محور هذا الموضوع وأساسه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغربة، فلنبدأ بعرضه:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، كما بدأ فطوبى للغرباء). وفي رواية: (قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
وستكون مع الحديث وقفات:
أولاً: أول ما يتبادر إلى ذهن قاريء الحديث أنّ في الإسلام غربتين أولى وآخِرة، ويلزم من ذلك أنّ في الإسلام غرباء أولين، وغرباء آخِرين. وبالغربتين، وبالنوعين من الغرباء يقوم عمود الإسلام، فالغرباء هم أنصار الإسلام حين يعز النصير في أيام الغربة. وإذنْ: كان لا بُد في أولى الغربتين من غرباء يلتفون حول الغريب الأول ليؤسسوا لهذا الدين الجديد، ويُرسوا قواعده في الأرض، ويمحوا الجاهلية وآثارها ورموزها. ولقد امتدت هذه المهمة لتُغطي قرونا ثلاثة، استحقوا شهادة الله ورسوله لهم بالخيرية، وهم أهل القرون الثلاثة: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وتبقى للصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وهم من أهل تلك القرون، بل ساداتهم، ميزة على أهل الإسلام كلهم، وهي منزلة الصحبة، وما حظوا به من تعديل الله لهم ورسوله ليكونوا الحلقة الأولى في السلسلة المباركة التي من خلالها تم نقل الدين كما أُنزل على قلب محمد عليه السلام منه إلى الأمة. فالصحابة الكرام كلهم بلا استثناء، أهل العدالة المطلقة، فلا تخضع عدالتهم للنقاش والتساؤل من أحد.
ومن عدل الإسلام وأهله، أهل السنة والجماعة، أنّهم يُثبتون العدالة المطلقة للصحابة جميعاً، لكنّهم لا يدّعون العصمة لأحد منهم. فكانوا مؤتمنين على الوحي الذي تحملوه عن نبيهم وأدّوه إلى الأمة. وأكمل المهمة العظيمة من بعدهم أهل الحديث بقواعد ضَبَطَ بها علماء الحديث عملية النقل تلك، فكان علم الحديث وقواعده، وعلم الرجال وضوابطه، مفخرة أمة الإسلام، ومُعجزةً أدهشت لدقتها وإحكامها الأنام، وما ذاك إلا من توفيق الله للمخلصين من رجال هذه الأمة، لتتحقق مُعجزة حفظ دين الإسلام من التحريف والتبديل، تصديقاً لقول ربنا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
أختم هذه الفقرة بالقول: إنّ الغرباء الأوائل كانوا مؤسسي الدين وبُناته في زمن وأرض الجاهلية، أما الغرباء الآخِرون فيكونون، بتوفيق الله، حُرّاس الدين وحُماته في زمن الفرقة، وانتشار أخطر فتنة، فتنة التبديل والتحريف، وكل ذلك أفرزه غياب الأمة. فصار الدين غير الدين.
ثانياً: يعن لي، لتقريب مفهوم الغربة أنْ أُشبهها بالكهف الذي أمر الله أصحابه أنْ يأووا إليه (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) فكان الكهف لمن أووا إليه صيانة لدينهم من أنْ يسري إليه انحراف من حولهم، وحماية لأشخاصهم من أنْ يجرفهم طوفان الفساد. فكانوا غرباء، وأُمروا باعتزال الناس بأرواحهم وأفكارهم وأجسادهم. وغربة المسلمين أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) اليوم، كذاك الكهف يأوون إليه للأسباب نفسها، إلا أنّهم لم يُؤمروا باعتزال الناس، من أجل أنْ يبقوا بينهم منارات هداية، وأصحاب دعوة، وأمة يدعون إلى الخير. ويكونوا للناس الأمل، بعد توفيق الله، للأخذ بأيديهم إلى ما يُرضي الله. فالغربة الثانية القائمة على حِراسة الدين هي قاعدة الانطلاق لإصلاح ما فسد، وإحياء ما اندثر، وتقويم ما اعوج. والغرباء الآخرون يتميزون بغربتهم بين الناس ليكونوا بذاك التمييز المعيار والدليل لكل ذي بصر وبصيرة، يكشف عوار كل انحراف واختلاف، ويُعطي المثل الذي يجب أنْ يحتذيه كل من يُريد الإصلاح، وبضدها تتميز الأشياء.
فلا تُحَوِّلنَّ يا أخي الغريب غربتك إلى ضنك ويأس، وانكفاء على الذات، فتُفقد نفسك أجر غربتك (طوبى للغرباء)، وتُفوت على من حولك فرصة الانتفاع بك وأنت في إبان غربتك، فإنّ ربك استعملك في هذا.
