرعي، تأكيدٌ بل تجسيدٌ للخلل الكبير، في حياة المسلمين، قديماً وحديثاً، (اعتقد ثم استدل)، (الحصان خلف العربة) .. فأين النخبُ، وأين المصلحون..؟ وهل بعد ما يجري على الأرض اليوم من ذُلٍ وهَوانٍ، من خيرٍ تتوقعون أن يَسقطَ على المسلمين..؟ أجيبونا ماذا تنتظرون..؟ فهل تعذرونني أنْ أقول:
لقد أسمعت لو ناديت حيــــــا … ولكن لا حياة لمن تنــــادي
ولو نارٌ نفخت بها أضاءت … ولكن أنت تنفخ في الرماد
ولست يائساً … والحمد لله رب اللعالمين