Skip to main content

غَفْلَةُ الْعَالِمِينَ…!

By الخميس 5 ربيع الأول 1442هـ 22-10-2020مدراسات

اصطلاحٌ نَسجتُهُ على منوالِ مصطلحِ (غفلة الصالحين)، ووجدنا هذه العبارة تتردد في الكتب، تبريراً لأخطاءٍ تصدر عمن ليسوا أهلا للتهمة، في نواياهم، لكنّها تصدر عنهم لغفلة تعتريهم. وفي مقدمة صحيح مسلم، قريبٌ من هذا، أحببت نقله، فالشيء بالشيء يذكر. يقول مسلم في مقدمة صحيحه: (عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه قال: لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث. قال مسلم: يجري الكذب على لسانهم، ولا يتعمدون الكذب).
ويعلق النووي فيقول: (ومعناه ما قاله مسلم إنّه: يجرى الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدون ذلك، لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث، فيقع الخطأ فى رواياتهم ولا يعرفونه، ويرون الكذب ولا يعلمون أنّه كذب).
وقال ابن تيمية رحمه الله في الاستقامة: (لكنّ كثيراً من العباد لا يحفظ الأحاديث ولا أسانيدها، فكثيرا ما يغلطون في إسناد الحديث أو متنه ولهذا قال يحيى بن سعيد: (ما رأينا الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث) يعني على سبيل الخطأ).

استطراد ليس كلُّه لصالح الموضوع، إنّما كان لصالح القارئ. على كل فإنّ عبارة (غفلة الصالحين)، وعبارتي في العنوان التي نسجتها على منوالها، تركيب متوازنٌ منصفٌ، بمعنى أنّه انتقدَ، وعذرَ ومدحَ، وهذا ما يليق أن يوصف علمائنا به، حتى لا نغمطهم حقهم. ثم أبدأ موضوعي فأقول:
ينبغي في العالم أو الداعية، أو كلِّ مشتغلٍ في علوم الدين، وهو ممن قد يؤخذ عنه، أن تتوفر عند كلِّ أولئك مجموعةٌ من الضوابط، والقواعد والمهارات، مثل: المنهجية، الصوابية، الدقة، الوضوح، وغير ذلك.
وليس همي في هذا الموضوع استقصاء واستكمال ذلك، بل أردت التقديم لما أريد. ولما كنت أمضيت سنين عددا في دراسة العلوم الإسلامية، وعرفت نبذا عن سِيَرِ كثير من العلماء، بدا لي بعد تدقيقٍ في الملاحظة، وتنويعٍ في المتابعة، أن أضيف إلى ما ذُكر من خصائصَ للشرائحِ السابقة، ضرورةَ وجودِ قدرٍ كبيرٍ من اليقظة عند العالم. وماذا أقصد باليقظة؟ الذي أعنيه أن يكون عند العالم، نظرة واعية مستقبلية، تجعله يحرص على صيانة ما يطرحه، في ما يكتب ويفتي وينشر، من أن يُتخذ حجةً عند من يبحث عن مسوغٍ لطرحٍ مرجوحٍ يطرحه، أو فهمٍ مردودٍ يُقحمه! وقد يجدُ ذلك في ثغرة في كلامٍ علمي رصينٍ، سديدٍ لبعض العلماء، ينفذ من خلالها لتمرير بضاعته المزجاة، والترويج لها!
ولعل الأقربَ والأوضحَ أن أطالب العالِم بعدم الغفلة، بدل عبارة اليقظة. فالغفلة قد تكون في ثنايا اليقظة غير ملحوظة، وقد لا يلقي العالم بالاً لجزئياتٍ لا يراها في الوقت الذي هو فيه ذاتَ بال! لكنّها، بتبدل الزمن تتغير النظرة إليها، ومن هنا يكون المأتى!

وقبل الإيغال في البحث، أريد التأكيد على أنّي لا أتعقب زلاتِ عالمٍ، ولا أُخَطِّيء رأياً، إنّما أريد أن أنبه على غفلة لبعض العلماء، وهي مع تغليب حسن الظن، لم تكن تغافلا. لكنَّ تلكَ الغفلة، ومع مرور الزمن سببت خللا ليس بسيطا في مسائل شرعية، وسيأتي التفصيل، وسأكتفي بعرض نموذجيين توضيحيين لما طرحت، وهما من أكثر الخَللِ انتشاراً، وأخطرِه فعلاً وآثاراً، فإلى استعراض النماذج:
النموذج الأول: إذا راجعنا معظم كتب التفسير، للبحث في تفسير قول ربنا تبارك وتعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). نجد ما يلي، وسأثبت بعض النقول، عن مشاهير المفسرين.
. تفسير البغوي: ({إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أَيْ: نَحْفَظُ الْقُرْآنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَزِيدُوا فِيهِ، أَوْ يَنْقُصُوا مِنْهُ، أَوْ يُبَدِّلُوا).
. تفسير ابن كثير: (ثُمَّ قَرَّرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الذِّكْرَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ الْحَافِظُ لَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ لَحَافِظُونَ} عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَوْلَى).
. فتح القدير للشوكاني: (فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} أَيْ: نَحْنُ نَزَّلْنَا ذَلِكَ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَنَسَبُوكَ بِسَبَبِهِ إِلَى الْجُنُونِ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ تَصْحِيفٍ وَتَحْرِيفٍ وَزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَنَحْوِ ذَلِك).
. تفسير السعدي: ({إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ} أي: القرآن الذي فيه ذكرى لكل شيء من المسائل والدلائل الواضحة، وفيه يتذكر من أراد التذكر، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيه، ثم في قلوب أمته، وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم، ولا يسلط عليهم عدوا يجتاحهم).
