توطئة
في غمرة أحداث ما جرى في فرنسا وكل تداعياته، لدى كل الأطراف، ولأنّ الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. وبالنظر الثاقب، وبالمتابعة الدقيقة، يمكن الجزم أنّ كل نتائج الحوادث المشابهة السابقة، والتي يمكن جمعها في ملف (الإساءات إلى الرسول عليه السلام) كانت سلبية مؤذية محرجة، تمخضت عن مزيد من الكيد للإسلام وأهله، دون أدنى إيجابية أو مصلحة. ولا أحب أن أجدني صامتا، وقد كثر المتكلمون، رغم أنّي أدليت بدلوي مرات، ولكن لا بد من تجديد الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وتأكيد الخطأ والخطر، واستعادة الحركة إلى المنحى الصحيح، واستنهاض همم النخب إلى استرداد دورهم، ليذبوا عن الإسلام وأهله بالتأصيل والحكمة.
ولمّا لم يبق في المسألة عندي، جديد يقال، وليس فيما جرى ويجري الآن عنصر جديد..! فقد عمدت إلى موضوع كتبته في (25/ أيلول /2012) تحت العنوان المذكور، أنشره دون تغيير، إلا هذه المقدمة التعريفية الصغيرة، وإلى الموضوع:
في غمرة أحداث ما سمي بأزمة (الإساءة للنبي الكريم) صلى الله عليه وسلم، تُطالع المتابع الفطن، طروحات واجتهادات، وآراء وأفكار يعجز المحصي عن إحصائها، لكثرتها، ولتباينها، وأحياناً لتناقضها. ويُمكن فرزها لتسهيل المناقشة إلى ما هو صادر عن شخصيات، أو مؤسسات علمية رصينة، تصدر عن تأصيل علمي، ورؤية صحيحة للواقع، ومعرفة بفقه المصالح والمفاسد، وإن اختلفت فيما بينها في بعض الاجتهادات. وما هو صادر عن الشارع ومن هم في الشارع وليس لهؤلاء من عدة لمعاركهم إلا العواطف، وليست العواطف المنضبطة بالشرع والعقل والمصلحة، إنّما العواطف الهوجاء التي يكون إفسادها أكثر من إصلاحها لأنّها لا تعرف الإنضباط من أي شكل. ويحضرني بيت من الشعر للشاعر السوري (بدوي الجبل) له صلة بموضوع العواطف، والعواطف ضرب من الهوى يقول:
وبعض الهوى كالنور إن فاض يأتلقْ .. وبعض الهوى كالغيث إن فاض خَرَّبا
وأخطر ما في خروج الشوارع، ليس الخارجين بعاطفة هوجاء، لأنّهم على الأقل، صادقون في دوافع خروجهم. إنّما الأخطر مقتنصو هذه الفرص وتلك المناسبات ليندسوا بين (الصادقين الغوغائيين) بأهداف و(أجندات) أبعد ما تكون عن جو المناسبة، وقد تكون أهدافا تخريبية (تآمرية) بكل ما يعني التخريب.
ويأسف المرء أن يقول: إنّ النوع الثاني استحوذ على ارتياح أكثر المسلمين الذين لا فعل لهم إلا التفاعل مع حراك كهذا، دون معرفة السلبيات التي تطغى على الإيجابيات التي يرونها، هُم ومن يتعاطف معهم. وكي أكون صادقاً وواقعياً فقد رأيت على بعض الشاشات بعضاً من أهل العلم اصطفوا مع هذا الفريق الذي نتحدث الآن عنه، وإلى الله المشتكى. وهذا مؤشر خطير يشي بأنّ الغوغائية والغثائية لا زالت السمة الغالبة في أمة المسلمين اليوم. وإزاء هذا الواقع الخطير والمؤلم، لا بُد لكل كلمة حق أنْ تُعلن، ولكل تصحيح للخطأ أنْ يُبين، ولكل نقد بناء مؤصل أنْ لا يُضن به. ومَن يكتم شيئاً من هذا فقد أخل بواجب النصح الذي جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)، وإنّه آثم قلبه.
