موضوع الإسراء والمعراج، موضوع خليق بالكتابة فيه. وأهمية ذلك أن يُبَصَّرَ المسلمون بهذا المطبوع الذي يتداولونه بين أيديهم، إذا جاء شهر رجب، وبخاصة في الليلة السابعة والعشرين منه. وأقول إنّ هذا الذي يقرؤه الناس في ذكرى الإسراء والمعراج، بزعمهم، لا يمت إلى الحقيقة بصلة! ومعظم ما فيه، من أحاديث، لم تثبت نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتداوله حرام لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). رَوَاهُ البُخَارِيّ
ومما يجب على كل مسلم معرفته، أنّه لم يصح لدى التحقيق، من قبل المتخصصين، تحديدُ تاريخٍ لحادثة الإسراء والمعراج، وقد كثرت الروايات في ذلك. والمهم الإيمان والتصديق بأنّ الله أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِجَ به إلى السماء وهو يقظان، وليس بنائم، بروحه وجسده معاً. ولم يثبت تحديد سنةٍ، ولاشهرٍ، ولا يومٍ أو ليلةٍ. والنصوص في ذلك ثابتة صحيحة صريحة. والذي استقر عليه أئمة النقل، أنَّ حادثة الإسراء والمعراج وقعت مرة واحدة بمكة المكرمة بعد البعثة النبوية وقبل الهجرة النبوية بسنة. ومما يؤكد أنّها قبل الهجرة قول الله تبارك وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). فكون الرحلة بدأت من المسجد الحرام بمكة، قرينة قوية أنّ ذلك كان قبل الهجرة. ولم يصح شيء غير ذلك. واحتفال الإذاعات وبعض دوائر الأوقاف، ومعهم بعض المسلمين، في ليلة السابع والعشرين من رجب لا أصل له، وليس بعبادة ولا قربة.
ومن المناسب جدا، أن نُذكر ونُؤكد للمسلمين حكمَ وعدم شرعيةِ الاحتفال بليلة السابع والعشرين من رجب. وحيث لم يرد في ذلك شيءٌ يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، يكون أي احتفال بهذه الليلة وهذه المناسبة، وحتى صوم السابع والعشرين من رجب، كما يفعله بعض الناس، كلُّ ذلك من البدع التي يحرم فعلها ويأثم فاعلها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد). وفي رواية: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ).
وموضوع الإسراء والمعراج من الموضوعات المشتركة بين العقيدة والسيرة، ودخل في ثنايا الكتابة فيه، ما لا يصح من وقائع، وما لا يثبت من نصوص. وقد تجاذبت هذا الموضوع العقدي أهواء ومنازع شتى، فكثرت فيه الأقوال، وشرقت وغربت، فلا بد من إعادة الموضوع إلى الوجه الصحيح، واستبعاد ما أدخل فيه، وما طرأ عليه تزيداً أو تنقصاً، ولا بد من تحرير القول فيه، وفق ما يثبت من النصوص والروايات. وسيتم تناول الموضوع، إن شاء الله، من خلال مجموعة محاور:
المحور الأول: تأصيــل الموضــوع
إنّ موضوع الإسراء والمعراج من موضوعات العقيدة التي يمتزج فيها الغيب مع المعجزة، وهذان العنصران يبعدان الموضوع من أن يكون مسرحاً يجول العقل فيه والأصح أن أقول (يعبث)، أو مادةً للنقاش يتم تفسير الأمور فيها بالمحسوس والمشهود. إنَّ هذا الموضوع مصدره النص من الوحيين، ومحله التصديق بالقلب، استجابة لداعي الإيمان القائم على الفطرة.
وأدلته ما جاء في سورة الإسراء، التي سميت باسم تلك الحادثة العظيمة. يقول الله تبارك وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
وأما حادثة المعراج فتغطيها آيات سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَاوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى).