. التحرير والتنوير: (ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ ارْتِقَاءً وَنِكَايَةً لَهُمْ بِأَنَّ مُنْزِلَ الذَّكَرِ هُوَ حَافِظُهُ مِنْ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ فَجُمْلَةُ {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرَ، وَاللَّامُ لِتَقْوِيَةِ عَمَلِ الْعَامِلِ لِضَعْفِهِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ. وَشَمَلَ حَفِظُهُ الْحِفْظَ مِنَ التَّلَاشِي، وَالْحِفْظَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ، بِأَنْ يَسَّرَ تَوَاتُرَهُ وَأَسْبَابَ ذَلِكَ، وَسَلَّمَهُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ حَتَّى حَفِظَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ ظُهُورِ قُلُوبِهَا مِنْ حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِمَسْمَعٍ مِنَ النَّبِيءِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَارَ حُفَّاظُهُ بِالِغِينَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ فِي كُلِّ مِصْرٍ. وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» : أَنَّ الْقَاضِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَالِكِيَّ الْبَصْرِيَّ سُئِلَ عَنْ السِّرِّ فِي تَطَرُّقِ التَّغْيِيرِ لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَسَلَامَةِ الْقُرْآنِ مِنْ طرقِ التَّغْيِيرِ لَهُ. فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْكَلَ لِلْأَحْبَارِ حِفْظَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ. وَتَوَلَّى حِفْظَ الْقُرْآنِ بِذَاتِهِ تَعَالَى فَقَالَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}).
. تفسير القرطبي: (قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ. {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ. قَالَ قَتَادَةُ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَاطِلًا أَوْ تَنْقُصَ مِنْهُ حَقًّا، فَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ حِفْظَهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا، وَقَالَ فِي غَيْرِهِ: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} ، فَوَكَلَ حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا.حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ فَهْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ يَقُولُ: كَانَ لِلْمَأْمُونِ- وَهُوَ أَمِيرٌ إِذْ ذَاكَ- مَجْلِسُ نَظَرٍ، فَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ رَجُلٌ يَهُودِيٌّ حَسَنُ الثَّوْبِ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، قَالَ: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما أن تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ فَقَالَ لَهُ: إِسْرَائِيلِيٌّ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ حَتَّى أَفْعَلَ بِكَ وَأَصْنَعَ، وَوَعَدَهُ. فَقَالَ: دِينِي وَدِينُ آبَائِي! وَانْصَرَفَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ جَاءَنَا مُسْلِمًا، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى الْفِقْهِ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ، فَلَمَّا تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ وَقَالَ: أَلَسْتَ صَاحِبَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: فَمَا كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِكَ؟ قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ حَضْرَتِكَ فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الْخَطِّ، فَعَمَدْتُ إِلَى التَّوْرَاةِ فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْكَنِيسَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي، وعمدت إلى الإنجيل فكتب ثَلَاثَ نُسَخٍ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْبِيعَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي، وَعَمَدْتُ إِلَى الْقُرْآنِ فَعَمِلْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ وَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْوَرَّاقِينَ فَتَصَفَّحُوهَا، فَلَمَّا أَنْ وَجَدُوا فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ رَمَوْا بِهَا فَلَمْ يَشْتَرُوهَا، فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا كِتَابٌ مَحْفُوظٌ، فَكَانَ هَذَا سَبَبُ إِسْلَامِي).
. محاسن التأويل: ({إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} أي من كل من بغى له كيدا. فلا يزال نور ذكره يسري، وبحر هداه يجري، وظلال حقّيّته في علومه تمتد على الآفاق، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق، رغما عن كيد الكائدين، وإفساد المفسدين {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}).
وفي تلك النقول، عن أشهر كتب التفسير، نجد عند الجميع التركيز على أنّ المقصود بكلمة الذكر في الآية (القرآن الكريم)، وأنّه المحفوظ بحفظ مُنزله إلى قيام الساعة، من كل تحريف وتبديل، وأي شكل من أشكال العبث من قبل المرجفين، في ذلك الكتاب الكريم. فأين المشكلة إذن؟ إنّي أكاد أجزم أنَّ كل المفسرين قالوا في الآية المذكورة كلاما مشابها لما جاء به المشاهير منهم. أقول، وبجرأة وإصرار، وقد لا يستيغ ذلك كثيرون، لما أحيط به التراث الاسلامي بهالة من القدسية لا مبرر لها، فالأصل أن يُحترم التراث ولكن لا يقدس، بل قد يكون محلا لنقد واعتراض واتهام! أقول لقد فاتَ كلَّ المفسرين، ولعل ذلك ينسحب على علماء آخرين، في علوم أخرى، أجل لقد فاتتهم اليقظةُ في ما قيل في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وأصابتهم غفلةٌ كان لها ما بعدها، من أبواب شرٍ فُتحت على الإسلام وأهله، ولا سيما في هذه الأزمنة. لقد ترك المفسرون وشاركهم علماء آخرون، في تفسير الآية المذكورة، ثغرةً، بنى عليها الذين في قلوبهم مرض، والمتربصون بالإسلام الدوائر، سجالات واستدلات، لشن الحملات المشوشة والمشوهة لهذا الدين. وسجلوا انتصارات لأنصار النزعة القرآنية، الهادفة إلى هدم دين الإسلام، من خلال استبعاد السنة. ولقد تمالأ كل المناوئين، والتفوا حول هذه الفرية، وأصحاب المدرسة العقلية الذين يعتبرون أنفسهم من الصف الإسلامي، وما هم كذلك، كانوا أشد الناس حفاوة بهذا الشغب.
المؤامرة باختصار، كما أرادها المتآمرون، التأكيدُ على أنّ في الإسلام وحياً واحداً، وهو القرآن الكريم، ويدَّعون إيمانهم الكامل به. أما السنة فهي اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق الإسلام، وليس للسنة أي صلة بالوحي. والهالك محمد ديب شحرور، كان في أخريات أيامه، يرمي بثقله لتثبيت هذه الفكرة الخطيرة والهدامة!
