Skip to main content

خَوَاطِرٌ وَتَأمُّلَاتٌ*

By الأحد 13 رجب 1441هـ 8-3-2020ممقالات

كثيرا ما يحلو للإنسان أن يخلو بنفسه، وهي ليست إجازة من إشغال الفكر، بل قد تكون جهدا فكريا صامتا، ذا ثمر..! إذن، هي نوع من أنواع التفكير، لاسيما لمن كانت له هموم يحملها. ولْنُسَمِّ ذلك حديثَ نفسٍ. ولا يُنكر أنّ الحوار مع النفس أسلوب من أساليب الوصول إلى الحق، وقد أثبت القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ).
وفي الآية تعبير لم يُعطَ حقه من التفسير، في أكثر الكتب، وهو (مَثْنَى وَفُرَادَى)، وفيه تعليم للبشر كيف يتعاملون مع ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم. واخترت أوفى أربعةِ أقوالٍ في المسألة من كتب التفسير، لأهمية هذا التوجيه القرآني:
قال ابن عاشور: (فإنّ المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرْضَ لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنّما يختار ثانيه أعلقَ أصحابه به وأقربَهم منه رَأياً فسَلم كلاهما من غش صاحبه).
وقال الشوكاني: (وَأُوصِيكُمْ بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، أَيْ: هِيَ قِيَامُكُمْ وَتَشْمِيرُكُمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ بِالْفِكْرَةِ الصَّادِقَةِ مُتَفَرِّقِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَوَاحِدًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ يُشَوِّشُ الْفِكْرَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْقِيَامَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، بَلِ الْمُرَادُ الْقِيَامُ بِطَلَبِ الْحَقِّ وَإِصْدَاقِ الْفِكْرِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ كَذَا).
وقال سيد قطب: (مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء. وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق).
وجاء في القرطبي: (مَثْنى وَفُرادى: أَيْ وُحْدَانًا وَمُجْتَمِعِينَ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: مُنْفَرِدًا بِرَأْيِهِ وَمُشَاوِرًا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَأْثُورٌ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: مُنَاظِرًا مَعَ غَيْرِهِ وَمُفَكِّرًا فِي نَفْسِهِ، وَكُلُّهُ مُتَقَارِبٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: “مَثْنى وَفُرادى” لِأَنَّ الذِّهْنَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَهُوَ الْعَقْلُ، فَأَوْفَرُهُمْ عَقْلًا أَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا كَانُوا فُرَادَى كَانَتْ فِكْرَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا كَانُوا مَثْنَى تَقَابَلَ الذِّهْنَانِ فَتَرَاءَى مِنَ الْعِلْمِ لَهُمَا مَا أُضْعِفَ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

وما دامت بعض تلك الخلوات مع النفس توصل صاحبها إلى نتائج نافعة، فإنّه يُحب اطلاع الآخرين عليها. وموضوع لقائنا اليوم من هذا القبيل. أحببت أن أخرج من دائرة محاورة النفس، لتكون حوارا مع الآخرين فيَعُمَّ النفع، ويكون لقاؤنا إذن تحت عنوان (خواطر وتأملات). ولو شئتم عنواناً موضوعياً لقلت (الإيمان بالغيب)، لأنّه كان الموضوع الغالب في حواري مع نفسي، وما ورد عليها من خواطر.
لقد وجدت بالتجارب، أنّ النص الذي يتناول الأحكام يتعامل معه الكثيرون بدقة أكثر، وعناية أكبر، أما إذا كان يتناول أمراً من أمور الغيب، فغالباً ما يُكتفى بنظرة هي أقرب إلى السطحية. وكأنّ لسان حال المرء يقول: هذا النص يتناول عالماً آخر، غير محسوس، فتكفي فيه تلك النظرة. والذي بدا لي أنّ النصوص الغيبية، في دين الإسلام تستحق أعمق النظرات، وأطول التأملات، لأنّها تتعامل مع الغيب الذي أُمر المسلم بالإيمان به، ولِكي نعلمَ المرتبة التي يحتلها الإيمان بالغيب في دين الإسلام. علينا أن نتذكر أنّ أول آية تصف المتقين، في كتاب الله، كانت الثانية من سورة البقرة، وكانت أول صفة، في ترتيبها، بين تعداد صفات المتقين، هي الإيمان بالغيب (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
وإنَّ الموضوعات الغيبية عندما يُتعامل معها بآلية متميزة، يُكتشف أنّها تحمل من الترغيب أو الترهيب أو النذارة جرعات أوقع في التأثير، وأبلغ في التصوير. وأستطيع الآن أن أقول: إنّ خلاصة الحوار، كانت دعوةً إلى أسلوبٍ جديد في التعامل مع عالم الغيب، ونصوص الغيب، من أجل سلامة الإيمان بالغيب، وتقويته، وتفعيله.
ولو تأمل المسلم أمر الغيب، والغيب أصل من أصول الاعتقاد في دين الإسلام، ومن فاته الإيمان بالغيب لا ينفعه كل ما يأتيه بعد ذلك من شعب الإيمان. والمنزلة التي يتصدرها الإيمان بالغيب، في دين الإسلام، مردها إلى أنّ الإيمان بالغيب يتجلى فيها قوة وصدق ومحض
الإيمان، لأنّه ليس للعقل والهوى مدخل فيه! وتتمثل فيه محض العبودية لله! ويلاحظُ المتعامل مع النصوص الغيبية، أنّها توجد في نفس المتعامل معها حالة من العَجَب (وهو العجب المحمود والشرعي كما سيأتي). وذلك لسببين:
أولهما: أنّ الله شاء أن يتعبدنا بالغيب، مع استحالة إحاطة العقل به، لتتأكد من خلال ذلك العبودية خالصة لله وحده، منزهة عن أدنى شرك. وليكون الباعثُ على الإيمان بالغيب محضَ التصديق بما جاء عن الله ورسوله دون مرور ذلك على العقل لإقراره، وقد أشرنا إلى ذلك قبلاً، وهذه ولا شك حكمة بالغة.
والسبب الثاني: أنّ أمور الغيب مرتبطة بقدرة الله تبارك وتعالى غير المحدودة، وغير المرتبطة بحدود المعقول، فلا بد من الاستسلام لذلك، والانتفاع به، وترويض النفس على التعامل معه بطمأنينة، وكأنّه من المحسوس.

