نحن الآن مع موضوع عقدي كبير وخطير، احتل مساحات كبيرة من أوراق الكتب في المكتبة الإسلامية، وعقدت له المناظرات، وصار أمرا مفصليا اختلف الناس عليه. ولا أقول حق لهم الاختلاف، وإنّما كان اختلافهم بغيا بينهم، ولو ردوا الأمر، شأن كل خلاف، إلى الله ورسوله لوجدوا أنفسهم على وفاق واتفاق..! وكيف يُتصور خفاء وغموض أمرٍ عقدي هو من أركان الإيمان؟ فلنتدبر هذا الحديث، وهو في صحيح مسلم:
عن يَحْيَى بْنِ يَعْمَر قَالَ: (كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ – أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ – فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: (فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي)، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ (لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ). ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ). قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ). قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِل). قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ: (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ). قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: (يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟) قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)).
شرح بعض عباراتٍ في الحديث
(أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ) معناه أول من قال بنفي القدر فابتدع وخالف الصواب الذي عليه أصل الحق. واعلم أنّ مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه: أنّ الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنّها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى.
(فَوُفِّقَ لَنَا) معناه جعل وفقا لنا وهو من الموافقة. وهي لفظة تدل على صدق الاجتماع والالتئام.
(فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي) يعني صرنا في ناحيتيه وكنفا الطائر جناحاه.
(وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ) ومعناه يطلبونه ويتبعونه وقيل معناه يجمعونه.
(وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ) هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحيى بن يعمر يعني وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء ووصفهم بالفضيلة في العلم والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به.
(وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ) أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى، وإنّما يعلمه بعد وقوعه.
(وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) معناه أنّ الرجل الداخل وضع كفيه على فخدي نفسه وجلس على هيئة المتعلم.
(فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ) سبب تعجبهم أنّ هذا خلاف عادة السائل الجاهل، إنّما هذا كلام خبير بالمسئول عنه ولم يكن في ذلك الوقت من يعلم ذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم.
(الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاه..) قال القاضي عياض رحمه الله هذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إنّ علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه.
(أَمَارَتِهَا) الأمارة والأمار بإثبات الهاء وحذفها هي العلامة.
(رَبَّتَهَا) في الرواية الأخرى ربها على التذكير وفي الأخرى بعلها وقال يعين السراري ومعنى ربها وربتها سيدها ومالكها وسيدتها ومالكتها.
(الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) أما العالة فهم الفقراء. والعائل الفقير، والعيلة الفقر، وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر. والرعاء ويقال فيهم رعاة ومعناه أنّ أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في البنيان.
(فَلَبِثْتُ مَلِيًّا) هكذا ضبطناه من غير تاء وفي كثير من الأصول المحققة لبثتُ بزيادة تاء المتكلم وكلاهما صحيح. (مَلِيًّا) أي وقتا طويلا.
وبيت القصيد، في هذا الحديث الشريف، الذي سقناه من أجله، يتركز في النقاط الآتية:
1. إنّ الكلام في القدر، والمقصود الكلام المخالف للحق، ظهر في وقت مبكر، في جيل الصحابة.
2. حينما تمنى الصحابيان المذكوران، وهما في رحلة الحج، أن يوفقا إلى ملاقاة أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسألاه عن القول الفصل في تلك البدعة المنكرة، فكان التقاؤهما بعبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، وناهيكم به.
3. وماذا قال عبد الله رضي الله عنه؟ (فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي). ثم أضاف: (وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَر).
وقبل التوغل في تضاعيف الموضوع، أسال الله أن لا نكون في بحثنا هذا ممن عناهم الرسول الكريم بقوله: (أُخِّرَ الكلامُ في القدر لشرار أمتي في آخر الزمان). فالمعنيون في الحديث أقوام يخوضون في أمر القضاء والقدر مشككين
مجادلين متخففين من التبعات، قائدهم في ذلك العقل، وطريقهم إلى ذلك الفلسفة. أما طرحه للوصول إلى الحق والحقيقة، على هدي نصوص الوحيين، ومنهج الاتباع، فهو مما يرضي الله، وتتطلبه الدعوة إلى الإسلام الحق، وقد فشت البدع، وانتشرت الفرق، وكثُر دعاة الضلالة.
كذلك لا يفوتني أن أذكر نفسي وإياكم، بين يدي البحث، بحديث لا بد منه ليضبط حركتنا مع هذا الموضوع، فالموضوع مزلة أقدام إن لم يكن البحث فيه على هدى وبصيرة: عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا). والمقصود من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإمساك: أي الامتناع عن الخوض في تلك الموضوعات، على غير هدى وبصيرة، فكل تلك الموضوعات، إذا تعاطى معها المسلمون، بالهوى والجهل، تفضي إلى الكفر، لحساسية تلك الموضوعات الثلاثة، وكثرة التخبط في تناولها، والتاريخ الإسلامي فيه شواهدُ كثيرةٌ على ذلك! وما كان ذلك إلا بسبب الابتعاد عن النصوص، وتقصي الإلزامات العقلية، والتخرصات الفلسفية.
ولعلكم لا تستغربون إذا قلت لكم إنّ موضوع القضاء والقدر بالرغم مما يبدو لكثير من الناس، على أنّه معقد وشائك، فهو بسيط ولا يحتمل الخلاف، وهو يسير على من يسره الله إليه. وإنّ الله تبارك وتعالى قد يسر هذا الدين ، فكيف تُعقده عقول الناس وأهواؤهم…؟ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
ولعلي لا أبعد النجعة إذا قلت: إنّ موضوع القضاء والقدر ينتهي بكلمات يسيرة وسطور قليلة، فكيف؟ إنّ الذي حيَّر بعض العقول، وأشغل بعض النفوس، في القديم والحديث، حتى ألجأهم إلى خوضٍ في متاهات كانوا في غنى عنها، أمورٌ لا تجد لها حلولاً جذرية مقنعة، إلا في ما أوحى الله إلى أهل الأرض، من كتاب وسنة. ولما أراد الناس استقلال عقولهم وأفهامهم في معالجة تلك المسائل، راغبين عن الوحيين، ضلوا وأضلوا، وفي بحور الشك والحيرة ظَلُّوا!