ومن فضل الله علي، أن هداني، فتنبهت لهذه المسألة المهمة، أعني عدم تأكيد أنّ السنة وحي، وأنّها مشمولة بحفظ الله له كالقرآن في منطوق قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وكان أول ردِّ فعلٍ لي، أنّي دأبتُ منذ ثلاثين سنة، أو يزيد، على طرح عبارة (الوحيان)، في كل أحاديثي. وكنت وبتوفيق من الله، أشرح للناس في مناسبات كثيرة أنّ المسلمين متعبدون لله تعالى بوحيين هما القرآن والسنة، وكنت ولا زلت أقول وأكتب عبارة (السنة هي الوحي الثاني).
ولا يفوتني أن أذكر بحديثين شريفين: قوله عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهم (ما تمسكتم بهما) كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض).
وقوله: (أَلا إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمِثْلَهُ مَعَهُ. أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمُ لحم الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبع، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ).
ومن القصص الطريفة والعجيبة، أنّني دعيت منذ عشرين سنة إلى عقيقة، وبعد تناول الطعام طلب إلي صاحب المناسبة أن أطرح مسألة علمية شرعية ينتفع بها الحاضرون، فاستجبت. وصارت مشاركات ومداخلات من كثير من الحاضرين. وحين انتهت الأمسية، والناس يخرجون مسَلِّمين، اقترب مني شابٌ مع أصدقائه، فاستأذن لطرح سؤال، فأذنت له، فقال: لقد أكثرت من ذكر عبارة (الوحيان)، فما الدليل؟ وهل لك في ذلك سلف؟ فأجبته، وأذكر أنّي قلت له: ليس لي في ذلك سلف، فقال لا يجوز! قلت: أسألك هل السنة وحيٌ أم لا؟ فتلعثم ثم قال نعم وانصرف. ووجه غرابة القصة، أنّ بعض الشباب قال لي: هل تعرفه؟ قلت لا، فقال فلان، وهو قريبٌ لشخص من كبار السلفين في دمشق!
أريد أن أؤكد، مرة أخرى، ولا أمل، أنّ القصور من كل العلماء في تفسير الآية (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، غفلةً، وعدم جعل السنة مشمولة بحفظ الله كما القرآن، أورثنا من بعدهم عبئا ثقيلا في مواجهة انحراف الفهم والتصور عند بعض المسلمين. وأذكر أنّي لما كنت أطرح فكرة حفظ السنة بالآية الكريمة، للردِّ على كثيرين من الذين يتخذون من مقارنة الفوارق الزمنية بين موت النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ تدوين السنة، ومولد البخاري وغير ذلك، مطية للتشكيك في صحة السنة وعدم صلاحيتها للاحتجاج، أذكر أنّي كنت ألحظ في من يستمع إلي عدم حماسٍ للفكرة، ولمّا تقصيت السبب وجدت أنّ لسان حال أكثر الإخوة يقول: لا يُعقل أن تغيب فكرتك هذه عن أذهان كل العلماء! وبقيت سنين عددا يعتريني الهم والغم، حين أتذكر تلك المسألة، ومواقف العلماء منها. وبحثت كثيرا لعلي أجد واحدا من العلماء يقول بما أقول! والقرآنيون وأعداء السنة ناشطون في تحقيق ما يريدون، وأصحاب المدرسة العقلية يمعنون في ضلالهم القديم، وكأنّهم اتخذوا من (غفلة العالِمين)، نصيرا لباطلهم. ومازلت أبحث عن مخرج، حتى أوقفني الله تبارك وتعالى، وله الحمد وحده، على كلام رائع لابن تيمية رحمه الله، فكان فيه إرواءُ الغليل، وشفاءُ العليل. يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/ 451):
({وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قُيِّضَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَصَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ مَا تَابَعَهُ.
وَإِنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلرَّحْمَنِ تَارَةً وَلِلشَّيْطَانِ أُخْرَى كَانَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الرَّحْمَنَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ وَالنِّفَاقِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الشَّيْطَانَ
). انتهى من الفتاوى.
وحمدت الله أن ظفرت بصيد، والمثل يقول (كل الصيد في جوف الفرا). وتابعت البحث لعلي أجد ثانياً لابن تيمية، فوقفت بتوفيق الله على علمٍ آخر، وهو ابن حزم. يقول في كتابه المشهور إحكام الأحكام، (122-121/1): (فصح أنّ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أنّ كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه، وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه).
ويقول أيضاً: (والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحياً يُبَيَّن بها القرآن، وأيضا فإنّ الله تعالى يقول {بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فصح أنّه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا).
وانظر أيها الأخ القاريء في هذا الكلام الرائع، وقارنه مع نقول نقلناها، في البداية عن مشاهير المفسرين، لترى الفرق الكبير، والقصور الواضح في تلك النقول، وهل يلام كاتب السطور إن قال (غفلة العالِمين)؟ أليس عجيبا أن يتنبه ابن تيمية وابن حزم رحمهما الله إلى هذا الملمح العظيم، ويغفل عنه علماء لهم علو الكعب، في علوم الدين؟!
وبالمناسبة، فإنّي تساءلت كثيرا، لِمَ لا يُفسر قول الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) بأنّ الله أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الثاني الذي هو السنة لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وهو القرآن الوحي الأول. ويكون ربنا قد أشار في هذه الآية إلى إنزالين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هما وحي السنة المبين للقرآن المنزل أيضا. ويكون في الآية دلالة واضحة على أنّ السنة هي المبينة للقرآن. وبناء على هذه الحقيقة، كتبت أكثر من مرة أنّه يمكن للعاقل أن يدرك بعقله استنتاجا، بعد أن يقرأ قول الله تبارك وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) والتفسير الذي بينته آنفا للآية أنّها مادامت السنة مُبيِّنَةً للقرآن، فلا قيمة لحفظِ المُبيَّنِ إن لم يُحفظ معه المُبيِّنُ له، لأنّ الناس لا ينتفعون به دون بيان! ولا زال عجبي كبيرا، لِمَ تحرج العلماء من أن يثبتوا في الآية السابقة إنزال وحيين على قلب النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنّ ذلك تكرر في القرآن الكريم، وبين أيدينا الآن في ما نقلناه عن ابن تيمية، نماذج قريبة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) و(وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ). وقد تكررت هذه الألفاظ مرتين في آيتين كريمتين، ونضيف الآية (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا). ويكاد يكون إجماعٌ من العلماء أنّ ألفاظ (الكتاب والحكمة، وآيات الله والحكمة) تعني القرآن والسنة. وكم يكون علماؤنا رحمهم الله قد كفونا من المؤنة، وكم يكونون قد جبوا عن دين الله من انتقاصِ مرضى القلوب، وكم صدوا عنه من غاراتِ أهل الحقد، لو لم تصبهم تلك الغفلة الجماعية، التي تنبه لها ابن تيمية وابن حزم.
