Skip to main content

هَلِ الاخْتِلَافُ وَاقِعٌ مَوْجُودٌ؟ أَمْ ثَقَافَةٌ يَجِبُ أَنْ تَسُود؟

By السبت 25 شعبان 1441هـ 18-4-2020ممقالات

سؤال يفرضه على ذهن المسلم القاريء المتابع، ما يُكتب في كثير من المواقع الإسلامية والدوريات، أو ما يُسمع في كثير من الندوات على الفضائيات، أو في ما صار اليوم مادة أساسية تُتداول على أجهزة التواصل الاجتماعي، التي صارت في متناول كل الشرائح الاجتماعية! حتى حق لي ولغيري أن نقول عن هذا الموضوع (الاختلاف) إنّه ماليءُ الدنيا وشاغلُ الناس، وهو حقيقةً ليس كذلك. لكن أُريدَ له ذلك، ليكون غطاءً وتبريراً واستباقاً لتجاوزات شرعية في الفقه والأحكام، صارت من لوازم كثير من البحوث الشرعية.
ابتداءً نسلم لمن يرى الاختلاف أمراً واقعاً، في القديم قبل الحديث، شِئنا أم أبينا، وبتعبير آخر شرعي نقول: إنَّ هذا الاختلاف أمر كوني، وماذا يعني هذا التعبير الذي نقبله؟ إنّه المفهوم من قول الله تبارك وتعالى: في سورة هود: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
إنَّ الناس ماداموا يصدرون عن
عقولهم وأذواقهم وأهوائهم وأفهامهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم فهم مختلفون لا محالة، وسيبقون كذلك، وهذا هو المقصود بالأمر الكوني الذي نستسلم له، ونسلم به. لكن الذي نرفض وجوده، وإن وُجد نسعى إلى تغييره، هو الاختلاف في أمور الدين، وهو ما يسمى بالأمر الشرعي. فالاختلاف في الدين لا نرضاه، ولا يرضاه لنا الله! (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). وقد يعترض معترض، بأنّ الآية تتكلم عن القرآن، وأقول: هذا صحيح، وهل الدين إلا القرآن، وهل القرآن إلا الدين؟ وأوضح أكثر خشيةَ (حذلقةٍ) أخرى، فأسأل هل الدين من عند الله، كما القرآن، أم لا؟

ونرفض ما هو مطروحٌ من بعض النخب، من أنَّ الاختلاف في المسائل الشرعية، ضربةُ لازبٍ، ومن طبائع الأمور، ولا بد منه! ثم ينقلب هذا التقرير إلى دفاعٍ وتبريرٍ لوجود الاختلاف بين المسلمين. وهذا ما أردت التعبير عنه في العنوان، وهو أنّ الاختلاف صار عند بعض أهل الإسلام، بل بعض علمائه، ثقافةً تُعلَّم للناس، ونظريةً شرعيةً تُدرَّس للأجيال. حتى صار يُخَيَّلُ إلى المرء، مما يسمع أحياناً، أنّ الاختلاف أصل لا يقوم عمود الدين إلا به..! وحتى صار يُتصور أنّ كثيرا من الدعاة اليوم يقولون للناس: (عليكم أن تختلفوا، وإن لم تفعلوا فقد خالفتم سنة الله في خلقه، وفرقتم صف المسلمين، وأعْـنَـتُّم الناس، وأعَقْتُم مسيرة الإسلام في الكون). والذي أريده في هذا الطرح الآتي:
أولاً: وقفة متأنية متحررة من شد مسبق، مع آيتي هود السابقتين، تعينُ على فهمٍ موضوعيٍ نافعٍ.
ثانياً: إيضاح أسلوب التعامل الصحيح، مع الاختلاف، بما يوافق النصوص ويطابق هدي السلف.
ثالثاً: التواصي بأسلوب رصين، لإسقاط النتائج، على الواقع، لتغدو تعاطيا صحيحا مع مسألة الاختلاف في حياة الناس الدينية.
رابعاً: التخلص من مقولات علقت بالأذهان، وتسللت إلى أقوال بعض العلماء، حتى في القديم، وحملتها ولا زالت تحملها إلينا بعض الكتب. ولم تكن إلا إفرازات للمذهبية، وتبريرات لمجانبة النصوص. وكذلك ضرورة التخلص من الاستدلال المتعسف، ببعض النصوص الصحيحة، لصالح الاختلاف، بحرف دلالاتها.

