عبارة سمعتها من شيخنا العثيمين رحمه الله، وقرأتها مراراً في كتابات له، وصدق وايم الله. وما أكثر ما يشهد الواقع على جنايات العواطف على المسلمين.
وإن لم نحدد معنىً للمسألة التي نناقش، سندخل في الخلاف والتأويل. ولا يظنن أحدٌ أنّ ذمّ استخدام العواطف في سياقٍ معين يُجيز أن يُفترض له لازمٌ، وهو تحميله معنى ذمّ العاطفة إطلاقا، واعتبارها خلقا ذميما عند البشر، ينبغي التخلص منه.
ومن أجل الاتفاق على المفهوم والمضمون، أقول: إنّي أفهم أنّ العاطفة المزروعة في النفس الآدمية، لتكون أساسا للعلاقات البشرية، ليست واسعة الطيف في استعمالها. وأكاد أزعم أنّها في حقيقتها لا تعدو شوباً من الحب والرحمة. واستلهمت ذلك من ثلاثة أحاديث نبوية. الحديثان الأولان في معنى واحد:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أتقبلون صبيانكم؟! فَـوالله ما نُقَبِّلُهُمْ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرحمة؟!)).
وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: (قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسٌ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا! فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)).
ثم آتي بالحديث الثالث، لألقي مزيدا من الضوء لإيضاح المسألة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: (جعلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جزءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا واحداُ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يتراحمُ الخلقُ، حَتَّى ترفعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ).
من النظرة المشتركة لتلك الأحاديث، استنبطت، وأرجو أن أكون موفقا، أنّ ما نسميه عاطفةً في استعمالنا العامي والمثقف، كتقبيل الولد أو غيره، ومن علاقات ودية بين الناس، فهو في القاموس النبوي رحمة. وأعزز هذا الفهم بالقاموس القرآني، في قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
ونحن، مرة أخرى، نرى في استعمالنا العامي والمثقف أنّ أهم ما بين الزوجين، هو عاطفة الحب، وهي التي أعطاها البارئ تسميةً أوسع مضموناً، فقال جلَّ من قائل: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). إذا تعمقنا في هذه النظرة، نستخلص أنّ ما نحن فيه من جدال، نخلط فيه بين العاطفة والغوغائية، فلنحدد مفهوم مصطلحنا.
أنا أقول لا ينبغي لأحد أن يصف العلاقة بين المسلم وربه، والمسلم ونبيه، بأنّها عاطفة. إنّها أرقى وأسمى وأقدس من ذلك! ولأقرب المفهوم أكثر، هل يشعر أي مسلم بأنّ حبه لربه ونبيه ودينه يلتقي بسبب ما مع حبه لوالديه أو زوجه أو أحدٍ من البشر؟ قطعا، الجواب لا. إذن لا ينبغي لنا معشرَ طلاب العلم أن نقبل بتسمية المشاعر تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، والغضب والانتصار له ممن يسيئون إليه، بالعاطفية، لكي لا نقع مرة ثانية في ما وقع فيه أهل التصوف وابن الفارض ورابعة في مصطلحاتهم الأرضية يستعملونها في حق الله ورسوله، وأعف عن ذكرها لبطلانها، فأساؤوا للدين أيما إساءة!
إذن لم يبق لنا إلا أن نسمي ذلك الحراك الجمعي، حتى ولو كان ظاهره انتصارا للنبي صلى الله عليه وسلم بأنّه غوغائية. ولذلك يرفضه بعض أهل العلم، وحين يذمون العواطف، كما في العنوان من قول الشيخ العثيمين، فلأنّها غوغائية. إنّ أهل العلم شرحوا ما فيه الكفاية، أنّ حب النبي صلى الله عليه وسلم، والانتصار له ممن يسيؤون له، يكون من كل أفراد المسلمين، بتعميق صلتهم بنبيهم، وتطبيق سنته وهديه وطاعته في كل ما جاء فيهما. أما أن يتحرك العوام ليطلبوا من الكفار ما لم يفعلوه في أنفسهم وأهليهم وبلدانهم. فهذه هي الغوغائية.
