العنوان من المصطلحات الطبية، ولا تتوقعوا أن أتطفل ذات مرة على مجال لا أحسنه. لكنّ باب الاستعارة بين العلوم والمعارف مفتوح لمن يريد أن يستعير، مادامت تلك الاستعارة تفيده في إيضاح أمرٍ من الفنِّ الذي يتعاطى معه. لقد وجدت في كتاب ابن القيم (الصواعق المرسلة) كلاما مُؤصلا ومُدلَّلا، في موضوع عقدي، ما أكثر ما أدندن حوله، ولطالما كتبت عنه. فأردت أن ينتفع القارئ بهذا الكلام، وناهيكم بابن القيم!
ولمّا كان الموضوع ليس جديداً، على المكتوب لهم، لكنّه على جانب كبير من الأهمية، لصلته ببحث الفرق الناكبة عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، التي ما تزال تعيش مع المسلمين، وبحضورٍ قويٍ، ومستفزٍ أحياناً. لا لأنَّ تلك الفرق على شيء! ولكنْ، وللأسف، لأنّ الطرف الآخر من المسلمين، الذين يفترض فيهم أن يكونوا متآلفين ومتكاتفين في منهج (ما أناعليه وأصحابي)، والذين يفترض فيهم أن يُجسدوا وصف الفرقة الناجية، لا زال أمرهم فُرُطاً!
لذلك، استعرت ذلك المصطلح الطبي، لأبين أنّي لا أكتب تعليماً، وإنّما أكتب تذكيراً وتأكيداً، وإذن، فالموضوع جرعة داعمة، ولعلها تأتي بالعافية، بإذن الله.
وفي تأصيلي لمنهج (ما أناعليه وأصحابي)، الذي هداني الله، وله المنة وحده، إلى استخراج عنوانه، من كلامِ من لا ينطق عن الهوى، وهو المنهج الوحيد الذي يُرضي ربنا، ويُحقق اتباع نبينا، ويقرب لنا الفوز في أخرانا، برحمة الله. إنّه وصية النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو أمره للمسلمين إلى قيام الساعة، أن يتخذوه منهج تدين لهم، حتى يتَّقوا أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى الذين بدلوا وغيروا وتفرقوا، حتى خرجوا مما أنزل الله. وآيات الكتاب العزيز، كثيرة في بيان تحريفهم وانحرافهم، وجعلهم الدين غير الدين الذي علمه أنبياء الله، موسى وعيسى عليهما السلام. وأراد نبينا أن نتعظ ونعتبر بقصص أولئك القوم!
وأذكر بحديث رسول الله الذي أمر به أمته بلزوم المنهج الذي اختاره لهم، لينجيهم من الافتراق (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ). يقول صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة). وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي).
وما أذكر هذا الحديثَ مرةً إلا وأشعر، والله أعلم، بالمرارة والألم والأسى، لأنّ بعضاً من علماء ودعاة المسلمين، في القديم والحديث، ممن هم مأخوذون ببعض أفكار وآراء الفرق الضالة، التي توعدها نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه بالنار في حديث الافتراق، في قوله: (كلها في النار إلا واحدة)، قد تفننوا في محاولات إخراج هذا الحديث، وسحبه من عقول الناس وأفهامهم، بل من حياتهم بأساليب شتى، في نِسبته إلى الوضع، أو ضعف السند، تارة، أو إلى نكارة المتن أخرى. لأنّهم يشعرون أنّهم ممن يتهمهم هذا الحديث، ويتوعدهم، ويظهر مفارقتهم للحق وأهله، أصحابِ منهج (ما أناعليه وأصحابي). لكنْ والحمد لله، فإنّ شهادة المحدثين في الحديث، والتأكيد على صحته، تدحض مزاعمهم.
أرجع لأقول بعد استطرادٍ مفيدٍ، وليس ببعيدٍ: إنّي وجدت في كلامٍ لابن القيم، في كتابه المشهور(الصواعق المرسلة، في الرد على الجهمية والمعطلة) وهما أول وأكبر وأسوأ وأبعد فرقتين، من الفرق التي خرجت عن عقيدة المسلمين، التي جاء بها الوحيان، والتي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة، والتزمها أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، بدقة وصدق، وكذلك أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، فاستحقوا ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، وفي ذلك الثناء ترشيحٌ لهم ليكونوا النموذج المقبول والمُزكَّى، من الله ورسوله للتدين الصحيح، القائم على الوحيين بعيدا عن التأويل، الذي يفضي إلى تبديل الدين (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). وجاء حديث الافتراق السابق ليؤكد المعنى العام في الآية، الذي يأمر كل البشر بإيمانٍ كالذي آمن به الرسول وأصحابه، كي لا يتفرقوا في الدين.