وإلى التفصيل:
أولاً: وقفة متأنية متحررة من شد مسبق مع آيتي هود السابقتين، تعين على فهمٍ موضوعيٍ نافعٍ
إنّ أبسط تفسير لآيتي هود، بعيداً عن تعقيدات وتأويلات من أرادوا توظيف الآيات لصالح الاختلاف هو ما يلي ملخصا في نقاط ثلاثة:
1. إنّ الله لم يشأ أن يتدخل في اختيار الناس، فيصبغهم بصبغة واحدة فيما يتعلق بالاختيار بين الكفر والإيمان، لأنّ مناط حسابهم يوم القيامة هو ذاك الاختيار، الذي عبرت عنه آية الكهف بالمشيئة المثبتة للعبد، والتي أذن بها الله تحت مشيئته (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
وتأتي آيات التكوير بزيادة بيان: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
2. إنّ الأمر الكوني في حق الناس أن يختلفوا ما داموا يصدرون عن عقولهم وأذواقهم وأهوائهم وأفهامهم وثقافاتهم ولا مشكلة في ذلك، أما حينما يتصل الأمر بالدين فلا يجوز أن يصدروا إلا عن أمر واحد جامع وهو طاعة ربهم باتباع الوحيين واتباع النبي صلى الله عليه وسلم. ويغدو أي صدور مخالف لهذه القاعدة ميلاً عن جادة الصواب، وانحرافاً عن سبيل الله. وهذا ما جاء التعبير عنه في آية (هود) بالاستثناء في الآية (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ). فالمرحومون من الاختلاف المهلك، هم التاركون لكل منزع غير اتباع الوحي. وبذلك ولذلك رُحموا، وليس بالاختلاف.
3. (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) وقد تاه من تاه في هذه العبارة، حين فهم أنّ الله خلق الناس للاختلاف، والصحيح أنّ الله خلق الناس للاهتداء بالوحي المنزل وليس للاختلاف فيه..! خلقهم ليرحمهم باتباع ما أُنزِلَ عليهم ومن أُرسل إليهم، وليس ليعذبهم بالاختلاف فيه..! ولا بأس أن نقول، مكررين، إنّه خلقهم للاختلاف في كل شأن غير الدين، لاختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين عقولهم، وتضارب أهوائهم، وثقافاتهم. وهم في ذلك غير ملومين.
ولا أستطيع أن أخفي دهشتي من موقف علماء، في القديم والحديث، فهموا من الآية عدم التثريب على المختلفين في الدين..! وصاروا يحتجون بالآية في وجه كل من يحذر من الاختلاف في الدين، وينكر التمادي فيه!

ثانياً: إيضاح أسلوب التعامل الصحيح مع الاختلاف بما يوافق النصوص ويطابق هدي السلف
ولا بد ابتداء من الاتفاق على تقسيم الاختلاف إلى معتبر وغير معتبر كما جاء عن بعض السلف:

وليس كل خلاف جاء معتبراً … إلا خلافا له حظ من النظر

والدخول في تمييز الخلاف المعتبر، عن غير المعتبر، بحثٌ يطول لا يحتمله هذا الطرح، ولكنّي سأختصره في عنوانين مبيِّنَيْن، لأستطيع استكمال البحث دون وجود انقطاع. أقول:
كل اختلاف قائم على ترك العمل بالنص رغبة عنه إلى العقل، أو النظر، أو الواقع، أو التقليد، أو التمذهب، أو المجاملة، أو التيسير أو، أو، أو، هو اختلاف مرفوض لا اعتبار له، موزورٌ من تلبَّسَ به، أو دعا إليه، أو دافع عنه.
وقد يتدخل في هذا التعريف طبيعة الدليل، فحين يكون النص صحيحاً صريحا، فلا يقبل معه بحال أي اختلاف، لا في منطوقه ولا في مفهومه.
أما اختلافٌ منشؤه التباين في فهم النص، دون إبعاد النجعة عن روحه، وعن فهم السلف له، وعدم التعسف اللغوي، ولي أعناق النصوص، مع استبقاء واستحضار قدسية النص، فذاك هو الاختلاف المعتبر.
وقد يتدخل، مرة أخرى، في هذا التعريف طبيعة الدليل، فحين يكون النص صحيحاً غير صريح، يُعطي الفرصة للاجتهاد، وبالتالي للاختلاف المعتبر، وتعدد الفهم.

