الإِشْهَادُ عَلَى الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ…
لعل من أبرز مشكلات الفقه الإسلامي التي كان ينبغي إصلاحها والاستدراك عليها بغية عملية إصلاح واسع في هذا العلم الجليل، هي أسلوب تعاطي الفقهاء معه. ويمكن اختصارا، تلخيص ذلك في النقاط الآتية:
1. الالتصاق بالنص تماما، وبخاصة بمعناه الظاهر الواضح المتبادر، وعدم الخوض في معان باطنية مؤولة مفترضة..! إنّ لم توجد قرائن شرعية تحتم ذلك.
2. عندما يكون النص بين أيدينا، صحيحا صريحا، فلا يجوز الخروج عنه بحال، سالكين طريق الاجتهاد المفضي إلى تعدد النتائج. والواجب في تلك الحال الأخذ بالظاهر، فلا اجتهاد في مورد النص. فالظاهر هو المراد من الخطاب.
3. إذا كان النص صحيحا غير صريح، فالمسألة تنتقل من وجوب الأخذ بظاهر النص إلى مسرح الاجتهاد، وهي حالة الاجتهاد السائغ وجواز الاختلاف المعتبر، وتعدد الأقوال. وعندها، ما اجتهاد بأولى من اجتهاد. وكل يعمل بما يراه الأرجح. ولا يجوز التوسع في إيراد الأقوال، وتوسيع الدائرة بالبعد عن المركز، إنّما اختيار الأقرب إلى روح النص، وتجنب إبعاد النجعة، والإغراب..!
4. كثرة إيراد الأقوال المختلفة في المسألة الواحدة، يُضيع سلامة الاختيار منها، لتعذر الإحاطة والمقارنة..! حتى خلافات الصحابة عليهم رضوان الله، الأولى عدم الخوض فيها إلا إن ثبتت نسبة الأقوال إليهم بطريقة المحدثين. وعندها فالنظر فيها ضروري نافع. ولْيُعْلَم أنّ أكثر آثار الصحابة لم يُعمِل المحدثون فيها صنعتهم، لأنّ الهمّ الأكبر عندهم الاشتغال بفرز الوحي عما قد يختلط به من أقوال أهل الأرض، وبالتالي فليس التعويل على مناقشة آثار الصحابة، بهادٍ ما لم تكن ثابتة. ويُنسب الكثير إلى الصحابة بلا دليل صحيح، وفي الحقيقة فقد أفضى ذلك ببعض الفقهاء إلى ترك العمل بظاهر النص، اعتمادا على الآثار وهذا منزلق.
ومع وضوح النقاط السابقة، لكن، بكل أسف، لم يُعمل بها، إلا قليلا، وغلب على الفقه حب الإغراب، والتعمق في الاستنباط، بل والتباري في ذلك، ولا أدل على ذلك من تداول قصة أنّ أحد الأئمة لم ينم حتى استنبط في ليلة واحدة سبعين حكما، من حديث واحد..! وكل أولئك ابتعاد عن روح النص والمراد. وظل علم الفقه عصيا على الإصلاح، مع وجود جهود لقامات عالية، بُذلت ولم يتحقق المراد، وإن كانت ذات أثر واضح. والسبب دون الدخول في التفاصيل، وجود القناعات الآتية رغم بطلانها؛ التمذهب، التقليد، الاختلاف رحمة، وبالتالي شرعيته، جواز تعدد الحق، وكلهم عن رسول الله ملتمس، وواجب تقليد حبر منهم، والإلف والعادة، وسلطان (الذين غلبوا على أمرهم)، الذي عطل سلطان العلم وأهله .. وسيرة ابن تيمية خير مثل وبرهان.