ثالثاً: إنّ الغربة الآخرة حين صارت عند بعض المسلمين بل عند أكثرهم مصدر ضيق ويأس، وانكفاء على النفس، مع أنّها في الأصل التزام واتباع ومنهج مؤصل، وقرب من الله، وإذا بها لسوء فهمها، والزهد في منزلتها، تشغل صاحبها عن مهمته الكبرى في الإصلاح، وتدفعه إلى محاولة الخروج من ضيقها، وقد ضاقت بها نفسه، إلى ما هو أوسع. فيدخل عليه الشيطان وهو الذي قال لربه: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ). فيرى تفلت هذا العصر سعة، ويرى ما يُمارس من انحراف عن الوحيين من بعض أهل الدين تيسيراً ورحمة بالعباد، وتنقلب عنده المفاهيم والموازين فيرى الحق مع الكثرة، وليس مع الدليل (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). ذلك لأنّه حين لم يعد يجد نفسه في كهف غربته الذي أمر أنْ يأوي إليه، يطمئن بها وإليها وقت يظهر الفساد في البر والبحر، صار يبحث عن المواطن التي يجد نفسه فيها عند الناس، لكنّه يُوبقها عند الله، عياذاً بالله. ومما يُغريه في هذا الاتجاه الخاطيء سعة الباطل والتفلت إزاء ضيق الالتزام والانقياد، وهِياج العواطف ولو بالباطل إزاء ضبط النفس ولجم العاطفة بالدليل والطاعة. والحرص على رضا الناس والخوض معهم في ما يخوضون فيه بدل اعتزالهم في غربته، توهما أنّه مع الجماعة (الجموع) وناسياً أنّ الصواب والحق ليس بالضرورة مع الكثرة. إنّه في النهاية يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير,.! وما هي إلا زلة قدم بعد ثبوتها، ونعوذ بالله مما استعاذ منه نبينا في قوله: (اللهم إنّي أعوذ بك من الحور بعد الكور).
رابعاً: إنّ الغريب الحق الذي استوعب غربته، وأدرك مستلزماتها على المعنى الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الراسخ الصامد أمام صروف الحياة وتغير الأحوال، وتطورات الواقع، وتبدل المفاهيم، وتشتت العقول، ويعي بشكل أدق ما أصاب أمة الإسلام من انتكاسات بِيد أهلها وأبنائها قبل أي أحد، وبسبب غثائية الأمة وتداعي الأمم عليها. وإنّ مبعث صموده ورسوخه أنّه يصدر عن منهجٍ هو مجموعة ثوابت أصلها الوحيان، ولأنّه يُدرك بيقين أنّ غربته وعدٌ نبويٌ هو لاقيه، وليس أمراً طارئاً يُمكن تحاشيه، إنّه يدعو الناس إلى غربته لأنّها ليست هروباً من واقع مخالف لا يُطاق، تُؤثر الرقود على العمل، والراحة على النصب، والسلامة على الأذى، كما يفهمها كثيرون..! إنّما لأنّها قاعدة انطلاق تجمع الغرباء الصامدين الصابرين العاملين، لمعاجة ذلك الواقع، وهو الطريق الصحيح لدفع الغربة وليس التحايل عليها، بإغراءات الشيطان..! مستيقناً أنّها الحالة التي تسبق الانفراج، وأنّها المضيق والامتحان الذي لا بُد من عبوره إلى فرج الله للصابرين.
هي غربة يُحببها لنفس الغرباء وعد الله لهم، ويُوسّع ضِيقها عليهم أنّهم أهل الحق، وليس الجموع الكبيرة الجانحة التي يرونها حولهم ممن اتخذوا دينهم لهواً ولعباً .. إنّ الشعور بالغربة في الدين، واستيعابها، والرضا بها، مُلازم لليقين بصوابية الموقف، وسداد الوجهة، وأنّ الله مع الغرباء الذين اختاروا غربة الاستقامة على شرعه، ولم تُفززهم انطلاقة الجانحين عن السواء، ولا عبثية المتخبطين بلا دليل .. من هنا كان الغرباء بثباتهم، ويقينهم، والثقة بموعود الله هم المرشحين لبعث الأمة من جديد، وإعادة الأمة إلى مصدر قوتها، ومبعث عزتها وهو الالتصاق بالوحيين علماً وعملاً في كل شأن.
وليعلم أهل الغربة أنّ كل دعوات السماء قام بها الغرباء والضعفاء يوم استقووا برب العزة والجلال، واستقاموا على الطريقة. ولنقرأ جميعاً فواتح سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ).
والحمد الله رب العالمين