العنوان حديث نبوي، وأي خير يتأتى من كلام عنوانه من الكلم الطيب، الذي شرُف وعظُم بخروجه من بين شفتي نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام؟! وجاءت رواية أخرى تعبر عن ذلك الخُلُقِ العظيم بأسوبٍ عربيٍ آخر، فيه الحصر (الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ)! ولا غرو بعد هذا أن نقول: إنّ الحياءَ لفظةٌ واسعٌ طيفُ معانيها، متعددةٌ الموضوعاتُ التي تُذكرُ فيها، باهرةٌ ورائعةٌ نتائج التزام الناس لها. فما أحراها ببحثٍ وعرضٍ وتذكيرٍ بها.
ولما كان موضوع الحياء له مداخل عدة، كما أسلفت. فسأختار مقاربته من طريق الدين. وأجمعُ ما قيلَ مما استوعب كل مضامين كلمة الحياء، ذلك الحديث العظيم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ). فكأنّ المعنى الجامع المانع أنَّ من امتلك الحياءَ فقد أخذَ بناصيةِ كلِّ خيرٍ وفضلٍ.
والحياءُ خلقُ الإسلام كما جاء في الحديث الصحيح (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ). ولقد كان نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام أشد الناس حياءً، كما روى أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وللحياء ارتباطٌ عضويٌ مع دين الإسلام. يؤكد ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: (الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ). وللتلازمِ بين الإيمانِ والحياءِ من القوة، إلى حد رفعِ أحدِهما إذا ارتفع الآخر، ولنقرأ قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (إنّ الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر).
فمن اختار له الإسلامَ ديناً، وسلك التديُّنَ طريقاً، وجبَ أن يكون الحياءُ ملءَ بُرديه، وإلا فهو مدعٍ في تدينه، حصر نفسه في الواجبات الشعائرية، ونسي ما سواها. فمن لم يُؤتَ حياءً مُتجذراً في نفسه، مع أصول تدينه، فحياؤه زائفٌ، مصلحيٌ. ومن ذلك، فلْنتعلمْ أن لا نتوسم الحياء إلا عند أهل الدين، فعندهم مَعْدِنُ الحياءِ، وأرومَتُهُ. ومن الأحاديث النبوية التي تؤكد هذا التوجه ما جاء عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِى الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ)). وكأنّ الرجل الناصح يرى حياء صاحبه يُفوِّت عليه فرصاً ومصالح، ويريد منه الإقلال من الحياء، فيكون الجواب النبوي (دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ). ولن يكون الحياء حائلاً دونَ نَيْلِ أيِّ خير!
ومادام الحياء يتبوَّأُ منزلةً عاليةً في دين الإسلام، حتى كان الإيمانُ والحياءُ متلازمَين، كما بيَّن النبي عليه السلام آنفا، فقد حرص النبيُ صلى الله عليه وسلم على تقريب مفهوم الحياء من الله، بتمثيلٍ معروفٍ بين الناس في مجتمعاتهم، حين سأله سائلٌ النصيحةَ، فقال: (أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك). ولَمّا كانت أعرافُ الناس المتأدبين، تقضي أن يستحيي الإنسان من والده، ومن أستاذه وشيخه، ومن كبير أسرته أو قومه، وكذلك عليه أن يستحيي ممن هو أعظم وأقدس من كل أولئك وهو الخالق تبارك وتعالى. والحياء خلقٌ، وليس موقفاً. والخلقُ لا يقبل التَّصَنُّعَ والتَّكَلُّفَ، بينما المواقف تقبل ذلك. يقول المتنبي:
لِأنّ حِلْمَــــكَ حِلْـــــــــــمٌ لا تَكَلَّفُهُ … ليسَ التكحّلُ في العَينَينِ كالكَحَل
وأخطأ كثيرون، وانغرس ذلك في العرف والتقليد، حين صنفوا الحياء على أنّه شعبة من الأخلاق! لا، فالأخلاق عند أهل الإسلام من الدين. أما الأخلاق التي ليست من أصل الدين فلكل تجمع بشري منظومة أخلاقية يدعيها لنفسه، وليس بالضرورة أن تتوافق مع منظومات الآخرين، لأنّها بالأصل من وضع عقول بشرية متخالفة.