وأختم الفقرة بالتمثيل زيادة في الإيضاح، فأمثل للخلاف غير المعتبر فأقول: سفر المرأة دون محرم أو مع الصحبة المأمونة، اختلاف غير معتبر، لأنّه إهدار للنص الصحيح الصريح وإعمال للنظر العقلي مع وجود النص. ولو قال به الشافعية وأكثر العلماء المعاصرين..!
وإخراج زكاة الفطر مالاً عدولاً عن الطعام اختلاف غير معتبر، لأنّه إهدار للنص الصحيح الصريح، وإعمال للنظر العقلي مع وجود النص، وإن قال به الأحناف، وعمل به عمر بن عبد العزيز..! وتابعه بعض المعاصرين.
وأمثل للمعتبر فأقول: اختلاف العلماء في القديم والحديث على جواز صيام الست من شوال، لمن أفطر أياما من رمضان، ولمَّا يقض دينه بعد، فليس في المسألة نص قاطع للنزاع إنّما هي استنباطات من عمومات، وأقيسة انقدحت في ذهن كل فريق، فلا تثريب على المختلفين، وإن كان لكل أحد من أهل العلم أن يغلب اجتهاداً على اجتهاد ويعمل به، دون أن يعتبر منْ عملَ بالاجتهاد الآخر مخطئاً شرعاً، وإن كان يخطئه عقلاً واستنباطاً. وهذا ما يعبر عنه بعض العلماء بقولهم (ما اجتهاد بأولى من اجتهاد).
وأعزز بمثال آخر فأقول: يدخل رجل المسجد لأداء صلاة المغرب قبل الأذان، فلو جلس ينتظر الصلاة قال له من بجواره لمَ لم تصل ركعتي تحية المسجد قبل أن تجلس؟ ولو وقف يصلي فورا قبل الجلوس لجذبه مجاور آخر قائلاً إجلس فلا تجوز الصلاة في هذا الوقت لأنّه وقت نهي. فالأول يرى تحية المسجد ليست تطوعاً وإنّما هي صلاة ذات سبب خاص، يفوت بالجلوس ولا يشملها النهي المذكور، فلا بد من أدائها حتى لا يُخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بركعتي التحية، وقد يرى وجوبها. وأما الثاني فيرى النهي عن التطوع بعد العصر، ويرى العموم في هذا النهي عن كل صلاة، دون التفريق بين تطوعٍ عام، وصلاةٍ ذات سبب.
ولتأكيد المسألة، أعيد المقولة المذكورة في المثال الأول فليس في المسألة نص قاطع للنزاع إنّما هي استنباطات من عمومات، وأقيسة انقدحت في ذهن كل فريق، فلا تثريب على المختلفين، وإن كان لكل أحد من أهل العلم أن يغلب اجتهادا على اجتهاد، بحسب ما يرى، ويعمل به، دون أن يعتبر من عمل بالاجتهاد الآخر مخطئاً شرعاً، وإن كان يخطئه عقلا واستنباطاً. وهذا ما يعبر عنه بعض العلماء بقولهم (ما اجتهاد بأولى من اجتهاد).

