أُصَدِّقُ أن يقفَ كلُّ أحدٍ حائراً متردداً، أو يُسْقَطَ في يده أمام هذا (الفايروس المتغول) على العالم بأسره، لا يفرق بين دولة عظمى، وأخرى من العالم العاشر، ولا بين أمير وفقير، ولا حاكم ولا محكوم، ولا ، ولا ، ولا… وأمامَ تلك الإجراءات التي تقتضيها مواجهة هذا الحدث، أجل أصدق ذلك! إلا مسلماً عالماً بدينه، وهو من أهيبُ به وبأمثاله، أن يرفعوا عقائرهم ليقولوا للعالم: نحن الذين علَّمنا نبينا عليه الصلاة والسلام ما هو الحَجْر الصحي، وكيف؟ ولماذا؟ وما هي فلسفة العدوى وكيف نتعامل معها، منذ خمسة عشر قرنا!
واليوم، تُعطَّل المدارس، وتتوقف المصالح، ويمتنع الطيران والسفر والانتقال، ولا تكاد تسمع معترضا، فالأمر بيدِ من تعلموا ذلك، وخاضوا تجارب كثيرة، في هذا المضمار. فقد علمتهم جوائح الكوليرا والجدري والسل فتعلموا. وبقي المُعيقونَ الجهالُ، وفيهم مسلمون، لا يعرفون ماذا يجري، يقلبون أكُفَّهُم ولا يدرون من أين يبدأون وأين ينتهون! لكنّهم بالعواطف يتحركون، وهم عن العلم معرضون!
ولا أريد أن يكون المقال نقدياً، بل أحبه تعليمياً، والزمن لا ينتظر! ونبدأ جولتنا مع النصوص الصحيحة فهي المرجع الجيد والنافع، ولنفتح له القلب والسمع والبصر، ولنستبعد مسارب الجدل العقيم، وقوى الشد المسبق لأي اتجاه.
أولاً: موقف الإسلام من العدوى
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
في الحديث مطلبان؛ الأول: أنّ النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يثبت العدوى الحقيقية التي يعرضها الواقع، ويتعامل معها العلم والطب، ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك من طريق نفي المعنى الخاطيء الذي لا يريده نبي الأمة أن يتسلل إلى أذهان البشر. لقد نفى النبي عليه الصلاة والسلام أن يظن العقل أنّ العدوى فاعلة ومؤثرة بذاتها، وهذا ينافي توحيد الربوبية، في أنّه لا فاعل في هذا الكون إلا الله تبارك وتعالى، بإرادته ومشيئته وقدرته وحكمته. ولقد خلق الأسباب التي ينتفع بها الخلق بإذن ربهم، وأودع في تلك الأسباب خصائص، تفعل بإرادته ومشيئته، لصالح الخلق. ونضرب أمثلة، فالنار سبب، وهي تُحرق بفعل خصائص أودعها الله فيها، والدواء سبب، وهو يشفي بما أودع الله فيه من عناصر. والدعاء سبب شرعه الله لعباده، ليطلب العبد من ربه حاجاته من خلاله. وقد تُتعاطى تلك الأسبات تماما والنتائج لا تكون واحدة، فلماذا؟. فقد يُتخذ السبب وتأتي النتيجة. وقد يُتخذ السبب وتتأخر النتيجة. وقد يغيب السبب وتأتي النتيجة. فكيف ذلك؟ إنَّ مِنْ وراء الأسباب مشيئة الله، وإرادته، فالخلق خلقه، والأمر أمره، والحكم حكمه. كما حكى القرآن عن يعقوب عليه السلام: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ). فالله قادر على سلب فاعلية تلك الأسباب، وتعطيلها متى شاء. ولنتذكر قصة نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه، وقد انتهت القصة لصالح الحق، ونبي الحق، حين شاء الله (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ). فسُلبت خاصية الإحراق من النار، فأحبَطت كلَّ ما حشد أهل الباطل، من كيد وإعداد.
ولنَقِس على النار كل سبب خلقه الله لمصالح الناس، حيث فاعليته رهن مشيئة الله وإرادته. فالحديث بدأ بنفي وجود سبب قائم بنفسه وذاته، وهو العدوى التي ليست تحت مشيئة الله وقدرته وإرادته، فتلك لا وجود لها في الكون ألبتة. ومثلها الطيرة (التشاؤم). ولا (صفر) نفيٌ لما كان يعتقده أهل الجاهلية أنّ شهر صفر تكثر فيه الدواهي والفتن. ولا (هامة) من اعتقادات الجاهلية الباطلة أنَّ دابة تخرج من رأس القتيل، أو تتولد من دمه، فلا تزال تصيح حتى يؤخذ بثأره. فكذَّب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الاعتقادات الباطلة جملة وتفصيلاً.