ثم تأتي الأحاديث الصحيحة وجلها في الصحيحين، لتعطي الدليل القوي من السنة، وهي الوحي الثاني، على الحادثتين الإسراء والمعراج. وقد اخترت رواية مسلم لجمعها بين الإسراء والمعراج في حديث واحد.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَالَ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قَالَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام قِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ قَالَ فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلَاةً قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ حَطَّ عَنِّي خَمْسًا قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قَالَ فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً قَالَ فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ).
وقد جاء في عدة روايات ذكر حادثة شق الصدر، التي سبقت الإسراء، وشاركتها الزمن والمغزى. ومن هذه الروايات ما جاء في صحيح البخاري: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ قَالَ أَنَسٌ نَعَمْ يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا).
ومادمنا نتحدث عن حادثة شق الصدر، فللحديث عنها بقية. لقد ثبت شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. ويؤكد هذا ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، ويقول إنّ الروايات في ذلك صحيحة كلها. وهذا تلخيص واختصار لكلام ابن حجر، تجنبا للإطالة:
الأولى: كانت في طفولته عند حليمة. ويقول الحافظ: (والحديث في ذلك ثابت صحيح أخرجه مسلم وغيره، عن أنس). ويقول أنس رضي الله عنه: (أرى أثر المخيط في صدره).
والثانية: عند مبعثه، قال الحافظ في الفتح، عند شرحه لحديث باب المعراج من البخاري، قال: (وثبت شق الصدر عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل).
والثالثة: عند الإسراء والمعراج. قال الحافظ: (وقد ثبتت هذه المرة في الصحيحين وغيرهما). وهي التي ذكرنها آنفا، بتمام الحديث.
وقد ختم الحافظ مبحثه في شق صدره صلى الله عليه وسلم، وغسل قلبه، بكلمة تحدد واجب المسلم تجاه ما ثبت في هذا الصدد. يقول: (وَجَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ شَقِّ الصَّدْرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْقَلْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ مِمَّا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ دُونَ التَّعَرُّضِ لِصَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِصَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ فَلَا يَسْتَحِيلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ). والله أعلم
ولقد سبق أن قلت، في المقدمة: (…وهذان العنصران، يبعدان الموضوع من أن يكون مسرحاً يجول العقل فيه، والأصح أن أقول (يعبث)، أو مادةً للنقاش يتم تفسير الأمور فيها بالمحسوس والمشهود).
ولا أريد أن أفوت فرصة الكلام عن حادثة شق الصدر، دون التعريج على مواقف العقلانيين في التعامل مع قضايا الغيب، وضرب مثل لذلك. يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه (فقه السيرة، ص: 65) بعد أن ذكر الأحاديث الدالة على حادثة شق الصدر: (لو كان الشرّ إفراز غدة في الجسم ينحسم بانحسامها؛ أو لو كان الخير مادة يزوّد بها القلب كما تزوّد الطائرة بالوقود، فتستطيع السموّ والتحليق. لقلنا: إنّ ظواهر الاثار مقصودة، ولكن أمر الخير والشر أبعد من ذلك؛ بل من البديهي أنّه بالناحية الروحية في الإنسان ألصق. وإذا اتصل الأمر بالحدود التي تعمل الروح في نطاقها، أو بتعبير اخر: عند ما ينتهي البحث إلى ضرورة استكشاف الوسائل التي يسيّر بها الروح هذا الغلاف المنسوج من اللحم والدم، يصبح البحث لا جدوى منه؛ لأنه فوق الطاقة).
ثم يستمر سياق الحديث عن الإسراء والمعراج، في سرد الأحاديث التي تبين ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في تينك الرحلتين، من آيات ربه الكبرى. ولذلك بحثه الخاص إن شاء الله.
