Skip to main content

ثُلَاثِيَّةُ الخَلَاصِ

By الأربعاء 28 محرم 1442هـ 16-9-2020ممقالات

لا نكون مخطئين إذا قلنا: إنّ الله تبارك وتعالى، من بيانه التام الأتم للناس، من أجل أن يكونوا على بينة من أمرهم في هذا الدين، ولتقوم عليهم الحجة كاملة، فيُيَسَّر لهم طريق الخلاص، وكل ذلك من رحمة الله بالعباد، أن تتنوع أساليبُ البيان الربانيِّ بين إسهاب واختصار، وترغيب وإنذار. ومن أنواع ذاك البيان أن يُختزل مفهوم الدين الحق في التركيز على المآل الأخروي، كما في قوله تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ). وهو أسلوب فعال في الحض، والترغيب والترهيب معا. ونقف على أحاديث صحيحة تفعل الشيء نفسه، في الوحي الثاني ولنقرأ قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا).
وذلك الأسلوب ينفعنا من وجهين: أولا، فهم الحقيقة واستيعابها، وتمثلها من أقصر طريق وبأوجز عبارة، حتى لا يتيه الناس مع كثير الكلام وتأويله وتفسيره. وثانياّ، وليس ببعيد كثيرا عن الوجه الأول، قطع الطريق على الفلسفة وأهلها في أن يعبثوا بحقائق هذا الدين ونصوصه وفق ما تزين لهم عقولهم وأهواؤهم وانحرافاتهم. ورغم هذا الضبط والربط في أمور الدين المحكمة، نجد بعضهم تجرؤوا وخالفوا وابتدعوا، ولنأخذ مثالا لذلك ما ينقل عن رابعة العدوية، بغض النظر هل هذه الشخصية حقيقية، أم أسطورية، وإن اخْتُلِفَ على وجودها، فلا خلاف في التوصيف، أنّها شخصية صوفية، دعواها على الابتداع تقوم، وفي كل شأنها حول الحمى تحوم! ولا شك بأنّ لها سمّاعين ومقلدين بين عوام المسلمين، واخترنا التمثيل لما نريد، بطريقتها، لنؤكد بطلان دعواها! فأنصارها ينسبون لرابعة قولها: (نقرؤ كثيرا، ونسمع طويلا، ونؤدي من العبادات الكثير، والمحصلة ليست مرضية، والطمأنينة في القلب ليست موجودة، فهل هذا هو الدين..؟ وهل هذه هي نتائجه..؟ أم أنّ المتدينين ليسوا على ما أرادهم الدين، بل بدلوا وغيروا.؟). صحيح ما قالت إنّ الأكثرين في ضياع، وليسوا على الدين الحق، ولكن، هل بينت للناس ما هو الحق؟ لم تفعل، لأنّها تعني أنّ الصواب ما هي عليه، وهيهات!
وحتى يتبين الطريق الحق، ولا يكون الشرود والضياع حسب قول رابعة، لا بد من المنهج! فبالمنهج يبقى الطريق إلى الله واضحةً معالمُه، آمنةً جوانبُه، مأمونةً عواقبُه، فلا يَزيغَنَّ عنه جاهل، ولا يَرْتَعَنَّ على مدارجه متردد، ولا يُساوِرَنَّ السائر عليه شك، هذا هو طريق الله الذي وُصف في كتاب الله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

ومن استقراء نصوص الوحين أوصلني الاجتهاد إلى معالم ثلاثة، رأيت أن أقيمها على جنبات الطريق، تلازم السالك عليه، تُذكره، وتثبته، وتبشره أنّه على الحق المبين، حتى يصل إلى الخلاص. ولا أزعم أنّها لا تقبل الزيادة عليها، فهي لا تعدو الاستنتاج والاجتهاد .. وأسميتها (ثلاثية الخلاص). وهي: الخشية، والطاعة، والاستجابة. ومفردات الثلاثية آخذة بحجز بعضها، ولكن بينها تسلسل.
فالخشية تُسلم الإنسان إلى الطاعة، والطاعة تُسلمه إلى الاستجابة، والاستجابة تُسلمه بعد توفيق الله إلى الجنة، وهي الخلاص. ولكلٍ أدلةُ استُنْبِطَتْ منها تحسن مذاكرتها.

