Skip to main content

حُكْمُ الغِنَاءِ وَالمَعَازِفِ

By الثلاثاء 16 صفر 1441هـ 15-10-2019مبحوث ومسائل, فقه

موضوع عَمَّ البلاءُ فيه وطَمَّ، حتى إنّنا لنجده في حياة وبيوتات من نحسن بهم الظن من الملتزمين. ولي عبارة أكررها منذ أكثر من عشرين سنة في مجالسي، وفي ما أكتب، وهي (إنّ نصوص الوحيين تفقد قدسيتها شيئا وشيئا في أعين المسلمين)، وكنت أؤكد دائماً أنّ الجناية في ذلك، تُعَصَّبُ برؤوس العلماء، قبل العوام. وما ذاك إلا لأنّ كثرة اختلاف العلماء في أحكام بعض المسائل الفقهية، وترك العمل بالنصوص، إلى اجتهادات الرأي، وتقليد الرجال، يشعر العاديين من المسلمين، أنّ النصوص ليس حَدِّيَّةً (والحدِّيُّ ما يجب الالتزام به حرفيا) في الدين، وأنّ المطلوب، بزعمهم، الدوران في فلك النصوص، مراعاة لاعتبارات وحالات واستثناءات، والمهم أنّنا في فلك النصوص ندور، وبمقاصد الدين نعمل! فأين بقيت القدسية؟
ولعله ليس سراً يُذاع، أنّ كتب الفقه المذهبي ملأى بأمثلة تشهد لما أقول، ولقد ذكرت ذلك تفصيلا في موضوعات لي منشورة في موقعي الإلكتروني. ولست أبرر لعوام المسلمين تقليدهم للعلماء في اختلافاتهم، وبالتالي ترك اتباع النصوص، ولكنّني أعرض حقيقة واقعة، يحكمها منطق المقدمة والنتيجة. ورحم الله الشيخ الألباني فقد قدَّم لكتابه الفريد في بابه، في المكتبة الإسلامية،(تحريم آلات الطرب) بمقدمة، سأستعير بعضها، أو أقتبس منها، لأهميتها بين يدي البحث في (حكم الغناء والمعازف). يقول رحمه الله:
(أما بعد، فقد كنت وقفت سنة (1373 ه) في مجلة الإخوان المسلمون المصرية، العدد (11) بتاريخ (29) ذي العقدة من السنة المذكورة على استفتاء حول الموسيقى والغناء نصه:
(أنا شاب مسلم، وأقوم بشعائر الدين (ومخلص جدا)، ولكن هناك شيء يستولي على نفسي، وهو حب الموسيقى والغناء، بالرغم أنّي أحفظ القران الكريم، فهل هذه الهواية حرام؟
فأجاب فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة بما نصه: بالنسبة للغناء إذا لم يكن فيه ما يثير الغريزة الجنسية فإنّنا لا نجد موجبا لتحريمه، وإنّ العرب كانوا يرجزون ويغنون ويضربون بالدف، وورد في بعض الآثار الدعوة إلى الضرب بالدف في الزواج، وقيل: (فرق ما بين الحلال والحرام الدف)، ومثل ذلك الموسيقى. ونجد أنّه لما دخل الغناء الفارسي بالألحان في عهد التابعين كانوا فريقين:
فريقا يميل إلى الاستماع ولا يجد فيه ما يمس الدين كالحسن البصري. وفريقا لا يميل إليه ويجده منافيا للزهادة والورع كالشعبي.
وعلى أي حال فإنّه من المتفق عليه أنّه ما دام لا يثير الغريزة الجنسية، ولا يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، فليس فيه ما يمس الدين!)
).
ثم علق الشيخ رحمه الله: (قلت: وقد كنت كتبت وقتئذ ردا على هذه الفتوى لمخالفتها للأحاديث الصحيحة ومذهب جمهور العلماء، وأرسلتها إلى المجلة، ولكن حال دون نشره فيما يبدو تعطيل المجلة في عهد عبد الناصر، ومنعها من الصدور.
وفي هذه الفتوى على اختصارها من الأخطاء والأوهام المختلفة ما كنت أتصور أنّ الشيخ أبو زهرة أكبر من أن يقع في مثلها! فلا بد لي من بيانها مع الاختصار قدر الإمكان، إلا فيما له صلة تامة بموضوع الرسالة فأقول: الأغاني والموسيقى:
1 الموجب لتحريم الغناء الأحاديث الصحيحة الثابتة في كتب السنة كما سيأتي بيانها مخرجة مصححة من العلماء في هذه الرسالة، فهل الشيخ وهو من كبار علماء الأزهر يجهلها، أم هو يتجاهلها كبعض تلامذته كما سيأتي؟ أحلاهما مر!
2 إنّ القيد الذي شرعه من عنده: أن لا يثير الغريزة الجنسية، وقد قلده فيه بعض تلامذته كالشيخ القرضاوي والغزالي وغيرهما، فقال الأول كما سيأتي نقله عنه في هذه المقدمة، مفصحا: (ولا بأس بأن تصحبه الموسيقى غير المثيرة، يعني الغناء!
فأقول: هذا القيد نظري غير عملي، ولا يمكن ضبطه، لأنّ ما يثير الغريزة يختلف باختلاف الأمزجة ذكورة وأنوثة، شيخوخة وفتوة، وحرارة وبرودة، كما لا يخفى على اللبيب.
وأسوأ من هذا التفريق وذاك، ما كنت قرأته في نشرة لحزب إسلامي معروف أنّه يجوز للرجل أن يقبل المرأة الأجنبية عند السلام عليها، وليس مصافحتها فقط، بل وتقبيلها أيضا، قالوا: ولكن بنية طيبة وبغير شهوة!!
).

