خلق الله الخلق، وكتب لهم أرزاقهم من قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، كما كتب آجالهم. و قد غرز في أصل خلقهم غريزة طلب الرزق، وهي من غريزة الحرص على البقاء. وتستوي في ذلك كل المخلوقات الحية، في عالم الإنسان والحيوان، بل والمخلوقات المجهرية. ويهمنا التعامل مع مسألة الرزق، في عالم الإنسان، لكونه المخلوق المكرم والمكلف.
ويبرز في بني البشر شريحتان من حيث الموقف من قضية الرزق وطلبه: شريحةٌ يضنيها اللهاث وراء طلب الرزق، فلا ترى له حداً، ولا تصل فيه إلى قناعة، وإنّما دأبٌ ونصبٌ وسباقٌ حتى الموت. وأخرى ديدنها الكسلُ والتقاعسُ، تبررهما بالقناعة والتواكل، وإيثار الدعة والراحة. ودائما تضيع الحقائق بين الطرفين، ويفشل البعض في البحث عنها في منطقة الوسط بين كل طرفين.
والمسلم الذي يؤمن بمنهج سماوي يضبط مساره على الأرض، ويرسم له المواقف الصحيحة مع كل شأن، هو الذي يعيش الحياة الطيبة المتوازنة، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما جاءه، لأنّه استوعب المعادلة الشرعية بين المكتوب والمأمور بالسعي له. ولتوضيح ذلك فيما يخص الرزق وطلبه لا بد من استيعاب الحقائق الشرعية الآتية:
أولاً: إنّ الله سبحانه وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، قال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ). وقال تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاْبْصَارَ). وقال جلّ ذكره: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ أَفَبِالْبَااطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).
إذاً كل ما بيد المسلم، في هذه الدنيا، فهو من رزق الله له، أموال وبنون، بيوت ومزارع، قصور ومراكب، صحة وعافية، كلها وغيرها من تمام رزق الله لعبده في الدنيا.
ثانياً: رزق الخلائق في الدنيا كلها من فعل الله، وفي ذلك دلالة على كمال ربوبيته وقيوميته، ولذلك كان اسمه الرزّاق، لا تنضب خزائنه ولا ينفد ما عنده، جواد كريم، تبارك وتعالى.
ثالثاً: إنّ من لوزام ومقتضيات الإيمان بالقضاء والقدر، في عقيدة المسلم، وفي باب الرزق، أنّ كل خير وكل رزق يقدره الله للعبد لا يمكن أن يخطئه، قال الله تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ).
إنّ رزقك يا عبد الله كتب لك وأنت في بطن أمك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ).
فلو اجتمع أهل الدنيا كلهم ليمنعوك رزقاً قدره الله لك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو أرادوا أن يرزقوك رزقا لم يكتبْه الله لك لم يفلحوا.
رابعاً: ومن أصول الاعتقاد في الرزق، أنّ تقسيم الأرزاق بين الناس لا علاقة له بالحسب ولا بالنسب، ولا بالعقل والذكاء، ولا بالوجاهة والمكانة ولا بالطاعة والعصيان، وإنّما يوزع جلّ جلاله رزقه على عباده لحكمة لا يعلمها إلا هو، تبارك وتعالى، فقد يعطي المجنون، ويحرم العاقل، وقد يعطي الوضيع، ويمنع الحسيب، وقد يعطي العاصي، ويمسك عن الطائع.
ولَوْ كانَتِ الأرزَاقُ تَجْري على الحِجَا … هلكْــنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهنَّ البَهَائِـــــــــمُ
فلــم يجتمعْ شــــــــرقٌ وغــربٌ لقاصـــــــــــــدٍ … ولا المَجْدُ في كَف امْرئٍ والدَّرَاهِمُ
فإذا أُعطيتَ يا عبد الله فلا تظننَّ أنّ هذا الرزق قد سيق إليك لأنّك حظي عند ربك، بل لعله فتنة ومتاع إلى حين، وأنت لا تشعر. إنّما هذه أرزاق يقسمها مالك السماوات والأرض لِحِكَمٍ هو يعلمها.
خامساً: إنّ الرزق يُجرىَ للعبد ليستعين به على طاعة ربه، قال ابن تيمة رحمه الله: (إنّما خلق الله الخلق ليعبدوه، وإنّما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته).
إذن يعطيك الله سبحانه ما أعطاك لا لتلهوَ وتلعب به، وتنسى الدار الآخرة، التي من أجلها خلقت ولأجلها أُعطيت (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).