وبالبحث والتقصي يجد الإنسان أنّ الداخل على تلكم المسائل من بوابة الوحيين، يخرج سريعا بنتائج مقنعة مرضية مطمئنة، وأنّ كل والج من بوابات أخرى يبقى في التيه ولن يخرج منه إلا بالزندقة. فلِمَ نُطيل على أنفسنا الطريق…؟
وتبرز ظاهرة القلق في موضوع القضاء والقدر بين أنصاف المؤمنين فقط، ولماذا؟
لأنّهم بين خوف من عذاب أخروي، هم مؤمنون بحتميته، وعملٍ ينغمسون فيه، لا يحقق النجاة في الآخرة! فلا بد لهم من الهروب، وليكن هروبا مبررا، كما يتصورون، بل كما يتوهمون! وهو تصور مسألة القضاء والقدر، عصيةً على الفهم، وتدعو إلى الحيرة، ولذلك كانت مادة الجدل في مسألة القضاء والقدر منحصرة في (هل الإنسان مخيرٌ أم مسيرٌ.؟). وهو جدل طال أمدُه، ولم يُثمِر خيراً نجدُه!
وبعد هذا التمهيد، وهو لا بد منه، فلنحدد بحثنا ببيان معالجة الوحيين لموضوع القضاء والقدر. وللسهولة وتسلسل الموضوع وتبسيطه، سنجعل البحث على شكل نقاط تفضي كل نقطة منطقيا إلى التي بعدها، وبالله التوفيق…
أولاً: ما معنى القضاء والقدر؟
كلام كثير ومتنوع للعلماء حول معنى القضاء والقدر. والذي اتفق عليه أكثر العلماء أنّ لفظة القدر تعني (ما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ، عن مقادير الخلق، قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة). فما سبق به علم الله فهو القدر، وما جرى به القلم فهو القدر؛ لأنّ معنى القدر هو التقدير.
وأنّ لفظة القضاء تعني (الحكم، فقضاء الله هو حكمه)، وتعني (حكم الله بتنفيذ ذلك المكتوب، في اللوح المحفوظ، حين يأتي وقته المحدد بالكتابة). وإلى مثالٍ توضيحي:
كتب الله بعلمه السابق في اللوح المحفوظ أنّ زيداً سيموت في يوم كذا وبأرض كذا. هذا هو القدر. وحين يحين الوقت، ويأمر الله الملائكة بقبض روح زيد، يكون الله قد قضى أو حكم بموته، تنفيذا لما هو مكتوب، وهذا هو القضاء.
وقال بعض العلماء: (إنّ القضاء والقدر إن اجتمعا افترقا، وإن افترقا اجتمعا). ومعنى ذلك أنّ اللفظتين لو ذكرتا في سياق واحد، أو عبارة واحدة، كان لكل لفظة معناها المحدد بالتعريفين السابقين. أما إن جاءت كل واحدة من اللفظتين (القضاء والقدر) منفردة في نص فيكون معناهما واحد، وكل تعني الأخرى، فيمكن أن يعبر بالقضاء عن القدر، وبالقدر عن القضاء. وذلك شبيهٌ بما يقوله العلماء عن الإسلام
والإيمان.
ولقد توسع بعض العلماء، في إضافة تعريفات أخرى، وما ذكرناه، هو الأقرب والأصح، إن شاء الله. وخلاصة القول: أنّ الأقوال الواردة في الفرق بين القضاء والقدر، كمسألتين مُترابطتين، كثيرة، وليس في القرآن الكريم أو السُنّة النبويّة دليلٌ واضح يُشير إلى الفرق بينهما، إنّما هي اجتهاداتٌ واستنباطات، ولا يؤثر ذلك الاختلاف في التعريفات في المفهوم العام المتفق عليه، عند أكثر العلماء.
ثانياً: لقد ذكرتُ أنّ مسألة القضاء والقدر تنتهي بكلمات أو بضع سطور .. فكيف؟ إذا كنا نؤمن على وجه الحقيقة واليقين بأسماء الله وصفاته، ونفهم ذلك الموضوع، كما أراد لنا الله أن نفهمه، ومن خلال هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم نقيم إيماننا على ذلك، فإنّ المسألة التي بين أيدينا، مسألة القضاء والقدر، تتعلق بأسماء الله وصفاته، وكل ذلك من الإيمان بالغيب
الذي لا يقبل تدخل العقل، وإنّما يقف المسلم عند ما جاءه عن الله ورسوله، فيما يخص تلك الغيوب. فلمَ نرى الناس على مرّ القرون، مشغولين في الكلام عن مسألة القضاء والقدر؟ ما أفرز اختلافاتٍ، وأنشأ فرقاً، كالقدرية والجبرية! وكان الأسلم الوقوف عند النصوص، دون تمادي العقل والفلسفة، في ذلك الشأن.
ونضرب مثلا لذلك: إذا آمن المسلمون إيمانا جازما قاطعا بصفة العدل لله تبارك وتعالى، فأول ما يترتب على ذلك التسليم بأنّ الله لا يمكن أن يأمر العبد بالمعصية ويجبره عليها جبرا في الدنيا، ثم يعاقبه على فعلها في الآخرة! أو يجبره على الطاعة، ثم يثيبه عليها! فكما بدأنا نؤكد، أنّ مسألة القضاء والقدر يُتعامل معها بطريقة التعامل مع أي أمر غيبي، وهو الالتصاق بالنصوص، ولا يطلق العنان فيها للعقل، ليهيم هيماناً.
وقد قال بعض العلماء مقولة صانت مسألة القضاء والقدر من أن يعبث بها العقل البشري، بعيدا عن ضوابط النصوص، والمقولة: (إنّ القضاء والقدر سر الله). وكل من خاض في مسألة القضاء والقدر، بغير علم، انتهى إلى الضلال المبين. ومن ذلك الضلال القول: (إنّ العبد يخلق فعله بنفسه، وأنّ الله لا يخلق أفعال العباد). وكذلك، القول: (إنّ الإنسان مجبور على عمله، وأنّه لا مشيئة له).
قال الإمام الطحاوي، في العقيدة الطحاوية: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يَطَّلِع على ذلك ملكٌ مقرب، ولا نبيٌ مرسل).
