مقدمة عامة
إنّ المعرفة أساس أية علاقة بين أي طرفين. وكلما ازدادت المعرفة قويت العلاقة واتجهت نحو الأفضل. وهذا أمر لا يُماري فيه عاقل ولا يجحده ذو فهم. تؤيده المشاهدة والتجربة ويُصدقه الواقع بل والدين قبلاً (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).
والله تبارك وتعالى أرادنا أنْ نعبده وأنْ نتقيه، وأن نخشاه، وأن نطيعه. ومن أجل أنْ نعبده حق عبادته، وأن نتقيه حق تقاته، وأن نخشاه حق خشيته، وأن نطيعه حق طاعته، عرّفنا بنفسه أكمل تعريف. وكان أصل الدين التوحيد، والتوحيد المعرفة التامة بالله. والتوحيد عند علماء العقيدة شعب ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وعلماء الأمة أعطوا هذه الحقيقة، معرفة الله، حقها ونصحوا للأمة فبينوها وها هي بعض النماذج:
قال بعض العلماء: (أول فرض فرضه الله على خلقه: معرفته، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ}).
ويقول العز بن عبد السلام: (فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات).
ويقول ابن القيم في هذا الصدد: (لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرّب جلّ جلاله ويعرفها معرفة تخرج عن حدّ الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرّفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فضلاً عن أن يكون من أهل العرفان).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: (إنّ معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها. بل حقيقة الإيمان أنْ يعرف الربَّ الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، حتى يبلغ درجة اليقين. وبحسب معرفته بربه، يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه، ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك: تدبر صفاته وأسمائه من القرآن).
أدلة أسماء الله تعالى من كتاب العزيز
يقول الله عز وجل: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى). (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
أدلة أسماء الله تعالى من السنة الصحيحة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ). وفي رواية: (وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ).
وعنه أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة).
هل الأسماء الحسنى محدودة بعدد؟
ليست الأسماء الحسنى محدودة بعدد، ودليل ذلك ما يلي:
حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (مَنْ كَثُرَ هَمُّهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ وَفِي قَبْضَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَلْهَمْتَ عِبَادَكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي مَكْنُونِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قلبِي وجِلاء هَمِّي وغَمِّي مَا قَالَهَا عَبْدٌ قَطُّ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ غمه وأبدله فرجا). وفي رواية: (قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: (بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)). رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه.
فالحديث السابق نص في أنّ هناك أسماءً حسنى استأثر الله تبارك وتعالى بعلمها ولم يطلع عليها أحداً من خلقه، كما أنّ هناك أسماء حسنى علّمها الله تبارك وتعالى بعض خلقه وحجب علمها عن الباقين. وهذا ينافي تماماً أنْ تكون أسماء الله الحسنى محدودة العدد. لكنّه يرد على هذا الكلام حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة).
وقد جمع العلماء بين دلالتي الحديثين اللتين تبدوان لأول وهلة متعارضتين فقالوا، والكلام لابن تيمية: (وإن كانت أسماء الله أكثر، لكنّ الموعود بالجنة لمن أحصاها هي معينة، وبكل حال، فتعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، باتفاق أهل المعرفة بحديثه).
وجاء عن الخطابي حول الفكرة نفسها قوله: ({إنّ لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها} التقييد بالعدد عائد إلى الأسماء الموصوفة بأنّها هي هذه الأسماء. فهذه الجملة وهي قوله: {من أحصاها دخل الجنة} صفة للتسعة والتسعين). ويتابع الخطابي القول: (والتقدير: أنّ لله أسماء بقدر هذا العدد من أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل: إنّ لي مائة غلام أعددتهم للعتق، وألف درهم أعددتها للحج، فالتقييد بالعدد هو في الموصوف بهذه الصفة لا في أصل استحقاقه لذلك العدد؛ فإنّه لم يقل: إنّ أسماء الله تسعة وتسعون).
ونقل ابن حجر في الفتح عن النووي رحمه الله قوله: (ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه أنّه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنّما مقصود الحديث أنّ هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود {أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك}).