ثم يـأتي المطلب الثاني في الحديث، وهو تأكيد وجود العدوى التي هي من قدر الله، وبأمره. وأكد عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله: (وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ) ليؤكد بكل قوة على وجود العدوى التي هي انتقالٌ للعامل المُمْرض، بالمخالطة والملامسة، والهواء والماء والأطعمة. وحضَّ بالأمر، والأمر للوجوب، على الابتعاد عن المبتلى بمرض معدٍ، وصور خطر الاقتراب منه كخطر الاقتراب من الأسد.
وفي رواية ثانية للحديث، وهي في البخاري: ((لاَ عَدْوَى، وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ هَامَةَ). فَقَالَ أَعْرَابِىٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِى الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ)). فهمَ النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الأعرابي السائل لم يفلح في ربط العدوى بمشيئة الله وإرادته، بل حصرها بالسبب، وهو الجملُ الأجرب. فعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي ما فاته من العقيدة الصحيحىة، بأسلوب ينشط آلية التفكير ويحرضها عنده (فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟). فالعقيدة الصحيحة تقضي أنّ الخلق وهم يتعاطون مع الأسباب المؤثرة، والمخلوقة لمنافعهم ومصالحهم، يجب أن تبقى عقولهم وقلوبهم معلقةً بخالق الأسباب ومسببها، وخالق الأكوان ومسيرها، ولا يقفون عند الأسباب ومعها، فيظنونها كل شيء.
نلخص هذه الفقرة، في أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أكد أمر وجود الأمراض السارية أو المعدية، وأكد بقوله عليه الصلاة والسلام أنّ سريان العدوى بين الناس أمر يؤكده الدين والنص، قبل أن يؤيده الواقع والعقل. وأكد النبي بتشبيهه البليغ (وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)، على ضرورة اتقاء العدوى، لأنّها خطر يهدد الحياة.
وقد يشغب على صفاء هذه الصورة العقدية حديث يتداوله بعض الناس، وبخاصة من يفهمون الإسلام فهما أعوج. والحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالفرار من المجذوم، ولكنّه في الوقت نفسه جلس معه على طعام، تطييبا لخاطره. ويكفينا الخوض في ذلك أنّ الحديث لا يصح، والحمد لله. وقد ذكره الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم(1144)، وهو في ابن ماجة، ولفظه (وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ: كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ). رَوَاهُ ابْن مَاجَه
ومما يعضد ضعف هذا الحديث، الذي يخالف الأصل الذي أصله نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، في وجوب الفرار من المجذوم، ما جاء في صحيح مسلم عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّا قد بايعناك فَارْجِع)). رَوَاهُ مُسلم.
ثانياً: تأسيس النبي عليه السلام للقاعدة الصحية (الحجر الصحي)
قبل خمسة عشر قرنا، يُعلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمين الأوائل، في جزيرة العرب، المبدأ الصحي الضروري في ما يخص التعامل مع الأمراض المُعدية، والذي لا يزال في القرن الواحد والعشرين، الإجراء الأول والأهم في التعامل مع الأوبئة. جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُرِيدُ الشَّامَ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ لَقِيَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فأَخْبَرَوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَاسْتَشَارَ النَّاسَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ أَنْ يَمْضِيَ، وَقَالُوا: قَدْ خَرَجْنَا لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ نَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَرَى هَذَا الرَّأْيَ أَنْ نَخْتَارَ دَارَ الْبَلَاءِ عَلَى دَارِ الْعَافِيَةِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ غَائِبًا، فَجَاءَ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فُرَّارًا مِنْهُ). قَالَ: فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ رَعَى الْجَدْبَةَ وَتَرَكَ الْخَصِبَةَ أَكُانَتْ مُعَجِّزَةً؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسِرْ إِذًا، قال: فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَقَالَ: هَذَا الْمَحَلُّ وَهَذَا الْمَنْزِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَجَعَ بِالنَّاسِ يَوْمَئِذٍ مِنْ سَرْغٍ).