ومرة أخرى أقول، وفي القلب حرقة، رحم الله هذين الإمامين الجليلين، وما كان أحرى بكل علمائنا رحمهم الله، أن يكون عندهم هذا النظر الثاقب، وهذا الفهم الواجب، ليقطعوا طريق العبث بحقائق هذا الدين المحكم، ويسدوا ثغرات في صرح هذا الدين، يتسلل منها الضلال والإضلال. ولمْ يخلُ زمانٌ، ولن يخلوَ من المتربصين والحاقدين.

النموذج الثاني: ومحوره الرئيس، قضية عقدية فقهية، تعيش مع المسلمين في كل شؤونهم الدينية، وهي مسألة البدعة والابتداع. وليس المقصود من هذا البحث تعليم الناس أحكام البدعة، إنّما الغاية تصحيح مفهوم البدعة الذي تغير، واختُلِفَ فيه، حتى بين العلماء قديماً وحديثاً.
أول ما أبدأ به في الحديث عن البدع كلامٌ لَعلِّي لو أسميته (فلسفة البدعة) لكنت مصيبا. لأنّ وعي المسلمين لفلسفة البدعة يُسهل مهمة التصدي لها، وإدراك خطورتها. ولقد دأبت كثيراً، فيما أكتب أو أحدث، أن أضرب للبدعة مثلا هندسيا، فأقول: إنّ طريق الابتداع يفارق طريق الاتباع في بدايته، بزاوية حادة صغيرة، فيكون الانفراج بين الطريقين خافيا قد لا يدرك في بدايته. ومع مرور الزمن، وكلما استمر الإيغال في طريق البدعة، يزداد انفراج ضلعي الزاوية الحادة، وتبدو المسافة بين الطريقين، طريق الاتباع وطريق الابتداع، واسعة واضحةً لا يخطئها نظرٌ! وأغادر المثال الهندسي إلى المثال الواقعي، فإنّ البدعة في مهدها تكون مخالفةً صغيرة بسيطة، لا يُتوقَّفُ عندها، لزعم من يراها أنّها خطأٌ لا يلبث أن يتلاشى، فتجاهله أولى مادام لا يشكل ظاهرة، وقد يكون لأصحاب هذا الموقف العذر في تعاملهم الآني، ولكن الذي لا يعذرون فيه غفلتهم عن المآل المستقبلي لذلك الانحراف. وأرى أنّ هناك تشبيها عصريا منتشرا بين الناس، يعبر أحسن تعبير عن واقع الابتداع، فأقول إنّ البدعة ككرة الثلج كلما تدحرجت كبرت. ولذلك لا تبقى البدعة خافية كما في بدايتها، بل تصبح في ظهورها مخالفةً صارخةً كبيرةً للسنة، وذنباً يتطلب الترك والتوبة.
ويحضرني الآن مثل واقعي موضِّحٌ، ومؤيدٌ للكلام السابق، وهو جزء من حديث في سنن الدارمي، وقد صححه الشيخ الألباني، وكان يكثر من تحديث الناس به، عندما يتكلم في البدع. وهو حوار بين أبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وقد حذفت شيئا من بداية الحديث لعدم صلته بموضوعنا، وللاختصار، وحرصت على إثبات القدر الأكبر منه لمناسبته لما نحن فيه:
جاء في الحديث: (فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ وَلَمْ أَرَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، إِلَّا خَيْرًا. قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ. قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفِي أَيْدِيهِمْ حصًا، فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً، فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتظارَ أَمْرِكَ. قَالَ: «أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ»، ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟» قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حصًا نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ. قَالَ: « فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ، وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ». قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: «وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ “، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ»، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ).
وكلام عمرو بن سلمة الذي في آخر الحديث هو الذي أردت الاستشهاد به على فكرة تعاظم أمر البدعة، وكثرة انتشارها وخطورتها مع تقدم الزمن. فأولئك القوم، الذين حاورهم ابن مسعود رضي الله عنه، بدؤوا ببدعة لم يروها شيئاً، بل عدوها طاعة، فأجابوا ابن مسعود يوم أنكر عليهم (حصاً نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ)، ثم أضافوا (وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ)! بدعة يرى أصحابها أنّها خير وعبادة، ويكاد من حولهم يصدقونهم، وإذا بتلك البدعة، الصغيرة في أعين مبتدعيها، وبعد مرور الزمن تكبر لتصبح قتالا لأهل الدين وفيهم صحابة مع الخوارج يوم النهروان! يقول عمرو بن سلمة: (رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ).
وتذكرت كلاما جميلا في هذا السياق لإمام كبير من علماء المسلمين الأولين، وهو الشيخ حسن بن علي البربهاري من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، قال رحمه الله تعالى: (واحذر من صغار المحدثات فإنّ صغار البدع تعود حتى تصير كبارا وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع المخرج منها، فعظمت وصارت دينا يدان به. فانظر، رحمك الله، كل من سمعت كلامه، من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن ولا تدخل في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم فيه أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء؟ فإن أصبت أثرا عنهم، فتمسك به ولا تجاوزه لشيء، ولا تختر عليه شيء، فتسقط في النار.
واعلم، رحمك الله، أنّه لا يتم إسلام عبد حتى يكون مُتبعا ومُصدقا مُسلما. فمن زعم أنّه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يَكْفِناهُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذبهم، وكفى بهذا فرقة وطعنا عليهم، فهو مبتدع ضال مضل محدث في الإسلام ما ليس فيه
).