ولنرجع إلى قوله تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) فأقول: إنّها دعوة من ربنا تبارك وتعالى إلى كل ولد من صلب آدم، أن يجعل همَّهُ خلاصَهُ، ولا شيء يقدم على هذا الهمّ .. وأريد أن أقف، ولا أطيل مع كلمة الخلاص ما دامت في العنوان:
ففي لسان العرب في مادة خلص: (خَلَص الشيء بالفتح يَخْلُص خُلُوصاً وخَلاصاً إِذا كان قد نَشِبَ ثم نَجا وسَلِم). وقد جاء في الحديث الصحيح: عن محجن بن الأدرع: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: (يوم الخلاص، وما يوم الخلاص؟ يوم الخلاص، وما يوم الخلاص؟ يوم الخلاص وما يوم الخلاص؟) (ثلاثا)، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: (يجيء الدجال فيصعد أُحُداً، فينظر المدينة، فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد. ثم يأتي المدينة، فيجد بكل نقب منها ملكا مصلتا، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص).
فما الحل؟ البحث عن الخلاص، يوم تبيض وجوهٌ، وتسود وجوه. وعن طريق الخلاص يومَ تَزِلُّ الأقدام. ولكي ندرك ذلك، بإذن الله، أهدي إليكم: ثلاثية الخلاص. وأعني بالعنوان أنّ طريق الخلاص يوم القيامة ثلاثي الأطوار. والأطوار الثلاثة هي:

خشية الله أولا، ثم طاعة الله ورسوله، ثم الاستجابة لله ورسوله

ويمكن أن يسألني سائل، ما الأساس الذي بنيت عليه اختيار الأطوار الثلاثة؟ وهل من دليل؟
أقول: إنّ المسألة مني اجتهاد واستقراء للنصوص وفهم انقدح في ذهني، ليس له عصمة، ويقبل المناقشة والتغيير، إن وجدت الفكرة الأصلح. ومن أمثلة النصوص التي استقرأتها حتى وصلت للبحث، دعاؤه صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيْبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا).
ولا يمكن أن نلحظ حدوداً فاصلة في المعنى والمدلول بين المصطلحات الثلاثة بل هي أقرب إلى التداخل والاشتراك في المعنى والمدلول منها إلى الاستقلالية والتميز. ولكن عرضها، كلٌّ على حِدة، لأجل التسهيل والتبسيط. والهدف من وراء ذلك الجنة، إن شاء الله. وإلى التفصيل:

1. الخشيــــــة
ونبدؤ بالخشية التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم معياراً لضبط العبادات وصونها عن التقصير أو الغلو يوم تربط بأمزجة الناس وعقولهم وأفهامهم. ولنقرأ هذا الحديث المعروف من المتفق عليه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ. فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى)).
فلما أراد كل واحد ممن قدموا بيوت رسول الله أن يحمل نفسهعلى ما يزينه له عقله في الدين ويباري به الآخرين، ضبط نبي الأمة صلى الله عليه وسلم الأمر بضابطين اثنين: أولهما: الاتباع (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى). وثانيهما: الخشية. إذ بين لهم وللأمة كلها أنّه صلى الله عليه وسلم يصدر في كل أعماله وأقواله عن خشية الله وتقواه، وليس عن عقل، أو هوى، أو تزيد للتباري مع الآخرين (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ).
والخشية لله مزيج من معتقدات عدة تكونها (الخوف، التقوى، استحضار عظمة الخالق، واستحضار الموقف بين يدي الله يوم القيامة وغير ذلك). والآيات التي جاءت في كتاب الله تتحدث عن الخشية كثيرة، وكذلك الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنستعرض بعض تلك النصوص. وأبدأ بنصين أراهما الأخطر في دلالتهما لمن يتدبرهما حق التدبر.
تعرفون جميعا أنّ الملائكة ليسوا مكلفين كتكليف الإنسان، إنّما خلقوا للطاعة (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وبالتالي لن يحاسبوا ولن يمتحنوا ومع ذلك كانوا شديدي الخشية لله، واقرؤوا هذا الحديث وقفوا مع معناه طويلا: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليلة أسري بي مررت على جبريل في الملأ الأعلى كالحلس البالي من خشية الله عز وجل).
فابك على نفسك أيها الإنسان الذي لا تخشى الله، أو تخشاه خشية نفاقٍ، لا تنعكس على أعمالك، ماذا سيكون مصيرك في غد، إذا كان كبير الملائكة وعظيمهم يهزل ويهتريء من خشية الله وأنت تلهو وتلعب بدين الله.
وفي وصف آخر للملائكة الكرام يقول ربنا تبارك وتعالى: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).
وتأملوا معي الحديث الثاني، لنعلم الفعل الذي تفعله خشية الله إذا وقرت في القلب بصدق، في مصير الإنسان يوم القيامة، مع تخلف الكثير من الأعمال الصالحة. قال عليه الصلاة والسلام: (أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِى ثُمَّ اسْحَقُونِى ثُمَّ اذْرُونِى فِى الرِّيحِ فِى الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّى لَيُعَذِّبُنِى عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا. قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِلأَرْضِ أَدِّى مَا أَخَذْتِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ. أَوْ قَالَ مَخَافَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ).

