لقد خص النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من سور وآيات القرآن الكريم بالتلاوة في أوقات معينة. ولا شك أنّ من وراء ذلك حكمة وغاية، من ذلك مثلا قراءته في صلاة فجر الجمعة بــ (السجدة) في الركعة الأولى و(الإنسان) في الركعة الثانية. كذلك كان يكثر من قراءة سورة (ق) في خطبة الجمعة. فلماذا؟
لا بد أن نعرف الجواب عن هذا السؤال لننتفع بهديه صلى الله عليه وسلم، هذا الهدي الذي لم ينته بفعله صلى الله عليه وسلم، وإنّما هو هديٌ علَّمه للأمة لتبقى تنتفع به إلى قيام الساعة.
وإنّ جهلنا بحقائق الأمور يوقعنا أحيانا في ممارسات دينية خاطئة تضحك، لأنّ الجهل يفعل أكثر من الإضحاك إنّه يبكي. وإليكم أمثلة.
وقبل ذكر الأمثلة، لا بد من الإجابة عن السؤال: لماذا خص النبي عليه السلام تلك السور ببعض خصائص؟
الجواب: إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ تلك السور في مناسبات متكررة لأنّها غنية بحشد من المعاني الإيمانية، والموضوعات العقدية التي يجب أن يبقى المسلمون على صلة دائمة معها، وأن لا يبعد العهد بها. ومن أمثلة الجهل بتلك الحقائق أنَّ بعض أئمة المساجد، إنْ لم أقل أكثرهم، يظن أنّ قراءة سورة السجدة في فجر الجمعة من أجل السجدة التي فيها، وقد يخطر له لعدم تمكنه من حفظ السورة، أو إشفاقاً منه على المصلين في عدم الإطالة، أن يقرأ آيات من آخرها ثم يسجد السجدة، أو يعدل أحيانا إلى سورة أقصر منها، فيها سجدة فيقرؤها ويسجد. وكثيرا ما اشتكى الناس أئمتهم لأنّهم لا يقرؤون السجدة يوم الجمعة. وفات هؤلاء جميعاً أنّ سجود التلاوة ليس واجباً لا في الصلاة ولا خارج الصلاة، وأنّه ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر على السجدة في الصلاة ولا يسجد. وإنّ قراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة، ليس لفضل سجود السجدة، فهي جائزة، ولكنّ لأمر أعظم، ألا وهو العيش مع معاني تلك السورة المباركة، في صلاة فجر ذلك اليوم المبارك. ولعل ذلك القصد، يلتقي بطريقة ما مع الحديث الصحيح: (أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة).
نعود إلى سورة (ق)، عن بنت الحارث بن النعمان قالت: (حفظت ق والقرآن المجيد من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يوم الجمعة). وفي رواية: (ما حفظت قاف إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يخطب بها كل جمعة، قالت: وكان تنور رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنورنا واحدا). وبالمناسبة فإنّ الحديث الذي فيه لفظة (الصبح) مكان (الجمعة) شاذ.
فلنستعرض إذن هذه السورة لننتفع بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم. ولتكن لنا مع مضامينها وقفات:
الأولى: جدير بالخطباء السائرين على المنهج الحق أن يُحْيوا هذا الهدي النبوي، وأن يجعلوا سورة (ق) وتجلية معانيها مادة خطبهم ائتساء بنبيهم. ولا يمنع أن يتنادى أصحاب المنهج للتذاكر في سورة (ق) في جلساتهم فيعوضوا تقصير الخطباء في ذلك. وعلى الدعاة أن لا ينسوا سورة (ق)، وأنّها مادة دعوية اهتم بها معلم الدعاة صلى الله عليه وسلم.