ولنعد إلى مسألتنا في الإشهاد، فنقول:
أ. في مسألة الإشهاد على الطلاق والرجعة نصان: أيةٌ وحديثٌ. الآية قوله تعالى في سورة الطلاق: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
والحديث، ما جاء في سنن أبي داود، عن مُطَرِّفِ بن عبد الله: (أنّ عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته، ثم يقع بها ولم يُشْهِدْ على طلاقها ولا على رجعتها؟ فقال: طَلَّقْتَ لغير سُنَّةٍ، وراجعت لغير سنَّةٍ! أشهِد على طلاقها وعلى رجعتها؛ ولا تعد). ويقول الشيخ الألباني: (إسناده صحيح على شرط مسلم).
ب. لا مراء أنّ الآية والحديث نصان في مشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة، ولا خلاف في ذلك. ولكن الكلام سيكون منصباً على الحكم هل هو على الوجوب؟ فيكون الإشهاد حينئذٍ شرطا لصحتهما. أو يكون مستحبا، وسنفصل ذلك، بإذن الله.
ج. الخلاف واضح بين العلماء حول حكم الإشهاد، بين الوجوب والاستحباب. وفي البحث استقصاءان نصي، وعقلي.
أما النصي، فأقوى ما يمكن الاحتجاج به على صرف الأمر في الآية إلى الاستحباب، قياسها، في طريقة تطبيقها، على نظير لها في كتاب الله وهو قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، وقد صُرف الأمر بالإشهاد على البيع من الوجوب إلى الاستحباب بقرينة عدم فشو العمل به بين الصحابة، وثبوت بيع النبي صلى الله عليه وسلم بلا إشهاد.
عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ: (أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَاعَهُ فَنَادَى الْأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ وَإِلَّا بِعْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الْأَعْرَابِيِّ: (أَوَلَيْسَ قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ) قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاَللَّهِ مَا بِعْتُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلَى قَدْ ابْتَعْتُهُ) فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا، قَالَ خُزَيْمَةُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ ابْتَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: (بِمَ تَشْهَدُ؟) فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَعَلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد.
ونقول الشيء نفسه في آية الإشهاد على الطلاق، من حيث صرف الحكم إلى الاستحباب، لقرينة أنّه لم يستفض أنّه كان معمولا به، وجوبا، بين الصحابة. وعلى ذلك، يُحمل حديث عمران بن الحصين، يوم ذكَّر صاحبه، بمشروعية الإشهاد في الطلاق والرجعة.
وننتقل إلى المناقشة العقلية، ونقول قبل الخوض احترازا، ما كان لنا أن نعول على المناقشة العقلية، على حساب التزام النص. أما إذا قبل النص ذلك فعلنا، وهذا ما ندين الله به. فنسأل: كيف نتعامل مع هذين الأمرين بالإشهاد على الطلاق والرجعة، وعلى البيع، في الواقع اليوم؟
نقول: يستحيل أن يكون من اليسر في دين الله العمل بقول الطبري: (قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ {الإشهاد على البيع} عَزِيمَةٌ مِنْ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ)، فذلك إعنات ما بعده إعنات، تتعطل به مصالح العباد، ولا يمكن أن يكون من دين الله. وكذلك الأمر في حال الطلاق، فإنّ البيوت تقوم على الستر على تصرفات الناس فيما بينهم، وذلك دين الله. فهل يُتصور أن يطرق رجل باب جاره عند منتصف الليل ليقول إنّي طلقت، الساعة، زوجتي بعد شجار، فاشهد..! ثم يعيد الطرق عليه بعد الفجر، ليقول: إشهد أنّا تصالحنا وأرجعتها..! إنّ هذا بوح بأخص الأسرار والخصوصيات في البيوت، والزوجان لا يحبان أن يعلم بهذا من يساكنهما في البيت نفسه، من الوالدين، والأولاد وغيرهم، فكيف بمن هو خارج الأسرة. وإنّ هذه الأمور، في بيت الزوجية قد استودعها الله ذمم الزوجين، وهما محاسبان عنها..!