ونتابع استعراضنا لنماذج من أهل الخشية لله، ممن قص الله علينا خبرهم لنهتدي بهداهم ولنخشى خشيتهم. يعاتب الرب تبارك وتعالى في سورة النور نبيه يوم شق عليه صلى الله عليه وسلم البوح بما أمره الله به، في قصة زواجه من زينب، من أجل إقرار حكم تحريم التبني بأجلى صورة، وعلامَ ينصب العتاب..؟ إنّه موضوع الخشية: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ).
ويذكر الله لنبيه ولنا، حال كل أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وما كانوا عليه من خشية ربهم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا).

والآن، لنستعرض من خلال بعض النصوص، قصة الخشية مع بعض المؤمنين:
.(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
صنف من المؤمنين استحوذت عليهم خشية ربهم وباتت تؤرق أجفانهم، وتشغل بالهم، إلى الحد الذي يخشون أن لا تقبل منهم أعمالهم الصالحة. وخفي على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال هؤلاء الوجلين من ربهم حتى ظنتهم أصحابَ معاصٍ، تلاحقهم وتقلقهم. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجابها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتونَ مَا آتوا وقُلوبُهم وَجِلَةٌ) أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: (لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)).
والنبي صلى الله عليه وسلم هو النذير والبشير للناس، وهو الذي جاء ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويحذرهم النار ويعدهم الجنة، ولكن من هم أولئك الذين ينتفعون بدعوته المباركة..؟ إنّهم أهل الخشية (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ).
وكم من قاريء يقرؤ كتاب الله، وكم من تال يتلوه، وكم من حافظ يحفظه، ولكن مَن الذي يرقى به وينتفع غير أهل الخشية..؟

. (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
ولِمَنْ تُزلف الجنة يوم الخلود، ولمن تفتح أبوابها وتزين غرفها..؟ هنيئاً ثم هنيئاً، لمن ينادى عليهم ادخلوها بسلام آمنين إنّهم أهل الخشية (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ).
ومَن مِنَ الناس أحظى بالجنة؟ (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).
وهذا الرب العظيم الذي ما قدره كثير من البشر حق قدره، ولم يرجوا له وقارا، نراه يحدثنا عن الجمادات التي لا نرى فيها حياة ولا نتوقع لها إحساسا تخشى الله أشد من خشية بعض البشر: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ). (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

2. الطاعـــــة
أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل: (كُلُّ أُمَّتِى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِى دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ أَبَى).
فطاعة الرسول هي وسيلة البشر إلى دخول الجنة، ولا يخفى أنّ طاعة الرسول هي عين طاعة الله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ). بل إنّ مصائر بني آدم جميعاً تحددت بعلم الله وإذنه وإرادته على أساس الطاعة وضدها المعصية، فأبونا آدم عليه السلام أُمر من الله (وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). ولمّا استدرجه إبليس إلى المعصية، ورغم اعترافه بذنبه وتوبته، كان قدر الله السابق لذريته، العيش على الأرض، وليس في الجنة (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
وقد عوضنا الله، نحن ذرية آدم، خيراً حينما جعل لنا فرصة العودة إلى الجنة والخلود فيها، إن أطعناه على الأرض. أما معصية اللعين إبليس والتي لم يتب منها كما تاب آدم، بل لم تزده إلا عصياناً واستكباراً، جعلته مذؤوماً مدحوراً تحل عليه اللعنات وليس له في الآخرة إلا النار.
فالطاعة رأس الأمر عند المسلم الذي يرجو الله والدار الآخرة، ولا عجب أن يعلمنا ربنا أنّ الرد الفوري والأول من كل مؤمن إذا دعاه الله ورسوله للعمل بشرعهما هو السمع والطاعة. والذي رتب الله عليه الفلاح (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
ومن جمع بين الطاعة والخشية والتقوى حاز مرشحات الفوز، وأي فوز..؟ أن يزحزح عن النار ويدخل الحنة (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