فالأمة تسير في منعطفات خطيرة، وكيد أعدائها، سواء في الداخل أو الخارج، في ازدياد لا سيما بعد قيام ثورات الربيع أو التسونامي العربي، على الظلم السائد في المنطقة بكل أشكاله. والذي يخشى أعداء الأمة من انطلاق مارد جديد في المنطقة بعد أن تسترد الشعوب حريتها، والبلاد عافيتها. وعملاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإبراء للذمة أضع هذه النقاط ليتأملها العالمون القادرون على الفعل، ولو بكلمة الحق، في الأمة، ويُصلحوا ما أمكنهم الإصلاح، ويتواصوا بالحق ويتواصوا بالصبر. وما أكتبه رؤى واجتهادات يعتريها النقص البشري، لكنّها لا تخلو من فائدة إنْ شاء الله تسد خلةً ولو بسيطة في المشكلة. وكما يقول كاتب لبناني شهير: (إنّ كرمي على درب فيه العنب وفيه الحصرم، فلا تلمني يا عابر السبيل إن أنت أكلت فضرست).
أولاً: كتبت منذ أيام في الفيسبوك موضوعاً له صلة بما نحن فيه أقتبس بعضا منه:
(إنّ المرجفين الذين صنعوا هذا الفيلم وروجوا له، يعلمون علم اليقين، قبل غيرهم أنّهم لن يسيئوا إلى النبي الذي كفاه الله المستهزئين، ولن يستروا الشمس المشرقة الساطعة بوضع الإبهام أمام العين، لكن حاجة من الكره والحقد في النفس قضوها. أما هدفهم الأول والحقيقي، وقد وصلوا إليه بكل أسف، أن يستفزوا المسلمين غير المنضبطين، ومن يندس بينهم من أصحاب الغايات الشيطانية، ويظهروا غوغائيتهم التي تتناقلها اليوم كل وسائل الإعلام العالمية، ليضحكوا ملء أشداقهم على انتصارهم قائلين للدنيا: هذه أمة لا تستحق العيش في العالم المتحضر! مرة أخرى لقد نجحوا كأفراد لهم من الماضي المخزي العامر بأحط الأعمال، وقد بدأت تنشر فضائحهم، من بني جلدتهم تباعا، وفشلنا، ونحن أمة، في ردة أفعالنا. إنّ حرمات الإسلام وجناب النبي الكريم، وكل المقدسات، لا يجوز أن تكون ألعوبة بيد الرعاع والموتورين ومن يندس معهم، يلعبون بها بغوغائيتهم، كيف شاؤوا).
ثانياً: إنّ هذا الحراك (العاطفي الغوغائي) الذي شهدته الأمة الآن وقبل ذلك في أكثر من مناسبه وما يتضمنه من آثار محرجة للأمة، لبعده عن العلمية والمنهجية (لأنّه حراك جاهل)، وما قد يعطيه من فرص أخطر (لحراك حاقد مخرب) يندس بين صفوفه الهائجة بلا تبصر. أقول: ما كان ليكون ذلك كله لو سبقه، في كل أزمة، بيانات العلماء الربانيين العلمية الواعية التي توجه الشارع في وقت مبكر، وخطابات المؤسسات الدينية الحاضرة دوماً مع قضايا الأمة، وحتى الأحزاب الإسلامية (مع تحفظي على فكرة أن يكون في المسلمين أحزاب) ولكنّها موجودة فلنحملها دوراً ومسؤولية في لجم الشارع.
وأهم فكرة في هذا الشأن، أنْ نسأل أنفسنا ونسأل كل الناس هل لذاك الحراك بكيفيته التي رأيناها من جدوى في معالجة ما جرى؟ أجيب وليخطئني من يريد، وسيكون جوابي اختزالاً لجدوى ما جرى، مُضَمَّنا بمعنى شطر من بيت معروف: إنّا في كل احتجاجاتنا نتطلب في الماء جذوة نار، أو بعبارة نبوية نريد أنْ نجني من الشوك العنب. كيف؟ نريد من العَالم الكافر أنْ يحترم نبينا، حكومات، ومؤسسات وأفراداً! وفاتتنا فكرة بسيطة وهي أنّ الاحترام فرع من الحب، وإنّ الحب فرع من الإيمان، فما النتيجة إذاً؟ الجدوى صفر.