أقول: صدق الشيخ، والله. وأنصح لكل مسلم ومسلمة، يريدون أن يصونوا أنفسهم عن الوقوع في الحرام، وأن يستبرؤوا لدينهم من مثل ضلالات وشبهات الكبار، أمثال الأسماء المذكورة. أن يقرؤوا ويشجعوا على قراءة كتاب الشيخ الألباني، الذي فيه القول الفصل، في صيانة الأحكام الشرعية المستندة إلى نصوص الوحيين من أن تعبث بها الأهواء، فتفقد النصوص قدسيتها كما ذكرت، وصيانةِ أجيالنا الصاعدة من فتاوى (هابطة) يروج لها أصحابها، ومن يواليهم، وكل إعلام رسمي هابط يستغلها لستر هبوطه، ويزعم أصحاب تلك الفتاوى أنّهم يعادونه!
ولا ينقضي عجبي، من كلام آخر، أستجيز لنفسي أن أصفه بأنّه خطير لانعكاساته في المجتمع، من حيث التجرؤ على استحلال ما حرم الله، وزرع ذلك في نفوس الناشئة، الذين يربونهم في محاضنهم الحزبية، على الإسلام، زعموا!
يقول الشيخ في المقدمة نفسها ما يأتي: (ومن ذلك مقال آخر نشرته مجلة الإخوان المسلمون أيضا في العدد (5) تحت عنوان (الموسيقى الإسلامية)! جاء فيه: ((السمفونية) هي: أرقى ما وصل إليه عباقرة الموسيقى أمثال بيتهوفن وشورب وموزار وتشايكوفسكي، وهي تعبير عن عواطف وإحساسات تنعكس من الطبيعة أو الإنسان، ويجمع لها أكبر عدد من العازفين المهرة بأحدث الآلات على اختلافها، حتى يكون التعبير أقرب إلى الحقيقة بقدر الإمكان. وقد تألفت فرق ل (السمفونية) المصرية تضم أكثر من ثلاثين عازفا ساعدتهم جمعية الشبان المسيحية، وعزفت في الجامعة الأمريكية. فما أجدرنا بهذا، وما أحوجنا إلى داعية من نوع جديد، سوف يكون فتحا في عالم الموسيقى وتقدما عالميا لها، وحينئذ يبرز لون فريد يسيطر على أفئدة العالم، هو الموسيقى الإسلامية، بدلا من الموسيقى الشرقية ).
قلت: فهذا من أكبر الأدلة على أنّ استباحة الآلات الموسيقية قد فشت بين المسلمين حتى الذين ينادون منهم بإعادة مجد المسلمين، وإقامة دولة الإسلام
).

وأضيف إلى ما قاله الشيخ الألباني، هذا الحديث ليبين خطورة ما نوقش سابقا. عَن زِيَاد بن حدير قَالَ: (قَالَ لِي عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ المضلين)).
ولقد اجتمع في المسألة التي كتب عنها الشيخ الألباني عنصران خطيران ذكرا في الحديث الماضي وهما؛ زلة العالم، والأئمة المضلون، فماذا يفعل العامي؟

