Skip to main content

الأَيْمَــــــــانُ

By السبت 13 ربيع الثاني 1442هـ 28-11-2020مبحوث ومسائل, فقه

والأيمان جمعُ يمينٍ، وهي في الأصل اليد، وسمي القسم كذلك لأنّهم كانوا إذ حلفوا أخذ كلٌ يمينَ صاحبِه توكيداً للقسم. ومن الناحية الشرعية فإنَّ اليمينَ أو القسم لا يتأكَّدُ إلا إذا كان الإقسامُ باسمٍ منْ أسماءِ الله أو صفةٍ من صفاته.

بِمَ تنعقدُ اليمين؟
لا تنعقدُ اليمين شرعاً إلا بذكر اسم الله عزَّ وجلَّ، أو أحد أسمائه أو صفاته، والحلف بغير الله عز وجلّ لا ينعقد بل يأثم صاحبه. فعن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمرَ بن الخطاب وهو يسير في ركبٍ يحلفُ بأبيه فقال: (أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ، وَإِلاَّ فَلْيَصْمُتْ). فقال عمر: (فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ، ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا). وفي رواية لمسلم: (لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي وَلَا بِآبَائِكُمْ). والطواغي هي الأصنام. وعنه، أيضاً، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ).
وفي حديثٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله أن يجدد إيمانه بتجديد الشهادة، يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِى حَلِفِهِ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى. فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ).
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تحلفوا إلا وأنتم صادقون).
وعن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا).

وأما الأدلة على الألفاظ التي تنعقدُ بها اليمينُ، ويجوز الحلفُ بها فكثيرة منها:
عن ابن عمر قال: (كان يمين النبي صلى الله عليه وسلم التي يحلف بها كثيرا: (لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ)).
وكان من قسمه صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ). وكان قسم أصحابه له: (وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ).
ولا يجوز للمخلوق القسمُ بمخلوقٍ، لأنَّ في القسمِ تعظيماً للمُقْسَمِ به، ولا يُحتج بقسم الله عزَّ وجلَّ بمخلوقاته، فإنّ الله يقسم بما شاء من خلقه. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ) فقال العلماء: لم يصْدُرْ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة. ويجاب عن ذلك إما بأنّ ذلك كان قبل النهي، أو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك جرياً على عادة العرب في تأكيد الكلام، ولمْ يُرِدْ ذلك يميناً. والخلاصة أنّنا نلتزم بما قاله صلى الله عليه وسلم وأمرَ به، ولا يُعكِّر على ذلك وجودُ حديثِ فعلٍ عنه صلى الله عليه وسلم.
ومما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مما ينم عن فقه عميق عنده: (لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقا). وذلك لأنّ الحلف بالله مع الكذب فيه ذنب الكذب، أما الحلف بغير الله، ففيه ذنب الشرك وشتان بين الذنبين!

الحلف بغير ملة الإسلام
عن ثابت بن الضحاك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى الإِسْلاَمِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ). وفي رواية عن بريدة عن أبيه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا). ويؤخذ من الروايتين أنَّ من قال في حَلِفِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، أو أكون يهوديا أو نصرانيا، وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَيَكُونُ بِنَفْسِ هَذَا الْحَلف آثِمًا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام،: (فَلَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا) أي سالما من الإثم، لِأَنَّ فِيِ ذلك القول نَوْعَ اسْتِخْفَافٍ بِالْإِسْلَامِ.
أما في حالة كون الحالف كاذباً في حلفه (فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ). فيكون في الحديثِ مُبَالَغَةٌ وتَهْدِيدٌ وَزَجْرٌ مَعَ التَّشْدِيدِ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، و لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْكُفْرِ، أي أنَّ الحالف يبرأ من الإسلام أو يكون يهوديا أونصرانيا. والدليل قولُ النبي عليه السلام في الحديث الآخر: (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِى حَلِفِهِ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى. فَلْيَقُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)، ففي هذا الحديث جعل النبي عليه الصلاة والسلام كفارة لمن قال ذلك القول. ولمّا لم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الأول كفارة، كان المقصود الزجر والتهديد كما ذكرنا آنفا. والله أعلم، والكلام السابق مأخوذ من كتاب (عون المعبود) مع بعض التصرف.