أُبسط المثال فأقول هل يحترم المسلم (كارل ماركس)..؟ سيعترض معترضون فيقولون شبهت النبي محمداً عليه السلام بالكافر الملحد (كارل ماركس)؟ إنّها في نظر المعترضين لَإحدى الكبر. وأُبين لهم أنّ محمداً في نظر أهل الكفر، ككارل ماركس في نظر المسلمين. أنا لا أصدر عن فراغ في ما أقول، إنّ بعض دوائر المعارف الغربية تصف نبينا بأنّه (مُجَدِّف، جاء لتخريب دين عيسى)، والكثرة الكاثرة من مفكري الغرب وساستهم، والكنائس النصرانية، والقائمين عليها والأتباع لها، لهم الموقف نفسه. وأحب أنْ أوضح الفكرة بقصة، على طرافتها إلا أنّها معبرة جداً جداً عما نحن في صدده من بحث. وإليكم القصة الواقعية أُوجزها قدر الإمكان:
طرق بابي ذات يوم في الساعة الخامسة مساء من أوائل صيف 1972 صديق قائلا إن كنت جاهزاً للخروج فورا فبالباب سيارة تنتظر، والمشوار يُعجبك، فخرجت وكان في السيارة أربعة نفر أبرزهم الشيخ الدمشقي السلفي محمود مهدي الإستانبولي رحمه الله ، ولمن لا يعرف الشيخ فهو داعية نشيط، لمنهج العودة إلى الكتاب والسنة، ومحاربة البدع. ومن أعجب أعماله أنّه كان يُعد في كل سنة رسائل في الدعوة إلى الإسلام، ويعهد إلى بعض أصدقائه الذين يجيدون الترجمة فيترجمونها إلى اللغات المناسبة، ثم يرسلها إلى البابا وبعض رؤساء الكنائس العالمية البارزين. ويقول الشيخ لمن يسأله: أُبرىء ذمتي وذمة من يؤيدني من المسلمين أمام الله. لما سألنا الشيخ رحمه الله: إلى أين؟ قال إلى كنيسة في حي الباب الشرقي في دمشق وأنا على موعد مع قس لبناني (نسيت أنا الراوي اسمه الآن)، تابعته من منذ أشهر يكتب في الصحف اللبنانية متحدثاً عن الأخوة والتعاون بين المسلمين والنصارى، ووجوب ذلك على أهل الديانتين في مواجهة الإلحاد الذي يسود العالم، ويملأ كتاباته بالآيات القرآنية التي يشير إلى أرقامها في السور، ثم يكتب نصها ليظهر اطلاعه على القرآن. قال الشيخ: ومنذ أشهر طلبت منه أن ألتقي به فحدد لي موعدَ اليومِ الذي نحن ذاهبون إليه، ثم نبَّه على كل من في السيارة، ألا يتكلم ولا يتدخل، ما لم يأذن الشيخ. وصلنا فاستُقبلنا أحسن استقبال، وأُدخلنا صالة فخمة التأثيث، يتوسطها طاولة كأنّما صنعت أيام الرومان. ثم خرج علينا القس مُرحباً، وهو في العقد الخامس أو دون ذلك بقليل فيما بدا لي، وقد أُوتي بسطة في الجسم ولمّا صافحنا أحسسنا كفه تساوي في أبعادها الثلاثة كف رجلين. وبعد أن تحلقنا حول تلك الطاولة وانتهت مراسم السلام والضيافة، قال القس للشيخ: من يبدأ؟ فقال الشيخ: تفضل. فألقى القس محاضرة مرتجلة، بلسان عربي مبين لم يلحن بكلمة، استغرقت نصف ساعة، لخص كل كتاباته السابقة حول علاقة الديانتين، وأكثر من حشد الآيات يتلوها بترسل مشيراً إلى اسم السورة ورقم الأية. وبعد أنْ انتهى قال للشيخ: تفضل. والشيخ رحمه الله معروف عنه أنّه لا يُقر المجاملة في مثل هذه المحاورات. فقال الشيخ: كل ما تكلمت به لا يعنيني! إنّ الذي يعنيني أن أسألك سؤالاً واحداً تجيبني عنه بصدق وصراحة ووضوح واختصار: ما رأيك بمحمد؟ فأجاب القس على الفور: أعظم شخصية عرفتها البشرية، وأطال في المديح. فأجاب الشيخ: ما عن هذا أسألك! وأعاد عليه السؤال. فبدأ يكيل المدائح للنبي من جديد، قال الشيخ: ما عن هذا أسألك! فأجاب القس وضح ما تريد يا شيخ فقال: هل تعتقد بصلة محمد بالسماء، بمعنى هل هو نبي يوحى إليه؟ فخرج القس عن هدوئه وغضب غضباً شديداً، وضرب بذاك الكف على تلك الطاولة، فكأنّه صوت انفجار لقوة الضربة، وقال، بتشنجٍ: يا شيخ: أجئت لتخرجني عن ديني؟ إذا أقررتُ بنبوة محمد، وأنّه يوحى إليه، لم يعد لي أي مبرر للبقاء على النصرانيةّ! فقال الشيخ: هذا الذي أردت أن أسمعه منك. ثم قال الشيخ لنا: هيا بنا، فخرجنا لواذاً دون وداع، ونحن نخشى أنْ يُمكر بنا، ولكنّ الله سلم.
