آيات بينات قارعات، ومن سورة الصافات، فيها أعظم عبرة لمن يؤمن بالبعث بعد الممات، ويوقن أنّ الخلق مجزيون بالحسنات والسيئات، ولا ملجأ ولا منجى إلا عند رب السموات، وأما من غرتهم الأماني فهيهات هيهات! يقص علينا رب العزة والجلال حوارا يدور بين أهل الجنة، ومن أصدق من الله حديثا! فلنصغ للآيات الكريمات، ولتكن من عندها البداية:
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ).
إنّه حوارٌ بين المُنَعَّمين من أهل الجنة، وهم في الغرفات آمنون، يستعرضون شريط ذكرياتهم في الحياة الدنيا، وأقول نيابة عن القارئ الذي يصل إلى هذه النقطة، فيثور في نفسه سؤال ملح، وأي ذكريات يستعرضها المُنَعَّمون في الجنة؟ صدقت أيها القارئ، إنّ كلَّ ذكريات الدنيا التي كانت تُبهج أصحابها، يُطوى ملفها يوم يطوي الله السماء كطي السجل للكتب. لأنّها تخبو بهجتها، بل تتلاشى، مهما كانت عظيمة، أمام بهجة نفوس المؤمنين في دار المقامة .. وهل يستعرض الإنسان الذكريات الماضية، إلا لتحلوَ ساعتُه الحاضرة؟ ولا يُستعرض الجميلُ، والأجملُ حاضرٌ، وإذن لا مناسبة لتلك الذكريات! لكنّ أصحاب الجنة لا يتذاكرون ذكريات لجمالها، فقد أبدلوا خيرا من ذلك، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر! فماذا يتذاكرون إذن؟
إنّما يتذاكرون ما يزيد به نعيمهم في الجنة، وهو بعض أعمال كانت لهم في الدنيا وكان مآلها، بعد رحمة الله، الفوزَ بالجنة، والزحزحةَ عن النار. ومن حكمة الله في هذا الخلق، ورحمته، أن جعل نعيم الجنة في ازدياد على أهلها كل لحظة، وعذاب أهل النار كذلك، ونعيم أهل الجنة يزداد ويتجدد لهم، فرحاً وحمداً وشكراً، وعذاب أهل النار يشتد عليهم، ويحيط بهم، أسىً ولظىً وندماً. فلنستعرض تلك المذاكرة بين بعض أهل الجنة، جعلنا الله منهم، ونعَّمنا كما يتنعمون.
(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ) يتذكر أحد المُنَعَّمين في الجنة، صاحباً له في الدنيا، يتمنى أن يتعرف عليه الآن! لكنّنا، ابتداءً، نحب أن نعرف جنس هذا الصاحب (القرين)! لو رجعنا إلى كتب التفسير لوجدنا المفسرين مختلفين في ذلك، يقول بعضهم إنّ القرين من الجن، وآخرون يقولون إنّه إنسي من بني البشر. وهل تَذكُّرُهُ لصلاح وتقوى، وحسن صحبة؟
يقول الشوكاني في فتح القدير: (قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَرِينُهُ شَرِيكُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَرِينِ الشَّيْطَانَ الَّذِي يُقَارِنُهُ وَأَنَّهُ كَانَ يُوَسْوِسُ إِلَيْهِ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ). وكأنّ الشوكاني يميل إلى كون القرين من الشياطين.
ويقول ابن عاشور: (وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْقَرِينَ هُنَا بِالشَّيْطَانِ الَّذِي يُلَازِمُ الْإِنْسَانَ لِإِضْلَالِهِ وَإِغْوَائِهِ. وَطَرِيقُ حِكَايَةِ تَصَدِّي الْقَائِلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِإِخْبَارِ أَهْلِ مَجْلِسِهِ بِحَالِهِ يُبْطِلُ هَذَا التَّفْسِيرَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الشَّيْطَانَ لَكَانَ إِخْبَارُهُ بِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا عَالِمٌ بِأَنَّ مَصِيرَ الشَّيَاطِينِ إِلَى النَّارِ).
وأما الشيخ السعدي فيقول: (يقول صاحب الجنة لإخوانه: هذه قصتي، وهذا خبري، أنا وقريني، ما زلت أنا مؤمنا مصدقا، وهو ما زال مكذبا منكرا للبعث، حتى متنا، ثم بعثنا، فوصلت أنا إلى ما ترون من النعيم، الذي أخبرتنا به الرسل، وهو لا شك أنّه قد وصل إلى العذاب). وكأنّ الشيخ السعدي ترك الكلام عن جنس القرين المذكور تغليبا لما يتبادر من السياق، من أنّ القرين من البشر، ويلتقي بذلك مع ترجيح ابن عاشور.