الثانية: بدأت السورة ب (ق) وهي من الحروف التي جاءت مقطعة في فواتح بعض السور. ويعجب الإنسان أشد العجب لِما وقع به كثير من العلماء، وعلماء التفسير بخاصة، من إطالة الكلام حول المقصود من هذه الحروف. وبدون أن أهدف إلى التنقص من أحد، أو التعالم على أحد، أو التجني والاتهام لأي أحد، أقول: إنّ الخوض في ذلك يقترب من القول على الله بغير علم، إن لم يكن ذاته. وما أرى أبرأ للذمة من قول: (الله أعلم بالمراد، وأنّ ذلك مما استأثر الله بعلمه)، يشجعني على هذا القول أنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أسوتنا وقدوتنا، لم ينقل عنهم، فيما أعلم، أنّهم سألوا نبيهم عن المقصود بهذه الحروف، كما أنّه صلى الله عليه وسلم، لم يبادرهم بتفصيل عن ذلك. أفلا يسعنا ما وسعهم..؟ أم أنّ عقولنا أطلبُ للحق من عقولهم..؟ ونفوسنا أحرص على الفهم منهم..؟ إنّهم تعلموا أن يقفوا حيث أوقفهم الله ورسوله، وأيقنوا أنّ كل علم كُتِمَ عنهم ليس بعلم نافع ولن يُسألوا عنه، فلِمَ يقْفون ما ليس لهم به علم..؟ وما أجمل وأجمع كلمة ابن تيمية: (الجهل بما لم يأت عن الله عين العلم).
وقد يتساءل البعض هل يمكن أن يكون في كتاب الله ما يثير الانتباه والفضول ثم لا يُبين؟ أقول: نعم وهو من باب الامتحان، امتحان العبودية المطلقة لله عز وجل، والتصديق المطلق لما جاء عنه، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو لم يستطع العقل استيعاب ذلك. وتعليمِ المسلمين أن يقفوا حيث يوقفهم الله ورسوله، لا أن تغريهم عقولهم بالتَّقَحُّم في ما لا ينبغي التقحم فيه، وتَطَلُّبُ العقل البشري معرفة الحكمة من وراء كل ما جاء به الدين، يضعف العبودية المطلقة لله، بربطها بالعقل، ويتجاوز حدود تكلف البشر، إذ إنَّ الله تبارك وتعالى لم يتعبدهم بالعقل والحكمة، إنّما بالطاعة المطلقة. ولهذا نظائر في كتاب الله مثل النسخ، والمحكم والمتشابه، والأمور الغيبية، فالتعاطي معها بالعقل، مزَلَّةُ قدمٍ بعد ثبوتها، ولا ينفع معها إلا التسليم.
الثالثة: تأتي أول آية في السورة قسماً من الله بكتابه الكريم، ولا بد عند كل قسم من الله أن نستذكر ما يلي:
1. الله تبارك وتعالى صادقٌ، أقسم أم لم يقسم. لكنّه، تبارك وتعالى، يقسم للفت انتباهنا، وتهيئة نفوسنا وعقولنا وقلوبنا إلى ما سيأتي بعد القسم، وللتأكيد على أهمية المُقسَم عليه. وكذلك التنويه بعظمة المُقسَم به.
2. لا بد من البحث فوراً عن عناصر القسم وهي المُقسِم، وهو دائما الله تبارك وتعالى، والمُقسَم به، وهو ما يقسم الله به، والمُقسَم عليه، وهو الأمر الذي يريد الله تأكيده من خلال القسم.
3. إنّ الله يقسم بما شاء من مخلوقاته تبارك وتعالى (الليل. الشمس. الضحى. العصر. مواقع النجوم. التين والزيتون، وغير ذلك من المخلوقات). كما يقسم تبارك وتعالى بنفسه (فَلَا وَرَبِّكَ). ولا يجوز الاستدلال بقَسَمِ الله بمخلوقاته على جواز قسم المخلوق بذلك، فلا يجوز لأحد أن يقسم بغير الله أو بأسمائه وصفاته، والأدلة على ذلك في السنة كثيرة ومعروفة. منها قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، وَإِلاَّ فَلْيَصْمُتْ)، وقوله:(مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا)، وقوله: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ).
4. التأمل في المُقسَم عليه، وتحقيق ما أراده الله منا من هذا القسم، فالله ما أقسم إلا من أجلنا ومن أجل أن ننتفع بالقسم.
الرابعة: المُقسَم عليه في سورة (ق) تعجّب الكفار من أن يأتيهم رسول منهم، يُنذرهم ويُعلمهم. وقد أرادوه تارة من الملائكة: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا). وأخرى، أرادوا لأنفسهم الحق في تعيين البلد المختار منها (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). وذكر ابن اسحاق عن الوليد بن المغيرة حيث قال: (أَيُنْزَل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها؟! ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف؟! فنحن عظيما القريتين).
وكل ذلك في حقيقته رفض لأصل النبوة، لا اعتراض على طريقتها، أو صاحبها، من أجل تبرير التشبث بإرث الآباء والأجداد، وصم الأذان وإغلاق القلوب عن دعوة الحق. وإذا كان ذلك ديدن الكفار، فقد وقع المسلمون اليوم بما يداني ذلك في الخطورة، يوم أقاموا تدينهم، مُقْصينَ التزامَ نصوصِ الوحيين، ومجانبين طريق الاتباع.