وقد عرض الشيخ العثيمين رحمه الله هذه الفكرة بجلاء ووضوح بقوله: (فأما قولـه صلى الله عليه وسلم: {إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة}، فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة: {إنّ أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة} أو نحو ذلك. إذن فمعنى الحديث: أنّ هذا العدد من شأنه أنّ من أحصاه دخل الجنة، وعلى هذا فيكون قوله: {من أحصاها دخل الجنة} جملة مكملة لما قبلها، وليست مستقلة، ونظير هذا أن تقول: عندي مائة درهم أعددتها للصدقة، فإنّه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة. ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين هذه الأسماء، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف).
والخلاصة، أنّ أسماء الله الحسنى غير محدودة بعدد، وأنّ التحديد الذي جاء في بعض الروايات في كتب الحديث كجامع الترمذي وغيره ليس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ تلك الروايات ضعيفة والتحديد من اجتهادات الرواة. يلخص ذلك كلام ابن تيمية رحمه الله: (فالحديث الذي فيه ذكر ذلك هو حديث الترمذي، روى الأسماء الحسنى في جامعه من حديث الوليد بن مسلم، عن شعيب عن أبي الزَّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، ورواها ابن ماجه في سننه من طريق مَخْلَد ابن زياد القَطَواني، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين،عن أبي هريرة. وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنّ هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنّما كل منهما من كلام بعض السلف، فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين، كما جاء مفسرًا في بعض طرق حديثه).
فما موقف المسلم إذن من قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) مع استحضار حديث (إنّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، وحقيقة أنّ الأسماء الحسنى غير محصورة بعدد؟ وبكلمات أخر، وسؤال يطرح نفسه: هل يُقتصر في دعاء الله تبارك وتعالى على التسعة والتسعين اسماً، ولا يجوز دعاؤه بغيرها؟
يُجيب عن هذا السؤال ابن تيمية رحمه الله إذ يقول في فتاويه: (هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد ابن حزم وغيره، فإنّ جمهور العلماء على خلافه، وعلى ذلك مضى سلف الأمة وأئمتها، وهو الصواب لوجوه:
أحدها: أنّ التسعة والتسعين اسمًا لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي، والحديث ضعيف.
الوجه الثاني: أنّه إذا قيل تعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا، ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث، مثل اسم [الرب]، فإنّه ليس في حديث الترمذي، وأكثر الدعاء المشروع إنّما هو بهذا الاسم، كقول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}، وقول نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}، وقول إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}، وقول موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}، وقول المسيح: {رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء}، وأمثال ذلك. وأيضًا، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: {إنّ الله وتر يحب الوتر}. وليس هذا الاسم في هذه التسعة والتسعين، وثبت عنه في الصحيح أنّه قال: {إنّ الله جميل يحب الجمال} وليس هو فيها. وفي الصحيح عنه أنّه قال: {إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيبًا} وليس هذا فيها. وتتبع هذا يطول. ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين، اسمه: السبوح، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول: {سبوح قدوس}. واسمه {الشافي} كما ثبت في الصحيح أنّه كان يقول: {أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقمًا}. وكذلك أسماؤه المضافة مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة، وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين، وليس من هذه التسعة والتسعين).
كيف نتعبد الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى، وكيف ندعوه بها، وكيف نحصيها؟
يقول العلماء إنّ المقصود بالتعبد بأسماء الله تعالى وصفاته تحقيق العلم بها ابتداءاً، وفقه معانيها، ثم العمل بما يقتضيه ذاك الفهم، فيتصف بالصفات التي يحبها الله تعالى: كالعلم، والعدل، والصبر، والرحمة.
وقال ابن القيم: (لما كان سبحانه يحبّ أسماءه وصفاته: كان أحبّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه: من اتصف بالصفات التي يكرهها، فإنّما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت، لأنّ اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدّه، وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنّها لا تنافي العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها من العبيد لم يتعد طوره، ولم يخرج بها من دائرة العبودية).
ويقول: (وأما دعاؤه بها تبارك وتعالى فله وجهان:
الأول: أن تدعو الله بها لقوله تعالى: (فادعوه بها) بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور اغفر لي، وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب اغفر لي بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك.
الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء، فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالباً لرحمة الله).
ثم يقول: (وأما إحصاؤها فللعلماء في ذلك أقوال، أبرزها: وليس معنى إحصائها أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ ولكن معنى ذلك: أولاً: الإحاطة بها لفظاً. ثانياً: فهمها معنى. ثالثاً: العمل بمقتضاها).
وقال الحافظ ابن حجر أثناء شرحه لحديث: ({إنّ لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة}، وقيل: معنى أحصاها: عمل بها، فإذا قال: (الحكيم) مثلاً، سلّم جميع أوامره، لأنّ جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال: (القدوس)، استحضر كونه منزهاً عن جميع النقائص، وهذا اختيار أبي الوفا بن عقيل).
وقال ابن بطّال: (طريق العمل بها: أنّ الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم والكريم: فإنّ الله يحب أن يرى حالاها على عبده، فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى، كالجبار والعظيم: فيجب على العبد الإقرار بها، والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد: نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد: نقف منه عند الخشية والرهبة).
وقال القرطبي: (المرجو من كرم الله تعالى أنّ من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحة النية أن يدخله الله الجنة، دخل الجنة. ومن حصلت له جميع مراتب الإحصاء حصل على الغاية، ومن منح منحىً من مناحيها فثوابه بقدر ما نال والله أعلم).
ما هو المصدر الذي نتلقى منه الأسماء الحسنى، وهل من قواعد لتحديدها؟
يقول الشيخ العثيمين رحمه الله ملخصاً آراء العلماء في تلك المسألة: (أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها، وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأنّ العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء. ومن الإلحاد في أسمائه تبارك وتعالى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، أن يسمى الله بما لم يسمِّ به نفسه، كما سماه الفلاسفة {علة فاعلة} وسماه النصارى: {أباً}، فهذا إلحاد في أسماء الله.
وتسمية الله بما لم يسم به نفسه سوء أدب مع الله وظلم وعدوان في حقة، لأنّه لو أنّ أحداً دعاك بغير اسمك أو سماك بغير اسمك، لاعتبرته قد اعتدى عليك وظلمك هذا في المخلوق، فيكف بالخالق؟!).
وبناء على القاعدة المقررة آنفاً، أنّ أسماء الله تبارك وتعالى توقيفية، فلا يجوز استنباطها بطريق الاشتقاق اللغوي. ومن هذا المفهوم، قعد العلماء قاعدة في شأن أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته فقالوا :(يشتق من كل اسم صفة وليس العكس، لأنّ الأسماء من باب الإنشاء، والصفات من باب الإخبار، وباب الإخبار أوسع من باب الإنشاء). يوضح هذه القاعدة كلام لابن حزم رحمه الله: (ولا يحل لأحد أن يشتق لله تعالى اسما لم يسم به نفسه. برهان ذلك أنّه تعالى قال والسمآء وما بناها وقال وأكيد كيدا وقال تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ولا يحل لأحد أن يسميه البناء ولا الكياد ولا الماكر لا على أنّه المجازى بذلك ولا على وجهه أصلا ومن ادعى غير هذا فقد ألحد في أسمائه تعالى وتناقض وقال على الله تعالى الكذب وما لا برهان له به وبالله تعالى التوفيق).
ومما يتصل بالموضوع نفسه ما اتفق عليه العلماء أنّه لا يجوز أنْ يُطلق عليه تبارك وتعالى اسم ولا صفة توهم نقصا ولو ورد ذلك نصاً، فلا يُقال ماهد ولا زارع ولا فالق ولا نحو ذلك وإن ثبت في قوله: (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) ونحوها، ولا يقال له ماكر ولا بناء وإن ورد (وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا).
يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: (ولهذا لم يسم الله نفسه بالمتكلم مع أنّه يتكلم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} لأنّ الكلام قد يكون خيراً، وقد يكون شراً، وقد لا يكون خيراً ولا شراً، فالشر لا ينسب إلى الله، واللغو كذلك لا ينسب إلى الله، لأنّه سفه.