ولا أرمي من إلحاق وصف العجب بالغيب إلى زعزعة الثقة فيه، أو تبرير إقصائه من أولويات الاعتقاد، وركائز الدين، لإحلال العقل مكانه، حاشا أن يكون مني ذلك. ولا بد قبل الكلام عن العجب من التفريق بين معنى كلمة (العجب) بمدلولها المتداول بين الناس واستعمالها الشرعي، والفرق بينهما كبير، فليتنبه لذلك وسيأتي تفصيل. لكنّني إذ أستعملها أكون قد ائتسيت بما جاء في السنة في استعمال (العجب) والمقصود بذلك تعظيم أمر المُتَعَجَّب منه، ولفت النظر إليه ترغيباً أو ترهيباً. وهذا قصدي تماماً.
أوضح ما أريد بمثال واحد، تجنبا للإطالة، هو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعا، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل ورقان، ومقعده من النار ما بيني وبين الربذة). وفي رواية: (إنّ الرجل من أهل النار ليعظم للنار حتى يكون الضرس من أضراسه كأحد).
صور عجيبة عجيبة، ومخيفة مخيفة، يعجز العقل عن التعاطي معها، وهي عند المؤمن مُصَدَّقَةُ، مصدقة، بقدر العَجب والخوف منها، لأنّها من خبر الله على لسان رسوله، ولأنّ الإيمان بقدرة الله غير المحدودة عند المؤمن لا يحيل ذلك (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا).
فإلام تهدف أمثال تلك الأحاديث..؟ إلى تعظيم وتهويل أمر النار وكل ما فيها. وما الغاية من أن يكبر جسم الكافر وأعضاؤه إلى هذا الحد الخيالي، في تصور عقولنا، والحقيقي في وقوعه ووجوده يوم القيامة..؟ إنّه لكي يأتي الكافرَ العذابُ من كل جانب، ولتتسع رقعة تعرضه للنار فيتضاعف الألم، نأخذ هذا التعليل من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الرجل من أهل النار ليعظم للنار) كل ذلك ليكون الردع قوياً، والتحذير فعالاً، ومراجعة النفس سريعة، وآخر شيء لتكون الحجة قائمة.
ولكن من الذي ينتفع بذلك ويرتدع إلا مؤمناً بالغيب..؟ أما غير المؤمن بالغيب، والعياذ بالله، يتخذ النصوص الغيبية هزواً، ويعتبر رفض عقله لها تعظيما لذاك العقل البشري الضعيف المخلوق! لكنّه يخفي عدم إيمانه، بادعائه أنّه يُنزِّه الدين عن أن يكون حديث خرافة. وهذا دأب الكفار والمشركين في تعاملهم مع أمور الغيب.
لمّا نزل قول الله تعالى في وصف جهنم وما فيها: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) و قوله: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) ماذا كان موقف الكفار الذين لا يؤمنون بالغيب؟
قال ابن الزِّبَعْرَى: (أكثر الله في بيوتكم الزقوم، فإنّ أهل اليمن يسمّون التمر والزبد بالزقوم. فقال أبو جهل لجاريته: زقمينا فأتته بزُبد وتمر فقال: تزقموا). وفي رواية: (فقال أبو جهل: يا جارية هاتي لنا تمراً وزبداً نزدقمه، فجعلوا يأكلون ويقولون: أفبهاذا يخوفنا محمد في الآخرة).
ولم يكتفوا باستهزاء واحد بل أضافوا قولهم لدى سماعهم (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ): (كيف يخبر محمد عن النار أنّها تنبت الأشجار، وهي تأكلها وتذهبها).
ولقد تحققت فيهم الفتنة التي حدثنا عنها القرآن، في الآيات نفسها، لدى حديثه عن شجرة الزقوم: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ).
أما عن الاستهزاء المعاصر، فحدث ولا حرج، وإذا كان الاستهزاء القديم كلاماً في مجالس وأندية الكفار، فإنّ الاستهزاء المعاصر اليوم له قنواته ومؤلفاته ورسوماته، وتكذيب واستهزاء اليوم يُحَسَّن إخراجُه من قبل دعاته، ويُجَمَّل تغليفه، ليسهل تسويقه. فما أحوجنا اليوم إلى الإيمان بالغيب..! فلا عصمة ولا نجاة من زيف العصر، وتسلط العقل وتجاوزه حَدَّه إلا بالإيمان بالغيب..!

