وهي فتنة وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، محذراً أمته، بقوله: (مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَمْرٌ أَكْبَر مِن الدَّجَّال). إذن هي فتنة من أعظم الفتن التي تواجه البشر، بل هي أعظمها. ولا بد من السؤال: لماذا؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال المهم، أقول لا أريد استهلاك الوقت، وإطالة الكلام، في ذكر أحاديث الدجال كلِّها، وأعماله وأحواله جُلِّها، فهي في مظانِّها معروفة، لمن أراد الاستزادة. وإنّي أنصح بقراءتها بين الفينة والفينة ليبقى المسلم منها على ذكر لخطورتها. وسأقتصر على ما يفي بغرض هيكلة الموضوع، من النصوص، وبما يحقق إغناء البحث. وأرى من المناسب إيراد قطعةٍ، من حديثٍ، يبين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أفعال الدجال التي يفتن بها الناس، ليتضح عِظم فتنته وخطورتها على الناس، وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في وصفه والتحذير منه، حتى قال لهم مرة: (إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا). ويقول بعض الصحابة رضي الله عنهم بعد سماعهم حديث النبي عليه السلام عن الدجال: (قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ. فَقَالَ: (غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِى عَلَيْكُمْ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)). (فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ: أي حقَّره، وقلل من شأنه، لأنّه دجال وضيع. ورفع أي عظَّم من شأن فتنته تحذيرا).
ولقد بين صلى الله عليه وسلم في بعض أحاديثه سبب خشيته على أمته منه بقوله: (من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنّه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات). ويقول الصادق المصدوق، في ذكر بعض الشبهات، التي تأخذ الناس، وهم يرون الدجال:
. (وإنَّ من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أنّي ربك؟ فيقول: نعم فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بنيَّ اتبعه فإنّه ربك).
. (وإنَّ من فتنته أن يُسَلَط على نفس واحدة، فيقتلها، ينشرها بالمنشار، حتى تلقى شقين. ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإنّي أبعثه. ثم يزعم أنّ له ربا غيري. فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربُك؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله، أنت الدجال، والله ما كنت قط أشد بصيرة بك مني اليوم).
. (وإنَّ من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، و يأمر الأرض أن تنبت فتنبت).
. (وإنَّ من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإنّ من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصر وأدره ضروعا، وإنّه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه).
ما أشد تلك الفتن وما أفعلها في قلوب الناس! إلا من بادرها بالوحيين تصديقاً وفهماً وتطبيقاً، فأولئك هم الناجون..!
أما الإجابة عن السؤال السابق لماذا؟ أي لماذا تكون فتنة الدجال أكبر وأعظم فتنة ما بين
خلق آدم إلى قيام الساعة؟ وهذا ما عبرت عنه (بالسِّرِّ) في العنوان، وهو ما وددت أن أجعل مدار البحث عليه، لنعلم الحكمة من وراء تحذير نبينا صلوات الله وسلامه عليه من هذه الفتنة العظيمة، ولكي ننتفع بهذا التحذير حق الانتفاع!
وإنّ الإجابة سهلة يسيرة، حينما نلتمسها في الوحي الثاني وهو السنة. وأحب أن أستطرد بجملة أو جملتين أكررهما دائما للأهمية، وهما أنّ من فاته علم السنة فاتَه خيرٌ كثير، بل كان دينه ناقصا. وستجدون البرهان في السطور القادمة. يقول صلى الله عليه وسلم: (لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال، ولن ينجو أحد مما قبلها، إلا نجا منها، وما صنعت فتنة، منذ كانت الدنيا، صغيرة ولا كبيرة، إلا لفتنة الدجال). كلام عظيم عظيم، وخطير خطير، كيف لا وهو كلامُ من لا ينطق عن الهوى..؟ لكنْ لا يَنتفع به إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. ولتكن لنا وقفات مع هذا الحديث لأهميته:
1. يستهل النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بتحذير عجيب، وهو أنّ فتنة الدجال رغم أنّها أعظم فتنة، وأخطر فتنة، إلا أنّ نبينا صلى الله عليه وسلم، لِحَدَبِه على أمته، يخشى علينا فتنة أخطر منها! ومكمن خطورتها قُربُها منا، وملابستها لنا، باستمرار، إنّها فتنة بعضنا بعضاً (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا).