ثالثاً: التواصي بأسلوب رصين لإسقاط النتائج على الواقع، لتغدو تعاطيا صحيحا مع مسألة الاختلاف في حياة الناس الدينية
لقد سلمنا في العنوان، وفي أكثر من مكان في تضاعيف الكلام، أنّ الاختلاف في الدين أمر وقع في الأمة، قديماً وحديثاً، وإن كان الحديث امتداداً للقديم، وقد تحول بتقادم الزمن، وطول الإلف، وكثرة المساس، مع غياب النظرة الصحيحة إلى ظاهرةٍ طبيعيةٍ بل شرعيةٍ، وحقيقةٍ لا تقبل المناقشة، وهنا مركز المشكلة.
وحتى لا أتهم قامات عالية من علماء الأمة بتجاهل ذاك الخطأ والخطر، أقول إنّهم لم يتجاهلوه لكنّهم قبلوه بل دافعوا عنه يوم قبلوا فكرة المذهبية والتعددية، واقتنعوا أنّها رحمة. وأعظم البراهين على وقوع الاختلاف وجود المذاهب الأربعة التي لا تتفق في بعض المسائل، وهي ليست بالقليلة. وهل ذاك إلا اختلافٌ في الدين؟ لكنَّ هيبة الأئمة، واستسلام كثير من أهل العلم لهذه الظاهرة الواضحة من الاختلاف، جعلهم يعتبرونها دليلاً على شرعية الاختلاف، فحولوها من ظاهرة تنتظر الدليل على صحتها وشرعيتها، إلى دليل يُسكت كل معترض. وكان الأولى الاعتراف على أنّها اختلاف، والبحث عن أسلوب التعامل مع تلك الظاهرة التي تأباها روح الإسلام.
إنّ استبعاد التعصب المذهبي، وكل ما يتصل به من أقوال، من مثل ما قاله صاحب جوهرة التوحيد:

فواجب تقليد حبرٍ منهم … كذا حكى القوم بلفظ يفهم

وقول البوصيري في بردته:

وكلهم عن رسول الله ملتمس … غرفا من البحر أو رشفا من الديم

وسياق الأبيات وتسلسلها عند البوصيري يقضي بأنّ جميع الرسل التمسوا من محمد عليه السلام علومهم بمقادير متفاوتة (وهو ولا شك خطأ عقدي) وإن جاء في بردة البوصيري، التي صيرها أهل البدع أذكارا تنشد في المساجد. لكنّ بعضهم خفف من غلوائه فاعتبر الأئمة الأربعة هم المعنيين بالبيت المذكور.
وسلوك مسلك الانصاف، يجعلنا نقول في الأئمة واختلافهم، ما قاله مالكٌ رحمه الله في الصحابة واختلافهم: (قال ابن القاسم: سمعت مالكاً وليثاً يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس: { فيه توسعة } ليس كذلك، إنّما هو خطأ وصواب.
وعن ابن وهب سئل مالك عمن أخذ بحديثين مختلفين حدثه بهما ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة قال لا والله حتى يصيب الحق، وما الحق إلا في واحد، قولان مختلفان يكونان صوابا..؟ ما الحق وما الصواب إلا في واحد
).

ولم ينصف الأئمة الأربعة أحدٌ مثل ابن تيمية، في تلك الرسالة الجامعة، بشكل لم يسبق إليه، فكان موقفه وسطاً بين غلو المغالين، وإهدار أقدار أولئك الأئمة العاملين. تلك هي (رفع الملام عن الأئمة الأعلام). وقد أخطأ بعض أهل العلم في فهمهم مراد ابن تيمية من الرسالة، حين فهموها دفاعا عن فكرة الاختلاف في الأحكام! في حين أنّ ابن تيمية قد قصد تبرير اختلاف الأئمة مقارنةً مع ما كان بين أيديهم من معطيات! وعبارة (رفع العلام) تعني الإعذار، وعدم المسؤولية، وليس الموافقة والمتابعة!