أجل وجدت في كتاب (الصواعق المرسلة) كلاما قيماً لابن القيم، رأيته مناسبا لعرضه على المسلمين، ليكون منعشاً لذواكرهم، مؤكداً لما انعقدت عليه قلوبهم من الاعتقاد الصحيح، واقيا لهم من كل ما صارت تعج به مجتمعات المسلمين من الانحرافات القديمة، والتي بدأت تعود، بعد أن اندثر مؤسسوها، بدعاة جدد من داخل الصف، وقد غلفوا تلك الدعوات الباطلة بغلالات من زخرف القول، الذي جاء به العصر، وانتشر في واقع المسلمين تلك الدعوات التي أبعدت الرسالة عن مركز الدائرة، وبؤرة الحق، ومنبع الهدي، نصوصِ الوحيين.
مرة أخرى، فالكلام اليوم جرعة داعمة. وقد جاء في تفريغ (سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني) (161/ 3)، كلام واضح صريح عن توصيف واقع المسلمين. يقول الشيخ: (فاليوم نعيش في غمرة فرق قديمة وحديثة، وأحزاب عديدة، وبعض الفرق القديمة ذهبت أسماؤها، وبقيت آثارها، فالمنطق الاعتزالي والمذهب المعتزلي لا نكاد نسمع له ذكراً في هذه الأيام، ولكنّه تطور وصار تارة بأسماء فرق إسلامية، ومذاهب إسلامية مُعتَدٍّ بها ومُعترف بوجودها، بل بشرعيتها عند جماهير المسلمين، وتارة بآراء حديثة لكنها تتصل بسبب وثيق بتلك الآراء الاعتزالية القديمة، أما التارة الأولى التي أشرت إليها آنفاً وهي التي تكون بأسماء معترف بها عند المسلمين، كالأشاعرة والماتريدية مثلاً، العالم الإسلامي اليوم إذا استثنينا منه الفرق المعروف انحرافها عن الشريعة كالشيعة مثلاً والزيدية، والخوارج، وحصرنا كلامنا على من يسمون أو يتسمون بأهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة اليوم هم ثلاثة مذاهب فيما يتعلق بالعقائد وأربعة مذاهب فيما يتعلق بالفقه، أما المذاهب الثلاثة الأولى فهي الماتريدية والأشاعرة، وأهل الحديث فهذه الفرق الثلاث، تتعلق في العقيدة فقط بأهل السنة والجماعة، أما المذاهب الأربعة فهي معروفة للجميع في الفقهيات الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، إذا رجعنا إلى المذاهب الثلاثة الأولى الماتريدية والأشاعرة، نجد في هذين المذهبين الشيء الكثير مما هو من مذاهب وآراء وأفكار المعتزلة، ومع ذلك فهي موجودة ومبثوثة في المذهب الأشعري، والمذهب الماتريدي، أهم ما يتعلق في هذا الذي أقوله، أنَّ شيئاً من الاعتزال موجود في المذهبين المذكورين الماتريدي والأشعري، وأهم ما يمكن ذكره الآن، أصلٌ من الأصول، وقاعدةٌ من القواعد، وهي أن الحديث الصحيح لا تثبت به عقيدة، هذا رأي المعتزلة، لكن الأشاعرة والماتريدية يتبنون هذا الرأي، كقاعدةٍ وأصلٍ. والشيء الثاني، أن المعتزلة عُرفوا عند أهل السنة حقاً بأنهم يتأولون آيات الصفات وأحاديث الصفات، والتأويل أخو التعطيل، والمقصود بالتعطيل إنكار الشيء، إنكار الحقيقة، ومع الأسف الشديد فإن البعض من الدعاة أو المتحمسين، قد يقع في الخروج عن الكتاب والسنة ولكن باسم الكتاب والسنة…).
وأترككم الآن مع ابن القيم رحمه الله، يقول:
(إنّ المعارضين للوحي بآرائهم خمس طوائف:
. طائفة عارضته بعقولهم في الخبريات وقدمت عليه العقل فقالوا لأصحاب الوحي لنا العقل ولكم النقل.
. وطائفة عارضته بآرائهم وقياساتهم فقالوا لأهل الحديث لكم الحديث ولنا الرأي والقياس.
. وطائفة عارضته بحقائقهم وأذواقهم وقالوا لكم الشريعة ولنا الحقيقة.
. وطائفة عارضته بسياساتهم وتدبيرهم فقالوا أنتم أصحاب الشريعة ونحن أصحاب السياسة.