وإنَّ فتنة الناس بعضهم لبعض عظيمة وخطيرة لكنّها خافية، ولذلك تفعل فعلها فيهم. ولا يدرك خطورتها إلا من يسره الله لدراسة الوحيين، واستخلاص الكنوز النافعة منهما، واقرؤوا قول الله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ..؟). فماذا يعني تساؤل أتصبرون؟ إنّه يوحي بأنّ تلك الفتنة شديدة الملابسة للناس، عظيمة التأثير فيهم، وبالتالي فالناجي منها قليل..!
2. ولعل أمامنا فكرة، في هذا الحديث، تشكل المفتاح لمعرفة ما نريد معرفته عن فتنة الدجال. ولنطرح تلك الفكرة بشكل سؤال: إذا كانت فتنة الدجال لا تصيب إلا من يعاصرون خروج الدجال، فما خطورتها على الناس قبل ذلك؟ ولِمَ يُحذِّر الأنبياءُ، من لدن نوحٍ أقوامهم منها كما جاء في الحديث، ومعلوم أنها ستكون في آخر الزمان، وبين يدي الساعة؟
إنَّ ما جاء في الحديث، ومع إمعان النظر، دعوةٌ لكل مؤمن إلى اتقاء كلِّ فتنة في حياته، وفي أي زمان ومكان، ليكون مُحَصَّناً من كل الفتن، وبالتالي، فإنّ ذلك التحصين للنفس، من كلِّ فتنة، هو في الوقت نفسه تحصينٌ ضد أعظم وأخطر فتنة، تكون في الأرض، وهي فتنة الدجال. فالتحذير من الفتن وعلى رأسها فتنة الدجال، هو في الحقيقة تحذير من الأصل الذي تقوم عليه الفتن، وما هو هذا الأصل؟ إنّه ترك التصديق بالغيبيات التي جاءت من عند الله، سواء في القرآن، أو على لسان النبي عليه السلام في السنة الصحيحة، وتجاهلها، بل ترك الإيمان والعمل بها، إكتفاءً، وتشاغلاً، بما يدركه العقل عن طريق الحواس. والحواس تقبل الخداع، والعقل يقبل أن يُلبَّس عليه، ويبقى الحق الذي لا يعتريه باطل، والحقيقة التي لا يكتنفها وهم، هو الذي جاء به الوحيان! وسيكون مرشحاً للوقوع في كل فتنة، من سار مع عقله وحواسه، وجعلهما أساس الاستدلال في مسائل الدين، حتى فيما يتصل بالغيوب، تاركاً الوحيين وراء ظهره.
وإسقاطا للفكرة على فتنة الدجال نقول: حينما يرى الأعرابي أمه وأباه وقد أحياهما الدجالُ بالاستعانة بالشياطين كذباً..! ويرى من يرى الدجال، كيف يأمر الدجالُ السماءَ فتمطر، والأرضَ فتنبت..! ويرى من يرى الدجال، كيف يُعذب الدجالُ الحيَّ الذي يكذبه بالقحط، والذي يصدقه بكثرة الخيرات..! عندئذٍ تُملي عقول المفتونين عليهم أن صدقوا ما ترى عيونكم، فإنّه الحق، وهل وراء العقل شيء؟ فيقول المفتونون، عندئذ، للدجال أنت ربنا، آمنا بك.! لأنّ حقائق الوحيين لم تَعْمُرْ قلوبهم، ولمْ تُنِرْ عقولهم وبصائرهم. فيدهشهم ويذهلهم، عن الحق، كلُّ إفْكٍ، تُحِسُّ به حواسُّهم، وتُصدقه عقولهم، التي لم تسْتَنرْ بنور الوحي، ولم تهتدِ بهداه. فأصحابُ مدرسة تقديم العقل، لا يؤمنون بالغيب، وهو من آصَلِ أصولِ الإسلام، فتجتاحهم كل الفتن، صغيرها وكبيرها، ويستحوذ عليهم الدجاجلة.
وماذا جاء في الوحي الثاني، عن الدجال لإبطال دعوى ربوبيته؟ برغم كل ما يُمَخْرِقُه ويُلَبِّسه ذاك الدجال؟ لقد جاءت لكل مسلم عن نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاث علامات تكشف الدجال، وتبطل أكاذيبه:
الأولى: (إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ).
الثانية: (إنّه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن من قارئ وغير قارئ).