وحيث يقع الاختلاف بين المسلمين علمنا ربنا تبارك وتعالى في محكم تنزيله، رحمة بنا، وحتى لا يُشرّق الاختلاف بنا ويغرب، كيف نتدارك أنفسنا ونعالجه:
. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
من الملاحظ أنّ الآيتين تبدآن بالأمر بطاعة الله ورسوله، فهما الأصل الذي يجب أن يكون عليه كل مسلم، وهو الأصل الذي يعصم من الاختلاف والتنازع. وجاء في الآية الأولى النهي عن التنازع بعد الأمر بالطاعة لله ورسوله، ليكون الاستنتاج الصحيح والوحيد أنّ ترك الطاعة لهما يفضي إلى التنازع. ثم بصرتنا الآية بالفعل الذي يفعله التنازع في المسلمين والذي غفل عنه الكثيرون، أو استهانوا به، مع أنّ واقع المسلمين، اليوم، أكبرُ شاهد عليه، فشل وذهاب ريح. وماذا بعد ذلك إلا أن يُتودع من أمة الإسلام..؟
أما الآية الثانية ففيها التوجيه العظيم، والقاعدة المنجية، وهي رد التنازع إلى الله ورسوله، ولقد أضاع المسلمون هذا الكنز، وهو بين أيديهم، حين أذهلهم عنه، وحال دون انتفاعهم به، استبدال القواعد العقلية البشرية بالقواعد الربانية. ولنا مع الآية الكريمة وقفات:
1. لو صدر المسلمون في كل شأن عن طاعة الله ورسوله لما كان بينهم تنازع، لأنّ طاعة الله ورسوله تستبعد الهوى، وهل يلدُ الهوى إلا التنازعَ..؟
2. جاء الشرط في قوله تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) بـــ (إنْ) ومن معاني (إنْ) تقليل احتمال وقوع الشرط لمخالفته الأصل، كما في قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) فهل الأصل في المؤمنين الاقتتال..؟ ولماذا وعلام يقتتل المؤمنون..؟ ونكرر هذه الأسئلة مع موضوعنا الذي بين أيدينا، هل الأصل أن يختلف المسلمون..؟ ولماذا وعلام يختلف المسلمون..؟ أليسوا يتلقون من مصدر واحد..؟
3. قوله تعالى: (فِي شَيْءٍ) وشيء نكرة في سياق الشرط تعني العموم، فما من شيء قد يختلف عليه بين المسلمين إلا وسيجدون له حلا في الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه.
4. برغم كل ما قيل، فقد وقع التنازع والاختلاف، فما العمل؟ أمرنا ربنا تبارك وتعالى بالعودة إلى ما قبل التنازع، وترك الوضع الشاذ غير اللائق بالمسلمين، بالعودة إلى الأصل، إلى الاحتكام إلى الكتاب والسنة. وما أمرنا ربنا تبارك وتعالى برد التنازع إلى كتابه وسنة نبيه إلا ليتلاشى التنازع ويذوب الخلاف، وينحسم الشقاق، فما بالنا لا نفعل..؟!
إنّنا حين نكرس أمر الاختلاف، ونقلل من خطورته في حياة المسلمين، بل ونسبغ عليه الشرعية، كأنّنا نقول بفعالنا ولو سكتت ألسنتنا: يارب أمرتنا برد التنازع إلى الكتاب والسنة فلم ينته التنازع ولم ينحسم الاختلاف..! فمن نصدق، ومن نتهم، ومن نكذب..؟
5. إنّ رد التنازع إلى الله ورسوله ليس اختياريا، إنّما هو واجب شرعي متعين ومتحتم (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) والمفهوم المخالف في الآية، وهو معتبر، يقضي بأنّ من لا يرد التنازع إلى الله ورسوله، ليس مؤمنا بالله واليوم الآخر. أما النتيجة التي رتبها الله تبارك وتعالى على طاعته في رد التنازع إلى الكتاب والسنة فهي دنيوية عبر عنها بالخيرية (ذَلِكَ خَيْرٌ) وهل من خيرية أعظم من أن يوقى المسلمون الفشل وذهاب الريح..؟ وأخروية وهي حسن المآل (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) وهل يكون حسن المآل إلا في رضا الرحمن، وفي جنة عرضها السموات والأرض..؟