ولنتدبر الحديث الآتي، الذي يوافق ما نحن في صدده، أعني الصلة الوثيقة بين الدين والحياء: عن عبد الله بن مسعود قال: (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ: (لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتُ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)).
ونلحظ في أول الحديث أنّ الصحابة ابتدروا نبيهم حين أمرهم بالحياء قائلين إنّهم يفعلونه، حامدين لله على ذلك، لأنّهم فهموا الحياء بعاداتهم وأعرافهم، فهماً، هو مما تواضع عليه الناس أنّه من الأخلاق، على غير ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعاجلهم صلوات الله وسلامه عليه بالتصحيح (لَيْسَ ذَلِكَ) أي ليس الذي تمارسونه من منطلق اجتماعي عرفي، يرضي أهل الأرض..! لأنّ الحياء في المنظور النبوي الإسلامي أرقى من ذلك، وأقوم قيلاً. وبيَّنَ عليه الصلاة والسلام للناس أجلى بيانٍ، الموقعَ الحقيقي للحياء في دين الإسلام، وارتباطه العضوي بتعاليمه. إنّه التزامُ أوامر الله، واجتنابُ نواهيه، في كل ما يصدر عن الإنسان المؤمن، الذي يستحيي من الله حق الحياء، وعدم الانغماس في الفانية التي تشغل بزخرفها عن الباقية. وأكد النبي عليه السلام، في آخر الحديث، ذاك المفهوم الإسلامي الجديد للحياء بقوله: (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ).
ولقد رأيت في كتاب فيض القدير للمناوي، كلاماً جيداً، في شرح الحديث السابق، فأحببت اقتباسه، لفائدة فيه. يقول المناوي: ({استحيوا من الله حق الحياء} بترك الشهوات والنهمات وتحمل المكاره على النفس، حتى تصير مدبوغة، فعندها تطهر الأخلاق وتشرق أنوار الأسماء، في صدر العبد ويقرر، علمه فيعيش غنيا بالله ما عاش.
وقال البيضاوي: ليس حق الحياء من الله ما تحسبونه، بل أن يحفظ نفسه بجميع جوارحه عما لا يرضاه من فعل وقول. وقال سفيان بن عيينة: الحياء أخف التقوى ولا يخاف العبد حتى يستحي، وهل دخل أهل التقوى في التقوى إلا من الحياء؟ (من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس) أي رأسه، (وما وعى) ما جمعه من الحواس الظاهرة والباطنة حتى لا يستعملها إلا فيما يحل. (وليحفظ البطن وما حوى) أي وما جمعه باتصاله من القلب والفرج واليدين والرجلين، فإنّ هذه الأعضاء متصلةٌ بالجوف، فلا يستعمل منها شيئا في معصية الله، فإنّ الله ناظر في الأحوال كلها، إلى العبد لا يوازيه شيء. وعبر في الأول بوعى وفي الثاني بحوى للتفنن.
وقال الطيبي: جعل الرأس وعاء وظرفا لكل ما لا ينبغي من رذائل الأخلاق، كالفم والعين والأذن وما يتصل بها، وأمر أن يصونها. كأنّه قيل كُفَّ عنك لسانَك، فلا تنطق به إلا خيراً. ولعمري إنّه شطر الإنسان قال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ولهذا سيجيء في خبرٍ (من صَمَتَ نجا). ولم يصرح بذكر اللسان ليشمل ما يتعلق بالفم من أكل الحرام والشبهات وكأنّه قيل: وسُدَّ سمعك أيضا عن الإصغاء إلى ما لا يعنيك، من الأباطيل والشواغل. واغضض عينك عن المحرمات والشبهات. ولا تمدن عينيك إلى ما تمتع به الكفار، كيف لا، وهو رائدُ القلب، الذي هو سلطانُ الجسد. ومضغةٌ إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله!