وقال ابن عبد البر، في التمهيد: (وجملة القدر أنّه سر الله لا يدرك بجدال، ولا نظر، ولا تشفي منه خصومة، ولا احتجاج، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أنّ الله لا يكون شيء دون إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر).
ثالثاً: إنّ مبحث (القضاء والقدر)، يعتبر من مباحث علم التوحيد، لارتباطه بالتوحيد ارتباطاً وثيقاً. يقول الشيخ العثيمين.رحمه الله: (إنّ قضاء الله وقدره هو من مقتضى ربوبيته تبارك وتعالى التي هي أحد أقسام التوحيد الثلاثة التي قسم أهل العلم ألا وهي:
توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
وتوحيد الربوبية: وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير.
وتوحيد الأسماء والصفات: وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته.
فالإيمان بالقدر من مقتضى ربوبية الله عز وجل، ولهذا قال الإمام أحمد: (القدر قدرة الله)، لأنّه من قدرته ومن عمومها بلا شك وهو أيضاً سر الله تعالى المكتوم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وبحمده لأنّه مكتوب في اللوح المحفوظ، في الكتاب المكنون، الذي لا يطلع عليه أحد، ونحن لا نعلم بما قدره الله تعالى لنا أو علينا، أو بما قدره في مخلوقاته إلا بعد وقوعه أو الخبر الصادق عنه).
رابعاً: افترق الناس منذ القديم في مسألة القضاء والقدر إلى طرائق ثلاث:
قسم غلوا في إثبات القدر، وسلبوا العبد قدرته واختياره وقالوا: إنّ العبد ليس له قدرة ولا اختيار، وإنّما هو مسيرٌ لا مخيرٌ، كالشجرة في مهب الريح، وهذا تطرف وغلو.
وقسم غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره، حتى نفوا أن يكون لله تعالى مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد ،وزعموا أنّ العبد مستقل بعمله، حتى غلا طائفة منهم فقالوا إنّ الله تعالى لا يعلم بما يفعله العباد، إلا بعد أن يقع منهم، وهؤلاء أيضا غلوا وتطرفوا تطرفا عظيما.
وقسم وهم الذين آمنوا، فهداهم الله، لما اختلف فيه من الحق، وهم أهل السنة والجماعة، سلكوا في ذلك مسلكاً وسطاً قائماً على الدليل الشرعي، وعلى الدليل العقلي، وقالوا إنّ الإنسان مجبرٌ على أمور كعمره وشكله، ورزقه، ومرضه، وخضوعه لقانون الجاذبية في السقوط، ولاحراق النار لجسده إن مسها. ومخيرٌ في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية، وفي كل ما يترتب عليه ثوابٌ وعقابٌ. وإنّ للعبد مشيئةً واختياراً وإرادةً، أثبت الله كل ذلك في القرآن الكريم.
قال تعالى: (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ). وقال: (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ). وقال تعالى: (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ).
يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: (فالإنسان ينزل من السطح بالسلم نزولاً اختيارياً يعرف أنّه مختار، ولكنّه يسقط هاوياً من السطح يعرف أنّه ليس مختاراً لذلك، ويعرف الفرق بين الفعلين، وأنّ الثاني إجبار، والأول اختيار. وهو في أموره الكونية والشرعية كذلك ، فالأمر ليس خفيا).
خامساً: مراتب القضاء والقدر أربعُ مراتب، ويمكن أن نقول إنّها أربعة أركان، ولا يمكن استيعاب أمر القضاء والقدر على الوجه الشرعي الصحيح، ولا يكون الإيمان به صحيحاً، ما لَمْ يُبنَ على معرفةِ مراتبَ أربعٍ، أو أركانٍ أربعةٍ، للقضاء والقدر، وهي كالآتي:
المرتبة الأولى: هي الإيمان بعلم الله الأزلي السابق .. وأنّه أحاط بكل شيء علمًا، وعلم ما كان، وما سيكون، والله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلاً، وعلم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم، وأعمالهم، وأعمارهم، وحركاتهم، وسكناتهم، وعلم شقيهم وسعيدهم، ومن منهم من أهل الجنة، ومن منهم من أهل النار قبل أن يخلقهم، وقبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال سبحانه: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَر). وقال: (لتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ علماً).
المرتبة الثانية: الكتابة .. وهى أنّ الله تبارك وتعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء. وقد جمع الله تعالى بين هاتين المرتبتين في قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). وقال عليه الصلاة والسلام: (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).
فبدأ سبحانه بالعلم وقال إنّ ذلك في كتاب، أي أنّه مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ أول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال رب ماذا اكتب؟ قال اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة).
ولهذا سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عما نعمله أشيء مستقبل أم شيء قد قضي وفرغ منه؟ قال: (إنّه قد قضي وفرغ منه). وقال أيضا حين سئل : أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب الأول؟ قال: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ).
وهنا لا بد من وقفة مع عبارة (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) والتيسير المذكور هو تيسير الأسباب التي توصل الإنسان لما اختاره بملء إرادته دون أي ضغط أو إكراه، وليس لشيء أُجبر عليه. ولذلك استشهد الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات من سورة الليل: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى).
وبتدقيق النظر في هذه الآية التي هي أصلق للقضاء والقدر، ومفتاحق لفهمه الصحيح، نلاحظ أنّ الله ييسر الإنسان إلى المصير الأخروي، الذي اختاره العبد بعمله في الدنيا، دونما إكراه، فالذي (أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) في الدنيا، فإنّ الله تبارك وتعالى سييسره في الآخرة إلى الجنة، جزاءً لذلك الاختيار. وأما من (بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) في الدنيا، فإنّ الله تبارك وتعالى سييسره إلى النار جزاءً لذلك الاختيار. مقدماتٌ يُقدمها العبد مختاراً، في الدنيا، ونتائج يتلقاها، استحقاقاً، في الآخرة، ولا يظلم ربك أحدا. ومن المهم جدا أن نخلص من هذه الوقفة، بالخلاصة المهمة: (أنّ المكتوب من مقادير الخلائق، في اللوح المحفوظ، قبل أن يخلقوا، هو كتابةُ علمٍ وليس كتابةَ جبرٍ).