أما النصوص غير الصحيحة، والتي انتشرت، حتى إنّ الإنسان ليقرؤها أو يسمعها في نتاج بعض العلماء، وعلى رأسها:
1. الحديث الموضوع (أصحابي كالنجوم بأيهم أخذتم اهتديتم) ذكره الألباني في الضعيفة تحت رقم (58) ووصفه بأنّه (موضوع).
2. ومثله (اختلاف أمتي رحمة) ذكره الألباني في الضعيفة، وقال عنه (لا أصل له) وأضاف: (ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا).
3. (من قلد عالما لقي الله سالما) ذكره الألباني في الضعيفة تحت رقم (551) وقال: (لا أصل له).
وأما المقولات، فتناقلُ الكتب لعبارةٍ تنسب إلى الإمام أحمد رحمه الله وهي: (كتب رجلٌ كتاباً وجاء به إلى الإمام أحمد أحمد رحمه الله وقال كتاب سميته “كتاب الخلاف”؛ قال لاتسمه (كتاب الخلاف) بل سمه “كتاب السعة)؛ عبارة لم يُدقَّقْ في صحة سندها، وصحة نسبتها إلى الإمام أحمد، حتى تصبح أصلا في تسويغ الاختلاف، وضرورة تقبله في حياة المسلمين. ومثل ذلك ما يقال عن الصحابة: (إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة).
وكذلك القول المنسوب إلى عمر بن عبد العزيز يقول: (ما يسرني أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنّهم اذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان فى الأمر سعة).
وكما أسلفت، فمثل تلك الأقوال تحتاج إلى التثبت من صحتها أولا، والأهم من ذلك معرفة المناسبة التي قيلت فيها، فإنّه من المحتمل أن يكون المنسوب لهم الكلام قد قالوه في حالات من الاختلاف المعتبر، الذي عرضت عليهم، فلم يرفضوها. أما أن تؤخذ وتنشر ويستشهد بها دون تبصر، لشرعية الاختلاف بشكل عام، وعلى أوسع نطاق، فلا، لأنّها تعارض نصوصاً أقوى وأثبت منها بكثير في ذم الاختلاف، ذكرنا بعضها. ولا سيما أنّ الرجال المنسوبة إليهم تلك الأقوال نقل عنهم ما يعارضها، مثال ذلك ما نقل عن الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه أنّ الإمام أحمد قال: (إذا اختلفت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل بأحد الحديثين وأخذ آخر بحديث آخر ضده فالحق عند الله في واحد وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ).
وقد قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن الإمام أحمد رحمه الله: (فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر ولا خلافه في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك ولا خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ).
كل تلك النصوص تجري من واد واحد، وهو (أنّ الحق لا يتعدد). وتغيب هذه الحقيقة، بل القاعدة الشرعية العظيمة في مدلولها عن بعض أهل العلم، لغياب مصدرها العظيم التي استنبطت منه وهي آية وحديث. أما الآية فقوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فالسبيل إلى الله واحدة لا تقبل التعددية، وهي معرفة بالإضافة إلى الله تبارك وتعالى إضافة تشريف (صِرَاطِي). وحين تتعدد السبل فهي المنطقة المحرمة التي نهانا ربنا عن الولوج فيها (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ). إنّها بداية مفارقة سبيل الله للتشتت والضياع في سبل لا يُدرى أين تنتهي، وما هي النتيجة؟ (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وأي خير يرجى، وأي فلاح يؤمل، من سير خارج سبيل الله..؟
ويأتي الحديث الصحيح ليبين معنى الآية بتمثيل يقطع كل تأويل، وما ذاك إلا لأهمية وخطورة الفكرة التي تحملها الآية الكريمة. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ). ثمَّ قَرَأَ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)).
كل سبيل غير سبيل الله محل شك واتهام، والداعي إليه، والسائر عليه، شيطان، كائنا من كان..! فهل يقال بعد هذا (الحق يتعدد
)..؟ ونبي الأمة صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل أحيانا بهذا الدعاء العظيم في شأنه، العجيب في أسلوبه: (اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
)
.