أردت من النقول والتعليقات السابقة، أن أؤكد على المسألة التي غيبتها الغفلة عن بعض العلماء، في ما يخص البدعة، وهي باختصار، خفاء خطر البدعة على الدين في مهدها وبدايتها، وعدم الاهتمام بمآلها، في مستقبل الأيام. ولمّا غاب عنهم هذا الملمح المهم، ولدواعٍ أخرى سنشرحها، بإذن الله، قالوا بالبدعة الحسنة! ويعجب المرء لغفلة بعض العلماء في شأن البدعة، مع أنّ السلف وَفَّوا المسألة حقها. وسأذكر بعض نقول عن السلف، لتكون لي عضدا في ما أرمي إليه. وكما أسلفت فإنّ لبعض السلف كلاما تحذيريا واضحا عن شأن البدع، لو استعرضه مستعرض لعجب أشد العجب من فتح أبواب البدع، بمقولة البدعة الحسنة.
عن حذيفة بن اليمان: (أنّه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلا قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة). والأثر موقوف على حذيفة رضي الله عنه، إلا أنّ المحدثين يقولون: إنّ له حكم الرفع، لأنّ ما فيه لا يقال بالرأي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (الْقَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ).
وعن ابن عمر، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وغيرهم: (ما أحييت بدعة إلا أميتت سنة).
وعن ابن عباس: (ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن).
وعن أبي إدريس الخولاني: (لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى بدعة لا أستطيع تغييرها).
وعن أبي الأحوص: (نم على سنة خير من أن تقوم على بدعة).
وأكتفي بهذه النقول، وأضيف كلاما قويا في دلالته، لسفيان الثوري، وهو قوله: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية)، وتوجيه ذلك أنّ صاحب المعصية يعلم أنّه عاصٍ، فلا بد أن يتوب. والمبتدع يحسب أنّ الذي يفعله طاعة لله، وهو الدين الحق، فيبقى عليه، ولا يعبأ بمن يناصحه، حتى يموت عليه، ويلقى الله بالبدعة.
وما أبلغ عبارة الإمام مالك رحمه الله، في شأن البدع، يقول: (من ابتدع في الدين بدعة فرآها حسنة، فقد اتهم أبا القاسم، صلى الله عليه وسلم، بخيانة الرسالة، فإنّ الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا).
وعلينا أن نُعِوِّد أنفسنا، ونُعلم الناس، ألا ننظر في العمل المُبْتَدَعِ، هل هو كبير أو صغير، وإنّما ننظر إلى المُبْتَدِعِ ماذا فعل؟ إنّه تركَ العمل بالوحي المنزل، وهجرَ اتباعَ النبي المرسل إلى اتباع العقل والهوى، وأقوال الرجال المخالفة! ورغب عن طريق الحق والرشاد، إلى اتباع طرق الضلال والفساد. فالبدعة تكمن خطورتها في أصل العمل، وهو ترك العمل بالوحي، وليس في نوع العمل المرتكب وحجمه. ومن هنا كانت خطورة البدعة في الدين، وكنت دائما أختصر تعريف البدعة بأنّها استدراكٌ على الله ورسوله.
ولنتذكر تلك الكلمات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها في آخر خطبة الحاجة: (وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). وتأتي الطامة يوم يفاجئنا بعض العلماء، في القديم، ومنهم مشهورون، بمصطلح في الدين جديد، مخالف للنصوص غير رشيد. فبينما يقول نبي الأمة عليه الصلاة والسلام: (كلُّ بدعةٍ ضلالة)، يقولون: (البدعة قسمان: بدعةٌ حسنةٌ، وبدعة سيئة). خالفوا قول النبي، وغيروا ما اتفق عليه أهل اللغة، من أنّ لفظة (كل) من ألفاظ العموم، بل كثيرا ما أضاف أهل اللغة أنّ لفظة (كل) هي من أوسع ألفاظ العموم وآكدها. ويستدلون لذلك ببعض الآيات الكريمات، يقول تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). ويقول: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ). ويقول سبحانه: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ). أولم يتدبروا تلك الآيات، التي تعتبر قاطعة في تحديد معنى لفظة (كل)، ويجب أن يُنبذ كل قول مخالف، عن أهل اللغة، ويُترك، فتلك أقوال ضعيفة لا تقوم على ساق.
وأذكر أنّني كنت ذات مرة، في محاضرة عن البدعة الحسنة، وبعد ذكر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل بدعة ضلالة) وأنّها في النار، فكيف يَصحُّ أن توصَف البدعة بوصفٍ حسنٍ بعد ما قال فيها نبي الأمة عليه السلام ما قال؟! ثم قلت، لتأكيد بطلان التسمية، لغةً وفهماً، وقد مزجت القول الجاد ببعض الدعابة، طرداً للسأم، فقلت: إذا صحت في العقل السليم، والفهم القويم، العبارات الآتية، التي تحوي الصفة وضدها، مثل: (لصٌ شريفٌ، زانٍ عفيفٌ، وحشٌ لطيفٌ، جمالٌ مخيفٌ، مستنقعٌ نظيفٌ، حكيمٌ سخيفٌ، ثرثارٌ حصيفٌ، فيلٌ خفيفٌ)، فإذا صح ذلك في العقل، وهيهات! يصح أن يقال إنّ في الإسلام بدعةً حسنةً.
وبعد كل ما قيل، ليس لنا إلا أن نقول: إنّهم ولا شك علماء! ولكن أصابتهم (غفلة العالِمين).