وفي محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي: (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي في المحادثة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، أي جليس لي يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟ أي لمبعوثون فمجزيّون. أي يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب. والمعنى: فهنا قد صدقنا ربنا وعده، وأحل بالقرين وعيده). وكأنّ الشيخ القاسمي، فيما يُستنبط من كلامه السابق، ولاسيما بقرينة استعماله كلمة (جليس) يُغلِّبُ كون القرين من البشر.
وفي تفسير البغوي: (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ، يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، فِي الدُّنْيَا يُنْكِرُ الْبَعْثَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ شَيْطَانًا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَا أَخَوَيْنِ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: كَانَا شَرِيكَيْنِ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ اسْمُهُ قَطْرُوسُ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ يَهُوذَا، وَهُمَا اللَّذَانِ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَهُمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ). ذكر البغوي الاحتمالات ولم يرجح!
وجاء في تفسير ابن كثير، ({قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي شَيْطَانًا. َقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ الْمُشْرِكُ، يَكُونُ لَهُ صَاحِبٌ مِنْ أَهَّلَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا. وَلَا تَنَافِي بَيْنَ كَلَامِ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَكُونُ مِنَ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي النَّفْسِ، وَيَكُونُ مِنَ الْإِنْسِ فَيَقُولُ كَلَامًا تَسْمَعُهُ الْأُذُنَانِ، وَكِلَاهُمَا مُتَعَادِيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ،وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوَسْوِسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ . مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس}. وَلِهَذَا {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} أَيْ: أَأَنْتَ تُصَدِّقُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ؟! يَعْنِي: يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ) انتهى من ابن كثير. ولعل إيراد كلام ابن عباس رضي الله عنهما يرجح أنّ القرين إنسيٌّ، والله أعلم.
ولقد اخترت كلاما لمشاهير أهل التفسير، وبعد النظر فيه، فإنّي أختار أنّ القرينَ المُتَذَكَّرَ، إنسيٌ، لأنّ ذلك أفعلُ في وعظ الناس، لأنّهم يعايشونه. وإلى وقفاتٍ نُبيِّن فيها ما ينبغي بيانه، وإسقاط ما يجب إسقاطه، من معاني وتوجيهات هذه الآية، على حياة الناس، لينتفع المسلمون بذلك.
الوقفة الأولى: ما معنى القرين؟
ولا حاجة للإطالة، وإلى اللجوء إلى قواميس اللغة، فاللفظة متداولة ومعناها واضح. ولكنّ اختلاف المفسرين حول كون القرين، إنسيا، أو جنيا، له ما يبرره. ولننظر في النصوص الآتية:
يقول تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ). قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَإِيَّايَ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ)). رَوَاهُ مُسلم
وَعَنْ عَائِشَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ: (مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟) فَقُلْتُ: وَمَا لِي؟ لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ). قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَمَعِي شَيْطَانٌ؟ قَالَ: (نَعَمْ). قُلْتُ وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ). قُلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: (نَعَمْ وَلَكِنْ رَبِّى أَعَانَنِى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ)). رَوَاهُ مُسلم
وواضح من الآية والأحاديث السابقة أنّ المقصود بالقرينِ المصاحبِ لكل واحدٍ من ولد آدم شيطانٌ كافرٌ! فالآية في ذلك صريحة. ويتأكد ذلك من قول النبي عليه السلام عن قرينه، (إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ). فحملُ بعض المفسرين معنى القرين في آية الصافات، على ما جاء في الآية والأحاديث المذكورة، هو متوجهٌ، لولا أنّ السياق في الآية يأباه، وقد صرح ابن عاشور بذلك، حين قال في تفسيره للآية: (وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْقَرِينَ هُنَا بِالشَّيْطَانِ الَّذِي يُلَازِمُ الْإِنْسَانَ لِإِضْلَالِهِ وَإِغْوَائِهِ. وَطَرِيقُ حِكَايَةِ تَصَدِّي الْقَائِلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِإِخْبَارِ أَهْلِ مَجْلِسِهِ بِحَالِهِ يُبْطِلُ هَذَا التَّفْسِيرَ). وذكرنا كلام ابن عاشور بتمامه قبلا.