المرتبة الثالثة: المشيئة .. وهي أنّ الله تبارك وتعالى شاء لكل موجود، في هذا الكون الوجود، ولكل معدوم، في هذا الكون، العدم. فما وُجد موجودٌ إلا بمشيئة الله تعالى، وما عدم معدومٌ إلا بمشيئة الله تعالى. وهذا ظاهر في القرآن الكريم، وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله ومشيئته في فعل العباد، فقال الله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وقال: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ). فلا يتم الإيمان بالقدر، إلا أن نؤمن أنّه لا يمكن أن يقع شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله تعالى.
المرتبة الرابعة: الخلق .. أي أن نؤمن بأنّ الله تعالى خالق كل شيء. فما من موجود في الكون إلا اللهُ خالقه. وأنّ ما يقع من فعله سبحانه وتعالى، فهو مخلوق له. فالسماوات والأرض والجبال والأنهار والشمس والقمر والنجوم والرياح والإنسان والبهائم كلها مخلوقات الله. وكذلك فكل ما لهذه المخلوقات من صفات، وخصائص، وأحوال، وأعمال، وتقلبات، كلها أيضا مخلوقة لله عز وجل.
وكما نثبت، من خلال ما مر، في تلك المراتب الأربع المتقدمة، الأفعال لله تبارك وتعالى، فإنّنا نثبت كذلك الأفعال لكل ذي إرادة على الفعل، من المخلوقين، وهي مخلوقة لله تبارك وتعالى، ولا تعارض.
فنقول النار تحرق، والذي خلق الإحراق فيها هو الله تعالى بلا شك، فليست محرقة بطبيعتها بل هي محرقة بكون الله تعالى جعلها محرقة، ولهذا لم تكن النار التي ألقي فيها إبراهيم محرقة لأنّ الله قال لها: (كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ).
وبعد استكمال العناصر الرئيسة، لفهم مسألة (القضاء والقدر) على ما يرضي الله، وما جاءت به نصوص الوحيين، لا ينبغي أن يفوتنا أنّ التعاطيَ الجاهلَ، مع تلك المسألة العقدية، أفرز إشكالاتٍ متعددة، لا زال الناس يُبدؤون فيها ويعيدون، على مر القرون. ولا بد، من وقفات، لتحرير تلك الإشكالات، ما اقتضى إضافة هذا الملحق، في ذيل البحث.
إشكالات أثيرت في مسألة القضاء والقدر
أ. الهداية والضلال
من ألصق الموضوعات العقدية، ببحثنا، وهو مسألة (القضاء والقدر)، موضوع الهداية والضلال. ولو بدأنا باستعراض أبرز النصوص القرآنية، حول موضوع الهداية والضلالة، لكان مدخلاً مناسباً ومنطقياً، وإلى بعض النصوص:
. (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
. (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ).
. (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا).
. (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).
. (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
. (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
. (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
ولدى التدقيق في هذه النصوص، نجد للوهلة الأولى، أنّها تعطي انطباعا جبرياً، أي أنّ الإنسان مسيرٌ وليس مخيراً. والمؤمن الحق لا يمكن، ولا ينبغي أن يتطرق إلى ذهنه هذا الإشكال، لأنّ الإيمان الحق بعدل الله تبارك وتعالى يرده، ويجعله غير ذي موضوع، عند أهل الإيمان. ولو طرحوا على أنفسهم هذا السؤال البسيط؛ أيأمرنا الله بالمعصية ويجبرنا عليها ثم يعاقبنا على ذلك؟ لردوا على أنفسهم فورا حاشا أن ينسجم هذا مع عدل الرحمن تبارك وتعالى!
ومع هذا الوضوح فقد تاهَ في هذا الأمر من تاهَ، من أهل الأهواء ممن حادوا عن سواء السبيل. ولا يمكن لأمر الهداية أن يستقر على وجهه الصحيح بقناعة ويقين، مع زوال كل لبسٍ، أو شكٍ، ما لم يعرف كل مسلم وكل قاريء لنصوص الكتاب أنّ كلمة الهداية (أو ما في معناها من المترادفات) لها أربعة مدلولات، وإذا اختار المرء المدلول الصحيح لكلمة الهداية، المناسب للسياق الذي جاءت فيه، لانضبط الفهم واستقام المعنى، وزال كل إشكال. وإلى التفصيل والتمثيل:
النوع الأول: الهداية الغريزية
وتسمى الهداية الكونية وهي هداية المخلوق إلى ما فيه بقاء حياته وحُسْنِ معاشه، والدليل على هذه المرتبة قوله على لسان فرعون مخاطباً موسى: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) يعني هَدَاهُ إلى ما فيه مصلحته. فالله هَدَى الرضيع كيف يلتقم الثدي ويحتاج إليه، وهَدَى الطائر إلى الطيران بمجرد خروجه من البيضة، وهدى صغير البط بعد خروجه من البيضة بقليل إلى السباحة في الماء، وهدى كل زوجين من المخلوقات فطرياً إلى الاقتراب والاقتران ليستمر النوع.
وقد حدثنا الله عن هذه الهداية في قوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وكذلك قوله تعالى (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى).
النوع الثاني: الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد
دلالة وإرشاد تأتي من آخر لتعليم العبد ما يجهل من أجل قيام مصالحه في دنياه وفي آخرته أو فيهما معاً، وهذه الهداية بهذا المعنى، هي الأكثر في القرآن، وتأتي هذه الهداية من الله تبارك وتعالى، ومن الرسل والأنبياء الذين يبلغون رسالات الله، ثم من العلماء والدعاة الذين يرثون مهمة الأنبياء في التبليغ عن الله. وهي التي جاءت في مثل قوله تعالى: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) يعني دالْ يدلّهم على الطريق الصحيح. ومثل قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) وكقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). وكقوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). وقوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للمتقين). ومثل ذلك: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).