أبدأ هذه الفقرة ببيان لا بد منه، في موضوعٍ صريح كالذي أكتب، فالبيان يطرد الشيطان، ويقي المُبيِّنَ من أن يساء به الظن. فأقول، والله يشهد، معاذ الله أن أنتقد واحداً من علماء الأمة، لكرهي له، أو لمجرد اختلافي معه، إنّما يكون النقد مني انتصارا لدين الله، وتعظيما لأمر الله، وطاعة لهدي رسول الله، وأتمثل كلمة ذلك العالم، الذي اسْتُنْكِر عليه مُخالفَتُه شيخَهُ، فقال: (إنّه والله حبيب إلى قلبي، ولكنّ الحق أحب إلي). وأنا أقول مقلدا له: (إنّ كل العلماء الذين عَبُّوا من الوحيين، علي عزيزون، ولكنّ دين الله عندي أعز).
وإذا أردنا، تأكيداً لحسن الظن، أن نوجد لجنوح أولئك العلماء، مُتَعَلَّلاً، لما أبدوه من التساهل في أمر البدع، مخالفين به النصوص، وأقوال غيرهم، ممن التزموا النصوص الشرعية، والقواعد اللغوية. فإنّنا نقول: إنّ أولئك العلماء وقعوا تحت تأثير متغيراتٍ جديدة في مجال الفكر المسلم في فترة ما، وأحتاط فأقول:
لا يعني هذا التعليل التهوين من شرالبدعة الحسنة، التي لا أجد لها في الصواب موقعا. فقد فتحت على الأمة بابا للشر كبير، فكانت النتيجة أن تدفق إلى دين الأمة سيولٌ من البدع، على مرِّ الأيام، يمررها أصحابها، تحت مسمى البدعة الحسنة. وأعود لأتابع فأقول إنّ من وراء تورط العلماء الذين قالوا بتلك المقولة، أنّهم كانوا يقعون تحت تأثيرين مُحْدَثَيْنِ في تاريخ المسلمين الديني، لم يكونا في الأعصر السابقة، هما: تأثير المذهبية والمذاهب، وتأثير منهج التأويل غير المقبول، الذي بدأ يتسلل إلى أذهان بعض العلماء، وإلى شيءٍ من التفصيل، مع الضغط والاختصار.
أولاً: المذهبيه والمذاهب
ليس ما أكتب استقصاءً لكل موضوع المذهبية، وإنّما أتناول جزئية من الموضوع، هي التي أثرت في تفكير بعض العلماء فقالوا بالبدعة الحسنة. إنّ ظهور المذهبية، ولاشك، منعطف خطير في حياة المسلمين، وليس عرضَ صحة، لأنّه مهما قيل في تحسينه وتزيينه فإنّه، ولا يختلف في ذلك العقلاء، قد أزاح الوحيين من حياة المسلمين، وأحل المذهبية مرجعا، بديلا عن الوحيين، وناهيكم بذلك شرا. إنّه في حقيقته ابتلاع لعرضٍ صحيٍ، ومظهرٍ علميٍ راقٍ في حياة المسلمين، ابتلعته موجة فكرية من رواسب فلسفية، لتخرج مناهج غريبة عن دين الإسلام. لقد كان المجتمع المسلم ذاخرا بوجود علماء في كل مكان، يعبون من الوحيين، ويفهمون ويجتهدون، ويجلسون للناس ليعلموهم أمور دينهم. وكانوا مجتمعين على أمر جامع، هو الوحي الذي هو مصدر تلقيهم، للعمل به، وإن اختلفوا فيقع اختلافهم في مسارح الاجتهاد المأذون بها، وكلهم في أمرهم ذلك بين الأجر والأجرين. وإنّ من نعمة الله على أهل الإسلام ألا تخلو أرض من قائم لله بحجة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. والتاريخ الإسلامي سجل مئات من الأسماء غير الأئمة الأربعة رحمهم الله.
يأتي السؤال الذي من حق كل باحثٍ عن الحق أن يسأله، من الذي اختار الأربعة فقط، وكتب عنهم المذاهب، وقال للمسلمين هذا ما أجمعت عليه الأمة فالزموه؟
وإنّي لأقسم وأنا غيرُ حانث إن شاء الله، أنّ الأئمة الأربعة لو بعثوا اليوم أحياءً، لكان أولُ منكرٍ ينكرونه المذهبيةَ والمذاهبَ. وأضرب مثلا واحدا هو قول أبي حنيفة لأبي يوسف يوم رآه يكتب عنه (ويلك لا تكتب عني كل ما تسمع فإنّي بشر أرى الرأي اليوم ثم أرجع عنه غدا، وأرى الرأي غدا وأرجع عنه بعد غد). فهل قائل هذا القول يتطلع إلى تأليف مذهب؟ ولا يعني هذا الكلام انتقاصا للأئمة الأربعة، ونكرانا لموقعهم وسابقتهم في الإسلام وما قدموه للمسلمين، إنّما هم بعض علماء الأمة، وكلهم في العلم والإخلاص كأفراس رهانٍ، فهل يستغنى بالبعض عن الكل؟ ومن الذي أجاز ذلك وقال به؟
ومهمٌ جداً أن يُعلم أنّ كل الإرث العلمي الذي تركه الأئمة من بعدهم، هو فهمهم البشري للوحيين، يستفاد منه، ويستأنس به، ولكنْ لا يجوز، بحال من الأحوال، أن يكون البديل عنهما، إذ لا تبرؤ به الذمة، فالحساب عند الله يوم العرض عليه قائم على تطبيق ما جاء به الوحي لا غير، عملا بقوله تعالى (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ). والأئمة الأربعة شأنهم شأنُ كلِّ علماء الأمة الربانيين مناراتٌ، وبوصلاتٌ يُهتدى بها إلى الوحيين، ولا يستغنى بها عنهما.