بماذا يُجيب الذي يستخدم رزق الله في أسفارٍ مشبوهة، وجلسات منكرة غاوية..؟ بماذا يجيب من يستخدم رزق الله في الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وفعل كل محرم..؟ بماذا يجيب من يستخدم رزق الله في ظلم الناس وأكل حقوقهم..؟ بماذا يجيب من يستخدم رزق الله في محاربة دين الله وأهله..؟
بماذا يجيب من يستخدم رزق الله في نشر الفساد في الأرض، مكتوباً ومرئياً ومسموعاً..؟ بماذا يجيب من يستخدم رزق الله في التمكين لأعداء الله..؟
إذاً فلْيُعِدَّ كلٌ جوابا لسؤال لا بد أن يطرح عليه..! وليعدَّ كلٌ كشف حساب عما فعل في ما أنعم الله عليه..! قال تعالى: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).
سادساً: الربط في القرآن الكريم كثير بين تذكير الناس برزق الله لهم، وحثهم على الإنفاق منه: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ).
ومن ثناء الله على المؤمنين قوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). ويقول الله تعالى: (قُل لّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً). ويقول: (وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا). وقال سبحانه: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
إنّ هذه الآيات وأمثالها تدل على أنّ من المقاصد الأساسية لرزق الله للعبد هو أن يُتعَبَّدَ للهُ بهذا الرزق، ولهذا تجد أنّ الفقهاء يذكرون في كتب الفقه أنّ على العباد عباداتٍ ماليةً، كالزكاة، وعباداتٍ بدنيةً كالصلاة والصوم، ونوع ثالث، تجتمع فيه العبادات البدنية والمالية كالحج.
سابعاً: ومن عقيدة المسلم في الرزق، أنّ الله جلّ وعز، فضل بعض الناس على بعض في الرزق، فأعطى هذا وبسط له الكثير، وأعطى ذاك أقل منه، وحرم الثالث وقدَر عليه رزقه. قال الله تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرّزْقِ). وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له، (واقنعْ برزقك من الدنيا فإنّ الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق).
ولا تعني هذه الحقيقة الشرعية أن يتوانى المسلم في طلب الرزق ويتقاعس بدعوى أنّه من المقتر عليهم في الرزق. نقول لمن عندهم هذا التوجه: إنّك لا تعلم ما قد كتب لك من الرزق. وخفاء المكتوب يجعل الحافز والدافع واحدا عند كل الناس، ثم يعطى كلٌ على قدر جده وسعيه، مما قد كتب له. ولا يستوي متراخٍ وجادٍّ.
ثامناً: ومن العقائد المهمة في باب الرزق أنّه لا يُطلب إلا من الله، ولا يُسأل إلا وجهه الكريم، (إذا سألت فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعِنْ بالله). ولذا ذمَّ الله تعالى أولئك الذين يدعون غيره في طلب الرزق، فقال سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ). وأمر جل وتعالى عباده المؤمنين بطلب الرزق عنده فقال: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ).
فمن طلب من الله وسأله، وبذل الأسباب، وتوكل على رب الأرباب، أعطاه الله وسخر له ما لا يعلم، ورزقه من حيث لا يحتسب، وأتته الدنيا وهي راغمة. وأما من التفت إلى غير الله، وتعلق قلبه بما في يد فلان وفلان، وترك سؤال الله، أذله الله، وحرمه ما تمنى ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له. (أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ).
أمَا سمع أولئك الذين باعوا ذممهم ودينهم، لنيلٍ من الدنيا قليل، وباعوا دينهم مقابل عرضٍ زائلٍ ضئيل، قول ربهم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
إنّ عطاء الله، وإغداقه سبحانه، في الرزق على العبد، لا يدل على محبة الله لهذا العبد، ورضاه عنه. والمفهوم المخالف صحيح أيضاً، فليس إمساك الله الرزق، عن عبد دليل الخذلان وعدم الرضا! (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ)، فلو وُسِّعَ عليك في رزقك، فلا تظننَّ أن هذا بسبب محبة الله لك، فالله يعطي الفجار والأبرار، وقد يرزق الكافرين أضعاف أضعاف المسلمين، واسمع يا أخي حديث عقبة بن عامر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا، وهو قائم على معاصيه، فليحذرْ فإنّما هو استدراج). ثم تلا قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ). وقال الله تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ).