الخامسة: لقد أبى الكفار إلا أن يفضحوا أنفسهم قبل أن يفضحهم الله، فما لبثوا أن ثَنَّوا على اعتراضهم على النبوة، باعتراضٍ ثانٍ يرفضون به الرسالة التي جاء بها النبي، وما تتضمنه من العقائد مثل عقيدة البعث والنشور (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) فرد عليهم تقدست أسماؤه: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ). والرد على الاعتراض الثاني دون الأول يؤكد أنّ الأساس في اعتراضهم رد ورفض الدين وليس من يبلغهم ذاك الدين، وأنّه لو تغير المُبَلِّغ فسيبقون على رفضهم وعنادهم واستكبارهم.
وكان تَوَعُّدُ الله لهم (بالكتاب الحفيظ) وهو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل شيء، وأنّ مواقفهم تلك لا تخفى على الله.
وأحب أن أطيل الوقوف هنا، للتأكيد والتوضيح للحقيقة القرآنية؛ أنّ كل ما يدفن في بطن الأرض، لا بد أن يستحيل رفاة ثم ترابا، إلا ما استثناه النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي. وقد استغل الكفار هذه الحقيقة التي يُسَلِّم بها ويَستسلم لها كل الناس، ليشغبوا على عقيدة البعث والنشور، التي ينظرون إليها بمعزل عن قدرة الله تبارك وتعالى، فبالرغم من هذه الاستحالة التي يدركها كل الناس ولا يجحدها أحد فإنّ الله تبارك وتعالى، بقدرته يجمعهم ويعيدهم خلقا جديدا كما بدأهم، حين البعث والنشور. لكنّ هذه الحقيقة تعرضت للتشويش عند البعض بسبب ضرب النصوص بعضها ببعض. فلقد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الصحيحة أجساد الأنبياء من أن تفنى وترم وتعود ترابا كما بدأت. قال عليه السلام: ((إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ فأكثرا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَليّ) فَقَالُوا: يَا رَسُول الله وَكَيف تعرض صَلَاتنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْتَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: بَلِيتَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ)). والحديث الآخر: (الأنبياء أحياء في قبورهم يُصلون).
وإنّ بعضا من أصحاب المدرسة العقلية، ومن استهوتهم الأمور العلمية، لم تقبل عقولهم هذه الحقيقة الشرعية فردوا الأحاديث بعموم قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) وكان حريا بهم قبول الاستثناء النبوي من ذاك العموم، فلا يمكن أن يتعارض الوحيان.
وأبعد النجعة آخرون من أهل الشطحات فأباحوا لأنفسهم أن يستثنوا كاستثناء الرسول صلى الله عليه وسلم، دون دليل فقالوا على الله بغير علم، إنَّ أجساد الشهداء، وحفاظ القرآن، والصالحين لا تبلى كأجساد الأنبياء، وانتشر ذلك في بعض الكتب وصار مادة هامة في الوعظ والتذكير. ولقد أغراهم في ذلك ما جاء في بعض المصادر، عمن تفترض الصحة في أقوالهم من مثل علماء السعودية، الذين لا يتأثرون بشطحات أهل التصوف، أنّ سيلا اجتاح مقابر شهداء أحد فظهرت بعض الأجساد، وشُكلت لجنة من كبار العلماء لمواراتهم، وينقل عن الشيخ محمود الصواف أنّه وارى جثة حمزة رضي الله عنه، وكانت يده على جرحه في صدره والدم كأنّه يخرج في تلك اللحظة! ويبدو أنّ الذي رشح تلك القصة للتصديق، ما جاء في صحيح البخاري عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رضى الله عنه قَالَ: (لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِى أَبِى مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ مَا أُرَانِى إِلاَّ مَقْتُولاً فِى أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنِّى لاَ أَتْرُكُ بَعْدِى أَعَزَّ عَلَىَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ عَلَىَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِى قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِى أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ). ولقد صحح ابن حجر خللا في الرواية بمقارنتها مع روايات أخرى: (غَيْر هُنَيَّةٍ فِي أُذُنه). كذلك فقد أورد ابن حجر رواية أنّ والد جابر، وعمرو بن الجموح وهو الذي دفن معه، انكشفا بعد سيل أصاب قبرهما بعد ستة وأربعين عاما من دفنهما. فما الذي يجب أن يكون عليه موقف المسلم؟
إنّ تلك الروايات منقولة عن أشخاص يسري عليهم الوهم، ورواية جابر في البخاري موقوفة عليه وليس فيها ما يشير إلى الرفع. فتكون الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هي أصل اعتقاد المسلم (في أنّ الأرض تأكل كل الأجساد إلا أجساد الأنبياء). ولو كان هناك نوع آخر من الأجساد لا تأكله الأرض لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسكت عنه، وبذلك يزول الإشكال والحمد لله.