لكنَّ الذي كان، وليته لم يكن، أنَّهُ في غيبةٍ من الوعي، وغفلة من أهل الحق، وغلبةِ رياحٍ فكرية هبت على المسلمين، هجينة غريبة، أدخلت الفلسفةَ للعقل العربي المسلم، فعظمت وزينت العقل، وجعلته بمنزلة الوحي. فمالت أهواء بعض المسلمين مع تلك الرياح، واستهوتِ الفلسفةُ بعضَ العقول. فأفرز ذلك إزورارا عما كان عليه أهل القرون الثلاثة، عند بعض أهل الإسلام، وتفلتاً من فلك الوحيين، إلى مدارات الفلسفة والعقل. وأدخل في علوم الدين ما شاب الوحي، وشوش الاتباع. تلك هي الظروف، وذلك هو المناخ، الذي قُدمت فيه المذاهبُ الأربعة للناس على أنّ الأمة قد أجمعت عليها، وأنّ فيها جماع الدين، وأنّ على كل مسلم أن يتمذهب بأحد هذه الأربعة، لتبرأ بذلك ذمته عند الله. وقيل للناس إنّ التمذهب واجبٌ شرعيٌ يأثم تاركه! وقد جاء في قصيدة (جوهرة التوحيد): (وواجبٌ تقليدُ حَبْرٍ منهمُ**كذا حكى القومُ بقولٍ يُفهمُ).
وسارت المذهبية تواكبها العصبية، فأفسدت وحدة المسلمين، وقد سجلت لنا الكتب مقولات أكتفي منها باثنتين: يقول أبو الحسن الكرخي وهو من كبار فقهاء الأحناف: (كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ).
وتأتي الباقعة الثانية، يقول أحمد الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين، في تفسير آية الكهف (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا): (ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر). ولا مانع من أن أعزز هذه النقول بباقعة ثالثة، يقول السبكي في طبقات الشافعية: (وَوجدنَا جَمِيع من قِيلَ إِنَّه الْمَبْعُوث فِي رَأس كل مائَة مِمَّن تمذهب بِمذهب الشَّافِعِي وانقاد لقَوْله، فعلمنَا أَنه (أي الشافعي) الإِمَام الْمَبْعُوث الَّذِي اسْتَقر أَمر النَّاس عَلَى قَوْله وَبعث بعده فِي رَأس كل مائَة من يُقرر مذْهبه).
وكل تلك الإحداثات الكبيرة في الدين، أسهمت في إحداث هزةٍ عند بعض المسلمين في استقرار اعتقادهم، وبالتالي إلى إضعاف التصاق المسلمين بالوحيين اتباعاً، وأفرزت فلسفة تبرر التحرر من الالتزام الكامل بالنصوص، عملاً بما يقتضيه العقل، لمن يرون تقديمه على النقل!
ويمكن تلخيص تأثير المذهبية على بعض العلماء، حتى أحدثوا مصطلح (البدعة الحسنة) بالقول: إنّهم حين وجدوا أنفسهم مؤيدين للمذهبية، التي تقر الاختلافات بين المذاهب، واعتبارها خيراً ونعمةً، وتيسيراً على الأمة، مع كونها مصادمة لنصوص الوحيين، وبخاصة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، في المتفق عليه، عن عائشة رضي الله عنها: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد). وقوله في الحديث الآخر: (فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ). لم يجدوا لأنفسهم مخرجاً من الجمع بين النقيضين، إلا بمقولة (البدعة الحسنة). ومن يتوسع في المسألة يجد وهاء استدلالهم لهذا المُحْدَث، وضعف حجتهم فيه.
وحتى يدرك القاريء صحة ما أقول، والذي يراه بعضهم قاسيا، فلنقارن الكلام السابق مع كلام أحد الأئمة الأربعة، الإمام مالك، الذي ذكرناه قبلاً: (من ابتدع في الدين بدعة فرآها حسنة، فقد اتهم أبا القاسم، صلى الله عليه وسلم، بخيانة الرسالة، فإن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}، فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم دينا). ولنتذكر أنّ الإمام مالكاً عليه رحمة الله، كان يعيش الأجواء نفسها، التي عاشها القائلون بالبدعة الحسنة، وقد شهد هذا الذي أخرجوه، وهو ولا شك يرد عليهم.

ثانياً: تأثير فتنة التأويل في الدين
وأرى من المناسب قبل الدخول في عمق المسألة، أن أذكر القراء بمفاسد التأويل، باقتباس كلام نفيس لابن القيم، في كتاب إعلام الموقعين، والله إنّه يكتب بماء الذهب، ولا ينبغي لمسلمٍ أن يغيب عنه: (فما امتُحن الإسلام بمحنةٍ قطّ، إلَّا وسببها التأويل! فإنّ محنته إما مِن المُتأوّلين، وإما أن يُسلَّط عليهم الكفار؛ بسبب ما ارتكبوا من التأويل، وخالَفوا ظاهر التنزيل، وتعلَّلوا بالأباطيل، وهل اختلف الأممُ على أنبيائهم إلا بالتأويل؟! وهل وقعَت في الأمَّة فتنٌة كبيرة أوصغيرة؛ إلا بالتأويل؟! فمِن بابِه دُخل إليها، فأصلُ خراب الدين والدنيا، إنّما هو من التأويل، الذي لم يُرده اللهُ ورسولهُ بكلامه، ولا دَلَّ عليه أنه مُراده).
وأحب أن أقرن مع كلام ابن القيم، في إنكار التأويل الكلامي، ومناهج الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، كلاماً للحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل، ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أنّ الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأنّ من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف). ومن العجيب أنّ ابن حجر هو واحد ممن قال بالبدعة الحسنة، وسبحان الله، العصمة لا تكون إلا لرسول الله وحده.
وما هو المقصود بالتأويل؟
للتأويل ثلاثةُ معانٍ، إثنان صحيحان لا ينكرهما أحد من العلماء والثالث باطلٌ، وهو الذي ذمه ابن القيم، ونعاه ابن حجر على المتكلمين أهل الفلسفة وعلم الكلام. وهو موضوع بحثنا، لذلك سأورد أفضل تعريف له.
التأويل: صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه إلى ما يخالف ذلك، لدليل منفصل يوجب ذلك، وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفاً لما يدل عليه اللفظ ويبينه، وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنّما سمى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام، وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشهب، وهذا هو التأويل الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في مسألة الصفات والقدر ونحوها.