وهنا نكتة، وهي عطف ما وعى على الرأس. فحفظُ الرأسِ مجملاُ، عبارة عن التنزه عن الشرك، فلا يضع رأسه لغير الله ساجداً، ولا يرفعه تكبراً على عبادة الله. وجعلَ البطنَ قُطباً يدور على سرية الأعضاء، من القلب والفرج واليدين والرجلين. وفي عطف وما حوى على البطن، إشارة إلى حفظه من الحرام، والاحتراز من أن يملأ من المباح، وقد تضمن ذلك كله قوله (وليذكر الموت والبلى). لأنّ من ذكر أنّ عظامه تصير باليةً، وأعضاؤُهُ متمزقةً، هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة، وأهمَّه ما يلزمه من طلب الآجلة. وعمل على إجلال الله وتعظيمه. وهذا معنى قوله (ومن أراد الآخرة) أي الفوز بنعيمها (ترك زينة الدنيا) لأنّ الآخرة خلقت لحظوظ الأرواح وقرة عين الإنسان، والدنيا خلقت لمرافق النفوس، وهما ضرتان: إذا أرضيتَ إحداهما أغضبتَ الأخرى. فمن أراد الآخرة وتشبث بالدنيا، كان كمن أراد أن يدخل دار ملك دعاه لضيافته، وعلى عاتقه جيفة. والملك بينه وبين الدار عليه طريقُه، وبين يديه ممرُّه وسلوكه، فكيف يكون حياؤه منه؟ فكذا مريد الآخرة مع تمسكه بالدنيا. فإذا كان هذا حال من أراد الآخرة فكيف بمن أراد من ليس كمثله شيء؟ فمن أراد الله، فليرفضْ جميع ما سواه، استحياءً منه بحيث لا يرى إلا إياه (فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء).
وقال الطيبي: المشارُ إليه بقوله ذلك، جميعُ ما مر. فمن أهمل من ذلك شيئا، لم يخرج من عُهدة الاستحياء. وظهر من هذا أنّ جبلة الإنسان، وخلقته من رأسه إلى قدمه، ظاهره وباطنه، مَعْدِنُ العيب، ومكانُ المخازي، وأنّه تعالى هو العالم بها. فحقُّ الحياء أن يستحيى منه، ويصونها عما يعاب فيها. وأصل ذلك ورأسه، تركُ المرء ما لا يعنيه في الإسلام، وشغلُه بما يعينه عليه. فمن فعل ذلك أورثه الاستحياء من الله. والحياء مراتب: أعلاها الاستحياء من الله تعالى، ظاهرا وباطنا. وهو مقام المراقبة الموصل إلى مقام المشاهدة. قال في المجموع عن الشيخ أبي حامد: يستحب لكل أحد صحيح أو مريض الإكثار من ذكر هذا الحديث بحيث يصير نصب عينيه والمريض أولى) ا.هــ
ونلحظ أنّ الحياء المذكور في الحديث السابق، وشرحه كما عند المناوي، كان يتناول الحياء من الله، بجانبه المعنوي الذي يجب أن يتجلى في التقوى والطاعات والقربات، ويمكن التعبير عنه بمراقبة الله في كل شأن.
وهناك جانب آخر للحياء سوى المعنوي الذي بُحث، وهو مادي بمعنى عملي سلوكي، وقد أخذ من الحديث الصحيح: عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ يَعْلَى: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَال: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ)).
[الْبَرَاز: أي الأرض الفضاء]
ولننظر تعليقا على الحديث، جمعته مما جاء في فيض القدير للمناوي، مع شيء من التصرف والاختصار:
([إنّ الله تعالى حيِيٌّ] أي، بكسر الياء الأولى، كثير الحياء فلا يرد من سأله.
[سِتِّيرٌ] بالكسر والتشديد أي، تارك لحب القبائح، ساتر للعيوب والفضائح، فعيل بمعنى فاعل، أي من شأنه وإرادته حب الستر والصون.
[يحب الحياء] أي من العبد، والمراد الحياء المحمود بدليل حديث، {إنّ الله لا يستحيي من الحق}.
(والستر) من العبد أيضا، لأنّه، كما يقول بعض العلماء: وإنّما كان الله يحب الحياء والستر من العبد لأنّهما خصلتان يفضيان بالعبد إلى ما يريده منه ربه من الاتصاف بموجبات أسماء الله وصفاته، ويقول ابن القيم:(إنّ أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها، وأبغضهم إليه من اتصف بضدها، ولهذا يبغض الكفور والظالم والجاهل والقاسي القلب، والبخيل والجبان والمهين واللئيم، وهو سبحانه جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين ، محسن يحب المحسنين، ستير يحب أهل الستر.
[فإذا اغتسل أحدكم فليستتر] أي يستر عورته، عن أن يراها أحد، وجوبا إن كان بحضرته من يحرم النظر إلى عورته. أما إذا كان خاليا فلا يجب ذلك).