ولننطلق بداية من أنّ ذلك القرار، وهو الرجوع إلى المدينة، شارك فيه صفوة الصحابة الذين استشارهم عمر رضي الله عنه. ولنستعرض الآن ذلك الحكم الشرعي الذي نقله ابن عوف رضي الله عنه عن نبيه صلى الله عليه وسلم: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فُرَّارًا مِنْهُ). أليس هذا الحجر الصحي اليوم؟
ولقد جاءت أحاديث صحاح أخر، تؤكد هذا الحكم النبوي، وضرورة العمل به. ولنستعرض هذه الأحاديث الصحيحة:
. عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْفَارُّ مِنَ الطَّاعُونِ كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ، وَالصَّابِرُ فِيهِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ).
. وَعَنْها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي: (أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وبعد، ألا ينبغي على المسلمين أن يتحملوا مسؤولياتهم الخطيرة، في قضايا تتعلق بالصحة والسلامة العامة، وأن يكونوا سباقين، وفي الصف الأول، ليوجهوا أنظار العالم، من جديد، إلى هذا الإسلام، وما يحمله للبشر من أجل سعادتهم! لكنّ بعض أهل الإسلام جنوا على دين الإسلام، قبل أعدائه، بأفكارهم المارقة، وسلوكهم الطائش، وفهمهم الخاطئ والموتور لقضايا معاصرة، حتى مكنوا الأعداء، من وصْم الإسلام بالإرهاب، وإعلان الحرب على أهله. ولا زال بعض المسلمين في ضلالهم القديم، وفهمهم السقيم، وأسلوبهم العقيم، وبعضهم من النخب، في التعامل مع قضايا العصر. فيرون في موقف العالم من الكورونا، مؤامرة كونية جديدة على الإسلام!
إنّ نبي الإسلام أمر المسلمين بتطبيق الحجر الصحي حتى في عالم الحيوان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(يورد) يحضر ويأتي بإبله إلى الماء. (ممرض) من له إبل مرضى. (مصح) من كانت إبله صحيحة.
واليوم تقوم بعض الدول المتحضرة، بقتل عشرة آلاف رأس إبل بدعوى الحفاظ على ثروتها المائية، دون أن يتمعر في العالم وجه، أو يستنكر صوت.
ثالثاً: توصيات
في بحوثنا الدينية، بل وفي فتاوانا الشرعية، أثرٌ واضحٌ، لمشاركة العواطف في بحثنا العلمي. وسبب ذلك عدم ترك النصوص تأخذ دورها في البحث العلمي ونتائجه. ومرد ذلك إلى خلل جسيم، اعترى تطبيق القاعدة الذهبية (استدل ثم اعتقد) في البحث العلمي. وقد حرفها بعضهم فصارت (اعتقد ثم استدل). وما الدافع وراء ذلك؟ إنّه التعصب بأنواعه الثلاثة، التعصب للمذهب، والتعصب للانتماء الحزبي، والتعصب للتجمعات المشيخية. وكل من الولاءات السابقة أسهم إسهاماً كبيراً في إبعاد أبحاثنا عن الالتصاق بالنصوص، وهو الأصل.
وأريد أن ألحق بملف العصبية، بأشكالها الثلاثة المبينة، آنفا، والتي أسهمت بإبعاد المسلمين عن الوحيين، أجل أريد أن ألحق أمرا خطيرا، وهو ملاحظ في أحوال المسلمين، وقد فضَحتْهُ وسائطُ التواصل الاجتماعي، بما يكتب فيها، إنّه لأمر خطير أن يقوم التدين عند بعض المسلمين على مرتكز عاطفي، لا يمت إلى العلم، ولا إلى الأصول العلمية بصلة. وهذا الواقع الإسلامي، غير الصحيح، قديم ويسير جنبا إلى جنب مع الالتزام الصوفي، الرافض للمنهج العلمي النصي، والذي شكل في الصف الإسلامي فجوات رخوة، تستوعب كل انحراف عن سواء السبيل، ويعشش فيها كل فكر مناويء!
والنتيجة لكل هذه الصوارف عن الحق، ضياعُ الحق من بين أيدينا، لغلبة الباطل، في قضايا كثيرة، في واقعنا الديني المعاصر. ولنسقط هذا التوصيف الواقعي، على الموضوع الذي بين أيدينا، من خلال مجموعة ملاحظات:
أ. الحجر الصحي بمعنى الحيلولة دون انتشار المرض، من خلال سدّ المنافذ إلى ذلك، أمرٌ شرعيٌ ثابتٌ وواضحٌ، من خلال النصوص المطروحة آنفا، فلا يقبل تشكيكاً ولا تأويلاً! وهو أمر معقول المعنى، إن في غايته، وإن في تطبيقه. ومسوغات العمل به، في أي وقت، محكومة بالقاعدة الشرعية (الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما).