وكثير من أمثال هذه الآيات وإن كان بعضها لا يحمل لفظ الهداية ولكن يحمل معناها. وتكون هذه الهداية للبشر جميعاً دون استثناء، لهدايتهم إلى طريق الله ولقيام الحجة عليهم أمام الله، وينقسم الناس بعدها إلى ضال رغب عنها ولم يعبأ بها فاستحق الضلال، ومهتد استجاب لها واهتدى بها. وتتضح الفكرة تمام الوضوح بقراءة قوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
وهذه الهداية الشرعية هي أهم شيء في حياة البشر المكلفين الذين سيمثلون بين يدي خالقهم ليسألهم وسيسألهم عما علمهم في هذا النوع من الهداية. وهذا النوع من الهداية مع أنّه تحت مشيئة الله وإرادته، وكل ما في الوجود تحت مشيئته وإرادته، إلا أنّ الله تبارك تعالى أثبت للعبد في ذلك مشيئة مستقلة عن أي ضغط أو إكراه لأنّها منطقة اختيار .. وبالتالي ففيها وعنها الحساب، فلا بد من أن يتحملها العبد نفسه، فأثبت الله للعبد المشيئة (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وكما جاء في سورة الكهف: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).
إذن مشيئة العبد هي الفاعلة في هذا النوع، لأنّه سيسأل عن اختياره والله تبارك وتعالى لا تتدخل مشيئته هنا بمشيئة العبد بها لا عجزا بل عدلا.
النوع الثالث: هداية التوفيق
وهي أخصُّ من التي قبلها، وهذه خاصة بالله وحده تحكمها مشيئته وحدها، فمن استجاب للهداية السابقة وانتفع بها أعانه الله عليها، ووفقه فيها، ويسر له سبلها. وأما من أعرض ونأى بجانبه، فهل نتوقع أن يهديه الله وهو لا يريد، وأن يعينه وهو غير مبادر، وأن يوفقه وهو غير مكترث .. يكله إذن إلى نفسه، وإلى حولِه وطوله ويدعه لحساباته واختيراته، والآخرة هي الموعد.
وإذا كنا أسمينا هذا النوع من الهداية توفيقاً، فإنّ من حجب عنه التوفيق نسميه إضلالا. فالرسل هُدَاة بمعنى أنّهم يَدُلُّونَ ويُرْشِدُون، ولا يضمنون النتائج، ولا يسألون عنها (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ). (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
لكن هداية التوفيق هذه من الله وحده (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) هذا حصر للتوفيق من الله بالله وحده دون تدخل من سواه، لهذا نفاها ربنا عن نبيه بقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فنَفَى عنه الهداية في هذه الحالة وجعلها لله مع إثباتها لنبيه في قوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).
فالنبي يَهْدِي ولا يَهْدِي .. يَهْدِي بمعنى أنّه يَدُلُّ ويُرْشِدْ ويُعَلِّمْ إلى آخر هذه المعاني، ولا يَهْدِي بمعنى هداية التوفيق فلا يُوَفِّقْ بل الذي يُوَفِّقْ ويُعِين العبد ويَصْرِفْ عنه السوء، ويُعِينُهُ على الطاعة ويصرف عنه الشياطين حتى يهتدي بمعنى حتى يستقيم على أمر الله هو الله تبارك وتعالى.
ولا بد من التأكيد أنّ كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، فمن قدّر الله له الهداية، ومن قدر له الشقاء فهو بقدر، ولكن ما هو السبب لتقدير الله الشقاء على العبد؟ إنّه هو العبد نفسه، لقول الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) وقوله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
وفي كتاب الله تبارك وتعالى آيتان محكمتان هما قمة البيان للفكرة التي نحن بصددها، وهما الأصل الذي يفهم بواسطته كل النصوص المتشابهة في موضوع الهداية، وهما:
. (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). يهديهم هداية التوفيق لأنّهم قبلوا هداية الإرشاد، وعملوا بها.
. (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). يحجب عنهم هداية التوفيق لأنّهم رفضوا هداية الإرشاد .. أليس هذا هو العدل..؟ بلى.
وليس بعد كتاب الله ما يفسر كتاب الله. وألخص أمر الهداية الشرعية بالآتي:
هداية دلالة وإرشاد تأتي للعبد وهي للناس كافة، فإما أن يستجيب العبد لها ويبادر إلى الانتفاع بها فيحظى عندئذ بهداية التوفيق من الله في المعونة والتيسير والتثبيت. وإما أن يعرض العبد عما جاءه من هداية الدلالة والإرشاد ويتبع شيطانه وهواه فيكله الله إلى ما اختار، ويعاقبه على الإدبار، حتى يورده النار.
وهناك قاعدة تعين على تمييز أنواع الهداية التي تشتبه على الناس، فنقول حيثما أسند فعل الهداية أو الإضلال إلى الله وحده فهو من النوع الثالث هداية التوفيق، وإن حجب التوفيق عن العبد فهو الإضلال.
النوع الرابع: الهداية التي جاءت في سورة محمد وهي هداية أهل النار للنار، وهداية أهل الجنة للجنة
هداية أهل الجنة للجنة في قوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ)، هذه الهداية وقَعَتْ بعد القتل، وهل بعد القتل من هداية..؟ وإلى أيّ شيء تكون..؟
هداية إلى الجنة، لهذا قال بعدها: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ). وقال تعالى عن أهل الجنة: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ). قال العلماء: يهديهم يعني إلى صراط وإلى طريق الجنة، وإلى السلوك في الجنة ليكون نعيمهم على أكمل وجه وأتم حال.
أما هداية أهل النار إلى النار فكقوله في سورة الصافات: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُون). لأنّه ليس لهم من طريق إلا طريقها، ولا من مصير إلا التلظي فيها، وإن استجاروا فيستجيرون بالنار من النار.
ولنعد الآن، على ضوء ما سبق، فلنُعد قراءة الآيات التي تتناول أمر الهداية، ولنفهمها فهماً جديداً، لنجد أنّ كل إشكال قد زال، وأنّ المسالة في غاية الوضوح، وأنّ كل متشابه صار محكماً
ب. إشكال في بعض النصوص
ولنستعرض هذه النصوص:
. عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ).
. وصح عن ابن عباس قوله: (لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر).
. قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَبْسُطَ اللهُ رِزْقَهُ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).
