وتمام الآية: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
عنَّ لي أن أكتب خواطر عن فهم هذه الآية الكريمة وتطبيقاتها، ومن الطبيعي والمعتاد أن تكون البداية مراجعةً لبعض كتب التفسير، للتعرف على ما عند أهل التفسير حول الآية. وأول ما خرجتُ به، أنّهم مجمعون على أنّ كلمة (السِّلْم) في الآية هي بمعنى (الإسلام). ومما جاء في تلك الكتب، مُلخصاً، أنّ لفظة (السِّلْم) فيها لغاتٌ ثلاث: (كسرُ السين، أو فتحُها، وسكونُ اللام أو تحريكها بالفتح)، وتطلق اللفظة عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وعلى السلام الذي هو ضد الحرب. والسياق هو الذي يحدد المعنى المناسب. وَنُسِبَ ذلك إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ فِي قَضِيَّةِ رِدَّةِ قَوْمِهِ:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا … رَأَيْتُهُمُو تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَــــــــــا
فَلَسْــــــتُ مُبَــــــــدِّلًا بِاللَّهِ رَبّـــاً … وَلَا مُسْتَبْدِلًا بِالسِّلْمِ دِينَا
ويلاحظ أنّ كلمة(السِّلْم)، في البيتتين جاءت بمعنى دين الإسلام، مما يتناسب مع السياق والمعنى المراد.
ولم أجد لنفسي مندوحة، عن القول، إنَّ كتب التفسير أوجزت الكلام في تفسير الآية الكريمة، معتمدين على وضوح المعنى. وكانت المفاجأة عندي يوم فتحت (كتاب الظلال)، فوجدت صاحبه، أعني سيِّداً قد أطال النَّفَس في تفسير الآية، وإسقاط معانيها المحتملة، على الحياة الإسلامية، وهي غزيرة، فلم يدَعْ معنى لائقاً إلا جاء به. وقرأت التفسير مرات، معجباً. فانقدح في نفسي أنّ ذلك التفسير يصلح أن يكون معيارا، أو مقياسا أو مسطرة، يجب أن يُقايِسَ المسلم عليها نفسه، ليَعلم هل وفّى تلك الآية الفاذة حقها من التطبيق، في نفسه وأهله، ومجتمعه، وفي كل ما يأتي ويذر، في هذه الحياة؟
ولنركز انتباهنا على أنّ الآية الكريمة صُدِّرتْ بالنداء (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا…). وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا…}، فأرعها سمعك، فإنّه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه).
وبعد أن وقفت على ذلك التفسير، واسعِ الأطياف، رصينِ الحوار، كأنّما يُخاطب الكاتبُ القارئَ بما أمر الله به، ويغريه بالصدع بذلك الأمر، عن طريق عرض النتائج المرجوة، في العاجلة والآجلة، ولا يألو في تجسيد المسؤولية، واستحضار الحِكَم، من وراء ذاك التكليف. فقلت ماذا سأكتب، وقد كُفيتُ! وحدثتني النفس، في أنّني لن أُبريء الذمة، في الكتابة حول هذه الآية، بأكثر من تقديم ذاك النص الرائع،
وطرحه بين أيدي الناس. فلَمْلَمْت أوراقي، وأغلقت ملفاتي، واستجبت! ولكنْ لم يبق بيني وبين أن أفعل، إلا بيانٌ وتبيينٌ، أراهما ضروريين. فأستأذن فيهما من يقرؤني، ليفهمني! ولا تأخُذَنَّهُ الظنون!
كتب لي ذات مرة أحد الصحب، قائلاً: لك موقفٌ معروفٌ، تُصرح به في ما تكتب، وهو أنّك لا ترى (الإسلام السياسي)، أي (التنظيمات الحزبية وما هو في حكمها، والتي تحمل عناوين إسلامية)، أمراً مشروعا في دولة الإسلام. وتكثر باستمرار، من نقد تلك الفصائل في مواقفها. ثم أراك تكثر من النقول من (كتاب الظلال) لسيد قطب، وهو من قادة (الإسلام السياسي)! أليس ذلك تناقضا، أو تضاربا في المواقف؟
فقلت: أمّا أنّي لا أرى الإسلام السياسي ذا موضوع في المجتمعات الإسلامية، فنَعَمْ، وإنّي لأؤكد ذلك. ولكنّي، وإنْ كنتُ لا أقبل تلك الآراء والطروحات التنظيمية والسياسية، وطريقة مقاربتها لأحوال المسلمين، ومشكلاتهم، إلا أنّي لا أضع ذلك حاجزاً بيني وبين الانتفاع، ونفع الناس بما عند سيد من علم أراه نافعا، ولاسيما في التفسير، وفي ظنّي أنّه أجاد في ذلك، مع وجود بعض
التحفظات! وقد أوتي الرجل بصراً وبصيرةً، نافذين بين السطور، وإلى ما وراء السطور. فيُحسنُ التنقيبَ عن معانٍ مهمة، وأفكارٍ ناضجة، قد تكون خافية، وهو يفسر القرآن الحكيم. ويعرض ذلك بأسلوبٍ أدبي رشيقٍ ماتعٍ، وبيانٍ حسنٍ رائعٍ، فالرجل أديبٌ، بلا شك، وما يُنبِّئُك مثل خبير. ولْيُعْلَمْ أنّني لم أنقل أبدا عن سيد قطب أفكاره في السياسة والعمل الإسلامي التنظيمي أبدا، لما ذكر من البداية، من أنّني أرفض ابتداءً (الإسلام السياسي)، فكرا وممارسة، وأرى أنّ تعاليم الإسلام هي الهادية والبديل، وفيها غُنية. وهي أسمى، وأهدى وأصدق وأكبر، من كل ما يأتي به العقل البشري، من أجل قيام دولة الإسلام. وبخاصة، أنّ الإسلام السياسي لم يستطع الانفكاك عن محاكاة الأنظمة السياسية الغربية، وتقليد بعض طرائقها. وأقول بملء فمي، هو عالةٌ عليها. وأقول استباقا لكل مجادل مكابر: إرجع إلى السنوات العشر الماضية، وراجع تصريحات زعامات الإسلام السياسي، من كل الأطياف، بما فيها السلفي، كيف صارت تدعو إلى الديموقراطية الغربية، واحترام صناديق الاقتراع، وكل ما تأتي به.