والنكتة التي يجب تأملها ملياً في الحديث قوله: (اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ) إنّ اختلاف الناس في غير الحق كاختلافهم في الفهوم والميول وما يحبون وما يكرهون من متاع الدنيا لا يشكل أدنى خطورة في حياتهم، لكنّ الطامة الكبرى، والحالقة هي اختلافهم فيما لا ينبغي الاختلاف فيه، وهو الحق المنزل من فوق سبع سماوات، فيغدو عندئذ الدين غير الدين، وليس كله لله كما قال ربنا: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
وأي خير يرجى في هذه الحياة إذا وقع ذلك المحذور الكبير، ووقع الاختلاف في الحق والدين. لتقريب الفكرة من الأذهان، أطرح التساؤل الآتي: هل رأيتم قوما يختلفون في هل الشمس تشرق من المشرق أم من المغرب..؟ وما موقف الناس جميعا من أولئك المختلفين…؟ الإجابات معروفة، والمناقشة؛ هل حقيقةُ أنّ الشمس تشرق من المشرق أقوى في ثبوتها وفي تسليم الناس بها ولها من الحق المنزل من فوق سبع سماوات..؟ حتى يُستهجن اختلاف الناس في الأولى، ويُرى رحمة في الثانية..!
ولمَ هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم إن كان الله تبارك وتعالى يتعبدنا بحقٍ متعددٍ، ويقبل أن نسلك إليه طرقا متنوعة! كما يزعم الصوفيون (الطرق إلى الخالق بعدد انفاس الخلائق) زعموا… إنّ المسلمين حينما يرضون الخروج عن سبيل الله تتخطفهم السبل وتتقطع بهم، وتتحكم فيهم المصالح والأهواء فتفرقهم أيدي سبأ عندئذ لا يفكرون إلا بالتبرير والدفاع عن الواقع. يقول ابن تيمية رحمه الله في فتاويه:
(وأما قول القائل: كلٌ يعمل في دينه الذي يشتهي، فهي كلمة عظيمة يجب أن يُستتاب منها، وإلا عوقب، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون ما يشتهيه أو يهواه).
ويوضح هذه القاعدة (الحق لا يتعدد) بجلاء ويعزز مدلولها، من أجل صحة تطبيقها، إمام الأندلس الشاطبي رحمه الله بكلام نفيس في الموافقات، هذا بعضه:
(الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف كما أنّها في أصولها كذلك ولا يصلح فيها غير ذلك والدليل عليه أمور:
أحدها أدلة القرآن من ذلك قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فنفى أن يقع فيه الاختلاف ألبتة ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال وفي القرآن فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف فإنّه رد المتنازعين إلى الشريعة وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع وهذا باطل وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات الآية والبينات هي الشريعة فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله ألبتة لما قيل لهم من بعد كذا ولكان لهم فيها أبلغ العذر وهذا غير صحيح . فالشريعة لا اختلاف فيها وقال تعالى وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعو ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فبين أن طريق الحق واحد وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها
).

ومن النقد الذاتي البناء، ومن الخروج من الوهم الخادع المريح، إلى مواجهة الحقيقة المرة، يتعين أن نقول إنّ بعض ما في كتب الفقه، وتعامل أكثر العلماء معه بقدسية أو ببعض قدسية، أسهم إسهاماً كبيراً في صنع الواقع غير المرضي اليوم. وللتمثيل أقول: إنّنا لا زلنا ندرس وندرس شبابنا أنّ في تعيين الصلاة الوسطى ستة عشر قولا، وقد جاء الحديث الصحيح ليقطع النزاع ويقول إنّها صلاة العصر..! ونقول الشيء نفسه في تحديد ساعة الإجابة يوم الجمعة وقد جاء في النيل نقلا عن الفتح أنّ الأقوال فيها تزيد عن الخمسين..! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْم الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ). والأعجب من ذلك ما نراه في بعض كتب الفقه حول مفسدات الصوم، ومعلومٌ أنّ العبادة التي تثبت بيقين (وهو النص من الوحيين) لا يجوز إبطالها إلا بيقين مثله. ومفسدات الصوم المعززة بالأدلة الصحيحة هي الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والحيض
والنفاس للنساء، فكيف وصلت في بعض كتب الفقه المعتمدة إلى ما يزيد عن سبعين مفطراً..؟ وكيف غطيت كلها بأدلة من الوحيين..؟ وقد يقول قائل إنّها استنبطت بالقياس، نقول الراجح أنّ لا قياس في العبادات.

وبعد، فحديث الاختلاف طويل الذيل، وذو شجون، فلا بد من الاختصار. ولعل في ما حرر، بتوفيق الله، غنيةً وكفايةً، لمن نبذ الهوى والتعلق بأسبابِه، ولمن راجع حسابه، وعاد إلى صوابِه، ولم يجعل بينه وبين الوحيين، سدّاً، فخالف ما أنزل الله، وهدي نبيه عمداً.

والحمد لله رب العالمين