. وطائفة عارضته بالتأويل الباطن فقالوا أنتم أصحاب الظاهر ونحن أصحاب الباطن.
ثم إنّ كل طائفة من هذه الطوائف لا ضابط لما تأتي به من ذلك بل ما تأتي به تبع لأهوائها كما قال تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنّما يتبعون أهواءهم)).
وقال: ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) فما هو إلا الهوى أو الوحي كما قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، فجعل النطق نوعين نطقا عن الوحي، ونطقا عن الهوى، ثم إذا رُدَّ على كلٍ من هؤلاء باطلُهُ، رجع إلى طاغوته وقال في العقل ما لا يقتضيه النقل، وقال الآخر في الرأي والقياس: ما لا يجيزه الحديث، وقال الآخر في الذوق والحقيقة: ما لا تسوغه الشريعة، وقال الآخر في السياسة: ما تمنع منه الشريعة، وقال الآخر في الباطن: ما يكذبه الظاهر. فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له بخلاف الوحي فإنّه أمر مضبوط مطابق لما عليه الأمر في نفسه، تلقاه الصادق المصدوق من لدن حكيم عليم.
وكل من له مسكة من عقل يعلم أنّ فساد العالم وخرابه، إنّما نشأ من تقديم الرأي على الوحي والهوى على العقل. وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله، كم نُفي بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل. وأميتَ بها من هدى، وأحيي بها من ضلالة، وكم هدم بها من معقل الإيمان، وعُمِّرَ بها من دين الشيطان! وأكثرُ أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل، بل هم شر من الحمر، وهم الذين يقولون يوم القيامة: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).
باب ذم الرأي وأهله من الصحابة والتابعين:
قال سهل بن حنيف: (أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرددته).
عن عبيد الله بن الزبير قال: (أنا والله مع عثمان بن عفان بالجحفة، إذ قال عثمان، وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: (أتموا الحج وأخلصوه في شهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل، فإن الله قد أوسع في الخير). فقال له علي: (عمدت إلى سنة رسول الله ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار!). ثم أهل علي بعمرة وحج معا، فأقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على الناس فقال: (أنهيت عنها؟ إنّي لم أنّه عنها، إنّما كان رأياً أشرت به فمن شاء أخذه ومن شاء تركه).
وعن مسروق، عن عبد الله قال: (لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله أما أنّي لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم).
وعن معاذ بن جبل قال: (تكون فتن فيكثر فيها المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن فيقرأه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنه علانية فيقرأه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة قاله معاذ ثلاث مرات).
قال أبو موسى الأشعري: (من كان عنده علم فليعلمه الناس وإن لم يعلم فلا يقولن ما ليس له به علم، فيكون من المتكلفين ويمرق من الدين).
عن ابن سيرين قال: (لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ولا في السنة أثرا فاجتهد برأيه ثم قال هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله).
وعن ابن شهاب، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر: (يا أيها الناس إنّ الرأي إنّما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا، إنّ الله كان يريه، وإنّما هو منا الظن والتكلف).
وعن مسروق قال: (كتب كاتب لعمر بن الخطاب هذا ما رأى الله ورأى عمر فقال: بئس ما قلت، قل هذا ما رأى عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر). وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: (السنة ما سنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة).
وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يقول: (أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم). وعنه أيضا، قال: (اتقوا الرأي في دينكم).
وعن الشعبي قال: (لعن الله أرأيت!).
وعن صالح بن مسلم قال: (سألت الشعبي عن مسألة من النكاح فقال إن أخبرتك برأيي فبل عليه). فهذا قول الشعبي في رأيه، وهو من كبار التابعين، وقد لقي مائة وعشرين من الصحابة وأخذ عن جمهورهم.
وقال البخاري، عن عمرو بن دينار قال: (قيل لجابر بن زيد: إنّهم يكتبون ما يسمعون منك قال إنا لله وإنا إليه راجعون يكتبونه وأنا أرجع عنه غدا).
قال سفيان بن عيينة: (اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول هو برأيه).
وعن عمر بن عبد العزيز: (أنّه كتب إلى الناس إنّه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن شهاب قال: (دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي).
عروة بن الزبير يقول: (ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم).
وذكر ابن وهب، عن ابن شهاب، أنه قال، وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال: (إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذى بأيديهم حين اتبعوا الرأى وأخذوا فيه)).