أردت فيما أردت مما مضى التركيز على التذكير بأهمية الإيمان بالغيب من جهة، والتأكيد على ضرورة تعظيم هذا الجانب الإيماني، في دين الإسلام. وما أحوج المسلمين إليه اليوم، وقد أفسدت فطرهم، عن قبول الغيب، المدرسة العقلية التي تضخ في أذهانهم آناء الليل وأطراف النهار، تُعظم العقل وتوهن أمر الغيب. وما أكثر الأدلة ولكنّي أكتفي بمثال واحد لكي لا يعتبر كلامي مبالغة لا حقيقة لها، أو تجنياً لا مبرر له. يقول محمد الغزالي في كتاب فقه السيرة في سياق مناقشته لأحاديث شق الصدر: (إذا كان الإيمان يُحشى في القلب، كما تملأ الطائرة على المدرج بالوقود، فلا بد أن يكون لنا مع الحديث موقف آخر).
والأخطر من المشكلة نفسها عدم الاقتناع، أو رفض الاقتناع بأنّها مشكلة، وإبقاء حسن الظن بدعاتها والمروجين لها، وقد وجدوا من (علماء السوء) من يخرجهم من أي مضيق يرون أنفسهم فيه، جراء تكذيبهم، حين يقولون لهم بكل بساطة الحديث لا يصح. ويزيد من حجم المشكلة، انغماسٌ خطيرٌ، لأهل العصر، في الحياة المادية، وفي التعامل مع الإنجازات العلمية الباهرة، مع عجز العقل المسلم، لفقدان الرصيد الإيماني، عن استيعاب هذه الأمور في معادلة صحيحة متوازنة.

واسمحوا لي بكلام مكرور على مسامعكم، لكنّي أقول قبله متحفظاً، إذا كان التكرار في منظور النقد الأدبي ضعفاً وعيباً في الأسلوب، فإنّه في الكلام الشرعي ضروري ومطلوب، وكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، تحوي من الأمثلة الكثير، ولا حاجة لاستعراضها فليست خافية. وأي مشكلة في تكرار الكلم الطيب على مسامع الناس وتعهدهم بدعوة الخير ما وُجد لذلك سبيل. أما الكلام المكرور فحديثان صحيحان:
. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل راكب بقرة إذ قالت لم أخلق لهذا إنّما خلقت للحرث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر) قال أبو سلمة: (وما هما في القوم يومئذ).
. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يرعى غنما له إذ جاء ذئب فأخذ شاة فجاء صاحبها فانتزعها منه فقال الذئب كيف تصنع بها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر). قال أبو سلمة: (وما هما في القوم يومئذ).
وقد تذاكرنا بهما معا مرارا. وإنّي لأجد فيهما أقوى الأدلة على تعظيم أمر الغيب في الإسلام، وعلى وجوب الإيمان به وبيان أسلوب التعامل معه، وهو التصديق الكامل دون تردد، بشرط وروده من قناة شرعية صحيحة. والحديثان من المتفق عليهما بين الصحيحين. وكما قلت كانت لنا مع الحديثين وقفات، ولكنّي إنعاشا للذواكر، وزيادة في الخير، ألخص فحوى الحديثين بالآتي:
إنّ تكلم البقرة، وتكلم الذئب، ليسا من مفردات الإيمان والعقيدة التي يجب أن يصدق بها المؤمن. ولن يسأله عنها الملكان في قبره، كما أنّه لن يسأله عنها ربُه يوم الحساب، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يُقعد لنا قاعدة مبسطة يفهمها كل أحد، في أمر الإيمان بالغيب: أنّ كل خبر يأتي المؤمنَ عن الله ورسوله بقناة صحيحة يجب الإيمان به، ولو لم يقبله العقل، وسيُسأل عن ذلك. وإمعانا في التعظيم والتأكيد، ضرب النبي المثل في الإيمان والتصديق بنفسه، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك حتى لا يقول أحد كيف لا يصدق وهو نبي..؟ فألحق بحديثه عن نفسه الحديث عن أبي بكر وعمر (فآمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر). ولا بأس من إيراد تعليقين لابن حجر، وللنووي على العبارة الأخيرة:
يقول ابن حجر: (قَالَ أَبُو سَلَمَة: (وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي الْقَوْم) أَيْ عِنْد حِكَايَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ لِمَّا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَبَة صِدْق إِيمَانهمَا وَقُوَّة يَقِينهمَا).
ويقول النووي: (قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ثِقَة بِهِمَا لِعِلْمِهِ بِصِدْقِ إِيمَانهمَا، وَقُوَّة يَقِينهمَا، وَكَمَال مَعْرِفَتهمَا لِعَظِيمِ سُلْطَان اللَّه وَكَمَال قُدْرَته).