هذه الأحاديث نموذج لمجموعة أحاديث، في السنة النبوية، تتناول العلاقة بين أقدارٍ كُتبت على العباد، كالأجل والرزق، وأسباب لو فعلها العباد، كافأهم ربهم بزيادة ما كتب لهم منها، والأسباب هي الدعاء والبر وصلة الرحم. وقد عدها بعض العلماء نصوصا مشكلة، وفصلوا فيها القول. ولم تكن حظوظ تلك التفصيلات من الصواب واحدة، بل متفاوتة. وأضرب مثلين فقط تجنبا للإطاله. فمن العلماء من قال: إنَّ من القضاء ما يكون واقعاً محتوماً، وهو الثابت، ومنه ما يكون مصروفاً بأسباب وهو الممحو، وهذا الأخير هو الذي يطرأ عليه التغيير.
وقد مر معي في (البحر المحيط) أثناء مراجعة تفسير قول الله: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، كلامٌ للغزنوي قال فيه: (وعندي، أنَّ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ خَرَجَ عَنِ الْغَيْبِ لِإِحَاطَةِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ، فَيَحْتَمَلُ التَّبْدِيلَ. ولأنّ إحاطة الْخَلْقَ بِجَمِيعِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، مُحالٌ، وَمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى مِنْ تَقْدِيرِ الْأَشْيَاءِ لَا يُبَدَّلُ) انْتَهَى.
ولدى التدقيق نرى أنّ تلك الأقوال، وما شابهها، محضُ آراءٍ واجتهاداتٍ أفرزتها مناقشةُ تلك النصوص، دون وجود نصوصٍ تقطعُ بالصواب. وفي اجتهاد لي متواضع، أقول: من الأسلم تركُ التَّعمُّقِ في مثل النصوص، التي اعتبرها بعض العلماء مشكلة، والأخذ بظواهرها، بعيدا عن التأويل. وقد وجدت في (مختصر صحيح مسلم للمنذري، بتحقيق الألباني)، كلاماً دقيقاً في معرض تعليقه على حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ: (يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أَوْ يُنْسَأَ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)، أسوقه كاملا لأهميته، وبعده عن التأويل:
يقول الشيخ الألباني: (هذا الحديث نص في أنّ صلة الرحم سبب للزيادة في الرزق وطول العمر، ولا ينافيه أنّ الرزق والعمر مقدران، فإنّهما مقدران بأسبابهما. ألا ترى أنّ دخول الجنة أو النار مقدر أيضاً، ومع ذلك فدخولهما مربوط بالسبب من الإيمان أو الكفر. فكما أنّ قوله تعالى (فريق في الجنة وفريق في السعير) وقوله تعالى في الحديث القدسي (هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي) لا ينافي الأخذ بأسباب النجاة ودخول الجنة، بل ذلك أمر لا بد منه كما قال تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان من أهل السعادة فيسير لعمل أهل السعادة) الحديث. فكذلك أقول: من كان طويل العمر عند الله، فسييسر للأخذ بأسباب طول العمر، والعكس بالعكس، فإذا ليس معنى كون صلة الرحم سبباً لطول العمر أنّ ذلك يغير ما سبق في علم الله من العمر المحدود، كما أنّ كون الإيمان سبباً لدخول الجنة ليس معناه أنّه يغير مما سبق في علم الله من السعادة أو الشقاوة، بل الحقيقة أنّ الكل سبق في علم الله، من السبب والمسبب، فمن سبق في علمه تعالى أنّه من أهل الجنة فقد سبق في علمه أنّه يأخذ بسببه وهو الإيمان، ومن سبق في علمه تعالى أنّه من أهل النار فقد سبق في علمه أيضاً أنّه يأخذ بسببه وهو الكفر. فكذلك نقول من سبق في علمه تعالى أنّه طويل العمر فقد سبق في علمه أنّه يأخذ بالسبب وهو هنا صلة الرحم والعكس بالعكس. فإذا قلنا طال عمره حقيقة بصلته للرحم فهو كما لو قلنا: دخل الجنة بإيمانه ولا فرق. فتأمل هذا فإنّه يريحك عن تكلف تأويل الحديث بما لا طائل تحته ولا مبرر له سوى البعد عن الفهم السليم لبحث القضاء والقدر، والتوفيق من الله عز وجل).
بهذا الكلام المُؤصَّل، الذي ظلَّ ملتصقا بالنصوص، أعطى الشيخ الألباني رحمه الله الإجابات الصحيحة على تلك الأحاديث، التي اعتبرها بعض العلماء (مشكلة)، فأزال ما بها من إشكال بردها إلى النصوص. ومن باب التلخيص لما قاله الشيخ، وأيضا من أجل لفت انتباه القارئ إلى نقاط مهمة في كلام الشيخ، اخترت بعض العبارات، لإعادتها، موضوعة تحت النظر الفاحص والمدقق للقراء، ليعم النفع والله الموفق:
(ولا ينافيه أنّ الرزق والعمر مقدران، فإنّهما مقدران بأسبابهما).
(من كان طويل العمر عند الله، فسييسر للأخذ بأسباب طول العمر، والعكس بالعكس).
(ليس معنى كون صلة الرحم سبباً لطول العمر أنّ ذلك يغير ما سبق في علم الله من العمر المحدود).
(بل الحقيقة أنّ الكلَّ سبقٌ في علم الله، من السبب والمسبب).
(فتأمل هذا فإنّه يريحك عن تكلف تأويل الحديث بما لا طائل تحته ولا مبرر له سوى البعد عن الفهم السليم لبحث القضاء والقدر).
ج. محاجة آدم وموسى عليهما السلام
عن أبى هريرة رضى الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلاَمِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ أَتَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى).