وقد يقول البسطاء من الناس: فعلنا ما يقوله لنا أهل العلم، ولكنّنا نريد أن نرى ما يشفي العليل ويروي الغليل، مما هو أكبر وأشد نكاية بمن تجرؤوا على جناب النبي صلى الله عليه وسلم. فأقول لهم نحن معكم، وننتظر مثل ما تنتظرون، ولا يصور حالنا وحالكم، إلا المثل العامي المعروف (العين بصيرة، واليد قصيرة)، إنّي أكاد أقسم لو أنّنا في غير هذا الحال، وأعني غياب الأمة، وهوان مليار ونصف مليون مسلم، على أهل الأرض، لفقدانهم الوزن النوعي، لما رضينا إلا بما يشفي صدورنا انتصاراً لنبينا، ولو كان قصف الطائرات! ويكفينا، طلابَ علمٍ وعواماً بسطاء، أنّنا فعلنا ما يرضي ربنا، يوم عبرنا عن غضبنا من أجل نبينا بمزيد من الطاعة لنبينا، وطاعته طاعة لربنا، وعظمناه فينا بتعظيم سنته، والأخذ على يد كل من يسيء لنبينا بعصيانه وهجر سنته، من بني جلدتنا، كل منا بقدر وسعه، هذا ما نستطيعه. وبذلك نبرئ ذممنا عند بارئنا. أما ما هو وراء ذلك، فليس لنا، وليس بأيدينا مفاتحه! وله مع أهل العلم حديث.
يا أهل العلم، لكمْ يسوؤني أحيانا، أن أراكم وقد استدرجكم العوام إلى أفهامهم وتصوراتهم ومواقفهم، فتتحركون بما يرضيهم! إما بغفلة، وإما برغبةٍ في إمساك العصا من الوسط، كما يقال! ولا أقول الثالة. آن لنا أن نتفق على أمرٍ جللٍ، وإن فعلنا فسنتفق على معظم الخلافات الأخرى. إنّنا أيها الإخوة نعيش بلا أمة. وكم أهمني وأغمني، أن أقرأ لطروحات بعض أهل العلم، وأسمع كلامهم، وأتحقق أنّ قضية الأمة ليست لهم على بال؟
أعيذكم أيها الإخوة، أن لا يتصور بعضكم معنى غياب الأمة! إنّ غياب الأمة يستتبعه غياب الإمام، وهذا واقع كل البلدان الإسلامية. وتعرفون علميا وترون واقعياً، أنّه تسقط إقامة الحدود ويسقط الجهاد في غياب الإمام! وأذكر كلاما لابن تيمية، قراءتي له قديمة، لذلك لم أتمكن في عجالتي من العثور على نصه، يقول ما معناه: إنّ الإمام هبةُ الله للمسلمين إن كانوا على ما يريده الله!
إذن هؤلاء الذين يطلبون الشدة انتصاراً للنبي عليه الصلاة والسلام، وقد سمعت بالأمس تسجيلا لأحد أهل العلم، وأحسبه على خير، يطالب فيه بسحب السفراء، وإيقاف كل أشكال التعاون مع البلاد التي تسيء للنبي. فقلت، في نفسي لمن يتكلم هؤلاء، ومن يطالبون بفعل هذه الأشياء، وهل يعيش هذا الأخ، في كوكب آخر؟ إنّي أشهد له بالوعي، ولكنّي لا أحب أن أقول إنّه أراد أن يساير غضبة العوام، لكنّها الغفلة!
إنّي أتمنى لو يستغلُ كل أهل العلم، أي مناسبة فيها انتكاسة لواقع المسلمين، ليتذكروا ويُذكروا بغياب الأمة وغثائيتها، وأنّه لا صلاح لأحوال المسلمين، على كل الأصعدة، في غياب الأمة. وليبدؤوا حث أنفسهم والقادرين على العمل التربوي، والعمل الدعوي على بصيرة، على منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، فهما السبيل الوحيد لاسترداد الأمة الغائبة، ولا سبيل سواهما.
وأتمنى على كل أهل العلم أن يُعلموا المسلمين أنّ غياب الأمة غياب لكل مقومات فلاح ونجاح المسلمين، وأنّ المسلمين جميعا يعيشون اليوم حالة نبوءة نبيهم صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
ولا أنسى قبل مفارقة الحاسب، أن أهمس في أذن أهل العلم، إنّي كما أعيذكم من أن يستدرجكم العوام إلى هواهم، أربأ بكم أن يؤزَكُم بعض من لا زالوا مع الإسلام السياسي يصطفون، يستغلون مثل هذه الأحداث، لإثارة الدهماء، وتصفية الحسابات القديمة، غير متعظين بتجارب لهم سابقةٍ محزنة، لم يجنِ المسلمون منها إلا الخسران والوبال. ولا حول ولا قوة إلا بالله.