السادسة: والذي صدَّ أهل الكفر عن الإيمان بحقائق هذا الدين والاستسلام لها أمران أساسيان: أولهما أنّهم لم يتسلسلوا في تأسيس عقائدهم، فلم يؤمنوا برب أنزل القرآن، ولا بصدق إنزال القرآن، وبالتالي ما جاء في القرآن، إنّهم جحدوا الأصول بل أصول الأصول فأنّى لهم الهداية..؟ وثانيهما: أنّهم لما فشلوا في التعامل مع ذلك إيمانياً، لم يبق عندهم إلا التعامل معها بعقول لم تَسْتضِئ بنور الوحي ولم تهتدِ بهداه. فكان من الطبيعي أن تفرز عقولهم تلك التساؤلات الساذجة التي تصور لهم عقولهم المظلمة أنّها حجج دامغة (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً) استدعاء لصورة من الواقع مقتلعة من جذورها الإيمانية، فلا يقتنع بها إلا كافر. ولنقرأ ذاك الحديث المظهر صلف المتكلم وحجته الداحضة: (مشى أُبي بنُ خلف، بعظم بالٍ قد أرمّ، فقال: يا محمد! أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم؟! ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (نعم؛ أنا أقول ذلك؛ يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار)).
وأنزل الله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).
وحينما صار العقل وحده عندهم هو المرجع والحكم، كان قائدهم إلى التكذيب والضلال واضطراب كل شأنهم (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ). ومن هنا تُقدرون خوفي مما تمارسه المدرسة العقلية اليوم مع شبابنا إذ يضخم التركيز على الجانب العقلىي والعلمي على حساب الجانب الإيماني وهذا شر مستطير.
السابعة: يوجه الله تعالى المكذبين إلى التأمل والتبصر في ما حولهم (السماء وزينتها بالكواكب وإحكام صنعها، والأرض وقد مدت أمام السائر عليها فلا تصل إلى نهاية، وفي هذا إلماح إلى كروية الأرض. وإلى دور الجبال في حفظ توازن الأرض. وأنواع النبات الذي يكسو سطح الأرض وتنوعه) لعل هذا النظر والفكر ينير عقولهم ويجعلها تستضيء بنور الوحي فتريهم الأشياء على حقائقها وتجعلهم ينيبون إلى الله.
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).
ثم دعوةٌ إلى التأمل في هذا التكامل بين السماء والأرض فالأولى تمطر والثانية تنبت كل ذلك بقدر الله وإرادته. ويختم الله حديثه عن الإمطار والإنبات بقوله: (رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ). وهنا وظف الشيء الملموس المحسوس والذي يعرفه كل الناس، وهو الإنبات من العدم، لتقريب أمر غيبي وهو البعث والنشور. ولمثل هذا التوظيف نظائر في القرآن مثل: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ). وقوله تعالى في سورة السجدة التي ذكرناها: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ).
الثامنة: يقص الله تبارك وتعالى على المكذبين أنباء أمم سبقتهم على مسرح الحياة، وسبقتهم في التكذيب مبينا المصائر التي انتهوا إليها (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ). ونجد المعنى نفسه في سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ).