الإشكال في حديث محاججة آدم وموسى عليهما السلام، سببه فهم خاطيء للحديث، وهو أنّ موسى عليه السلام لدى معاتبته آدم عليه السلام بقوله: (خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ)، كان رد آدم عليه السلام: (أَتَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً). فظن كثيرون أنّ آدم احتج إلى موسى عليهما السلام بالقدر، عن معصيته بالأكل من الشجرة. وهذا هو الفهم الخاطئ للحديث، ولندقق في العبارت الآتية:
1. إنّ آدم عليه السلام ليس مسؤولاً عن خروجه وذريته من الجنة بسبب ذنبه. بدليل أنّ قدر الله سبق بأن تكون ذرية آدم عليه السلام، في الأرض، ولنقرأ قول ربنا: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
2. إنّ احتجاج آدم عليه السلام ليس تبريراً لذنبه في الأكل من الشجرة، بدليل اعترافه بذنبه، وتوبته منه: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى). وفي الآية الأخرى يعلن الزوجان توبتهما لربهما: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
ومن هنا نقول إنّ أبانا آدم عليه السلام كان أقوى في حجته، حينما بين لأخيه موسى عليه الصلاة والسلام، حين رد عليه أنّ إخراج البشر من الجنة مقدر من الله، وليس مسؤولية، أبينا آدم عليه السلام، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى).
وبعد التدقيق في عبارات الحديث، وما جرى من تعليق في الفقرتين الماضيتين، ننتقل إلى تأصيل قاعدة مهمة في مبحث القضاء والقدر، قعدها العلماء بقولهم: (الاحتجاج الصحيح بالقدر هو عند المصائب لا عند المعائب). ومما انتشر بين الناس، بسبب الجهل، أنّ المقصرين منهم إذا ليموا لماذا لم تفعل هذا الواجب؟ ولماذا تغشى هذا المحرم؟ قال: قدر الله عليّ، فيحتجون بالقدر على المعصية، وهذا باطل، فلا شك أنّ الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ترك واجب أو فعل محرم. يقول ابن تيمية: (وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب، باتفاق المسلمين، يدافع عن نفسه بأنّ هذا مكتوبٌ ومقدرٌ في مجال المعصية، وإنّ الاحتجاج بالقدر في الدفاع عن النفس في حال ارتكابها معصية، باطل باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء، فإنّ هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر. ونفس المحتج إذا اعتدي عليه واحتج المعتدي عليه بالقدر لم يقبل منه. يعني: نفس المحتج هذا، لو جاءه أحد وضربه وأخذ ماله فقال له: لماذا ضربتني؟ فقال: قدر الله، الله قدر لي أن أضربك، وآخذ مالك، لا يقبل منه. فالاحتجاج بالقدر -يعني على المعاصي- معلوم الفساد في بدائه العقول. وقد احتج المشركون على شركهم بهذا، فقال الله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فسمى الله الاحتجاج بالقدر، على فعل المعصية، وعلى الشرك، تكذيبًا).
ومن كلام ابن تيمية، يقول: (السعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر عند المعايب).
د. كيف ينبغي أن يتعامل المسلم مع القدر؟
للتعامل مع القدر المكتوب عند الله طوران:
واحدٌ، قبل وقوعه: وهو اتخاذ الأسباب، والعمل الجاد، لتحقيق ما نريد، مع التسليم بأنّ الله فعال لما يريد، وأنّ ما شاء كان، مغلبين جانب التفاؤل: (وأصدق الطير الفأل)، وبخاصة أنّنا نجهل تماما القدر المكتوب عند الله!
وآخرُ، بعد وقوعه: وهو الحمد لله، والرضا والتسليم لقضاء الله، والتوبة، والاستغفار، أو ملامة النفس إن كان في الأمر تفريط. ولنستحضر دائما هذا الحديث النبوي (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ).
هـ. القدر يُدفع بقدرٍ آخر!
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ). قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ). رواه البخاري ومسلم.
وتحت العنوان نفسه، يندرج بحث الأمراض، فمما لا شك فيه أنّ الأمراض أقدارٌ مكتوبة، والأدويةُ التي أنزلها الله أقدارٌ أخرى. ولنقرأ حديث كعب بن مالك. فعن كعب بن مالك قال: (يا رسول الله أرأيت أدويةً نتداوى بها، ورقىً نسترقي بها، وأشياء نفعلها هل ترد من قدر الله؟ قال: (يا كعب بل هي من قدر الله)).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قدر الله تعالى على كل نفس رزقها ومصيبتها وأجلها).
و. هل الرزق قدرٌ مكتوب؟
ومن أكثر الموضوعات التي يكثر الجدال فيها، موضوع الرزق. وهل هو مكتوب منذ الأزل؟ أم أنّه ثمرة للجد والعمل؟ ولندع الإجابة للنصوص.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا. أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِطَاعَتِه). ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنَّ الرِّزق لَيَطْلُبُ العبدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ).
ولمّا كان الرزق قدرا مكتوبا يجهله البشر، ولا ينبغي الركون إليه، والتراخي عن طلبه، لذلك فإنّ الإسلام حض على العمل والتكسب، ونهى عن التواكل، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (والله لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيبيعه ويستغني به، ويتصدق منه، خير له من أن يأتى رجلا فيسأله، يؤتيه أو يمنعه، وذلك أنّ اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول).
وصح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه كان كلّما دخل المسجد وجد رجلاً قائماً يصلّي فقال له: (كلّما دخلت وجدتك ههنا، ألا تسعى وراء الرّزق، فقد علمتم أنّ السماء لا تمطر ذهبا ولا فضّة).
ز. هل ينسب الشر إلى أفعال الله تعالى؟
علمنا مما سبق، أنّ المصائب التي تصيب الإنسان هي من قدر الله المكتوب، والأمراض كذلك! ولهذا الارتباط بين القدر والمصائب، ولكون أكثر المسلمين يعتبرون المصائب شرورا، فقد يتسلل إلى أذهان الناس أنّ الشرّ يأتي من عند الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والخير كله بيديك والشر ليس إليك). فليس في أفعال الله شرٌ، فأفعاله تعالى خيرٌ كلُّها، وعدل، وفضل، ورحمة، وحكمة، ومصلحة. ولكن الشر يدخل في المفعولات، يعني: المخلوقات، فالله خالقٌ للخير، وخالق للشر. ومن أمثلة المخلوقات التي فيها شر، خلق إبليس، فإبليس شر كله، ومع أنّ الله خلقه لكنّه لا يحبه.