وكل وصف لله جاء مقيداً فهو ليس من أسماء الله الحسنى، لأنّ أسماء الله كمال على الإطلاق لا تحتاج إلى تقييد، من ذلك المنتقم فليس من أسماء الله تبارك وتعالى، لأنّ الله تعالى لم يذكر هذا الوصف لنفسه إلا مقيداً، والله سبحانه وتعالى إنما ذكر المنتقم في مقابلة الإجرام فقال: {إنّا من المجرمين منتقمون}، {فانتقمنا منهم}، {والله عزيز ذو انتقام} وحينئذ لا يكون المنتقم من أسماء الله).
وبالقاعدة نفسها، فإنَّ الراجح أنّ الهادي والمعين ليساً من أسماء الله الحسنى عند بعضهم، وإن عدها آخرون منها، وقالوا: بل هما من أوصاف الله المقيدة فإنّه تبارك وتعالى يعين ويهدي من شاء من عباده. ولإيضاح هذه الفكرة أكثر نقول: الخالق خلق كل المخلوقات، والرازق يرزق كل المخلوقات، حتى الكفرة من البشر، وحتى الحيوان. وكذلك العليم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، والحكيم تتجلى حكمته في كل شيء من خلقه، وقل الشيء نفسه في: الغني، القوي، الكريم، السميع، البصير .. وعلى هذا فلا يكون اللفظ اسماً من أسماء الله الحسنى ما لم تكن الصفة التي يحملها مطلقة غير مقيدة أو محدودة.
وقد غر البعض الحديث الصحيح: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِينِى ابْنُ آدَمَ ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، وفي رواية: (لاَ يَسُبُّ أَحَدُكُمُ الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ). فاعتبروا لفظ الدهر من أسماء الله الحسنى، وقد سئل الشيخ العثيمين رحمه الله عن ذلك فأجاب: (الدهر ليس من أسماء الله سبحانه وتعالى ومن زعم ذلك فقد أخطأ وذلك لسببين: السبب الأول: أنّ أسماءه سبحانه وتعالى حسنى، أي بالغة في الحسن أكمله، فلا بد أن تشتمل على وصف ومعنى هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى اسماً جامداً، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلا أنّه اسم للأوقات. والسبب الثاني: أنّ سياق الحديث يأبى ذلك، لأنّه قال: “أقلب الليل والنهار” والليل والنهار هما الدهر بدليل قوله تعالى عن منكري البعث: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} يريدون مرور الليالي والأيام. فكيف يمكن أن يكون المُقلَّب بفتح اللام هو المُقلِّب بكسر اللام؟! وهنا في الكلام محذوف تقديره “وأنا مقلب الدهر” لأنّه فسره بقوله: ” أقلب الليل والنهار” ولأنّ العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول).
يتبين من الفقرة السابقة أنّه ليس كل لفظ ورد في الكتاب والسنة يصح أن يكون اسماً لله تبارك وتعالى، وإن كان ذاك اللفظ يتضمن صفة له تبارك وتعالى، بل لا بُد من تحكيم قواعد تواضع عليها بعض العلماء لتحديد الأسماء الحسنى، وقد ذكرنا آنفاً بعضها مع التمثيل لتطبيقاتها. والمسألة محل اجتهاد، ولذلك اختلف العلماء في تحديد الأسماء ولم يتفقوا عليها. وهذا يجعلنا نؤكد ما قلنا سابقاً أنّ أسماء الله الحسنى ليست محدودة بعدد وإن كانت محدودة في المصادر التي تتلقى منها وهي الكتاب والسنة الصحيحة. وأبرز من توخى الدقة في اختيار أسماء الله الحسنى من الكتاب والسنة الصحيحة، والتزم القواعد في ذلك الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله. فيذكر في كتابه الموسوم (القواعد المثلى) ما يلي: (وقد جمعت تسعة وتسعين اسماً مما ظهر لي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. من كتاب الله تعالى:
الله |
الأحد |
الأعلى |
الأكرم |
الإله |
الأول |
والآخر |
والظاهر |
والباطن |
البارئ |
البر |
البصير |
التواب |
الجبار |
الحافظ |
الحسيب |
الحفيظ |
الحفي |
الحق |
المبين |
الحكيم |
الحليم |
الحميد |
الحي |
القيوم |
الخبير |
الخالق |
الخلاق |
الرؤوف |
الرحمن |
الرحيم |
الرزاق |
الرقيب |
السلام |
السميع |
الشاكر |
الشكور |
الشهيد |
الصمد |
العالم |
العزيز |
العظيم |
العفو |
العليم |
العلي |
الغفار |
الغفور |
الغني |
الفاتح |
القادر |
القاهر |
القدوس |
القدير |
القريب |
القوي |
القهار |
الكبير |
الكريم |
اللطيف |
المؤمن |
المتعالي |
المتكبر |
المتين |
المجيب |
المجيد |
المحيط |
المصور |
المقتدر |
المقيت |
الملك |
المليك |
المولى |
المهيمن |
النصير |
الواحد |
الوارث |
الواسع |
الودود |
الوكيل |
الولي |
الوهاب |
|||
ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجميل، الجواد، الحكم، الحيي، الرب، الرفيق، السُبّوح، السيد، الشافي، الطيب، القابض، الباسط، المقدم، المؤخر، المحسن، المعطي، المنان، الوتر).