ومن أحاديث الغيب الذي كانت لي معه وقفة تأمل، ومذاكرة مع النفس، حديثٌ مفرحٌ ومطمئنٌ للنفس، بشرط تحقيق شرائط الإيمان بالغيب، أثناء دراسته، وهي كمالُ الإيمان بكل أمر غيبي، وصدق التفاعل
مع تلك الغيوب. ولا يفهمَنَّ أحد من كلامي أنّي أتهم أو أشكك في النوايا، حاشا ذلك، لكنّه أسلوب في الخطاب فعله من هو خير مني. واقرؤوا، إن شئتم هذا الحديث من صحيح مسلم:
عن أبي سعيد قال: (خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ. قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّى لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّى وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: (مَا أَجْلَسَكُمْ؟) قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلاَمِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: (آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟). قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ. قَالَ: (أَمَا إِنِّى لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَلَكِنَّهُ أَتَانِى جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِى بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ)).

ونعود إلى الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فُضُلاً عَنْ كُتَّاب النَّاسِ يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ فَيَحُفُّونَ بِهِمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، فَيَقُولُ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: يُكَبِّرُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ وَيُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا لَكَ أَشَدَّ عِبَادَةً وَأَكْثَرَ تَسْبِيحًا وَتَحْمِيدًا وَتَمْجِيدًا فَيَقُولُ: وَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا عَلَيْهَا أَشَدَّ حِرْصًا وَأَشَدَّ لها طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً فَيَقُولُ: وَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا مِنْهَا أَشَدَّ فِرَارًا وَأَشَدَّ هَرَبًا وَأَشَدَّ خَوْفًا فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ: فَقَالَ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: إِنَّ فِيهِمْ فُلَانًا لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ: فَهُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ).

وأريد أن نقف مع الحديث وقفات متأنية متعجبة:
الوقفة الأولى: إنّ الحديث الذي بين أيدينا، وما شابهه في السنة الصحيحة، يشكل كما أسلفت مصدرا من أعظم المصادر، وأعلاها، وأوثقها، وأهمها للعلم الشرعي، يجب الانتفاع بها انتفاعاً كاملاً، لا سيما في تشكيل أمر عقيدة المسلم الصحيحة. ومن أجل الانتفاع الكامل والصحيح لا بد من تحقيق أمرين لدى التعامل مع هذه النصوص: أن تكون قراءتها واعية تشمل السطور وما بينها وما وراءها، والأهم أن يكون الإيمان بالغيب حاضراً معنا، كل الحضور، لأنّ من يفوته الأمر الأخير لدى قراءة مثل هذه النصوص، قد ينسى نفسه ويظن أنّه يتعامل مع ما وراء الطبيعة، أو مع قطعة من الميثولوجيا الإغريقية. قد تتعجبون من جرأة هذه العبارة وقد تعترضون على صحتها. لكنّي أقول: كم حكى القرآن لنا وصف الكفار لِما جاء به النبي بأنه (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)..؟ لِمَ وصفوه بهذا الوصف..؟ لأنّهم تعاملوا مع ذلك بعقولهم فقط، دون أي قدر من الإيمان بالغيب، ومع فقدان هذا النوع من الإيمان، الإيمان بالغيب، يستوي عند الناس كلام الله، والأسطورة. وهذا من أعظم جنايات ومحاذير استقلال العقل في التعامل مع النصوص الدينية، دون استحضار الإيمان.
ولا تظنوا أنّي أناقش مسألة طواها الزمن، إنّ هذه المشكلة تعيش الآن معنا بشكل خطير ومع نشاط المدرسة العقلية وإحياء فكر المعتزلة من جديد. ومن أكبر البراهين والأدلة على خطورة هذه المشكلة في الحياة الدينية لبني البشر في الماضي والحاضر ما جاء عن ابن عمر: (لقد عشنا برهة من دهرنا وإنّ أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها، كما تعلمون أنتم القرآن). ثم قال: (ولقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه ينثره نثر الدقل).
وفي ابن ماجة وغيره عن جندب البجلي قال: (كنّا فتيانا حزاورة مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا، وإنّكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان).
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (إِنَّا قَوْمٌ أُوتِينَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نُؤْتَى الْقُرْآنَ. وَإِنَّكُمْ قَوْمٌ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُؤْتُوا الإِيمَانَ).