النهي عن أن يقسم أحد على أحد
مما انتشر بين الناس، أن يقسم إنسان على إنسان آخر، بأن يفعل شيئاً أو لا يفعله، وهذا منهي عنه لأنّه ليس لإنسان أن يفرض على آخر شيئاً بقوة اليمين، واليمين يُلزِم صاحبه فقط لأنّه أدرى بنيته وبمقدرته، ودليل ذلك ما رواه أبو داود عن ابن عباس: (أنّ أبا بكر أقسم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُقْسِمْ)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أرى الليلة فذكر رؤيا فعبرها أبو بكر ثم قال: أَخْبِرْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ. قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: (أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا). قَالَ فَوَاللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّى بِالَّذِى أَخْطَأْتُ. قَالَ: (لاَ تُقْسِمْ)).
نلاحظ من الحديث السابق أنّ أبا بكر أقسم على رسول الله بقوله: (فَوَاللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّى بِالَّذِى أَخْطَأْتُ) لكنّ رسول الله نهاه عن الحلف، مع أنّه حلف وانتهى، والمقصود أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كأنّه أراد أن يقول لصاحبه ما كان ينبغي لك أن تقسم، وتعليم لكل من قرأ الحديث بأنّ إقسام الرجل على أخيه منهي عنه، ولو وقع فلا يستجاب له، ولم يحدد النبي عليه الصلاة والسلام كفارة على ذلك.
وقد يبدو أنّ هذا الحديث فيه تعارض مع
الحديث الآ
تي
:
عن البراء بن
عازب قال
: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبرار المُقْسِم). وتوجيه العلماء أنّ الأمر في حديث البراء يحمل على الندب، بقرينة الحديث السابق، فإنّ أبا بكر رضي الله عنه أقسم على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن نبي الله عليه الصلاة والسلام لم يستجب لأبي بكر رضي الله عنه. فيكون الأمر للندب. وقال كثير من العلماء إذا كان المقسم عليه لا يجد في إبرار قسم أخيه حرجا، أو ضررا، فالأولى أن يبر بقسم أخيه من باب حسن التعامل بين المسلمين، ولو لم يفعل فلا سبيل عليه، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم السابق.
واختلف العلماء، هل يترتب على عدم الإبرار بقسم المقسم، مادام لا يترتب على الإبرار ضرر، كفارة؟ فمنهم من قال نعم، اعتمادا على الأصل العام، أنّ كل حانث يكفر. وقال آخرون لا كفارة بدليل أنّ النبي عليه الصلاة والسلام فعل ذلك مع أبي بكرٍ رضي الله عنه، ولم يذكر الكفارة على أي طرف، وهو الأصوب.

اليمين على نية المستحلف
ولا ينجي الحالف من إثم الكذب أن يُضمر في نفسه نيةً يحلف عليها خلافاً لنية مستحلفه، وهذا ما يقع به كثير من الناس اليوم، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أوضح بيان. فعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ). وجاء عند ابن ماجة عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ).
أما من حلف دون أن يُستحلف، فيكون يمينه على نيته، فعن سويد بن حنظلة قال: (خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس أن يحلفوا، فحلفت أنا أنّه أخي فخلى سبيله. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنّ القوم تحرجوا أن يحلفوا وحلفت أنا أنّه أخي فقال: (صدقت، المسلم أخو المسلم)). أما إذا استُحلفَ الرجل صار اليمين على نية مستحلفه.

من حُلف له بالله فليرض
عن ابن عمر قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه، فقال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرضَ، ومن لم يرضَ بالله فليس من الله).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأى عيسى ابنُ مريم رجلا يسرق، فقال: أسرقت؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو. فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت بصري).
وفي هذه الأحكام، قطعٌ لدابرِ الشحناء بين الناس، وتركُ الأمر إلى الله، الذي يعلم سرائر القلوب. وعن ابن عباس: (أنّ رجلين اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فسأل النبى صلى الله عليه وسلم الطالبَ البيِّنة فلم تكن له بينة، فاسْتُحلف المطلوب، فحلف بالله الذى لا إله إلا هو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلى قد فعلت، ولكن قد غُفر لك بإخلاص قول لا إله إلا الله)). قال أبو داود: (يراد من هذا الحديث أنّه لم يأمره بالكفارة).

تعظيم اليمين عند منبر رسول الله
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِي هَذَا عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ إِلَّا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ أَوْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ).