وأكتب هذه السطور، مستعينا بالله، معرضا عن الإطالة، مبسطا الكلام، تيسيرا للفهم، مذكرا ناصحاً، أُبرئُ الذمة، وأقيم الحجة.
إنَّ أهمَّ ما ينبغي البدء به، تحرير القول، في الحجة التي يظنُّ مبيحو الغناء والمعازف، أنّها أقوى دليلٍ يقدمونه على دعواهم، وهي فتيا ابن حزم في مسألة الغناء والمعازف. وابن حزم بلا شك إمام وفقيه، ولكنْ كل يؤخذ من قوله ويترك. وأقول ابتداء لمن يتمسك بتلك الفتيا، أتترك جماهير العلماء الذين أجمعوا على تحريم ذلك المحرَّم، وتغتر بما ذهب إليه إمام واحد في المسألة؟ ولعل جمهرة من قراء هذه السطور يقولون لي بلسان حالهم: ما فتئنا نقرأ لك، وأنت تُبدئُ وتُعيد، أنَّ الجمهور ليسوا حجة، وأنَّ الكثرة في الدين لا قيمة لها! وأنت تستشهد دائما بكلام ابن مسعودٍ رضي الله عنه: (الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك)؟؟
أقول إنّي، إن شاء الله، كم كنت، ولا زلتُ معتقدا ذلك، متمسكا به، ولكن افهموا عني ومني أنَّ حكم الأكثرية، وكذلك الجمهور، يسقط أمام حكمٍ لإمامٍ واحد، حين يكون ذاك الواحد بيده النص الصحيح الصريح، والأكثرية، أو الجمهور عندهم التأويلات البعيدة، والاجتهادات غير السديدة، لأنّها اجتهادات في مورد النص، وتصادم القاعدة المجمع عليها: (لا اجتهاد في مورد النص). وهذا ليس حالَ ابنِ حزمٍ مع جماهير العلماء، في مسألة الغناء والمعازف، بل الحالة هنا معكوسة. ولن أدخل في مناقشة ما ذهب إليه ابن حزم، لكنّي سأعطي القوس باريها، وأستعير ما كتبه الشيخ الألباني في كتابه (تحريم آلات الطرب)، مع اختصار غير مخلٍ، أحيانا، تجنبا للإطالة، من جهة، وتخفيفا على القارئ، بعدم إدخاله في كلامٍ متخصصٍ جدا، لبعض علماء الحديث. والقصد من هذه العجالة ، إعلام القراء بزبدة القول في الرد على ابن حزم في تضعيف حديث المعازف.

وأبدأ بإثبات نص الحديث كما جاء في صحيح البخاري: قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: (حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الكِلاَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي: سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ – يَعْنِي الفَقِيرَ – لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)).
شرح بعض الألفاظ في الحديث:
(الحِرَ) الفرج، والمعنى أنهم يستحلون الزنا.
(المعازف) آلات اللهو. (عَلَم) جبل أو هو رأس الجبل.
(يروح عليهم) أي راعيهم. (بسارحة) بغنم. (فيبيتهم الله) يهلكهم في الليل.
(يضع العلم) يدك الجبل ويوقعه على رؤوسهم. (يمسخ) يغير خلقتهم.
هذا الحديث عند علماء الحديث، يسمى (من معلقات البخاري). وزيادة في تبسيط البحث، أرى أن أزود القارئ ابتداءً، بتعريف مبسط للحديث (المعلق).
الحديث المعلق هو الذي أُسقط منه الإسناد في أوله (أي من جهة المصنِّف أو المُخَرِّج)، ولْنُمثل بالحديث الذي بين أيدينا، فقد بدأه البخاري بعبارة (وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ). وهذه العبارة لا تعد اسنادا في علم الحديث، لخلوها من ألفاظ الإسناد، مثل: (عن فلان، حدثني، سمعت، أخبرني…)، ولننظر بقية فقرات الحديث كيف تبدأ بلفظة، (حدثنا)، فهي إذن مسندة. والحديث المعلق عند علماء الحديث من أقسام الضعيف، إلا إن كان المصنف قد ألزم نفسه بالتزام الصحيح في ما صنف، كالبخاري ومسلم. لذلك قبل المحدثون أكثر معلقاتهما.
ولِمَ يلجأ المحدث للتعليق؟
وأجاب العلماء بأنّ ذلك إما من أجل الاختصار، أو لأنّ السند نفسه ذكر متصلا، في مكان آخر. ومما يؤيد صحة معلقات البخاري، أنّ ابن حجر العسقلاني ألف كتاباً أسماه (تغليق التعليق)، وقد وصل فيه كل أحاديث البخاري المعلقة، عن طريق روايات أخرى. ومما يجدر قوله أنّ ما علقه البخاري هو خارج شرطه، ولا يحتسب في عداد صحيحه، لأنّه أسماه (الصحيح المسند)، وأما المعلقات فأتى بها للاعتبار. وهو يميل إلى صحتها، والبحث في ذلك طويل، وقد أعطيت زبدته.