ومن الخطأ والخطل، أن يطبق الإنسان مبدأ (الكُلِّية) في التعامل مع نتاج العلماء. وأقصد بالكلية، وقد استعرتها، من حديث نبوي، عن ِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى صَبِيًّا حُلِقَ بعضُ شَعْرِهِ، وتُرِكَ بعضُهُ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: (احلقوه كله، أو اتركوه كله)). فمبدأ الكلية غير مُحكَّم في القضايا العلمية! بمعنى أن نعجب برجل فنأخذ عنه كل شيء دون تبصر، أو لا نعجب فنرفض كل شيء، هذا هو المقصود بمبدأ الكلية! أما الصواب، فهو أن نستفيد من عِلم عالم، في ما أجاد فيه، ولا نتابعه على ما جانبه الصواب فيه. ذلك هو البيانُ!
وأما التبيينُ، فلا ينبغي أن يُصَنَّف من استشهد ببعض التفاسير لسيد في الظلال، أنه منجرفٌ مع ذلك التيار! وأحب أن أضرب مثلا للإنصاف، بالشيخ الألباني، فقد سئل مرةً: (هل قلتم مرة أنّ معالم على الطريق هو توحيدٌ، كتبَ بأسلوب عصري؟ فأجاب الشيخ: أنا أقول: إنّ في هذا الكتاب فصلاً قيماً جداً، أظن عنوانه: (لا إله إلا الله منهج حياة) هذا الذي أقوله وقلته آنفاً، والرجل ليس عالماً، لكنَّ له كلماتٍ عليها نور، وفيها علم، مثل (منهج حياة). وأنا أعتقد أنّ كثيراً من إخواننا السلفيين ما تبنوا هذا العنوان ومعناه، وهو أنّ لا إله إلا الله منهج حياة). ويتابع الشيخ في مكان آخر: (ولكنّ الرجل له كتاب العدالة الاجتماعية، وهو لا قيمة له، لكنَّ كتاب معالم على الطريق له بحوث قيمة جداً).
ومما يقوله الشيخ الألباني في سيد قطب أيضا: (على المسلم المتجرد أن يعطي كل ذي حق حقه، الرجل (يعني سيدا) كاتب ومتحمس للإسلام كما يفهم، ومن أراد الرد عليه يرد عليه بهدوء، وهذا لا يعني أن يعاديه. يكفي أنّه مسلم وكاتب إسلامي، وأنّه قتل في سبيل دعوته!). من تفريغ سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني.
والآن إلى ما جاء في تفسير الظلال:
(يهتف بالجماعة المسلمة، باسم الإيمان الذي تعرف به، للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان، مع التحذير من الزلل بعد البيان.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَإِنْ زَلَلْتُمْ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
إنّها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة.
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنّها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنّه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة. وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته. إنّه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية- إنّما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئاً، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب.
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام. كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون. وبين الكون والإنسان، فالله خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصداً، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعاً.
وهو كريم على الله، وهو خليفته في أرضه. والله معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أنّ له أجراً حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات. هي عقيدة جميلة فوق أنّها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط. إنّ الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة. إنّ الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان الله. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع. وما الله يريد ظلماً للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات. بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأنّ الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأنّ غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنّه مخلوق ليعبد الله. من شأنها- ولا شك- أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة.
ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق. فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعداً إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال.
وشعور المؤمن بأنّه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون الله ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه. فهو إنّما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنّه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيراً من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة- آصرة العقيدة- حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان.
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ». والذي يرى صورته في قول النبي الكريم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
هذا المجتمع الذي من آدابه: «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها». «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ». «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ». «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ».
هذا المجتمع الذي من ضماناته: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ».«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا».
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها». و«كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله».
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع الله سبحانه يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ». «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ». «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ، أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ، أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». والذي يخاطب فيه نساء النبي- أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان! وأخيراً إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملاً ورزقاً، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدراً والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهباً والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير.
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنّما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين.
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها لله فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم) ا.هــ
وحين يدخل المسلم في الإسلام بكُلِّيَته، يخرج من أن يكون ممن نعى الله عليهم بقوله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
فلندعُ الله قائلين:
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ).
والحمد لله أولا وآخرا.