هذه الحادثة، وأعتذر عن إطالة سردها، ولكنّها مهمة ونافعة، وقمينة بالتدبر والتعلم منها، وجئت بها لتؤكد العبارة الآتية التي سقتها في تضاعيف كلامي وأكررها: (إنّ الاحترام فرع من الحب، والحب فرع من الإيمان). وإن صدر من الجهة الأخرى كلام عن احترام النبي فهو لا يعدو الشفاه، وهو كلام سياسي لتسجيل موقف وتمرير مخطط!
والقصة لم تنته بعد ولها تتمة نافعة. ساقتني الأقدار للعمل في بريدة في السعودية. وفي سنة لا أذكرها الآن تبنت القيادة السعودية آنئذ (مشروع الحوار والتقارب بين الأديان)، وأرسل وفد من العلماء، إلى ليبيا، لحضور مؤتمر، للغاية المذكورة. وكثير من العلماء في المملكة، آنئذٍ، لم يتقبلوا ذلك الأمر بقبول حسن! وراحوا يتناولون الموضوع على المنابر أيام الجمع. وأذكر أنّي صليت في مسجد يخطب فيه أحد الشباب، وكان عميدا لإحدى الكليات، ويحمل تخصص (دكتور) في التاريخ. وأذكر أنّه، جزاه الله خيراً، قد بدأ خطبته بالعبارات الآتية، على ما أذكر: (كيف يجتمع الكفر والإيمان؟ كيف يجتمع الحق والباطل؟ كيف يجتمع الصدق والنفاق؟ كيف؟.. كيف؟.. كيف؟) ثم تابع الحديث، فأغنى الموضوع. وحين انتهت الصلاة سلمنا، وكنت في مجموعة أصدقاء، على الشيخ، فأصرَّ على تناول القهوة في بيته الملاصق للمسجد. واجتمع في المجلس حوالي عشرين شخصاً من أصدقاء الشيخ وجيرانه. ودارت التعليقات حول الخطبة، وأصر علي الشيخ، أنْ أُعلق على خطبته، فخطرت في بالي قصتنا مع الشيخ محمود مهدي الإستانبولي، رحمه الله، فرويتها. فتعجب الحاضرون منها، وقال الخطيب: لو سمعتها قبل الخطبة، لما خطبت إلا بها.
فعلام؟ وإلام؟ هذه الغوغائية وذاك الضجيج والتخريب، بدعوى الثأر لجناب النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأول ما ينبغي فعله، أنْ تُسحب تلك الموضوعات الكبيرة من أيدي الغوغائيين إلى العالِمين الفاهمين. وزبدة الموضوع، في رأيي، أن يَعِيَ المسلمون قبل أي تحرك للدفاع عن نبيهم، القاعدة الإسلامية المعروفة: (ليس بعد الكفر ذنب). وبالتالي، فعليهم أن يتوقعوا من أهل الكفر كل شيء، فلا يُضخموا الأمور، ويضعوها في غير سياقها الصحيح، ولا يفقدوا توازنَهم، فتطيشَ سهامُهم. وعليهم ألا يستخفَّنَّهم الطرف الآخر، إلى معارك لا تعطي، في النهاية، إلا كل ما هو سلبي، وما هي إلا (فورة) ثم ينتهي كل شيء! والمفروض أن يلجؤوا إلى المعالجات الصحيحة، التي يقوم بها أصحاب الشأن، والله يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب للأمة جميعاً (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).