ومن تماسي المباشر مع مشكلات الناس الشرعية، من طريق قناة الفتيا والاطلاع على بعض المواقع الشرعية، وقفت على مشكلة تطرح بنسبة لا بأس بها ومن الجنسين (تنحصر في الآتي: عمري كذا أحفظ القرآن كله أو بعضه، أؤدي كل الفرائض والمندوبات، أواظب على الدروس أقوم الليل. لكنّني تراودني أفكار شيطانية لا أستطيع دفعها. ومنهم من يقول كادت تصل بي إلى التفكير بالانتحار). فلم أجد، بعد البحث، جوابا أفضل مما جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله أجمعين (إِنَّا قَوْمٌ أُوتِينَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نُؤْتَى الْقُرْآنَ. وَإِنَّكُمْ قَوْمٌ أُوتِيتُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُؤْتُوا الإِيمَانَ).
لكنّ الأخطر أن نكتشف أنّ كثيرا من الدعاة والمربين فاتهم هذا الملمح الدعوي النبوي، فتعثرت خطا بعض أتباعهم. ولا بد من الإشارة بإيجاز إلى طبيعة المرحلة المكية، وكيف كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معها، إنّه بناء العقيدة والإيمان وترسيخهما دون الانشغال أو الاشتغال بشيء آخر. واقرؤوا إن شئتم قول ربكم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ).
إنّ المرحلة المكية وهي زمن طويل تجاوز عقدا من الزمن، كُرست وسخرت لتخدم هدفاً مستقبلياً وهو بناء المجتمع الإسلامي القوي بعقيدته وإيمانه أولا، لتقوم على كواهل أفراده دولة الإسلام الأولى.
يجب أن لا تغيب عن كل مسلم، وعلى الأخص كل داعية ومرب هذه الكلمة العظيمة (أوتينا الإيمان قبل القرآن) والسر في ترتيبها، فإن عُكس أُجهض العمل، وضاعت الجهود، وتوالت النكسات، وكان التدين هشا لا يقوى على المواجهة.

ولا بد قبل مغادرة هذه المعلومة الشرعية، وهي قول الصحابة عليهم رضوان الله أجمعين (فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن)، وللأهمية التي أدركنا من البحث السابق، أن أضيف إلى ما ذكر، وبإيجاز شديد، معلومة متممة. فتعلم الإيمان الذي ذكره الصحابة له مصدران: الأول تعليم النبي صلى الله عله وسلم لهم الدين. وذلك ما مثلنا له بالمرحلة المكية. وأما المصدر الثاني، فيتأكد من مواثيق ثلاثة أخذت على بني البشر وهي:
الميثاق الأول: هو الذي واثَقَ الله به عباده حين أخرجهم من ظهور آبائهم، ثم استنطقهم، وهو القادر على كل شيء، ليجيبوا عن سؤال محدد طُرح عليهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُم). وكان الجواب: (بَلَى). ودليله من كتاب الله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
الميثاق الثاني: الفطرة. ففي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وفيه أيضاً: (إنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا).
الميثاق الثالث: ويسميه بعض العلماء: (الحجة الرسالية). وهو ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب تجديداً وتأكيدا وتذكيرا للميثاقين السابقين. (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). والأصل في الميثاقين الأولين، اللذين أخذا على بني البشر بقدرة الله قبل أن يخلقوا، أن يشدا كل أحد من ذرية آدم، تلقائيا، إلى الحق المنزل من فوق سبع سماوات، لأنّه مزود غريزياً، بمستقبلات لذلك، غرزها الله في أصل خلقة! وإذا فشل ذلك، ولم تحصل الهداية، فيكون السبب أنّ العبد قد صرف فطرته التي فطره الله عليها عن الحق المنزل بصوارف من هواه، والشهوات، والشبهات. هذا ما أردت عدم تفويته، بتكثيف شديد.

الوقفةالثانية: إنّ في هذا الحديث وأمثاله، أرقى وأعظم مصدر لتلقي العلم. كيف لا وهو محاورة بين الله وملائكته، وهل من مصدر للعلم أعلى من هذا..؟ وأتذكر بالمناسبة حديث: (فِيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى) والحديث حوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وربه كما تعلمون. هذه المعلومة يجب أن تزيد من حفاوة المؤمن بمثل هذه النصوص والعض عليها بالنواجذ. إنّ الله لحبه لنا ولحرصه علينا ولأنّه خلقنا للجنة، يحاور ملائكته لا من أجل أن يعلمهم ولكن ليعلمنا. فهل نقبل أم نعرض..؟ والآن نرجع إلى حديثنا:
يقول الحديث: إنّ ملائكة تطوف في الأرض تبحث عن أصحاب مجالس الذكر، فإذا عثر بعض الملائكة عليهم نادوا الباقين (هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُم). تخيلوا الصورة في أذهانكم: حشد من الملائكة يرسلهم ربهم بمهمة خاصة إلى الأرض، وأركز على كلمة خاصة لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ركز عليها في قوله (فُضُلاً عَنْ كُتَّاب النَّاسِ). في الأرض ملائكة كثيرون لمهام متعددة، لكنّ هؤلاء أرسلوا بمهمة خاصة لكم أنتم أهل مجالس الذكر.