وقد يثور سؤال: ما الحكمة من خلق إبليس؟
إنّ الله لا يخلق شرا محضا ليس فيه خير، أولا يتضمن خلقه حكمة! فالشيء الواحد قد يظهر فيه جانب الخير وجانب الشر من زاوية أخرى. ولنمثل بإبليس، فإبليس في نفسه شر، ولا يحبه الله، ولكن خلقه ليتميز أهل الجنة عن أهل النار. فمن لم يتبع خطوات الشيطان، وقاوم بإيمانه وسوسته وغوايته، يكون من أهل الجنة. ومن احتنكه إبليس من بني البشر، وصيره من جنده وأوليائه، أدخله معه النار. وبعض الحيوانات المؤذية كالكواسر، والأفاعي والعقارب، وكالجراثيم، يكون لها في الوجود دور إيجابي، غير دورها المضر لبني البشر.
ح. إرادة الله الكونية والشرعية
من الموضوعات العقدية المهمة، أن يُعلم أنّ لله تبارك وتعالى نوعين من الإرادة؛ كونيةً وشرعيةً، ومن الضروري جدا التمييز بين ذينك النوعين، وإلا استغلق على المسلم فهم بعض الموضوعات العقدية والشرعية! ولْأضرب مثلا للخلط بين المفهومين، أعني مفهوم الإرادة الكونية، ومفهوم الإرادة الشرعية. وسأجعل المثل معادا من الفقرة السابقة، لا شك أنّ الله خلق إبليس، فهل يحبه؟ وخلق القتل والزنا والخمر، فهل يحب ذلك؟ وهل يريدها الله لعباده؟ بحثنا المبسط، سيعطينا، بإذن الله، الإجابات الشرعية الصحيحة عن التساؤلات السابقة، فلندقق جيدا في العبارات التالية:
إنّ الله قد يريد شيئا ولا يحبه ولا يرضاه لعباده المؤمنين. كيف؟ فلْنمثل: خلق الله الكفر، كما خلق الإيمان، ولو لم يردْهما ما خلقهما! نقول: خلق الله الإيمان، وهو يحبه، وهو يرضاه لعباده المؤمنين: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ). وبتدقيق النظر في العبارتين السابقتن، مع محاكمة عقلية نستنتج ما يلي: كل شيء خلقه الله، ويحبه الله، ويرضاه لعباده، فقد أراده شرعا، أو نقول هو من إرادته الشرعية. وكل شيء خلقه الله، ولا يحبه الله، ولا يرضاه لعباده، فقد أراده خلقاً، أو أراده كوناً، أو أراده قدراً.وهو من إرادته الكونية أو القدرية. وننتهي إذن، إلى أنّ لله إرادةً شرعيةً، وإرادةً كونيةً أو قدريةً.
أما الإرادة الشرعية، فهي ما خلقه الله، ويحبه، ويرضاه لعباده. ولا يندرج تحتها إلا الطاعات، وقد تقع من المؤمين، ولا تقع من الكافرين. وفي القرآن الكريم آيات تضمنت الإرادة الشرعية، منها:
. (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر).
. (واللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ).
. (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ).
. (يُرِيدُاللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ).
لاحظوا أنّ الله يحب ويرضى لعباده (اليسر، التوبة، الطهارة، التبيين). ولذلك أرادها كونا وشرعا. وأما الإرادة الكونية أو القدرية، فهي ما خلقه الله، ولا يحبه، ولا يرضاه لعباده. ويندرج تحتها الطاعات والمعاصي، وكل ما يقع في الكون مما يحبه الله وما لا يحبه. و قد جاء في القرآن الكريم، آيات تدل على الإرادة الكونية منها:
. (وإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ).
. (مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا).
. (ولَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ).
ولاحظوا، أنّ الله لا يحب السوء، ولا يحب الإضلال، ولا يحب الغواية. ولا يرضاها لعباده، ولذلك أرادها كونا فقط.
وجاء في شرح العقيدة الطحاوية، قصة للتندر على المعتزلة، الذين ضلوا في مسألة الإرادة: (روي أنّ أعرابيًا وقف على حلقة فيها عمرو بن عبيد المعتزلي، الضال، المنحرف في أشياء منها القضاء والقدر. فقال الأعرابي: للمجموعة هذه التي فيها عمرو بن عبيد: يا هؤلاء إنّ ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها عليّ. فقال عمرو بن عبيد المبتدع: “اللهم إنّك لم تُرِدْ أن تُسرق ناقته، فسُرقت فارددها عليه”، لأنّ المعتزلة يقولون إنّ المعاصي لا يريدها الله أن تقع، يعني: لا يريدها شرعًا، ولا يريدها كونًا. فقال الأعرابي: “لا حاجة لي في دعائك” قال: ولم. قال: أخاف كما أراد ألا تسرق فسرقت، أن يريد ردها فلاترد).
ط. الخـــاتمـــة
ولعلنا نجعل خاتمة هذا البحث العقدي، وهو أحد أركان الإيمان الستة. ومبحث الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، ليس عباراتٍ تُسطر، ولا كلاماً يُردد، إنّما هو استحضارٌ لنبضاتٍ وومضاتٍ إيمانية تسري في النفس والوجدان، تستدعيها مواقف وأحداث، وصروف، يواجهها المسلم في حياته اليومية، تُهوِّن عليه مصائب الدنيا، فيسترجع، وتبهجه حظوظها، فيشكر. حتى يلقى ربه (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
وقدر المؤمن في هذه الدنيا، صبرٌ على نقمة، وشكرٌ على نعمة. وتبارك وتعالى جدُّ ربنا العليم الحكيم، الذي خلقنا وخلق لنا ما يعيننا ويصلحنا. فبالإيمان تحلو الحياة، وبغيابه تشقى. أجل لتكن الخاتمة وصيتين، بل كنزين، من نبينا صلى الله عليه وسلم، يوجه النصح لابن عمه، عبد الله بن عباس، وهو للأمة من ورائه. ومن أبي بن كعب، يعيد الدرس نفسه، لزيد ابن ثابت حين استنصحه. وستتجلى في الحديثين، خلاصة الخلاصة، في بيان معنى الإيمان بالقضاء والقدر، والسلوك الذي يليق بكل مسلم مع هذا الركن الإيماني.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: (يَا غُلَامُ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأقلام وجفَّت الصُّحُف)).
وَعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: (أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّهُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ قَلْبِي فقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ).
أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعله حجة لنا، وليس علينا، يوم نلقاه .. والحمد لله رب العالمين.