ثالثاً: لقد آن الأوان، لأنْ يتحرك النخب والعلماء في ديار الإسلام، ليسحبوا الأمر من أيدي الجهال الغوغائين، وإنْ كانوا صادقين (عاطفياً)، إلا أنّ إساءتهم ترجح إحسانهم. ولو حدث ذلك ونرجو أنْ يكون قريباً، لتحققت لأمة الإسلام المصالح الآتية:
أ. حين يَسبق التحرك العلمي المؤصل الرصين الهادىء، كل تحرك آخر، يُقطع الطريق على التحرك العاطفي الغوغائي التخريبي الضار. إنّ الحرب على الإسلام أُعلنت من كل دول العالم غير المسلمة، باسم الحرب على الإرهاب، وساعدتهم بعض الدول المسلمة بالتسمية فقط. ولازمُ هذا أنّ كل مسلم عندهم إرهابي مخرب. وبدل أنْ تُبذل كل الجهود من المسلمين لمحو تلك الصورة الخاطئة المفتراة، وإظهار الصورة الحقيقية للإسلام وأتباعه، تأتي هذه الأعمال الغوغائية لتكرس الخطأ، وتؤكد الاتهام.
إنّ مثل هذا الخلل لا يقف عند حد الإساءة المعنوية للإسلام والمسلمين، إنّما يتعداه إلى ما هو أخطر بسب المندسين الذي ينتظرون مثل تلك التحركات ليشاركوا ويحققوا أهدافاً لهم أبعد ما تكون عن المناسبة، بل هي عدائية للمتحركين والدولة التي يعيشون فيها. ونذكر بعض الشرور الذي تتمخض عنها تلك التحركات، للتمثيل لا للحصر:
1. مثل تلك التحركات الغوغائية، تشكل مرتعا خصبا، لزرع بذور الفتنة الطائفية بين المواطنين، وإغراء (النعرات النائمة)، بالخروج إلى السطح، في البلدة الواحدة، وغالباً ما يُتعمد إيقاع قتل ودماء، لتمكين غرس النزاع الطائفي في نفوس كل الفرقاء. وعندها، يخرج ألفُ نافخٍ ينفخ في كير الفتنة، حتى لا تهدأ، وما أكثر من ينتظرون مواسم النفخ وهم ما يسمون بالتسمية القديمة، بالطابور الخامس، والحديثة بالثورة المضادة.
2. إحراج الدول ولا سيما، الدول التي شهدت حراكا، بفعل (الربيع العربي) أمام العالم، فيوشك الناس أنْ يقولوا: بأنّ الإرهابيين بدؤوا يتسللون للإمساك بالحكم، والاتهامات جاهزة، وتكون النتيجة التشويه والتشويش على الذين قاموا ينتصرون من بعد ظلمهم، ويُرمون عن قوس واحدة، على أنّهم إرهابيون، فتدك البيوت بالبراميل على ساكنيها، والعالم يسكت، إقراراً. وأحداث سوريا شاهدة. ويجب أنْ نتذكر نبش القبور في ليبيا وحرق المساجد التي تضمها، وتفجير أماكن اللهو في تونس بمن فيها، إلى ما يجري من مهاجمة الكنائس في مصر، وانتهى المشهد في الاعتداءات على السفارات في كثير من البلدان الإسلامية التي توجت بمقتل السفير الأمريكي في ليبيا. وقتل سفير في العرف السياسي والدبلوماسي العالمي ليس أمراً بسيطاً، تنشب من أجله حروب، وقد حدث ذلك في الماضي.
ب. لقد آن الأوان أيضاً، للخروج بعقول المسلمين، وبعض نُخبهم من تحت تأثير سحر شخصية ابن لادن الأسطورية، رحمه الله، وطروحات القاعدة النارية التي تُهيج وتجيش الناس ضد أمريكا ومن والاها، وتُريد زج أمة الإسلام، وقد فعلوا، في حرب معهم، ولم يُعَدَّ لها من العدة الحقيقية، وهي تربية الأمة على الدين الحق، ومنهج الوحيين، شيء! وحتى لا يقولنَّ قائل، أبعد مصرع الرجل، ينشط الناس في انتقاده؟ أقول، والله يشهد، إنّي وآخرين، من أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، منذ البدايات الأولى للقاعدة، وبعد أحداث 11 سبتمبر، كنا نقول، بفضل الله وتوفيقه، إنّنا لا نشكك في ديانة بن لادن، ولكنّه ضل الطريق، حين وقع تحت تأثير الجهاديين التكفيريين أمثال الظواهري وغيره، ثم وجد نفسه، والله أعلم، في طريق سدت وراءه فيه كل منافذ الرجعة والأوبة. والرجل قَدم إلى ما قدم! لكنّ الفكر الخاطيء، التشنجي، وانتهاء بالداعشي، بقي من بعده. ومَن مِن المسلمين يُعجبه أن ينزل العلم الأمريكي ويرفع على السارية نفسها علم القاعدة.؟ أو يسمع المتظاهرين في الأردن يقولون: (اسمع اسمع يا أوباما، كلنا صرنا مع أسامة)؟ وحرب الإرهاب لا تزال تُشن على المسلمين في كل مكان! ويجب أنْ يفهم كل أحد أنّ رفض فكر القاعدة وتوجهاتهم وممارساتهم يرفضها دين الإسلام، بأدلة كالجبال في ثبوتها ومدلولاتها، قبل أنْ يكون الحديث فيها تطميناً أو إرضاء للغرب، كما يُشيع بعض الغارقين في ذاك الفكر المنحرف.