ولا بد من استطراد يسير، كثيراً ما يجني المصطلح على الحقيقة..! فلو قلت اليوم (مجالس الذكر) لتبادر إلى أذهان الناس ما علق من رواسب التصوف وهو أناس مجتمعون للذكر المفرد (الله الله الله هو) أو (ناس التفوا حول شيخ لهم في حلبة الرقص للحضرة). فما هي مجالس الذكر حقا؟
إنّ الشيخ ابن سعدي رحمه الله وضع في كتابه المشهور (تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير الأحكام) عنواناَ هو (فصل في ذكر حدود ألفاظ كثر مرورها في القرآن) يقول تحت هذا العنوان: ((الذكر لله) الذي ورد في القرآن الأمر به والثناء على أهله، وما رتب عليه من الجزاء يطلق على جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، القولية والفعلية، فكلُّ ما تصوره القلب أو أراده أو فعله العبد أو تكلم به مما يقرب إلى الله فهو ذكر الله، والله تعالى شرع العبادات كلها لإقامة ذكره، فهي ذكر الله، ويطلق على ذكر الله باللسان بذكر أوصافه وأفعاله والثناء عليه بنعمه وتسبيحه وتكبيره وتحميده والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذكره ذكر أحكامه تعلمها وتعليمها، ولهذا مجالس التعلم والتعليم يقال لها مجالس الذكر، وأفضل أنواع الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان).
وما أحرى المجالس التي يدعى فيه إلى الله، ويتعلم فيه الوحيان، كمجلسنا هذا إن شاء الله أن تكون من مجالس الذكر.

أعود إلى الملائكة، إنّهم يطوفون الأرض متفرقين لتنفيذ ما أمروا به ويعثر بعضهم على ضالتهم فيتنادى الجميع لها .. ما هي ضالة الملائكة؟ إنّهم أهل الذكر من البشر، ونحن الآن منهم، فإذا ظفروا بهم فقد حققوا إنجازاً كبيراً، وهو تحقيق المهمة التي أمرهم بها ربهم. نتساءل ما هي قيمة أشخاص تبحث عنهم وتتقصى خبرهم ملائكة الرحمن بتكليف منه تبارك وتعالى؟ هل هم كسائر البشر؟ نعم إنّهم في بشريتهم كذلك، ولكنّهم في علاقتهم بربهم في رتبة فوق سائر البشر إلا من عمل عملهم، أجراً وتكريماً وحسن خاتمة. وما هي مهمة الملائكة معهم؟ (فَيَحُفُّونَ بِهِمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا). هل تتصورون أيها الإخوة أنّ جمعاً كبيراً من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله قد حشدوا لكم أنتم وحدكم، دون سائر أهل الأرض، يحفونكم بأجنحتهم فيملأ هذا الحشد الحاف لكم من الملائكة ما بين مجلسكم هذا إلى السماء الدنيا..! من نحن؟ ولم هذه الحفاوة؟ ولم هذا المهرجان؟ ألأنّ بيننا ذا جاه وسلطان؟ ألأنّ بيننا ذا مال وأطيان؟ ألأنّ بيننا ذا حسب ونسب؟ كلا وألف كلا، إنّنا أعز على الله ربنا من كل أولئك، من أهل الجاه والمال والنسب، لأنّنا بربنا وإسلامنا خير من كل أولئك. إنّنا أهل لتكريم الله لنا وحفاوته بنا، فيحشد لنا ما هو به عليم من ملائكته.
أيها الإخوة لننظر جميعا من حولنا ومن فوقنا هل نرى شيئأ؟ ولنصغ بأسماعنا هل نسمع شيئا؟ إنّ العقل والحواس معه، تنفي وجود أي شيء، أما من رزق الإيمان بالغيب، ونحن إنّ شاء الله منهم، يحسون بهذا الإيمان، وجودَ كلِّ شيء، يقرؤونه في الحديث. إنّهم بإيمانهم بلغوا حالة أن يروا ما يسمعون، ويعيشون الموقف الذي أراد نبيهم أن يعيشوه.
أيها الإخوة .. لقد وجد في مسلمي الجيل الأول من عاشوا حقيقة الإيمان بالغيب في أرقى وأدق حالتها، وهي أن يروا ما يسمعون من نبيهم لكن بعيون الإيمان وليس بعيني الوجه. واقرؤوا الحديث التالي:
عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِىِّ، وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: (لَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَال:َ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ! قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ. قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (وَمَا ذَاكَ). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِى وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً)).
وإن
ّ
نبينا صلى الله عليه وسلم أرشدنا كيف يمكن أن نصل إلى
واقع أن نرى ما نسمع: عن ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فليَقرأْ: (إِذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ) و(إِذا السَّماءُ انفطرَتْ) و(إِذا السَّماءُ انشقَّتْ)).
إنّه الإيمان بالغيب .. أي فعل نفعل نحن الآن..؟ وأي عمل نقدم..؟ وأي موقف نقف..؟ لا شيْ غير أنّنا نذكر الله معظمين لكتابه ولسنة نبيه، على ذلك اجتمعنا وعليه نفترق بإذن الله. وإلى هذا الحق والخير ندعو الناس وعليه نجالسهم ونناصحهم. ثم نسائل أنفسنا ما هؤلاء الملائكة؟ إنّهم حراس، والأهم أنّهم شهود عدول عند الله يشهدون عملنا الصالح، ويشهدون لنا عند الله تبارك وتعالى.