أقسام اليمين
1. يمين اللغو:
وهو أن يجري اليمين على لسان المرء دون أن تكون نيته الحلف، وهو ما ابتلي به كثير من الناس (والله لتأكلن، والله لم أذهب…) فعن عائشة مرفوعاً: (اللغو فى اليمين كلام الرجل فى بيته، لا والله، وبلى والله).
وهذا اليمين لا ينعقد، ولا يؤاخذ به صاحبه، لأنّ الله خفف عن عباده بقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ). وقوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ). وعَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها: (أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ) فِى قَوْلِ الرَّجُلِ: لاَ وَاللَّهِ ، وَبَلَى وَاللَّهِ).
2. اليمين الغموس: وهي أن يحلف كاذباً ليستحل حراماً
،
أو ليأكل حق غيره، أو ليرمي بريئاً ببهتان. وسميت كذلك لأنّها تغمس صاحبها في النار، ولا كفارة لها. وتسمى اليمين الفاجرة أيضاً، وتسمى يميناً مصبورة لأنّها تصبر صاحبها بها، أي تحبسه. ومن الأحاديث في ذلك، عن عمران بن حصين قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين مصبورة كاذبا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار).
وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِىَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ). فقال الأشعث: (فيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فقَدَّمتُهُ إِلَى رسول الله، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟) قُلْتُ: لَا. قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: (احْلِفْ) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَحْلِفَ فَيَذْهَبُ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).
وعن الأشعث، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَقْطَعُ أَحَدٌ مَالًا بِيَمِينٍ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ أَجْذَمُ)، وفي رواية: (أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ).
ويقول الله عز وجلّ: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). دخلاً: أي خديعة وغدراً. وفي ذلك نهي
 عن الحلف الكاذب
،
الذي يخدع الآخرين فيحسنون الظن بالحالف.

وعن عبد الله بن عمرو
،
عن النبي صلى الله عليه وسلم
،
(الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ).
للبخاري وغيره.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت المؤمن، والفرار من الزحف، ويمينٌ صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق).
فهي إذاً يمين لا كفارة لها، لأنّ حالفها كان مصراً على الكذب، ولا توجد أدنى شبهة تعرض له، ولا يَسَعُ فيها إلا التوبة والندم والاستغفار، ورد الحق إلى أهله. ومما علل العلماء به عدم وجود الكفارة، أنّ الكفارة تكون ليمينٍ انعقدت، واليمين الغموس لا تنعقد لبطلانها، وما لم ينعقد فلا حِلَّ له بالكفارة. وميَّز بعضهم بالتعريف بين اليمين الغموس، وبين اليمين المنعقدة، بقولهم: (الغموس هي الحلف على ما يعلم بطلانه، لا على ما يظن صدقه).
3.اليمين المنعقدة: وهي يمينٌ يقصدها الحالف، ويعقدها بقلبه، مريداً بذلك توكيد شيءٍ، أو إلزام نفسه بشيء. وغالباً ما تكون على شيء في المستقبل، أو على ما يُعتقد صدقه.
وهذه اليمين إن برَّ بها فلا شيء عليه، وإن حنث فعليه الكفارة لقوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ). وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).

الكفارة
فكفارة اليمين كما جاء في الآية تخيير بين ثلاثة أمور هي: إطعام عشرة مساكين، كسوة عشرة مساكين، تحرير رقبة. فمن لم يجد واحداً من هذه الثلاثة صام ثلاثة أيام، ولا يجوز الصيام إلا بعد العجز عن واحد من الأمور الثلاثة المذكورة. ومعنى الكفارة مأخوذ من الكفر وهو الستر، فهي من الأعمال التي تكفر به بعض الذنوب، وتسترها، وتسقط المؤاخذة عليها في الدنيا والآخرة.
ويكون إطعام الطعام من أوسط ما يُطعم به أهلَه. واختلف العلماء هل يجزئ إطعام مسكين عشر مرات. والراجح أنّ الأولى تطبيق نص الآية بإطعام عشرة مساكين.
أما اللباس، فيترك للعرف السائد بين الناس. وأما الصيام فلا يشترط فيه التتابع. والذين قالوا بالتتابع اعتمدوا على قراءة شاذة، فيها كلمة (متتابعات) ولا تقوم الحجة بالقراءة الشاذة.