الثالثة: (واعلموا أنّ أحدكم لا يرى ربه حتى يموت). فهل بعد هذا البيان بيانٌ، وهل بعد هذا التحصين من تحصين، وهل وراء هذا التحذير من تحذير؟
فمن صدَّق الوحي، وكذّب عينه وعقله وسمعه وكل حواسه، وكل الناس، نجا من الدجال. ونضرب مثالا واحدا للناجين، الذين أنجاهم من الوقوع في حبائل الدجال، الوحيُ الذي عبُّوا منه وتَضَلَّعوا، واسْتقرَّ في قلوبهم يقيناً، فلم يَفزعوا، وكان ذلك حالهم، في أية معركة مع الباطل. والمثل هو ما قصه علينا نبينا عليه السلام عن ذلك الرجل المؤمن: (وإنَّ من فتنته أن يُسلَّط على نفس واحدة فيقتلها ينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإنّي أبعثه، ثم يزعم أنّ له رباً غيري، فيبعثه الله ويقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله أنت الدجال، والله ما كنت قط أشد بصيرة بك مني اليوم).
وهكذا يتضح، وضوح الشمس في رائعة النهار، أنَّ أصل كل فتنة في الدين هو التقديم بين يدي الوحي، سواء كان المُقدَّم العقل، أو الكشف، أو الشيخ، أو الواقع، أو العلم، أو العصرنة،..أو..أو..أو!
فالمعتزلة وأفراخهم، الذين قدموا العقل على النقل، وأهل التصوف الذين قدموا الكشف عند مشائخهم على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وصدقوا كراماتهم المزعومة، وفاصلوا عليها أهل الحق، ومن اغتروا بالعلم وعبدوه من دون الله، وردوا به حقائق الدين، وقالوا: إذا تعارض العلم والدين فنحن مع العلم. كل أولئك وقعوا في فتنة الدجال، واجتاحتهم قبل أن يدركوا زمانها! لأنّهم أخفقوا في استيعاب الأصل الذي تقوم عليه الفتن، وهو باختصار شديد (ترك الوحي، بل تكذيب الوحي)، ومَن فشل في التعامل مع أي فتنة، قبل فتنة الدجال، بالأسلوب الشرعي الصحيح، فهو مع فتنة الدجال، وهي الأعظم والأخطر، أفشل.! ومن نجا من أي فتنة بإيمانه وتصديقه بالوحي، فهو من فتنة الدجال، أحرى بالنجاة والفوز، وهذا ما تعنيه عبارات الحديث الآتية: (ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها، وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال).
ومعنى عبارة الحديث: (وما صنعت فتنة إلا لفتنة الدجال) أنَّ كلَّ الفتن التي أرادها الله، منذ بدء الخليقة، صنعت لفتنة الدجال، أي توطئةً لها، وتبياناً لأصلها الذي تقوم عليه، وتعليماً للناس، وتحذيراً، وتحصيناً، لِيَعُوا كيف يكون التعامل مع الفتن، وبأي سلاحٍ، يتسلحون لها، من أصغر فتنةٍ، إلى الأكبر والأعظم والأخطر والأخوف، فتنةِ الدجال.
يقول ابن تيمية: (ولو لم تصب فتنتُه (أي الدجال)، إلا مجرد الذين يدركونه، لم يُؤمر بذلك كلُّ الخلق، مع العلم بأنّ جماهير العباد لا يدركونه، ولا يدركه إلا أقل القليل، من الناس المأمورين بهذا الدعاء، وهكذا إنذارُ الأنبياءِ إياه أُمَمَهم، حتى أنذر نوحٌ قومه، يقتضي تخويف عموم فتنته وإن تأخر وجود شخصه حتى يقتله المسيح بن مريم عليه السلام. وكثيرا ما كان يقع في قلبي، أنّ هؤلاء الطوائف ونحوهم أحق الناس باتباع الدجال. فإنّ القائلين بالإتحاد أو الحلول المعين، كقول النصارى في المسيح، والغالية الهالكة، في عليٍ، أو في غيره، كما ذهب إلى ذلك طوائف من غلاة الشيعة، وغلاة المتصوفة، لا يمتنع على قولهم أن يكون الدجال ونحوه هو الله).