ب. لا شك أنّ كل ما يصدر عن أصحاب الشأن، وأقصد أولئك الذين أنيطت بهم مسؤولية التصدي للنازلة، وعن أهل الاختصاص العلمي، سواء الشرعي، أو الكوني، يجب أن يكون محل تقدير، وأن يُجتهد في وضعه، موضع تنفيذ، ما دامت غايته الصالح العام والسلامة. ولا يجوز أن يُهدر عِلمُ أهلِ العلم، ولا خبرةُ أهل الخبرة، وكل ذلك، ولا شك، خير من تخرص عوام الناس، ومجرد عواطفهم، والقاعدة المشهورة (من عَلِمَ حجةٌ على من لا يعلم)، ويجب أن تبقى مُحَكَّمةً، في كل شؤوننا. ولا ينبغي أن تصبح القضايا المصيرية مادة تلوكها ألسن العوام في تجمعاتهم، التي لا تتعدى في غايتها، تزجية الوقت، أو استغلالَ فرصةٍ لإثبات الذات، وكل ذلك يطير في الهواء، فلا يدرأ خطراً، ولا يحل مشكلةً، ولا ينجز عملاً، ولا يحقق أملاً.
ج. إنّ إيقاف تأدية الشعائر الدينية، التي تؤدى بشكل جماعي كالجمعة والجماعة، وحتى الدروس الدينية، لا يعني الإلغاء، وإنّما العدول عن الأداء الجماعي إلى الفردي، وهو مشروع بالنص. فشهود الجمعة والجماعة، يسقط باتفاق بأعذار المرض أو السفر أو الخوف، وحتى سوء الأحوال الجوية، وكل ذلك واضح عند العلماء. فهل من المسلمين من لا يزال يرى أنّ خطر وباء الكرونا لا يصل بعد إلى مستوى الأعذار السابقة، التي اتفق عليها العلماء؟! إن كان الأمر كذلك، فإنّها والله لإحدى الكُبَر!
أما الحج والعمرة، فيكفي أن نُذكر (المتشنجين) بقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). فماهو الإحصار؟
يقول الشيخ السعدي في تفسيره: ({فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما، بمرض، أو ضلالة، أو عدو، ونحو ذلك من أنواع الحصر، الذي هو المنع). أوليست الكورونا أشد من أي مرض، وأعدى من أي عدو؟ فما لكم كيف تحكمون؟ نقول مرة أخرى: (الحكم يدور مع العلة، وجودا وعدما).
د. الملاحظ، أنّ العاطفية برزت بوضوح تام على وسائط التواصل الاجتماعي، كرد فعل لما يذاع وينشر عن الكورونا. فمن شاعر نظم قصيدته، وقرأها وهو يبكي، يرثي لحال البيت العتيق والكعبة المشرفة، وكأنَّ (ذا السويقتين) قد جاء ونقضها حجرا حجرا، ثم ألقاها في اليَمِّ. وآخر يبكي ويقول: كيف تمنع صلاة الجماعة، والمسلم يتقي النوازل بالدعاء فيها؟ وثالث يتغيظ فيقول: لم يتجرأ القرامطة على منع الناس من البيت، وذلك يُفعل الآن. أقول لكل أولئك:
أوردها سعدٌ وسعدٌ مُشتملْ … ما هكذا ياسعدُ تُوردُ الإبلْ
وأقول: حذارِ، حذارِ، حذارِ، أن نقدم لنازلة كهذه عواطفنا الدينية، متجردة عن العلم، لتصفيةِ حساباتٍ قديمةٍ…! بدل أن نقدم ما علَّمنا اللهُ ونبيُه، من أجل سلامتنا وسلامة عباد الله معنا، ولِنَتَبوَّأ بإسلامنا، وما يحمله لأهل الأرض من خير، موقع الصدارة، وهي الدعوة الحقيقية لدين الإسلام الذي ظلمه أهله اليوم. ذلك أرضى لربنا، وأبرأ لذممنا عنده. ودين الله بخير، مادام حُرَّاسه هم من أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي).
والحمد لله رب العالمين