وكل ذلك الخلل المعيق في واقع الأمة الإسلامية، لا يزول من الطريق إلا عندما يتحدث باسم الأمة، ويتولى الرد على المرجفين والحاقدين، ويُدافع عن حقوق الأمة، الكبراء والعقلاء من أبنائها، ونطبق وصية نبينا صلى الله عليه وسلم: (البركة مع أكابركم)، لا أنْ يتحرك الرعاع، ونُبارك تحركهم ويسميه بعضهم جهاداً!
رابعاً: ما المقصود بالعنوان: (هل الأزمة عندنا أم عندهم؟)؟ سيسأل سائل: إذن نترك أولئك المستهزئين الحاقدين يفعلون ما يُريدون، ونحن ساكتون؟ والجواب: أنْ نتعامل مع المشكلة بشكل أعمق، لنقف على الأسباب الحقيقية لها وليس الأعراض الظاهرية! المشكلة أنّ أمة الإسلام لا زالت، كما قلنا سابقاً، تعيش مرحلة الغوغائية والغثائية التي حدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)). وماذا ستكون نتيجة هذه الغثائية إلا هوان هذه الأمة ودينها ومقدساتها على أهل الأرض، وأن تُصبح الفرص مفتوحة لكل الحاقدين بسبب الهوان، لاستباحة بيضة الأمة، والنيل من مقدساتها، فكم دُنس القرآن في أكثر من مكان، وكم انتشرت الكتابات والرسوم الساخرة، وتقوم الشوارع ولا تقعد، ويشتد الغضب، ويعلو الصياح والضجيج، وتُرتكب أعمال التخريب، ولا يتغير شيء، ثم يسود الهدوء، وكأنّ شيئاً لم يكن بانتظار جولة قادمة، وكرة مُعادة!
ولا يستغربن أحد إذا قلت: إنّ بعض المسلمين يُسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من إساءة أهل الكفر! ولا يُمكن أنْ نتقبل مثل هذه المقولة إلا بشفافية دينية عالية جداً. أليس ارتكاب بدعة، وهجر سنة، من مسلم، إساءة إلى النبي عليه السلام؟ فكيف إذا كان ذلك حال أكثر المسلمين؟ أليس إعراض كثير من المسلمين، وفيهم دعاة وعلماء عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي) وإغفال التركيز على حقيقة الفرقة الناجية، وأنّها واحدة بين اثنتين وسبعين فرقة منحرفة، ومحاولة تضعيف الحديث، واللعب بدلالته إرضاء ومجاملة ودفاعاً عن من فارق منهج (ما أنا عليه وأصحابي) من أهل الفرق، يُشكل أكبر عصيان لرسول الأمة، وأعظم إساءة له؟
وحينما يهون علينا نبينا بترك سنته وهديه، لتخرصات العقل والفلسفة، واتباع الرجال بدل اتباع المعصوم، فهل نريد، ونحن في هذه الوهدة السحيقة، أنْ نُطالب أهل الكفر بما فرط به أهل الإسلام؟ لا تخافوا من الحقيقة المرة، ولا تتهربوا من مواجهتها؟ فذلك أمر يُبقي على الخلل ويجعله في ازدياد!
وحينما ترقى الأمة بالطاعة والاتباع إلى وصف (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) فتنصر بالرعب مسيرة شهر، وتُصبح أمة مهيبة الجانب، يتسابق أهل الأرض لاسترضائها وخطب ودِّها. هذا الذي قصدته بالعنوان (هل الأزمة عندنا أم عندهم؟) فهل أدرك الألِبَّاءُ ما إليه قصدتُ؟ وهل من من مُدَّكِرٍ بعد الذي قلتُ؟ وأستغفر الله إن زللت أو أخطأت، وإن أردت إلا الإصلاح ما استطعت (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
والحمد لله رب العالمين