ومما يستفاد من هذا الحديث وغيره، أنّ الساتر والستار، ليسا من أسماء الله الحسنى، فأسماؤه جل وعلا، توقيفية، والذي جاءنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو(السِتِّير) (بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مُهْمَلَةٍ. قَالَ فِي النِّهَايَة: فَعِيلَ بِمَعْنَى فَاعِل). كما يقول الشوكاني
ومنَ الحياء والستر، ما يجب أن يكون في مظهر كل مسلم ومسلمة، واللباس أصل في ذلك الباب. يقول الله تبارك وتعالى: (يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). والمقصود باللباس والريش، كما في التحرير والتنوير: (يَسَّرْنَا لَكُمْ لِبَاسًا يَسْتُرُكُمْ، وَلِبَاسًا تَتَزَيَّنُونَ بِهِ).
والمصطلح الفقهي لما ينبغي من اللباس الساتر هو (ستر العورة)، أخذا من الآية السابقة. واستكمالاً للفائدة، ودون الخروج عن سياق (الحياء). سنوجز القول في أحكام ستر العورة، فكأن الكلام في ذلك هو توأم الكلام عن الحياء، ولو طالبني بعضهم بدليل على ذلك، لقلت: فلنطبقِ القاعدة الفقهية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). ومادام الحياء واجباً على المسلمين، فإنّ أحكام ستر العورات واجبةٌ، مثلُه. أوليس السَّتْر، هو لباسَ الحياء؟ وكذلك، فإنّ ترك الستر يخدش الحياء، بل يذهبُ به؟!
ونوجز أحكام ستر العورة بالآتي:
الأصل العام في ستر العورات من بني آدم، بعد الآية المذكورة، آنفا، الحديث النبوي الآتي: (ما بين السرة والركبة عورة). وهذا العموم تُلحق به تفصيلاتٌ جاءت بها نصوصٌ أخرى، وكلها في حق المرأة. فعورة الرجل على الرجل وعلى المرأة هي ما بين السرة والركبة، وليس في ذلك تفصيل آخر. إذن التفصيل سيكون في ما يخص المرأة فإلى ذلك.
أ. عورة المرأة أمام الأجانب.. المرأة كلها عورة أمام الأجانب، إلا وجهها وكفيها، لحديث عَائِشَةَ: (أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَاب رقاق فَأَعْرض عَنهُ وَقَالَ: (يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَنْ يَصْلُحَ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا) وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ). ونستحضر مع هذا الحديث الشروط السبعة لحجاب المرأة المسلمة، التي ذكرها الشيخ الألباني، في كتابه الفريد في بابه (جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة). الذي لا غنى لكل أنثى ووليها عن قراءته وتطبيقه. وقد ذكرها في المقدمة، ص (39). وشرحها شرحا وافيا، ولكنّني أكتفي بسرد العناوين. قال رحمه الله:
الشرط الأول: استيعاب جميع البدن إلا ما استثني.
الشرط الثاني: أن لا يكون زينة في نفسه.
الشرط الثالث: أن يكون صفيقًا لا يشف.
الشرط الرابع: أن يكون فضفاضًا غير ضيق فيصف شيئًا من جسمها.
الشرط الخامس: أن لا يكون مبخرًا مطيبًا.
الشرط السادس: أن لا يشبه لباس الرجل.
الشرط السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات.
ب. عورة المرأة على المرأة.. الأصل في ذلك الحديث الآتي: (ما بين السرة والركبة عورة). وهو توصيف وتحديد من النبي صلى الله عليه وسلم للعورة عند الجنس البشري. ونفهم من ذلك أنّ عورة الرجل على الرجل هي ما بين السرة والركبة، وكذلك عورة المرأة على المرأة هي ما بين السرة والركبة. ولبعض العلماء اجتهاد أنّ عورة المرأة على المرأة، أوسع من عورة الرجل على الرجل. وذلك اعتمادا على حديث (الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ). وهذا اجتهاد منهم بتغليب النص العام، توقياً للفتنة، ولكن اتباع النصوص أولى، فلاشك أنّ حديث (ما بين السرة والركبة عورة) نص في المسألة يقدم على الاجتهاد!
