إشهار الزواج أمرٌ لا بُد منه، والشرع أمر به. والمقصود بالإشهار الإعلان، لتصبح هذه المناسبة الاجتماعية مشهورة مشهودة عند أكثر الناس. ومن العلماء من اعتبر الإشهاد في العقد يقوم مقام الإشهار، وليس صحيحاً، وكلٌ جاء في نص وكل له حكمة، ولا يغني واحد عن الآخر.
فالشاهدان شرط لصحة العقد، والعقد دون الإشهاد باطل. أما الإشهار فغايته اجتماعية، ليعرف المجتمع حقيقة العلاقات بين الناس، فلا يشككون ولا يسيئون الظن. كما أنّه مطلب مهمٌّ، بل ضروريٌ لإضفاء صفة الشرعية التي ترافق الحلال في المنظور الإسلامي، وهي العلنية، المضادة للإسرار والتواري، وهي الصفة التي تلازم فعل الحرام. فالنكاح الشرعي حلال، فليعلن وليفرح به، بينما الحرام، كالزنا، عار وشنار ومعصية يتوارى فاعلوه عن الأنظار لأنّه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا.
وقد جاء الأمر بإعلان النكاح في قول النبي عليه السلام: (أعلنوا النكاح). والأمر للوجوب في الأصل. وليس بالضرورة أن يرافق الإعلان البذخ والإسراف، حتى يلجأ الناس إلى الإخفاء. بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يكون معهنّ في العرس شيءٌ من اللهو (الضرب بالدف). فقد ذكر الشيخ الألباني في كتابه القيم (آداب الزفاف في السنة المطهرة) بعض تلك السنن، يقول رحمه الله: (ويجوز أن يُسمح للنساء في العرس بإعلان النكاح بالضرب على الدف فقط وبالغناء المباح الذي ليس فيه وصف الجمال وذكر الفجور وفي ذلك أحاديث، منها: عن عائشة: (أنّها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: {يا عائشة ما كان معكم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو؟} وفي رواية بلفظ: {فقال: فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟} قلت: ماذا تقول؟ قال: {تقول: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم، لولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم، لولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم}).
ومن الأحاديث التي يجهلها كثير من الناس، والتي تؤكد إشهار النكاح والفرح به ليكون تربية للناس، وبخاصة الناشئة على حب الحلال والفرح به، قول النبي عليه السلام، كما في فتح الباري، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (أَبْصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ، فَقَامَ مُمْتَنًّا، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ)). وذكر في الشرح: (ممتنا من المُتْنَة وهي القوة أي قام قياما مسرعا مشتدا في ذلك فرحا بهم، وقيل من الامتنان أي متفضلا بمحبته عليهم مكرما لهم بقيامه).
وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، كما في صحيح سنن النسائي، قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي عُرْسٍ وَإِذَا جوَارٍ يُغَنِّينَ فَقُلْتُ: أَيْ صَاحِبَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ بَدْرٍ يُفْعَلُ هَذَا عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَا: اجْلِسْ إِنْ شِئْتَ فَاسْمَعْ مَعَنَا وَإِنْ شِئْتَ فَاذْهَبْ فَإِنَّهُ قَدْ رُخِّصَ لَنَا فِي اللَّهْوِ عِنْدَ الْعُرْسِ).
وألفت نظر كل قارئ لهذا الحديث أن لاي قذف الشيطان في روعه أنّ العبارة التي قالها الصحابيان لعمر بن سعد: (اجْلِسْ إِنْ شِئْتَ فَاسْمَعْ مَعَنَا وَإِنْ شِئْتَ فَاذْهَبْ) تعني أنّ الأعراس، يومئذٍ، كانت يختلط فيها الرجال مع النساء، ويشاركون في اللهو! معاذ الله، ولكنَّ المقصود أنّ مجلس الرجال قد يصل إليه صوت الغناء، فلا يؤمرون بمغادرته، لأّن الرجال أصلاً لا يأتون لشهود العرس، ولكن يكون بعضهم قريبا للمحافظة على النساء من شر الفساق، والله أعلم.
ولقد وجدت من المناسب التوسع في شرح الحديث، ومعرفة أقوال العلماء فيه، سدا لذرية الفهم الخاطئ ، وبخاصة تفسير الحوار الذي دار بين الأصحاب الثلاثة حول الغناء في العرس، واستماع الرجال له، وحتى لا يكون ما جاء في الحديث، إن لم يفهم على وجهه الصحيح، غرضاً يتخذه المشككون والمتهوكون لأهوائهم ومراميهم، ولقد قمت بالبحث عن شرحٍ وافٍ للمسألة، فوجدت بغيتي في كتاب اسمه (ذخيرة العقبى في شرح المجتبى)، وهو من شروح سنن النسائي المعاصرة، وقد جمع فيه واضعه أصح ما قيل من قبل العلماء: (قال الجامع – عفا اللَّه تعالى عنه -: الذي يظهر لي أن ما دلّ عليه حديث الباب، وهو جواز الغناء في العرس، وجواز استماع الرجال إليه هو الحقّ؛ وقد ثبت تخصيص بعض الحالات بجواز الغناء فيها: منها: العرس، وأدلتها الأحاديث المذكورة آنفًا.