التاسعة: ينتقل موضوع الحديث في السورة بعد التأكيد وضرب الأمثال، فيما يخص البعث والنشور، إلى ما سيكون بعد البعث والنشور وهو الحساب. ويبدأ الحديث عن الحساب، من التركيز على متعلقاته في الحياة الدنيا قبل الموت، ويتركز ذلك في أنّ الله عليم بما تنطوي عليه كل نفس، وما يكتمه كل إسرار، فيخيل للبشر أنّ لهم حيلة في إخفاء بعض ذنوبهم: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وإضافة إلى ما يحصيه الله، فهناك الكاتبان اللذان يكتبان الصحف لتنشر لأصحابها (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) والكتب التي تسلم بالأيمان أو بالشمائل. فمن قائل (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)، وقائل (يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ) فكيف يكون الفرار..؟
ولم يُتْرَكْ إحصاءُ الأعمال مجهولَ الكيفية، وإن كان غيبيا (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). يكتبان كل شيء ولا يسأمان، وليس لهما وقت مستقطع، يؤمران فيكفان فيه عن الكتابة. إنّ كثيرا من المسلمين اليوم بالرغم من معرفتهم بهذا الأمر يتجاهلونه، وأضرب لكم مثلاً: إنّ بعض الملتزمين لا يلتزمون في أفراحهم الضوابط الشرعية، ويتفلتون كتفلت من لا دين له، إرضاء ومجاملة للناس، أو خوفا من نقد وكلام الناس، ولو كلمتهم لقالوا بكل بساطة (هي ليلة) فهل ينام فيها الملكان، أم يجازان، أم يتعاطفان..؟
العاشرة: فمهما طال العمر وامتدت الحياة، فلا بد من اللحظة التي تأتي وتنهي كل شيء من أمر الدنيا، وتبدؤ الرحلة نحو الآخرة. تلك اللحظة التي لا يحب الإنسان أن تأتي، ولا يحب حتى أن يتذكرها، لكنّها حتم مقضي، وآت لا بد منه، ونهاية لا ريب فيها: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ). يأتي الموت ويذوق الإنسان من سكراته ما يشاء الله له، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول وهو يجود بنفسه: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ). وتشهد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أباها الصديق وهو يعاني غمرات الموت، فتقول بيتا لحاتم الطائي:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فيكشف الصديق غطاءه ويقول: (يا بنيه لا تقولي هذا، ولكن قولي كما قال الله: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)). ثم ما تلبث أن تنزع الروح، وما أدراكم ما نزع الروح..! إما أن تكون للعبد آخر كرامة في الدنيا، أو آخر نفحة عذاب فيها. جاء في الحديث الصحيح: (إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ من السَّمَاء مَلَائِكَة بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ الله ورضوان. قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنَ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا).
(وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ ” قَالَ: ” فَتُفَرَّقُ فِي جسده فينتزعها كَمَا ينتزع السفود من الصُّوف المبلول فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيخرج مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ).
لقد قامت قيامتك الصغرى أيها الإنسان، ولأنّ حياة البرزخ يتغير فيها حساب الزمن وشعورك به، ستأتيك القيامة الكبرى عاجلة بعد الصغرى ودون فاصل تحس به كما جاء في الآيات: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ).
لقد كنت أيها المغرور تملك أن تتجاهل كل هذه الحقائق وتتغافل عنها. ولطالما صَوَّر لك هواك ووسوست لك نفسُك (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) لكن الواقع اختلف وبدأت المواجهات اليقينية لِما كان شكاً ووهماً (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
الحادية عشرة: يقوم الناس لرب العالمين، فمثقلٌ بالآثام والخطايا يُقاد إلى عرصات القيامة من قائدٍ وُكِّلَ به، وشاهدٍ على أعماله يحمل سجلاتها. فإذا صار على شفا جهنم أمر الرب تبارك وتعالى بإلقائه فيها، وما جرمه وما ذنبه..؟ (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ).
ويشتد المجرم في البحث عن المخرج والعذر أملا في النجاة، فلا يجد إلا أن يلقي التبعة على قرينه من الجن. وقد يكون في إغفال كلام المُلْقى صورةٌ أكثر تعبيرا، وهو أنّ القرين الجني بادر بالتبرؤ منه قبل أن يشار إليه بالاتهام، تأكيداً لهول الموقف في أنَّ كلاً يعرف ذنبه ويعترف به: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ).
وهذا الحال نظير قوله تعالى في سورة إبراهيم: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). فيجيبهما الرب تبارك وتعالى أنّ وقت التلاوم والتلاحي قد فات، وأنْ لا بد من مواجهة الحقائق، ولا يظلم ربك أحدا: (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
ويسأل الرب تبارك وتعالى النار هل اكتفت بما ألقي وحشد فيها من أهل الكفر والضلال؟ وإذا بها تطلب المزيد منهم ليخيب آخرُ أمل للنجاة. فحين يرى الحشود الحاشدة سبقته إلى النار يتصور، وهو متعلق بآمال خائبة، أنْ لا يوجد له مكان في النار فيخرج منها. هيهات هيهات لما يأملون (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).