هل الكفارة قبل الحنث أم بعده
في الأصل أنّها لا تَجِب إلا بالحِنْث، والحِنْثُ أن لا يفعل ما حلف على فعله. وهل يجوز له أن يفعل المحنوث به، قبل أن يكفر أم لا؟ والصحيح جواز الأمرين، لأنّ للحديث روايتين في صحيح مسلم وغيره، جاءتا بالصورتين المسؤول عنهما. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ). وعنه أيضاً، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ).

الأصل الوفاء ويجوز الحنث لمصحلة
لا بد للحالف من أن يُبرّ قسمه، إلا إذا رأى المصلحة خلاف ذلك فله أن يحنث ويُكفر، لقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ). وتفسيرها أن لا يُجْعَل الحَلف بالله صاداً عن ما هو خيرٌ وأنفع. وقال ابن عباس: (لا تجعلن عرضة يمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير). كذلك فقد قال تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ).
وفي البخاري ومسلم وغيرهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ). وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وَاللَّهِ لأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِى أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِىَ كَفَّارَتَهُ الَّتِى افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ). ومعنى الحديث: أنّ من أصر على يمين حلفها على فعل شيءٍ يُضر بأهله، فإنّ إثم هذا الإصرار أشدُّ من إثم الحنث والكفارة، كي لا يُضرَّ بالأهل إن كان يظن أنّ في الحنث والكفارة إثما! والحنث والكفارة مأمورٌ بهما، إن وَجَدَ الحالف الخيرَ خلاف ما حلف عليه، كما في الحديث الأول.

هل يحنث المخطئ أو الناسي
لا، لقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ).

الاستثناء في اليمين
ومعنى الاستثناء أن يقسم ويقول: (لأفعلن كذا إن شاء الله). وما حكم الاستثناء؟
إذا استثنى الحالف على شيء ثم لم يفعله لا يكون حانثاً. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه ابن عمر: (من حلف واستثنى إن شاء رجع، وإن شاء ترك غير حانث). وفي المتفق عليه من حديث أبي هريرة، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُل، وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلاَّ وَاحِدًا سَاقِطًا إِحْدَى شِقَّيْهِ. لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ). وفي رواية: (وَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِى حَاجَتِهِ).
ومن أدلة ذلك ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ثم قال إن شاء الله). قال الوليد بن مسلم عن شريك: (ثم لم يغزهم).

لا يجوز اليمين على محرَّم
عن عبد الله بن عمرو، فيما يرويه أبو داود، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله، ولا يمين في قطيعة رحم). ويؤخذ من الحديث أنّ اليمين في مثل هذه الحال لا تنعقد، وقال العلماء يجب الحنث بها وإخراج الكفارة.

الحلف بالحرام
وقد اعتاد بعض الناس أن يقول إن فعلت كذا فكذا عليّ حرام، أو يحرم عليّ كذا. فمنهم من يُحرم طعاماً، ومنهم من يحرّم دخول بيت إنسان، أو الكلام معه إلى غير ذلك. فما حكم هذا؟
من العلماء من قال إنّه ليس بيمين ولا شيء عليه، ومنهم من قال يحنث وعليه الكفارة، والثاني هو الأصوب لقوله تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ). وقصة ذلك في البخاري كما ترويها عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ رَسُولُ يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا فَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَنْ أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ إِنِّى أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ. قَالَ: (لاَ وَلَكِنِّى كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لاَ تُخْبِرِى بِذَلِكِ أَحَدًا)).
وقال ابن عباس: (فِى الْحَرَامِ يُكَفِّرُ). وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

بعض ألفاظ الأيمان
اتفق العلماء على انعقاد اليمين بــ (وايم الله) وأصلها يمين الله أو أيمن الله. وقد دخل على الكلمة بعض الحذف وتغيير الحركات، كذلك أجازوا القسم بــ (لعَمر الله) لأنّ العَمر تساوي العُمُر (وتُفتح عند القسم)، والقسم بها جائز عند بعضهم، لأنّها قسم ببقاء الله وحياته، والحياة صفة من صفات الله عز وجلّ.
أما القسم بــ (لعمري، ولعمرك، ولعمر أبيك..) فلا يجوز لأنّه قسم بالمخلوق وقد مرّ عدم جواز ذلك. ولا يحتج لذلك بما جاء في القرآن الكريم من إقسام الله عز وجلّ بعمر النبي صلى الله عليه وسلم (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) لأنّ الله يقسم بما شاء من مخلوقاته.

والحمد لله رب العالمين