(ومنها): قدوم الغائب؛ لما أخرجه أحمد، في “مسنده”، والترمذيّ، واللفظ له، من طريق عبد اللَّه بن بريدة، قال: سمعت بريدة، يقول: خرج رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم – في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول اللَّه، إني كنت نذرت إن ردك اللَّه سالما، أن أضرب بين يديك بالدفّ، وأتغنّى، فقال لها رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم -: “إن كنت نذرت فاضربي، وإلا فلا”، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر، وهي تضرب، ثم دخل علي، وهي تضرب، ثم دخل عثمان، وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدفّ تحت اسْتِهَا، ثم قعدت عليه، فقال رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم -: “إن الشيطان، ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا، وهي تضرب، فدخل أبو بكر، وهي تضرب، ثم دخل علي، وهي تضرب، ثم دخل عثمان، وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر، ألقت الدفّ”. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، من حديث بريدة، وفي الباب عن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة.
قال الشوكانيّ: وقد استدلّ المصنّف -يعني صاحب “المنتقى” – بحديث الباب على جواز ما دلّ عليه الحديث عند القدوم من الغيبة، والقائلون بالتحريم يخصّون مثل ذلك من عموم الأدلّة الدّالة على المنع. وأما المجوّزون، فيستدلّون به على مطلق الجواز لما سلف، وقد دلّت الأدلّة على أنه لا نذر في معصية اللَّه، فالإذن منه – صلى اللَّه عليه وسلم – لهذه المرأة بالضرب يدلّ على أن ما فعلته ليس بمعصية في مثل ذلك الموطن، وفي بعض ألفاظ الحديث أنه قال لها: “أوف بنذرك”.
(ومنها): ما ورد في الأعياد؛ لحديث عائشة – رضي اللَّه عنها -، قالت: دخل أبو بكر، وعندي جاريتان، من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان، في بيت رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم -؟، وذلك في يوم عيد، فقال رسول اللَّه – صلى اللَّه عليه وسلم -: “يا أبا بكر، إن لكلّ قوم عيدا، وهذا عيدنا”. متّفقٌ عليه.
والحاصل أنّ ما ورد في هذه النصوص مخصوص من تحريم الغناء. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب) ا.هــ
وأضيف زيادة في الإيضاح، أنّ ماورد في النصوص السابقة، وأستعمل عبارة الشارح، مخصوصٌ أيضا من تحريم سماع الرجال لذاك النوع من الغناء، فالرسول صلى الله عليه وسلم استمع وكبار الصحابة استمعوا، وواضح جدا أنّ استماعهم كان سماعاً وليس استماعا، وللعلماء كلام في التفريق لغة بين الاستماع والسماع، والأول باختصار تعمُّد السماع، والسعيُ إليه، والإصغاءُ له، والتلذذ بذلك والطرب، وأما الثاني، وهو السماع، فهو أن يأتيه الصوت من غير كسب منه، ولا قصد، وهو كاره له. ومن توفيق الله، ثم خيرية البحث، أنّي وقفت على كلام في المسألة التي نحن في صددها، رأيته شافياً وافياً فاصلاً، لابن تيمية رحمه، فأثبتُّه لتعمَّ الفائدة، يقول ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى(565/11): (وليس في حديث الجاريتين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنّما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع، كما في الرؤية، فإنّه إنّما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار، وكذلك في اشتمام الطيب، إنّما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لم يقصده فإنّه لا شيء عليه، وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس من السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، إنّما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي، وهذا مما وجه به الحديث الذي في السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت زمارة راع فعدل عن الطريق، وقال: هل تسمع؟ حتى انقطع الصوت، انظر ما رواه أبوداود (4924)، وابن ماجة (1901)، وأحمد في مسنده (4535) فإنّ من الناس من يقول بتقدير صحة هذا الحديث، لم يأمر ابن عمر رضي الله عنهما بسد أذنيه، فيجاب بأنّه كان صغيراً، أو يجاب بأنّه لم يكن يستمع وإنّما كان يسمع، وهذا لا إثم فيه، وإنّما النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك طلباً للأفضل والأكمل، كمن اجتاز بطريق فسمع قوماً يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه؛ كيلا يسمعه فهذا حسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك، اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد) ا.هـــ