الثانية عشرة: أما أنتم يا أهل الجنة، فلن تساقوا إلى الجنة سوقا، ولن تُدَعُّوا إليه دعّاً، إنّما تقرب إليكم فلا تعب ولا نصب في بلوغها، وهذا من بعض نعيم الجنة (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ). ولندقق في صفات أهل الجنة (أواب حفيظ، من خشي الرحمن بالغيب، جاء بقلب منيب).
الثالثة عشرة: ويعود الكلام ثانية للتذكير بالأمم السابقة والدعوة مرة أخرى للاعتبار والاتعاظ بمصائر من غبر (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). ويعاد الكلام أيضا عن خلق السماوات والأرض وما في ذلك من التأكيد على قدرة الخالق تبارك وتعالى، تضميناً لمعنى أنَّ من قدر على هذا الخلق العظيم، فإنّ خلق الإنسان وبعثه أهون عليه! ولهذا نظائر كقوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا). وقوله تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
الرابعة عشرة: خطاب للنبي بأن يصبر على تكذيبهم وإعراضهم، رغم كل الآيات التي تُبيَّن لهم، فهي في الكون ظاهرة واضحة، وفي الكتاب مسطورة مقروءة، وأُمر صلى الله عليه وسلم أن يستعين على الصبر بالصلاة المعبر عنها بالتسبيح في أوقات لها من الأفضلية والخصوصية ما ليس لغيرها (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ). وإنَّ هذا الصبر يستمر حتى يفصل الله ويقضي، فاستمعْ هنا، بمعنى انتظر حتى تَسمع: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وعيد).
لقد بدأت سورة (ق) بالقَسَم بالقرآن، وذكرنا أنَّ القَسَم بالشيء من الله تعالى تعظيم له ولفت النظر إلى ذلك، ولم نفصل القول في مكامن عظمة الكتاب الكريم، لعدم خفائها على أي مسلم. وإذا كانت المفاضلة جائزة، فإنّ أعظم ما في القرآن الكريم أنّه كتاب الهداية لكل البشر (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وهذا ما ختم الله تبارك وتعالى به سورة (ق) بعد أن بدأها بالقسم به، فبالقرآن بدأت وبه انتهت (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).
والكلمات الآواخر في سورة (ق): (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)، قاعدةُ عملٍ للدعوة إلى الله تبارك وتعالى، أُمر بها النبي، وهي أيضا لمن وراءه من الدعاة على بصيرة، وفيها ملمحان عظيمان:
الأول: أنّه إنْ سلم المنهج وأُصِّل فليس الداعية مسؤولا عن النتائج (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ).
والثاني: أنَّ وقت الداعية وجهده عزيزان، فلا يجوز أن يُبددا في غير المحل المناسب، فلا بد من بذل الدعوة لمن يخشى الله واليوم الآخر، وألا تكون العملية حراثة في البحر أو ضربا في حديد بارد (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).
وكثيرا ما شَهِدتُ مخالفاتٍ لهذا التوجيه الرباني، في أن تُضَيَّعَ الساعاتِ الطوال، في مناقشةٍ، تحشد فيها الآيات والأحاديث، مع مُناقَشٍ ملحدٍ لا يؤمن بكل تلك النصوص، التي حشدـت، وينقضي الوقت الطويل، والجهد الكبير، دون ثمرة. بسبب مخالفة هذا المنهج الدعوي، اللهم إلا أن تكون قد قامت الحجة على ذلك المُناقَش!
وقد يطرح سؤال، هل يستثنى مثل هؤلاء الناس من أن تمارس معهم الدعوة؟ والجواب لا. ولكنْ يتغير الأسلوب، فهؤلاء يناقشون من قِبل مقتدرين. يحاجونهم ابتداءً، بالعقل والمنطق، وليس بالآية والحديث، لأنّ تلك بضاعتهم، أو كما يقال: (اللغة التي يعرفونها)، فإذا خُضِدَتْ شوكتهم، انتُقِل معهم إلى طور آخر. والبحثُ أطول من هذه العجالة، وهو ذو أهميةٍ في العمل الدعوي، وله إن شاء الله، وقته.
ما أزعم أنّي وفيت سورة (ق) حقها، وحسبى أنّي أرشدتكم إلى هدي فاتبعوه، وعرفتكم على درب فاسلكوه، واستخلصت لكم درسا فاحفظوه.
والحمد لله رب العالمين