وسيكون تعاطينا مع آيات الصافات، إن شاء الله، من منظورِ أنَّ معنى القرين هو الصاحب والصديق من بني البشر. واختلاف المفسرين في ذلك، اختلافُ تنَوُّعٍ، وليس اختلافَ تضادٍّ. قال بعض الشعراء:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه … فكـــــــــــل قريـــــــــــــن بالمـــــــقـــــارن يقـــــــــتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيــارهــم … ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
ولقد أكدت تعاليم الإسلام على أمر الصحبة، ودورها الخطير في الدارين. بمعنى أنّ أثر الصحبة لا يكون فقط في الحياة الدنيا، إنّما يتعدى ذلك ليظهر في الآخرة. وموضوع الآيات التي بين أيدينا من هذا القبيل.
وفي الكتاب الكريم، والسنة النبوية، نصوص كثيرة تتناول موضوع الصحبة نكتفي ببعضها، يقول ربنا: (الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ). ويقول: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا).
ويبين لنا ربنا في آية أخرى، الرغبة الجامحة الحانقة، عند من كفر، في الانتقام العاجل ممن كان سببا في فتنته عن الحق في الدنيا، قبل أن يَلقيا جميعا عذابهما في النار (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ). ويقول: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ).
الوقفة الثانية: لتكن وقفتنا هذه مع تتمة حوار ذلك المُنَعَّم مع أصحابه في الجنة، فبعد أن ذكر لهم أنّه كان له قرين، حدَّثهم بما كان يقوله له ذاك القرين في الدنيا؛ وهو يشككه في أمر الإيمان، ليعيده كافرا مثله (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ). يقولها متسائلاً متعجباً، مبالغةً منه في تشكيك قرينه، وكأنّه يقول له كيف يقبل عقلك هذه الأقوال؟! ثم يدعو المُنعَّمُ من يتحدث معهم من المُنَعَّمين في الجنة إلى أن يُلقوا معه نظرة إلى النار، لعلهم يرون ذلك القرين مع المعذبين وسط جهنم ( قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ). وإذا به يظفر بقرينه وسط النار، فيبادره بالخطاب مع القسم، بأنّه كاد يرديه في الكفر، ويجعله معه معذبا في النار، لولا نعمة ربه عليه، أن أنقذه بالهداية والتثبيت على الحق والإيمان (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).
ثم ينتهي هذا المشهد مع جمع المتسائلين والمتذكِّرين من المُنَعَّمين، من أهل الجنة، بعد أن استعرضوا حالةً من فتنةِ القُرناءِ بعضَهم بعضاً، في الدنيا، ورأوا عياناً، واحداً من هؤلاء القرناء، وهو يُعذَّب في وسط النار! أجل ينتهي المشهد بأن يُذكِّر هذا المتحدث أصحابه من أهل الجنة، مبتهجاً، وبأسلوب الاستفهام الإنكاري، مبالغة في التأكيد، بنعمة الخلود في الجنة، والنجاة من العذاب الذي رأوه بأُمّ ِأعينهم، يوم أطلّوا بأنظارهم على النار (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). وتنتهي الآيات بتقرير ربنا، مُذكِّراً من يقرأ هذا القرآن، بآلاء الله، وحسن ثوابه للمحسنين من عباده (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ).
الوقفة الثالثة: وبعد هذا الاستعراض المؤثر، للحقِّ المبين، ولمشاهدَ مُعبِّرةٍ، ولاشك من مشاهد الآخرة، يعرضها علينا ربنا كأنّها رأي عين، فما نحن قائلون؟ بل ما نحن فاعلون؟
أريد، بعجالة، أن أُسقط هذا المعروضَ علينا من ربنا، إسقاطين على واقعنا المعاش، لعلنا نتعظ ونعتبر!
أقول أولاً: أليس لنا قرناءُ من الآخرين؟ أولسنا للآخرين قرناء؟ ألا نجالسهم طويلا، ونستمع إلى أحاديثهم، فهل ننكر عليهم لو أخطأوا وأساؤوا إلى الدين بتهكم وانتقاد؟ نحرص على المجاملة، ونحرص على أن لا نفسد للأصدقاء جلستهم، ولا نحرص على أمر الدين! ولاسيما أنّ الثقافة الشائعة بين الناس، فيما يخص العلاقات الاجتماعية، الانضباط بقاعدة (الرأي والرأي الآخر) و(عدم مصادرة الآخر). بمعنى أن يحضر السهرات أو الجلسات أو النزهات، كل الأطياف، سواء في محيط الأصدقاء أو الأقرباء، وكلٌ له الحق بأن يبدي رأيه، ويقول كلمته. والكل محترمون، وعلى المائدة المستديرة يجلسون. ولا شيء ممنوع مادام يسمى رأياً، ولو كان هجوما على الدين!