وبعد: يشغل بالَ كثيرٍ من الناس، طلبُ الرزق، وكيف يكون؟ ويلجأ بعضهم إلى طرق ملتوية ومحرمة للحصول على الأرزاق، وما علم أولئك أنّ الحرام يمحق البركة، وأنّ ما عند الله لا ينال إلا بطاعته. وقد جعل الله لطلب الرزق أسبابا ووسائل مادية مشروعة كالعمل، وهو من أفضل طرق الكسب، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ). وكالتجارة والزراعة وغير ذلك، وحذر الله ورسوله المسلمين من بعض طرق الكسب لما فيها من غبن أو غش أو جهالة أو غرر أو ربا محرم.
والمسلم وهو يطلب الرزق الحلال، عن طريق المكاسب الشرعية المباحة، لا ينسى وسائل شرعية يتوسل به المسلم إلى توسعة رزقه وتيسيره. فالمسلم الحق يسلك في طلب الرزق طريقين معاً، لا يستغني بأحدهما عمن الآخر. مادياً يحقق مبدأ الأخذ بالأسباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي الجبل فيجئ بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بثمنها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه). وشرعياً يحقق العبودية التامة لله في التوكل عليه، وطلب ما عنده بطاعته. ولنتعرف على هذه الوسائل الشرعية لاستجلاب الرزق:
أولاً: الاستغفار والتوبة قال الله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً). قال القرطبي رحمه الله: (هذه الآية دليل على أنّ الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار).
وقال ابن كثير رحمه الله: (أي إذا تبتم واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم).
(جاء رجل إلى الحسن فشكا إليه الجَدْب، فقال: استغفر الله، وجاء آخر فشكا الفقر، فقال له: استغفر الله، وجاء آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال: استغفر الله، فقال أصحاب الحسن: سألوك مسائل شتى وأجبتهم بجواب واحد وهو الاستغفار، فقال رحمه الله: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)).
ثانياً: التوكل على الله الأحد الفرد الصمد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا). قال الله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً).
ثالثاً: عبادة الله كما أمر وشرع، وعلّم نبيه صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وأَسُدُّ فَقْرَكَ وَإِنْ لَا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ).
رابعاً: المتابعة بين الحج والعمرة وهما من أركان الإسلام، وهما عبادة يجتمع معها البذل والإنفاق، والسفر طاعةً لله، متحملاً ما فيه من مشاق، (والسفر قطعة من العذاب). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ). والجزاء فيهما من جنس العمل، إنفاق في سبيل الله، يعقبه الرزق من الله.
خامساً: صلة الرحم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). وفي رواية: (من سره أن يُعظم الله رزقه وأن يمد في أجله فليصل رحمه).
وكم فرط الناس اليوم بصلة الرحم. بل من المسلمين من يتواصل مع الكفرة الفجرة، ويقطع أقرب الأرحام، لعرض من الدنيا زائل، أو لسفاسف من الأمور ما تحتها طائل. وتأمل يا أخي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي بكرة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعجلَ الطاعة ثواباً لَصِلَةُ الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونون فَجَرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا). فصلة الرحم نفعت فجرة المسلمين، فكيف بأتقيائهم..؟
سادساً: الإنفاق في سبيل الله قال الله تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (أَنْفِقْ يَا بِلَالُ وَلَا تَخْشَ من ذِي الْعَرْش إقلالاً). وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ). الله أكبر ما أعظمه من ضمان للرزق، أنفقْ أُنفقُ عليك.
سابعاً: الإحسان إلى الضعفاء والفقراء وبذل العون لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ) رواه البخاري.
فمن رغب في رزق الله له، وبسطه عليه، فلا ينسَ الضعفاء والمساكين، فإنّما بهم ترزق ويغدق عليك، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: (أبغوني الضعفاء، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).
ثامناً: المهاجرة في سبيل الله، والسعي في أرض الله الواسعة، فما أغلق دونك هنا، قد يفتح لك هناك (وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً).
فاعلموا، حكم الله في هذه المسألة الخطيرة، فهي من أدق المسائل، وألصقها بحياتكم اليومية. إنّها مسألة تورث السعادة أو الشقاوة، تبعث في النفوس الطمأنينة أو القلق، تقود إلى جنة أو نار. مسألة تُساكنكم وتُضاجعكم، ولاتملكون صرفها عنكم. جعلها الله للحياة قياما، وصارت للخلق مقصدا واهتماما. وكثيرا ما يقترن كسب الرزق، بكسب الذنوب والخطايا، والمخرج والمنجى، أن يُسَيِّرَكم فيها تقواكم، وليس طمعَكُم وهواكُم، فاجعلوا العلم لكم دليلاً، وإلى الجنة سبيلا.
والحمد لله رب العالمين