ومناورات المنافقين، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت في موضوع الطاعة، لخطورتها، إذ عليها يترتب القبولُ مع جماعة المؤمنين أو الرد، وكانوا يظهرونها للنبي، ويقسمون على صدقهم فيها. ولكنّ الله يفضحهم المرة تلو المرة، مبيناً لنبيه وللمؤمنين أنّها طاعة مكذوبة. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). أي طاعة معروفة بكذبها وكغيرها من الطاعات التي أبديتموها كذباً ونفاقاً.
وفي موقف آخر تنزل القوارع من الآيات لفضح حال المنافقين، والبيان لهم أنّ الطاعة الحقيقية والقول الصادق مع الله ورسوله خير لهم من تلك المناورات والأكاذيب التي لا تنفعهم في الدنيا ولا الآخرة (وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
ولا زال القول الفصل، والموقف المِفْصل بين المنافقين والنبي صلى الله عليه وسلم يتمحور حول الطاعة، يلعبون بها وبألفاظها كيف شاؤوا، وفاتهم أنّ ربهم بالمرصاد لهم يفضحهم ويخزيهم في كل موقف وكلام (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا).
وليست الآيات التي تحكي حال المنافقين سرداً يحكي تاريخاً مضى وينتهي الأمر، إنّ النفاق موقف متخاذل، متآمر، متذبذب يساوم على إفساد الدين بل إنهاء الدين، ولا يزال يتجدد كلما حزب المسلمين أمراً وكلما اقتربوا من إحراز نصر. والأسلوب واحد لا يتغير وقد تولى الله فضحه.

3. الاستجابة
إنّ قضية الاستجابة لله ورسوله في حياة الإنسان المسلم أمر عظيم، ففي الاستجابة تعبير فوري وقوي عن العبودية الخالصة لله تبارك وتعالى، ويقين بأنّه لا يجوز أن يعلو على صوت الوحيين صوت، وأن لا يقدم بين يديهما قول. ولما كانت الاستجابة بهذه المثابة جاءت الآية الكريمة تعبر عن هذه الحقائق: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
في هذه الآية ملمح عظيم تضيعه القراءة العجلى لها: إنّ الله تعالى يعطي في هذه الآية لنبيه علماً، ولا يدعه لتقديراته واستنتاجاته، ذلك أنّ كل من أعرض عن الإستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو محكوم عليه من الله أنّه متبع لهواه دون النظر في سبب ذلك الإعراض. وكفى بالهوى شؤماً أنّه القائد إلى النار (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
ولا بد من استعراض المفهوم المخالف زيادة في الإيضاح: إن من لم ينه نفسه عن الهوى فليس بخائف مقام ربه، وإنّ مأواه النار. ومن أعظم تحقير وازدراء وإبطال لأمر الهوى تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن النطق به (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى).
وإنّ الله تبارك وتعالى يبين لنا أنّ الاستجابة له ولنبيه تضمن للمستجيب خير حياتين في الدنيا والآخرة، لأنّه لا يمكن لأي حياة تقوم على الأرض بعقول أهل الأرض أن تكون أفضل من حياة تقوم على أمر الله ورسوله. ومن تلكأ في الاستجابة فلينتظر التعثر في الدارين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
وإن تعجب فعجب قول وفعل أولئك الذين يُدْعون إلى الاستجابة، فيؤجلون ويؤخرون، طمعاً في زيادة استمتاع من لذائذ الدنيا، وهم في عمر الشباب، ويصرحون بأنّ في نيتهم الاستجابة، ولكن ليس الآن. فهل اتخذ أولئك عند الله عهداً أن لا تغيب شموسهم إلا بعد أن يُستأذنوا؟ وكأنّ هؤلاء لم يقرؤوا قول ربهم: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ).
وهل عند أحد في هذا الوجود شيء يتمناه الإنسان، يفضل ما عند الله، فيشغله إذن عن الاستجابة لله وللرسول (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
وما الذي ينتظرك أيها المستجيب لربك..؟ يا من أعرضت بسمعك عن كل نداء يشغلك عن الاستجابة لله..! وتحولت بناظريك عن كل فتنة تلهيك عن الاستجابة لله..! وهل فاتك بذلك شيء يؤسف عليه..؟ لا والله (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى).
وما الحسنى..؟ إنّها جنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما لم يخطر على قلب أحد. فهل ربحت تجارة الاستجابة..؟
أما أنت أيها الخاسر، الذي استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، الآن انتبهت من غفلتك وصحوت من سكرة جهلك وهواك، لكن ذلك كان بعد فوات الأوان، فافتد نفسك من مولاك (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).

وختاماً أسأل الله أن يرزقنا خشيته، وأن يعيننا على طاعته، وأن يجعلنا من الحريصين المبادرين للاستجابة الفورية له ولنبيه، فنظفر بالخلاص، ونسعد بالفوز، ويكون لنا نزل في الجنة التي سعينا وعملنا من أجلها، وتعساً وبعداً لكل ما يَشغلُ ويُبعدُ العبد عن ربه.

والحمد لله رب العالمين