وباختصار فهي الثقافة العصرية التي لا محل فيها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن يريد ذلك فليعتزل تلك المجالس، لأنّه غير مرغوب فيه، وغير مرحب بلقائه. وحتى عند بعض أهل الدين، زعموا، فإنَّ مجالسهم محكومةٌ بما يظنه أولئك المساكين المضللون قاعدةً شرعيةً، وهي ليست كذلك، والقاعدة تقول: (نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه). وكفى تلك القاعدة بطلاناً أنّها تضادُّ شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
وعملاً بتلك الثقافة، وتلك القواعد، تقترب المجتمعات في عالمنا الاسلامي من حافة الانهيار الديني والاجتماعي. فيَلقى الرجلُ الرجلَ ويُنكرُ عليه بعضَ الخلل في دينه، ثم لا يمنعه ذلك من أن يستمر في الالتقاء معه ثانية وثالثة وخامسة، بل وعاشرة، لا لمناصحته، ولكن للسَّمَر، وتزجيةِ الوقت، وتوسعةِ الصدر، ولأنّ ذلك، بزعمهم، من ثقافة الرقي في العلاقات التي تصل بالناس إلى مجتمع الأخوة الإنسانية، والتوجه نحو المجتمع الإسلامي ذو الأفق المفتوح، والأطياف المتعددة!
وتذكرت الآن حديثا ضعيفا سأسرده، لا لأنّي أجيز العمل بالحديث الضعيف، ولكن لأستفيد من الصور الاجتماعية التي يعرضها الحديث، والتي تشابه حالنا اليوم، مع التأكيد على ضعف الحديث، وقد كان شيخنا الألباني يقول: (قد يصح الحديث معنىً، ولا يصح مبنىً). يقول الحديث: (إنّ أول ما دخل النقص في بني إسرائيل أنّه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنّه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض). وما أحسب إلا أنَّ علاقاتنا الاجتماعية اليوم لازالت تسير وفق ذلك النظام الذي كان سائدا في بني إسرائيل…!
ثانياً: ألتفت إلى مسألة أخرى فيما يخص (القرين)، فأقول إنّ تدبر الآية (إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) وهو المعنى الذي حرص الناجي المُنعَّم في الجنة أن يوصله لمن كان صديقاً له في الدنيا، وهو الآن يسام سوءالعذاب في جهنم (إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ). ألا تكفي هذه الصورة الصادقة، التي يقصها علينا ربنا في كتابه الكريم، لوعظنا وتحذيرنا، أن تبصر الآباء والأمهات والمربين، بخطورة الأصدقاء على الأبناء، إلى حد أن يمتد ذلك التأثير إلى المصير الأخروي. ولنتذكر الآية الكريمة الأخرى التي تتمم الصورة وتكملها (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا). فهل نتعلم أن لا نترك أبناءنا يقتنصهم رفاق السوء ليردوهم. ولنحرص أن نتابع أبناءنا إذا خرجوا من البيت، بعين لا تغفل، في أي سرب يطيرون! وفي أي ملعب يلعبون! وماذا يأكلون ويشربون!
ولابد أن أضيف إلى هذه الفكرة، فكرة متممة لها، والتي نستنبطها من قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ). هذا حديثٌ عظيمٌ في دلالته على الدور الكبير والخطير للبيئة الحاضنة للطفل، ومسؤولية تلك البيئة عن انحراف المولود الذي يولد على فطرة الإسلام، إلى دين آخر غير الإسلام، أو لنقل لحرف فطرة الطفل من فطرة الإيمان الذي ولد عليها، إلى الكفر الذي يكتسبه بعد أن يدرج على هذه الأرض. ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل للبيئة الحاضنة بالوالدين، اللذين يكونان أشد التصاقا، وأقوى تأثيرا، من أي جهة أخرى، مع عدم نفي تأثير الأباعد. فكيف لو كانت البيئةُ كلُّها وَبيْئَةً؟! ولْنتذكر دوما قول ربنا (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ). والصورةَ الأخرويةَ التي رسمتها الآيات المرافقة، ففي ذلك ملمحٌ تربويٌ ربانيٌ، لتربية النفس والأجيال. ولْنحمد الله على نعمائه، ولْننتفعْ بما أُنزل إلينا (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
والحمد لله رب العالمين