وكثيرا ما طرح علي السؤال التالي: لم يخلق الله الفتن وبخاصة الدجال؟ أليُربِكَ الناس؟
أقول: معاذ الله، والله تبارك وتعالى يريد كل خلقه للجنة، يقول الصادق المصدوق: (والذي نفسي بيده لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى، وشرد على الله كشرود البعير. قالوا: ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). وهو، تبارك وتعالى، الذي (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ). وقد أجابنا تبارك وتعالى عن السؤال بنفسه في فواتح سورة العنكبوت: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
أتمنى أن أكون قد أوصلت ما أريد قوله عن فتنة الدجال، لكنّي أريد، وإن كان تكرارا، لكنّه نافعٌ بإذن الله، أن أركز على أنّ نبينا صلى الله عليه وسلم، نصحاً وتحذيراً وتعليماً، يبين صفة الدجال: (إنّه أعور)، والعور أبرز عيب يظهر في الإنسان، وأظهره لأنّه يُخِلُّ بتناظر الوجه، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ ربكم ليس بأعور). فكيف يخفى ذلك إلا على من لم يرفع بالوحيين رأسا، ولمْ يُقم لهدي نبيه، وزناً. وأقول الشيء نفسه مع الوصف الثاني وهو:(مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب)، يعني بتعبيرنا المعاصر، يقرؤه المتعلم والأمي، فمن يخطئ ذلك إلا من وضع الوحيين وراء ظهره، فاستَحقَّ أن يَكِلَهُ الله إلى نفسه، ويتركه، يتخبط في مهاوي الضلال..؟!
هذه فتنة الدجال باختصار، وأحب ختاما لبحثها، أن أؤكد على فكرة طرحت، وهي أهم ما في البحث، أنّ فتنة الدجال لا تنال من شهدها فقط، إنّما يقع فيها من كان قبل الدجال بقرون. لأنّها تُمثل وتُجسد كلَّ فتنةٍ وجرثومتها، وتحذر من ترك ما جاء من عند الله ورسوله، ليكون ذلك السلاح الأمضى في مواجهة الفتن. فمن لم يُعِدَّ العدة الشرعية، لتلك المواجهة، رتَعَ ووقَعَ، وكأنّما وقع في فتنة الدجال، رغم أنّه لم يدركها. ومن ينهج في الدين غير منهج الوحيين، فهو من حصاد كل فتنة، حتى فتنة الدجال، لو أدركها.
ويحذرنا نبينا عليه السلام فتنةً في الدين يراها في خطورتها على المسلمين كخطورة الدجال (غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال الأئمة المضلون). ما أعظمها من فتنة، أن تُبتلى أمة الإسلام برؤوس جهال، يتصدرون الفتيا والتوجيه، فيَضِلُّون ويُضِلُّون. وهذا والله هو أوان هذه الفتنة، وقد أطلت علينا بأقبح وأفضح إطلالة، وإنّ الذي مَهَّد وأدَّى وأعان على ظهور تلك الفتنة، أسبابٌ ثلاثة:
1. عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
إنّه زمان فشو الجهل، في الأمة وذهاب حراس دينها، وهم العلماء، وتنطع الجهال وترؤسهم، والأمة تصفق وتكرم، وتَقبَل رئاسة كل أحد في دينها. ولا يدري الناس أنّ ذممهم لا تبرؤ بمثل هؤلاء الجهال، بل هم الذين يقعون في الفتنة وقد يتوب أولئك الرؤوس!
وعن ابن عباس قال: (ويل للاتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه، فيترك قوله ذلك، ثم تمضي الأتباع).
2. حينما تجتاح الأمة السنون الخداعات التي أنبأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
هؤلاء هم الرويبضة يظهرون في الأجواء القاحلة، التي يصبح فيها الترأس والتصدر العلمي شرفاً وسمعةً وكسباً جماهيريا، وجلوساً أمام الكاميرات، وتحت الأضواء، لا واجباً شرعياً، ومسؤوليةً أخروية، وخشيةً من الله تبارك وتعالى. إنّه زمن الفضائيات، بل زمن توظيف الفضائيات للتآمر على دين الإسلام وتبديله.
3. غياب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) من حياة الناس. لأنّ حضور المنهج عند المسلم، وإن كان مقصرا في تطبيقه، أحياناً، إلا أنّه يعطيه ملكة الفرز بين الغث والسمين، ومعرفة الصحيح من الخطأ، وإمكانية كشف الرويبضة، وفضحهم، والتحذير منهم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعله حجة لنا وليس علينا
والحمد لله رب العالمين