الوقفة الثالثة: لننظر في الحوار الدائر بين الله تبارك وتعالى وملائكته. سؤال مغرق في الدقة والخصوصية، عن حال أهل الذكر، عن حالنا نحن الآن. الحوار دائر عنّا الآن بين الله وملائكته، والملائكة ترفع الصورة إلى ربها، كيف لا، وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
أتدرون ماذا نفعل الآن، ونحن نشرح الحديث؟ إنّنا نقرأ السطور، وما بين السطور، وما وراء السطور. وهذا ما ينبغي فعله، مع كل نص من الوحيين.
فحين يسأل الله الملائكة عنا، يتولون الإجابة عنا بما يرون منا، وما يسمعون عنا، وما يتوقعون أن يكون عليه كل أهل الحق والإيمان. إنّ الملائكة يعلمون من حقائق الدين التي يشاركون فيها أهل الإيمان أنّ أحدا لم ولن يرى الله قبل يوم القيامة، وأنّ أحدا لم ولن يرى الجنة والنار قبل يوم القيامة. بهذا قطع الملائكة بالإجابة عنا. ليُعْلِموا ربهم أنّنا نفعل ما نفعل لا تصديقاً برؤية عين، ولكنْ تصديقاً بما قاله الله ورسوله.

الوقفة الرابعة: يمكن تلخيص الحديث كأنّ الله يعجب من دعاء عباده له، ومن استعاذتهم من ناره، وطمعهم في جنته، ولم يروا من ذلك شيئا..! ولكن تصديقهم بخبر الله ورسوله كان أكبر من إدراك العقل وإحساس الحواس عندهم. لقد كان إيماناً بالغيب، وتصديقاً بما جاء في الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة. هذا هو شأن أهل الإيمان الذين لا تعترض إيمانهم شبهة، ولا يعترض استجابتهم لنداء الإيمان نزوة عقل، ولا يشوب موقفهم مما جاءهم من الحق صارف هوى. إنّهم الذين يقولون: (رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). فماذا كان الجزاء؟ وأي جزاء؟ الجزاء الفوري الذي يكون ختام المحاورة بين الملائكة وربهم (أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ).
لكن مَلَكاً من الأملاك، وهو يرى هذا الجزاء الوفاق، العظيم لأهل مجلس الذكر هذا، وهذه الحظوة الكبيرة لهم عند ربهم، يرى إحقاقاً للحق أنّ في المجلس رجلاً لا يستحق ما استحقه أهل الذكر فيخاطب ربه (إِنَّ فِيهِمْ فُلَانًا لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ) فيُجيب أكرم الأكرمين بعطاء جديد لأهل ذكره، فيهب لهم جليسهم، ولو لم يكن محسناً كإحسانهم، لينال ما نالوا متوجاً عطاءه لهم، وتكريمه إياهم بوصفهم (فَهُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ).

أيها المؤمنون .. هل يخطر ببال أي أحد منا، بعد أن وعى هذه القصة العظيمة بسطورها وما بين وما وراء السطور، لو سئل بعد مغادرته مجلسنا المبارك هذا، من زوجة أو ولد أو صديق أين كنت، وماذا فعلت..؟ أن يقص هذه القصة بصياغة حلوة وأسلوب شيق، فيُعرف سائله أو سائليه، عن المجلس الذي كان فيه، وأنّه ليس من مجالس الأرض مع أنّه على الأرض،
وأنّ الملائكة كانت تحرسه، وتحفه بأجنحتها طبقاً فوق طبق من الأرض إلى السماء الدنيا..! بدل أن يكون الحوار (شو كان المهيا..؟).