نعود إلى آيتي الإشهاد على البيع، والطلاق والرجعة، لنناقش كيف يمكن أن نطبق منطوق الآيتين على الاستحباب عملياً. أما في حالة الإشهاد على البيع فحين تكون الصفقة، بين الناس بالملايين، كشراء البيوت والمزارع والمعامل وغيرها، فالإشهادُ ضرورةٌ تفرضها السلامة من المتلاعبين الذين يكذبون وينكصون، ابتزازا للناس، وهذا من حسن الإسلام، وأنّ تعاليمه لمصلحة البشر وسلامتهم في كل أمر. أما أن تكون الآية تنص على الإشهاد على (شراء البقل) فمفهوم متعسف. ويشهد لذلك ما كان سائدا في المجتمع النبوي، وبين الصحابة بعد ذلك. ولو كان الإشهاد مطبقا، يوميا بل ساعِيَّاً، على كل بيع، صغيرِه وكبيرِه، لنقل إلينا لا محالة.
يؤكد ما نحن في صدده، أنّه بالرغم من الحض على توثيق المعاملات المالية بالكتابة والإشهاد والرهان، في آية الدين، في سورة البقرة: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). فإنّنا نجد في آخر الآية الإذن بالتيسير إن دعت إليه حالة خاصة، وأن يوكل الناس إلى ديانتهم، وخوفهم من ربهم، وتقواهم: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).
ولنقرأ تفسير الشيخ السعدي: (هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه، فأما إذا كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملا غير ظالم له ولا باخس حقه {وليتق الله ربه} في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان). فيعلمنا ربنا الأصلح والأفضل لنا، ثم يرخص لنا بتخفيف ما جاء به الأمر، مراعاة للواقع والمتاح، والأرفق بالناس.
أما في الطلاق، فحين يُعرف رجل بين أهله وأقاربه وبعض من يعرفه، بالتلاعب في أمر الطلاق، لرقة دينه، وعدم الاكتراث بمصير الأسرة، فمثل هذا لا يُعتد بطلاقه إلا بالإشهاد. ويخبر هو وزوجته بذلك.
ويَرد على هذه المسألة إشكال: مَنْ هي الجهة التي ستستشهد على الطلاق؟ هل القاضي ومن ينوب عنه ممن له سلطة رد الطلاق إذا كان مخالفا؟ وهل الوصول إلى المحكمة ممكن في أي لحظة..؟ أم أنّ الإشهاد يكون لمن تصح شهادته؟ وهنا لا بد أن نسأل، وما هي سلطته على الحالف؟
فلا بد إذن من أن يترافق مع الإشهاد على الطلاق حصره بالمحكمة الشرعية، أو من تُنيبه عنها، لضبط عملية الإشهاد على الطلاق، ولتؤدي الغاية الشرعية منها جديا دون تركها للتلاعب بها..! وفي النهاية لا بد من تحرير المسألة بأنّ الإشهاد على الطلاق، أمر شرعي ثابت بالكتاب والسنة، وأما تطبيقه فيكون منسجما مع أحوال الناس، فليس بواجب على المتقين الذين يعرفون حدود الله، ويقفون عندها. أما مع الطائشين، المستهترين، المتخذين دينهم هزوا، فنطبق حكم الوجوب، ولا بد أن تتولاه جهة ذات سلطة رادعة.
وأريد أن أضيف أنّ شيخنا الألباني رحمه الله يؤكد على مسألة الإشهاد على الطلاق، ولا يرى إيقاع طلاقٍ لم يُشهَد عليه، وهناك قلة من العلماء من قال بذلك. ولقد سمعت تقريبا كل كلام الشيخ الألباني في ذلك، لكنّه يكتفي بالتأكيد على عدم إيقاع الطلاق ذاكرا الآية والحديث، مستحضرا حالات انتشار التلاعب بالطلاق، وما ينتج عنها من مخالفات وأضرار، ويرى رحمه الله الإشهاد حلا للمشكلة وهو على حق، لكنّه لم يفصل كيف تكون الإجراءات. ولكن ترك الخيار الآخر الذي فصلنا فيه القول مفتوحا، لا يتعارض مع ما ذهب إليه الشيخ. والله أعلم
والحمد لله رب العالمين