وقال في موضع آخر(29/552) (غناء الإماء الذي يسمعه الرجل، قد كان الصحابة رضي الله عنهم يسمعونه في العرسات. وقال ابن رجب في فتح الباري (8/434) فكذلك الغناء يرخص فيه للنساء في أيام السرور، وإن سمع ذلك الرجال تبعاً) ا.هـــ
ولو نظرنا في واقعنا المعاصر، وما عليه الناس في شأن الزواج، لوجدناه حالاً غيرَ حميدٍ، لأنّ الناس قد نسوا أو تناسوا الضوابط الشرعية، والحِكَمَ منها. وأحلوا مكان ذلك أهواءهم وعاداتٍ مصادمةً للدين، مستوردةً من عند من لا دين لهم. وصيروا (إشهار الزواج) الذي أمر به الدين، بمفاهيمهم المنحرفة، استعلانا بالمعاصي وما لا يرضي الله، وتنافساً وتسابقاً في مضمار إتيان المنكر. ولعل هذا أحد الأسباب التي تجعل نسبة الطلاق مرتفعة، وفي باكورة الزواج، في معظم البلاد الإسلامية. وقد أعان على هذا الشرود عن المنهج الحق، وإحاطة فرحة الزواج بكل هذه التناقضات والمنكرات، وأبناؤنا في خطواتهم الأولى لتأسيس بيت إسلامي، هذه الصالات التي تجعل رزقها في الضلال والإضلال، وتزين للمتعاملين معها سوء أعمالهم. فكيف نرجو الخير لمستقبل العروسين، وكل من حولهم، يوم فرحتم، يؤزونهم إلى المنكر أزّاً، وإذا جاهم الناصح يحذرهم المنكر، يجد حجتهم الداحضة جاهزة على رؤوس ألسنتهم (هي ليلة بالعمر)، وإذن، فلْيُفعلْ فيها كل شيء…! فمتى نفيق من الأوهام والأحلام وإتيان الحرام.
ومن الأمور الإيجابية، التي تحقق إشهارا قويا للزواج، تطبيق ما جاء في السنة من اجتماعات لمناسبة الزواج، من مثل حفل الزفاف، وهو حفل للنساء فقط وقد رخص الرسول صلى الله عليه وسلم لهن باللهو المباح، مثل الضرب بالدف فقط، ومعه الغناء الخالي من الحرام كالكلمات الماجنة وهي التي لا تكاد تخلو منها أغنية مما هو بين الناس اليوم.
وأحب أن أؤكد بشدة على أنّ كل أشكال الموسيقى وآلاتها محرم في العرس وغيره، والنبي عليه الصلاة والسلام استثنى الدف رغم أنّه من الآلات المحرمة. ومفيد جدا أن أذكر بالشروط التي تُحلُّ استعمال الدف، وهي ثلاثة؛ أن يكون لاستعمال النساء، وأن يكون في مناسبتين فقط، هما العيد والعرس. وقد مرت معنا قبلًا أحاديث نبوية حول العرس. وأما الاجتماع الثاني الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، بمناسبة الزواج، فهو للرجال، واسم ذلك الاجتماع (وليمة العرس). وهي واجبة على القادر، وذلك هو الراجح. ومعنى الوجوب أنّ تركها من القادر عليها إثمٌ. ومن الأدلة على وجوبها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، لما خطب فاطمة رضي الله عنها: (إنّه لا بُد للعرس من وليمة). وقد فُهِمَ الوجوب من لفظة (لا بُد). ومن الأدلة أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (فبارك الله لك، أوْلِمْ ولو بشاة). وفعل الأمر (أولم) دليل على الوجوب أيضا. كذلك يحتج للوجوب بثبوتها من فعله صلى الله عليه وسلم وأنّه ما تركها في كل زيجاته لحديث أنس: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنّه ذبح شاة، قال: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه).
فهذان اجتماعان للرجال وللنساء، كل على حدة، أوليست مشروعيتهما من أجل إشهار الزواج؟ وإذا كان الله قد أوجب الوليمة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنّه لأهمية هذا الاجتماع، فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على المدعو إجابة الدعوة للأحاديث:
. عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب). وقال: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله). وقال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليُجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك). وعن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها). متفق عليه. وفي رواية لمسلم: (فليجب عرسا كان أو نحوه).
ولعظم شأن الوليمة، بين المسلمين، أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم إجابتها، حتى على الصائم للحديث: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل). يعني: الدعاء.
وما ذلك التأكيد إلا لأنّ الاجتماع والتواصل بين المسلمين لا يأتي إلا بخير، لاسيما إذا وظفت الاجتماعات توظيفا دعويا! فربط المناسبات الاجتماعية مثل الزواج، وهي لا تنقطع في حياة الناس، بهذه النشاطات الاجتماعية والتواصل، تحقق أمرين ضروريين في حياة الناس، وهما خاص وعام. أما الخاص فهو إشهار الزواج بشكل فعال. وأما العام فإيجاد فرص متكررة للاجتماع بين المسلمين، وتوظيف هذا الاجتماع للخير، متمثلا ، بدعوة الناس وتذكيرهم ومناقشة مشكلاتهم والتحاور من أجل حلها، وكل ذلك من طرق الإصلاح مع وجود، الالتزام بالمنهج الحق، منهج (ما أنا عليه وأصحابي) . والله الموفق