وتتأكد مسألة التماثل بين عورة المرأة على المرأة مع عورة الرجل على الرجل في الحكم، وهي منطوق الحديث السابق، بضميمة حديث صحيح مسلم: َعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي ثوب وَاحِد). والشاهد فيه تحكيم دلالة الاقتران، بمعنى أنّ ذكر عورة النساء فيما بينهن، مع ذكر عورة الرجال فيما بينهم، في نص واحد، وسياق واحد، يعني التماثل في الحكم الشرعي. وأكثر العلماء قديما وحديثا على هذا، ولا أقول ذلك احتجاجا بالكثرة، فإنّي لا أرى الكثرة دليلا في دين الإسلام، ولا أستقوي بها أبدا! وقول ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك) هو دائما نُصب عينَيَّ، لدى أي بحث. وإنَّ الذي ذهبت إليه، هنا، قُوتُه يستمدها من موافقة النصوص الصحيحة الصريحة. والذي قصدت بيانه أنّ الكثرة التقت على النصوص، وهو الذي يجب أن يكون في تحرير المسائل في دين الله.
ولكنْ، في الوقت الذي رجحنا فيه القول السابق، فعلينا أن نضيف إلى تطبيقه هذا الكلام الطيب الذي وجدته في أحد المواقع: (وهذا لا يعني أنّ المرأة تجلس بين النساء كاشفة عن جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، فإنّ هذا لا تفعله إلا المتهتكات المستهترات، أو الفاسقات الماجنات، فلا ينبغي أن يساء فهم قول الفقهاء: (العورة ما بين السرة والركبة)، فإنّ كلامهم ليس فيه أنّ هذا هو لباس المرأة الذي تداوم عليه، وتظهر به بين أخواتها وقريناتها، فإنّ هذا لا يقره عقل، ولا تدعو إليه فطرة، ولا يقبله دين. بل لباسها مع أخواتها وبنات جنسها ينبغي أن يكون ساترا سابغا، يدل على حيائها ووقارها، فلا يبدو منه إلا ما يظهر عند الشغل والخدمة، كالرأس والعنق والذراعين والقدمين).
ج. عورة المرأة أمام محارمها. وأما المرأة أمام محارمها، كالأب والأخ والعم والخال، فهو في الأصل كعورتها أمام النساء ولكن بتحفظ أكبر، بما يتناسب مع الأدب والحياء. ولتقريب الفكرة أقول لو أنّ الأب أو الأخ أو العم، لظرف ما نظروا من المرأة، ما هو خارج حدود السرة والركبة، فإنّ ذلك لا يكون حراما. ولكن هل نتصور أن تجلس المرأة في مجلس مع محارمها، ولا تستر من جسدها إلا ما بين السرة إلى الركبة؟! إنّ ذلك ينافي الحياء والأدب والفطرة والعقل والاحترام. وكل ذلك تتعلمه النساء في كل زمان، مما ورثْنَه مما درج عليه النساء المسلمات على مر العصور، من الحرص على الستر والحياء، مضافا لما جاء في الدين من أحكام العورات.
ملف مستقل فقهي، ولكنّي وجدته لصيقا بملف الحياء وكأنّه توأم له، فرأيت إثباته، ولنتذكر أخيرا هذين الحديثين، وقد مرَّا قبلاً: (الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ). و (إنّ الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر). والحمد لله على ما ألهم وأنعم.
وضروري جدا أن نعقد مقارنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر، فلكم نقل بعض المسلمين الذين خالطوا أهل الغرب، حتى لكأنّهم منهم، أنّ كثيرا من الغربيين يغتسلون عراةً في حماماتهم العامة! ولنذكر أيضا بما ابتلي به بعض المسلمين من العري على الشواطيء، محاكاةً لأهل الكفر!
ولا بد من أن نخص أهل الرياضة بكلام، فإنّ الرجال مأمورون بالستر في لباس الرياضة والسباحة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (الْفَخِذُ عَوْرَةٌ). وقد تساهل صاحب كتاب (فقه السنة) في حكم الفخذ في الكتاب المذكور، وللأهمية والفائدة، أنقل تعقيب الشيخ الألباني على ذلك من كتاب (تمام المنة في التعليق على فقه السنة) للشيخ الألباني. يقول فيه: (ومن الواضح لدى كل ناظر في الأدلة التي ساقها المؤلف أنّ أدلة القائلين بأنّ الفخذ ليس بعورة فعلية من جهة، ومبيحة، من جهة أخرى. وأدلة القائلين بأنّه عورة قولية، من جهة، وحاظرة من جهة أخرى. ومن القواعد الأصولية التي تساعد على الترجيح بين الأدلة والاختيار بعيدا عن الهوى والغرض قاعدتان:
الأولى: الحاظر مقدم على المبيح.