المحور الثاني: مــواقــف
ومن جنايات المدرسة العقلية، التي بدأت مع بدعة الاعتزال ولا تزال، والتي كانت نقطة الافتراق بين أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) ومن شذ عنه. والتي لا أكون متجاوزاً ولا مبالغاً إذا قلت إنّها أخطر باب فتح على المسلمين، وشوش على الكثيرين دينهم بل عقيدتهم، إصرارُ أصحاب تلك المدرسة على أن يتكلموا في أمور الغيب بعقولهم، فجاء كل ما صدر عنهم، منكرا من القول وزورا. وإليكم بعض ذلك:
اعتبار هذه الخوارق، والتي لا ينفع فيها إلا استحضار قدرة الله وعظمته، والإيمان بذلك بلا حدود، مناماً أو حالةً نفسية، أو انتقالاً بالروح دون الجسد، كل ذلك لتطويع هذه المعجزة الربانية للعقل، وتصورات البشر. بل لإخضاعها لقوانين العلم (انعدام الجاذبية. الأشعة الكونية. فقدان الأوكسجين. اختراق الغلاف الجوي. التخدير. التعقيم. قواعد جراحة القلب). وارجعوا إلى كلام الغزالي قبل قليل، عن حادثتي الإسراء والمعراج وشق الصدر، وسترون كيف تناول الموضوع بألفاظ حمالة وأسلوب زئبقي، يخرج القاريء له بيقين، أنّ غرضه إقناع القاريء بأن لا يأخذ النصوص على ظاهرها وحقيقتها، بل على المجاز والتأويل…!
وأما فيما يتعلق بحادثة الإسراء والمعراج، فقد انقسم رأي العلماء إلى ثلاث وجهات. فمنهم من يقول: إنّ الإسراء والمعراج كان بالروح، ومنهم من يقول كان بالجسد، ومنهم من يقول كان بالروح والجسد، وهذا الأخير، هو ما ذهب إليه معظم السلف. وقال الشوكاني في فتح القدير: (والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أنّ الإسراء بجسده وروحه يقظة).
ومدرسة أخرى في الانحراف تحاول، بطريقة خبيثة، أن تشكك في حادثتي الإسراء والمعراج، وتركب لذلك مطية علم الكلام، الذي دسه الفلاسفة، ومن أُعجب بهم، على أمة الإسلام، بل، ويا للأسف، إلى عقول بعض علمائها. ومما افتروه في كلامهم عن حادثة الإسراء والمعراج، لتمرير باطلهم، التفريقُ بين الكتاب والسنة، وجعلُ ما ثبت في السنة دون ما ثبت في القرآن، من حيث الحجية. ومن عجيب ما قاله أمثال هؤلاء: (من جحد الإسراء كافر لأنّ الإسراء يقيني الثبوت لوروده في القرآن. وأما من جحد المعراج فيفسق لأنّ المعراج ظني الثبوت)! وخطورة هذا التوجه، أنّه اعتمد منهجاً لدى المبتدعة، في التعامل مع كثير من حقائق الدين، لصرفها عن حقيقتها، أو توهين ثبوتها، فهل بعد هذا الضلال من ضلال؟
ولا يعترف الإسلام بأبناء له، يُعدِّدون مصادرَ تلقيهم للدين، ويَرِدون مشاربَ عدةً، ليعددوا النكهات، وكأنّ الدين طعام وشراب. وصرنا نرى المجلس الواحد، يطرح فيه أكثر من فهمٍ ورأيٍ عن قضايا إسلامية حسمتها النصوص. حتى صار الافتراق، وليس الاتحاد، ثقافةَ المسلمين والأصلَ في دينهم. وقد صدقت فيهم نبوءةُ نبيهم التي جاءت في حديث الافتراق، وكلكم يعلمه ولا شك، وغابت من حياة المسلمين الحاضرة تلك النماذج الصادقة المُصَدِّقة، التي تقتفي أثر أبي بكر رضي الله عنه. ولنقرأ الحديث: (…فأصبح، فأخبر عما كان. فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا: يا أبا بكر! هل لك في صاحبك؟! يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ورجع في ليلته؟! فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن كان قاله فقد صدق وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا، لنصدقه على خبر السماء. فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما علامة ما تقول؟ قال: (مررت بعير لقريش وهي في مكان كذا وكذا فنفرت الإبل منا واستدارت وفيها بعير عليه غرارتان: غرارة سوداء وغرارة بيضاء فصرع فانكسر). فلما قدمت العير سألوهم فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك سمي أبو بكر: الصديق).