انتشر التأويل، وصار منهجا مسلما به في التعاطي مع النصوص. ولم تسلم نصوص العقيدة من شرور التأويل. وكان من نتاج تطبيق التأويل، ظهورُ أكبر بدعةٍ في عقيدة المسلمين، حين وُلِدَ مذهب الأشاعرة! وبدأت تظهر الفجوات والثغرات بين منطوق النصوص، وحالات كثيرة من التدين. وما ذلك إلا بداياتٌ لظهور البدع في الدين، وهل الابتداع إلا مفارقة طريق الاتباع. ووقف بعض العلماء موقف التهوين من خطورة تلك الظاهرة، إما لأنّهم كانوا قد تأثروا بالأسباب التي أدت إليها، وهي إقحام العقل مع النص منافسا، وفتح باب التأويل في الدين، ولا شك أنّ الفِرَقَ التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، وتوعدها بالنار، كانت وراء كل تلك الطروحات المنكرة، ولم يكن أمام بعض العلماء، إلا الانحناءُ أمام عواصف التغيير، والتبديل، والتهوينُ من عدم شرعية ما يجري، بدعوى صيانة وحدة المسلمين. وسدّاً لتلك الفجوات والثغرات التي بدت عوراتٍ في التدين، واعتبارها باباً من أبواب الاجتهاد والتأويل، وليست مصادمة للنصوص، أو متفلتة من تعاليم الدين! ووصل الأمر إلى مقولات صدرت عن بعض العلماء، لتستوعب تلك الإحداثات والمخالفات، فقالوا بشرعية التأويل، وبتعدد الحق، وبالبدعة الحسنة، وبأنّ الاختلاف رحمة. لتنتقل، بتلك الأغلوطات، مرجعية المسلمين من الوحيين على منهج (ما أناعليه وأصحابي) والقرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، إلى كتب المذاهب وعلمائها، وإلى التأويل وأهله، وفي مقدمتهم الأشاعرة، بل وكل الفرق التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق، وهي، ولا شك كل من فارق وصف ومسمى (ما أنا عليه وأصحابي)، وهل من حيدةٍ أشدُّ، ومن انحرافٍ أكبرُ.
وكنت كلما أذكر هذه الفكرة، في مجامع الناس، ينبري من يقول إنّكم تبالغون في ذكر السلبيات، والناس على مستوىً جيد من الوعي! وكنت أردُّ دعونا بربكم من المثاليات، وانظروا ما يمارس في الواقع، وما يقال في الدروس والخطب، وما يكتب. ولا ينبغي أن يحول بيننا وبين توصيف الواقع المريض، الذي تجب معالجته، أسماءُ العلماء الذين بدؤوا أو روجوا للبدعة الحسنة، والبارزون منهم هم: النووي، ابن حجر، أبو حامد الغزالي، ابن رجب الحنبلي، ابن الأثير، العز بن عبد السلام. نعم إنّنا نشهد أنّ المذكورين علماء، لكنّهم ليسوا معصومين، ولن يغضَّ من أقدارهم أن تصيبهم غفلةُ العالِمين.

بحثٌ ليس في العقائد والعبادات والأحكام، مرجعيتُه إلى النصوص ليس إلا! إنّما هو استعراض لمسيرة دين الإسلام، وأحوال المسلمين، والعواصف الفكرية، والتيارات العدائية، التي ما تفتأ تهب على المناطق الإسلامية، فهو اجتهاد بشري يستهدي بالثوابت. وقد يعتريه كل ما يعتري البشر! ومهما اشتد الحرص للصَدَّ، فإنّ تلك الحوادث المحيطة باستمرار لا بد أن تترك آثارا فكرية سلبية عند بعض المسلمين، ولم ينج من ذلك حتى بعض العلماء. ولعلَّ الكثيرين ممن تحركوا للإصلاح الديني في كل بلاد الإسلام، وقد كانت لهم جهود خيرة، إلا أنّهم كانوا يؤثرون التعاطي السطحي مع المشكلات، دون الغوص إلى الجذور! ولعل ذلك باب من المجاملة، ليكون الإصلاح ناعماً. فبقيت بعض القضايا، بل بعض الأخطاء التي تحتاج إلى إصلاحٍ جذريٍ، ولا زالت تُلقن للأجيال.
ولمّا كان الإصلاح الديني لا تنبغي المجاملة فيه، وليس بالإمكان أن يكون ناعماً دوماً. والخشونة إذا كانت تعني عند بعض الناس التعاطي مع قضايا عمت وطمت، وأوشكت أن تصبح من المسلمات، فلا داعي لفتح ملفاتها، وإذا كانت الخشونة تـعني أيضا عدم نقد الكبار، فأراني لا أرى ذلك صوابا! والذمة عند الله لا تبرأ، إلا بخشونة تقتلع الخلل من الجذور، ولكن ليس باليد، وإنّما باللسان، وعلى قدر الحال (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، وهي معذرة إلى ربنا، وحرصٌ ألا نلقى ربنا شهداءَ زور!
وأن يغفل أكثر علماء الأمة عن التأكيد على أنّ السنة محفوظة كالقرآن بحفظ الله، ونجد السفهاء اليوم في الفضائيات يتحدون المسلمين، ويُهدرون السنة، ويقولون إنّها ليست بوحي، ويتبجحون بقراءة ما كتبه أكثر المفسرين، متخذين ذلك حجة قوية لهم! فهل يمكن تمرير ذلك تحت أي اعتبار؟
وأن يقول طائفة من العلماء بالبدعة الحسنة، مخالفين صريح وصحيح الأحاديث، وعلماء اللغة، فيُفتح للبدعة أبواب تحت مسمى البدعة الحسنة، حتى صارت البدع ملء مساجدنا، وتلازم عملنا، وتُميت السنة في مجامعنا، فهل يسع المسلم السكوت، تحت أي اعتبار؟ وهل تكون مجاملة الواقع والرجال، إن حادوا، حكمة وحرصا على صيانة وحدة المسلمين؟ لا وربي…
قد تكلمتُ، وبلَّغتُ، ولم أكن خشناً، بل قلت: (غفلةُ العالِمين)، فهل من مُدَّكِرٍ؟ (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).