هذا ما اخترناه بالتتبع، واحد وثمانون اسماً في كتاب الله تعالى وثمانية عشر اسماً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان عندنا تردد في إدخال (الحفي)؛ لأنّه إنّما ورد مقيداً في قوله تعالى عن إبراهيم: (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) وما اخترناه فهو حسب علمنا وفهمنا وفوق كل ذي علم عليم حتى يصل ذلك إلى عالم الغيب والشهادة ومن هو بكل شيء عليم).
خاتمة
بعد هذا العرض لأبرز النقاط في موضوع عقدي من أخطر الموضوعات وأدقها وأهمها في عقيدة المسلم، والتي يفقد المسلم بفقدها أو الجهل بها الركن الركين والأساس المتين لعقيدته، وهو معرفة خالقه وربه من خلال أسمائه وصفاته..! يبقى في النفس تساؤل لا يملك المسلم تجاهله أو تجاوزه، ليكون على بينة وبصيرة في أمرٍ، بهذه المثابة من الأهمية والخطورة في أمر العقيدة. والسؤال عند كل أحد:
إذا كان الإلمام بأسماء الله الحسنى وسيلة لمعرفة الله تبارك وتعالى حق المعرفة، وإحصاء تسعة وتسعين اسماً من أسمائه تبارك وتعالى جزاؤه الجنة، فبمَ يفسر غياب نص صحيح يحدد تلك الأسماء؟
والجواب: أنّ لله حكمة بالغة في كل أمر، ولا بد من التسليم بذلك، ولكن مقايسة الأمور بعضها ببعض يوقفنا على ما قد يخفى، ألا نرى أنّ الله تبارك وتعالى شاء أنْ لا تحدد ليلة القدر، ولا ساعة الإجابة يوم الجمعة، بشكل دقيق من أجل أن يجتهد المؤمنون بالعمل الصالح وقتاً أطول، بغية إدراكها فيؤجرون ويغنمون، ولو علموها في وقت محدد لتراخوا ولم يعملوا إلا قليلاً .. هذا ما يُستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنِّى خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ). وهل يُفسر قول النبي صلى الله عليه وسلم (وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ) في إبهام وقت ليلة القدر إلا كما قدمنا؟
وجاء عن الفخر الرازي قوله: (يجوز أن يكون المراد من عدم تفسيرها أن يستمروا على المواظبة بالدعاء بجميع ما ورد من الأسماء رجاء أن يقعوا على تلك الأسماء المخصوصة، كما أبهمت ساعة الجمعة وليلة القدر).
وقال غيره عن الموضوع نفسه: (فالنبي صلى الله عليه لم يبينها لحكمة بالغة وهي أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتبين الحريص من غير الحريص).
هذا ما أذن فيه الوقت، وأسعف فيه الفهم والعلم، فما كان من صواب فمن الله وتوفيقه، وما كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله العظيم منه، وأفضل الصلاة والسلام على معلم الناس الخير.
والحمد لله رب العالمين