وأما أهل العقل فقد قال فيهم رحمه الله: (إنّ عقل رسول الله أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق فلو وزن عقله بعقولهم لرجح بها كلها، وقد أخبر سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان كما لم يكن يدري الكتاب). قال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا). وقال تعالى: (ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى الضحى). وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر الشورى، فإذا كان أعقل خلق الله على الإطلاق، إنما حصل له الهدى بالوحي، كما قال تعالى: (قل إن ضللت فإنّما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي). فكيف يحصل لسفهاء العقول، وأخفاء الأحلام، وفراش الألباب، الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون نصوص الأنبياء؟ لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا.
وقال في أهل فرية الظاهر والباطن: إنّ الله سبحانه وصف نفسه بأنه بين لعباده غاية البيان، وأمر رسوله بالبيان، وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبين للناس، ولهذا قال الزهري: (من الله البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم). فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده أو المعنى وحده أو اللفظ والمعنى جميعا، ولا يجوز أن يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى فإن هذا لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الرسالة. وبيان المعنى وحده بدون دليله، وهو اللفظ الدال عليه، ممتنع، فعلم قطعا أن المراد بيان اللفظ والمعنى.
والله تعالى أنزل كتابه ألفاظه ومعانيه، وأرسل رسوله ليبين اللفظ والمعنى. فكما أنّا نقطع ونتيقن أنّه بيَّنَ اللفظ، فكذلك نقطع ونتيقن أنه بيَّن المعنى. بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ وهذا هو الذي ينبغي فإنّ المعنى هو المقصود وأما اللفظ فوسيلة إليه، ودليل عليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود؟ وكيف نتيقن بيانه للوسيلة ولا نتيقن بيانه للمقصود، وهل هذا إلا من أبين المحال؟ فإن جاز عليه أن لا يبين المراد من ألفاظ القرآن، جاز عليه أن لا يبين بعض ألفاظه، فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها ومدلولاتها، وقد كتمه عن الأمة ولم يبينه لها، كان ذلك قدحا في رسالته وعصمته، وفتحا للزنادقة والملاحدة من الرافضة وإخوانهم).
ويقول رحمه الله: (باب كتمان بعضِ ما أُنْزل عليه، وهذا مناف للإيمان به وبرسالته:
فعلـى عقــــــــولكم العـــــــفاء فإنكـــــــــــم … عاديتـــــمُ المعقـــــــــول والمنقـــــــــــــولا
وزعمتـــــمُ أنَّ العقــــــــول كـــــــــفيلــــــــــــة … بالحق، أين العقـــــل كان كفيلا؟
لا يستقــــــل العقـــــــل دون هـــــــــداية … بالوحي تأصيــــــلا ولا تفصيــــــــــلا
كالطرف دون النور ليس بمدرك … حـــــــــــتى يـــــــراه بكــــــــــــرة وأصيــــــــلا
وإذا الظلام تلاطـــــــــــــــــمت أمواجه … وطمعت بالإبصار كنت محيلا
فإذا النبــــــــوة لم ينلك ضيـــــــــــــــاؤها … فالعقــــــــل لا يهديــــــــك قط سبيــــــلا
نور النــــــبوة مثل نــــــــــــور الشمـــــــــــــــــــــــــــــــــــس للعين البصيرة فاتخذه دليلا
طـــــرق الهــــــدى مسدودة إلا على … من أمَّ هــــــــــذا الـــــــوحي والتنزيــــــلا
فإذا عدلـــت عن الطريق تعمـــــــــدا … فاعلــــــــم بأنك ما أردت وصــــــــــولا
يا طالبـــا درك الهـــــدى بالعقل دو… ن النقـــــل لن تلقـــى لذاك دليلــــــــلا
كــــــــم رام قبلــــــك ذاك مــن متلـــــــــذذ … حيران عاش مدى الزمان جهولا
ما زالت الشبهـــــــــات تغزو قلبـــــــــــه … حتــــــى تشحــــــــط بينهـــــــــن قتيـــــــــــلا
واضـــرب لهم مثلا بعميــــــــان خلوا … في ظلمـــــــة لا يهتــــــدون سبيـــــــــلا
فتصادمـــــــوا بأكـــــــــفهم وعصيــــــــــــهم … ضربــا يديـــــر رحى القتال طويلا
حتى إذا ملــــــــوا القتـــــــــال رأيتــــــــــــــهم … مشجوجَ أو مفـــــــــجوجَ أو مقــــــتولا
وتسامـــــع العمــــــيان حـــــتى أقــــــــــبلوا … للصلـــح فازداد الصيــــــــاح عويلا).
أسأل الله العظيم أن ينفع بهذه المادة، كل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، والحمد لله أولا وآخرا.