والأخرى: القول مقدم على الفعل لاحتمال الخصوصية وغيرها. مع أنّ الفعل في بعض الأدلة المشار إليها لا يظهر فيها أنّه كان مقصودا متعمدا كحديث أنس وأثر أبي بكر. أضف إلى ذلك أنّها وقائع أعيان لا عموم لها بخلاف الأدلة القولية فهي شريعة عامة وعليها جرى عمل المسلمين سلفا وخلفا، بحيث لا نعلم أنّ أحدا منهم كان يمشي أو يجلس كاشفا عن فخذيه كما يفعل بعض الكفار اليوم ومن يقلدهم من المسلمين الذين يلبسون البنطلون الذي يسمونه بـ الشورت وهو التبان في اللغة. ولهذا فلا ينبغي التردد في كون الفخذ عورة ترجيحا للأدلة القولية فلا جرم أن ذهب إليه أكثر العلماء) ا.هــ
ولنلتفت إلى الواقع المُعاش، الذي ضاعت فيه كل معاني وأشكال الحياء، الذي يرتضيه دين الإسلام، ليُحِلَّ الناسُ مكان ذلك ما صاغته عقولهم، وارتضته أذواقهم، ووافق أهواءهم، من سلوكٍ وطرائقِ تعاملٍ لا ينتظمها ناظم، ولا يضبطها حاكم، لأنّها وُلدت من الأهواء، فأنّى لها السَّواء؟ وقد اتخذوا لها تسميةً عُجُمَةً، تُعرب عن انفصامها عن الدين والأصالة..! فقالوا (بروتوكول)، وقالوا (إتيكيت)، فمما يندرج عندهم تحت العنوانين السابقينن الأكل بالشمال، ومن ذلك أن يُقبِّل الجنسُ الجنسَ الآخر عند السلام، من غير ما نسب ولا مَحْرمِيَّة. ومنه أيضا، أن تُقدَّم الأنثى إلى الباب، وتأخذَ الصدارةَ لدى الخطاب، وغير ذلك، مما هو من زيفِ العصر، أرضيِّ القصد، وبهيميِّ الطبعِ…!
وأعتذر لمن يجدني، برأيه، متجاوزا أو متماديا، أو متجنيا، إن قلت: إنَّ عصرنا يَستحقُّ أن يُقال فيه: إنّه بامتياز عصرٌ تقلَّصَ فيه الحياءُ، بل زال. حين فرّط في التربية الآباء، ونكب عن نهج المربين الأبناء، وصارت تربية الأجيال
موكولةً إلى أخلاق وعوائد الأعداء. وما ذاك إلا من زهدِ وبعدِ المسلمين، عن ما أنعم به ربهم من وحي السماء، ولكلٍ وجهةٌ هو مُوَلِّيها…!
ومما زاد الأمر ضغثاً على إبّالةٍ، كما يقول المثل العربي، أن تكون بأيدي وجيوب أبنائنا من الجنسين، وأكثرهم من المراهقين، أجهزة التواصل الاجتماعي، التي تفتح لهم الأبواب على عوالم لعل آباءهم ما عرفوها إلا حين راهقوا الخمسين، أما أجدادهم فماتوا ولم يعرفوها. تَضُخُّ إليهم معارف وأفكار لا يُنكر أنّ بعضها مفيد، لكنْ يُسَرَّبُ معها المنحرف والخطير والهدام من المعارف، وأما عالم الصورة فحدث عنه ولا حرج، فمن أين يتعلم أجيالنا الحياء؟! ولله درُّ من قال:
يـعـيـشُ الـمــرءُ مـــا اسْتـحْـيـا بـخـيــرٍ … ويـبـقـى الـعــودُ مــــا بــقــيَ الـلِّـحــاءُ
فـــلا واللهِ ما فـــي الـعـــيــــشِ خــيــــرٌ … ولا الــدُّنــيــــا إذا ذهـــــــبَ الــحــَيـــــاءُ
إذا لــــمْ تــَخْـــــشَ عـاقــِـبـــةَ الـلـيـــــالـي … ولـــمْ تَسْـتـَحْـيِ فـافـعـــل مــا تــشــاءُ
والحمد لله رب العالمين