المحور الثالث: مغالطات وإسقاطات خاطئة
إنّ أمة الإسلام يوم صدقت فيها نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، في تداعي الأمم عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وبلوغها مرحلة الغثائية، وذهاب ريحها، لم تعد تملك أمام التحديات الكبرى إلا حرب الشعارات! وكلما أمعن المسلمون في الضعف وقلة الفاعلية، زاد تفننهم في حرب الشعارات! وآلتها الحناجر، ومكبرات الصوت، والصفحات.
لقد استُنْهِضَت الأمة من أجل فلسطين بشعارات المسجد الأقصى، كما استنهض المسلمون إلى الحرب في الأفغان بالتصوف والقصص الخرافية، التي يروجون لها على أنّها معجزات. كل ذلك تغطية للفشل الذريع، في العمل، وإقامة الأمور اعتماداً على الضوابط الشرعية. وتوحيد القتال تحت راية شرعية واحدة، ولا زال الخلل نفسه مستمراً، ما دامت الوقفة الجريئة والجادة لمراجعات جذرية للمنهج، غائبة!
واليوم، يُسمَّى المسجدُ الأقصى، أولى القبلتين فهل يعطيه هذا الاسم قداسة؟ إنّها قبلة متروكة منسوخة، فهل يؤجر المسلم إذا صلى إليها؟ ويسمى بثالث الحرمين، ومن قال إنّ في الإسلام أحْرُماً ثلاثة؟ وهل له حكم الحرم؟ وسمي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حق! فهل تعبدنا الله بصوم يوم الإسراء، أو بقدسية مكان الإسراء..؟
تمنيت لو قرأت مرة، لكل أولئك المتمسحين بالمسجد الأقصى وتحريره، أن يأتوا بالنص الصحيح الذي يعطي لهذا المسجد مكانته الصحيحة بين المسلمين اليوم، وليس القيمة التاريخية وحسب. لقد جاء في الحديث الصحيح: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهما أفضل: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسجد بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا) أو قال: (خير من الدنيا وما فيها)).
هل فكرنا، ونبهنا المسلمين، إلى التفكر في قول الذي لا ينطق عن الهوى، في الحديث السابق: (وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا). إنّها بلا شك نبوءة وبشرى غيرُ مُفَسًّرةٍ، لكنّها صادقة. وما السبيل إلى معرفتها؟ لعل الاقتراب الزمني منها، والنفوسُ ممتلئةٌ تصديقاً، وترقباً، يَنفُث في الروع بياناً، يفرح به المؤمنون الصادقون، وهم يقولون (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا). أليست خيرَ ما يُستنهض به المسلمون، ويحرضون، كي يذودوا عن حياض تلك البقعة المباركة؟!
وبعدُ…!
هل يماري أحدٌ، بعد نصوصٍ طُرحتْ، وتفسيراتٍ لها عُرضتْ لكنّها عن الصواب ابتعدتْ! أنّ المسلمين، وفي مواطن عدة، قد ابتعدوا عن الفهم الصحيح لبعض نصوص الوحيين؟! وهل لا يزال أحدٌ في مريةٍ، من أنّ تحكيم العقل في النصوص الغيبية مزلةُ قدمٍ؟ ومسلكٌ يوقع في وهدةٍ موبقةٍ، وهي القول على الله بغير علم؟!
وهل من شاكٍّ، أنّ التدين بلا منهج، يجعل المسلم كحاطب ليل، يفقد البصر والبصيرة، فأنّى له الفلاح؟!
وهل لايزال في المسلمين، من يُصَدِّقُ أنّ الطريق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق؟! وأنّ المناهج في الدين متعددة، بأيّها أخذت نجوت؟!
إذا اختفت تلك التساؤلات، أو صارت إجاباتها فوريةً، بدهيةً، صحيحةً، يكون المسلمون قد وضعوا أنفسهم على بداية الطريق المؤدي إلى الله، وإلى الجنة، وإلا فالعزاء في قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).
والحمد لله رب العالمين