الوقفة الخامسة: لقد قلت في الوقفة الرابعة (يمكن تلخيص الحديث كأنّ الله يعجب من دعاء عباده له، ومن استعاذتهم من ناره، وطمعهم في جنته…) فائذنوا لي باستطراد ضروري ألخصه بالسؤال الآتي: ماذا يعني تعجب الله من أمر؟ وهل يجوز استعمال صفة العجب لله تعالى؟
أما السؤال فإنّ تعجب الله من أمر يعني تعظيم ذاك الأمر المُتَعَجَّب منه، ولفت الأنظار إليه. وسيأتي تمثيل وزيادة تفصيل.
أما السؤال الثاني: هل يجوز إثبات صفة العجب لله تعالى؟ أُذكِّر بقاعدة من أهم قواعد أهل السنة والجماعة في التعامل مع أسماء الله تعالى وصفاته: (نثبت لله تعالى كل ما أثبته لنفسه أو أثبته له نبيه، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل). ولقد ثبتت صفة العجب لله بنصوص منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ ربك ليعجب للشاب لا صبوة له).
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه). وقال مرة أخرى: (ليضحك من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يدخلان الجنة).
وعن علي بن ربيعة قال: (شهدت عليا رضي الله عنه وأتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثم قال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنّا إلى ربنا لمنقلبون} ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات ثم قال: سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي؛ فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يارسول الله، من أي شيء ضحكت؟ قال: (إنّ ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنّه لا يغفر الذنوب غيري)).
وعن عقبة بن عامر مرفرعاً: (يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية جبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عزوجل أنظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة).
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه: (أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (مَنْ يَضُمُّ، أَوْ يُضِيفُ هَذَا). فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَا. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ أَكْرِمِى ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِى. فَقَالَ هَيِّئِى طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِى سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِى صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا) فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).
ولما حاد أقوام،
وفيهم علماء، عن تطبيق القاعدة السابقة، وأبوا إلا أن يقحموا عقولهم في أسماء الله وصفاته
، بل في أعلى أمر من أمور الغيب، فاضطرتهم عقولهم إلى التأويل فأولوا صفة العجب والضحك التي أثبتها الله تبارك وتعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله بأنّها الرضا، أو تأويلات مختلفة، زاعمين أنّ الذي يعجب هو الذي يفاجأ بعلم ليس عنده، ورأوا أنّ ذلك لا ينبغي بحق الله تبارك وتعالى، زعموا.
ولنأخذ أمثلة على مواقف العلماء وتأويلاتهم. يقول النووي في شرحه على مسلم: (قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد بِالْعَجَبِ مِنْ اللَّه رِضَاهُ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد عَجِبَتْ مَلَائِكَة اللَّه، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى تَشْرِيفًا).
أما ابن حجر رحمه الله فيقول في الفتح: (نسْبَة الضَّحِك وَالتَّعَجُّب إِلَى اللَّه مَجَازِيَّة وَالْمُرَاد بِهِمَا الرِّضَا بِصَنِيعِهِمَا). وينقل عن غيره: (وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِطْلَاق الْعَجَب عَلَى اللَّه مُحَال وَمَعْنَاهُ الرِّضَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ الصَّنِيع حَلَّ مِنْ الرِّضَا عِنْد اللَّه حُلُول الْعَجَب عِنْدكُمْ، قَالَ: وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد بِالْعَجَبِ هُنَا أَنَّ اللَّه يُعْجِب مَلَائِكَتَهُ مِنْ صَنِيعهمَا لِنُدُورِ مَا وَقَعَ مِنْهُمَا فِي الْعَادَة. قَالَ وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّه (يعني البخاري): مَعْنَى الضَّحِك هُنَا الرَّحْمَة).
لكنّ ابن حجر ينفي ذلك من البخاري، فيقول: (قُلْت: وَلَمْ أَرَ ذَلِكَ فِي النُّسَخ الَّتِي وَقَعَتْ لَنَا مِنْ الْبُخَارِيّ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَتَأْوِيل الضَّحِك بِالرِّضَا أَقْرَب مِنْ تَأْوِيله بِالرَّحْمَةِ، لِأَنَّ الضَّحِك مِنْ الْكِرَام يَدُلّ عَلَى الرِّضَا فَإِنَّهُمْ يُوصَفُونَ بِالْبِشْرِ عِنْد السُّؤَال. قُلْت: الرِّضَا مِنْ اللَّه يَسْتَلْزِم الرَّحْمَة وَهُوَ لَازِمه، وَاَللَّه أَعْلَم).
والحق الذي لا يقبل الجدال والمراء أن نرد كل تلك التأويلات، ولو صدرت عن العسقلاني أو النووي أو الخطابي، وإن كانت حجتهم وحجة أتباعهم أنّ ذلك التأويل هو الأليق بالله تبارك وتعالى تنزيهاً، نرد عليهم قائلين ليس أحد أحرص على تنزيه الله تبارك وتعالى من حرصه جلّ جلاله على تنزيه نفسه. وليس أحد أحرص على تنزيه الله تبارك وتعالى من حرص نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم الخلق بربه. فهل بعد ذلك الكلام من كلام؟!

وإن كان لا بد من وصية، فأوصي نفسي، وكل من يسمع هذا الخطاب، أن نتواصى جميعاً بأن نولي أمر (الإيمان بالغيب) عناية خاصة في دعوتنا إلى الله، فهو المأتى الذي يؤتى منه شباب المسلمين اليوم، لاسيما مع اجتهاد الدعوة العقلية، وجَلَد أهلها. ووجود المنابر التي تتبرع وتتطوع لحمل هذه الدعوة وبثها، وإكساء الإسلام في نظر البسطاء والجهال، حلة من الحداثة والعصرانية والواقعية، التي تجذب الناس إليها كما يجذب ضياء النار الفراش الغبي إلى مقتله في حرها ولهيبها.
وأُذكر بكلمة عمر رضي الله عنه، لتكون باعث حركتنا، ومحرض اندفاعنا: (اللهم إنّي أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة). والفجار اليوم لا يألون جهداً في حرب الدين الحق وأهله، دين (ما أنا عليه وأصحابي). فماذا يُعِدُّ الثقات..؟
واقبلوا مني، ختاماً، هديةً من نبيكم صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله تعالى فيقومون حتى يقال لهم: قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم، وبدلت سيئاتكم حسنات).

والحمد لله رب العالمين

* هذه المذاكرة كانت محور جلسة دعوية في دمشق (في مزرعة أخٍ كريم في يعفور) سنة 2007