ونرجع الآن إلى ابن حزم والألباني؛ وكما أسلفت، فالكلام الآتي للألباني مع بعض تصرف مني، للاختصار. يقول الألباني:
(إنّ ابن حزم قد أعلَّ حديث المعازف بعلتين: الانقطاع بين البخاري وهشام، وجهالة الصحابي أبو مالك الأشعري.
فقال في المحلى: (وهذا منقطع لم يتصل بين البخاري وصدقة بن خالد، ولا يصح في هذا الباب شيء أبدا، وكل ما فيه فموضوع!).
كذا قال ولا يخفى على طلاب العلم فضلا عن العلماء ما فيه من التنطع والمبالغة، فإنّ الانقطاع، لو صح، لا يلزم منه الحكم على المتن بالوضع، لا سيما وقد جاء موصولا من طريق أخرى عنده، وثالثة عندنا كما تقدم ويأتي، ومع ذلك كله أغمض القرضاوي والغزالي، ومن تابعهما، أعينهم عن ذلك كله وقلدوه، كما تقدم، أكان ذلك عن جهل منهما أم عن هوى؟! والعياذ بالله تعالى.
وقال: (ولم يورده البخاري مسندا، وإنّما قال فيه: قال هشام بن عمار: ثم هو إلى أبي عامر أو أبي مالك، ولا يُدرى أبو عامر هذا).
أما الجواب عن الانقطاع فقد سبق بيانه مفصلا في غير ما مناسبة، ولكن من تمام الفائدة أن أنقل هنا بعض ما قاله الحفاظ والنقاد، ردا على ابن حزم إعلاله المذكور، ليزداد القراء علما بمبلغ ضلال المنحرفين عن سبيل المؤمنين لإصرارهم على تقليده تقليدا أعمى مقرونا باتباع الهوى، فأقول:
قال العلامة ابن القيم في (إغاثة اللهفان)، وفي (تهذيب السنن) مع شيء من الدمج بينهما والتلخيص: (ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا، كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعمه أنّه منقطع، لأنّ البخاري لم يصل سنده به. وهذا القدح باطل من وجوه:
أحدها: أنّ البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: (قال هشام) فهو بمنزلة قوله: (عن هشام) اتفاقاً.
الثاني: أنّه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه أنّه حدث به، وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته، فالبخاري أبعد خلق الله عن التدليس.
الثالث: أنّه أدخله في كتابه المسمى ب (الصحيح) محتجا به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك، فالحديث صحيح بلا ريب.
الرابع: أنّه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض، فإنّه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول: (ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، و (يذكر عنه)، ونحو ذلك، فإذا قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، و: (قال فلان) فقد جزم وقطع بإضافته إليه، وهنا قد جزم بإضافة الحديث إلى هشام، فهو صحيح عنده.
الخامس: أنّا لو أضربنا عن هذا كله صفحا، فالحديث صحيح متصل عند غيره.
أما الحافظ ابن حجر في (الفتح) فقد أبان فيه عن السبب الذي يحمل البخاري على مثل هذا التعليق، ثم قال: (وقد تقرر عند الحفاظ أنّ الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع ، وصنفت كتاب تغليق التعليق)
).

ويقول الألباني: (ثم وقفت على قاعدة حديثية لابن حزم يلتقي فيها مع ما تقدم عن أئمة الحديث أنّ تعليق البخاري المذكور في حكم الإسناد المتصل بين البخاري وشيخه هشام بن عمار، فقال في أصول الأحكام (1 / 141):
(وأما المدلس ، فينقسم قسمين: أحدهما: حافظ عدل، ربما أرسل حديثه، وربما أسنده، وربما حدث به على سبيل المذاكرة والفتيا أو المناظرة، فلم يذكر له سندا، وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض، فهذا لا يضر سائر رواياته شيئا، لأنّ هذا ليس جرحة ولا غفلة، لكنّا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنّه أرسله، وما علمنا أنّه أسقط بعض من في إسناده، ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئا من ذلك).
وبهذا ينتهي الجواب على العلة الأولى وهي الانقطاع التي زعمها ابن حزم ومقلدوه، وتبين جليا أنّها (سراب).
وبقي الجواب عن العلة الأخرى، وهي الشك في اسم الصحابي، فهي شبهة أشد ضعفا عند العلماء، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (10 / 24): (الشك في اسم الصحابي لا يضر، وقد أعله بذلك ابن حزم، وهو مردود)
).
انتهى كلام الشيخ الألباني، ببعض التصرف مني، توخيا للاختصار. وهو يرد على ابن حزم في تضعيفه لحديث تحريم المعازف عند البخاري. وقد لاحظنا كيف عزز الشيخ ما ذهب إليه بنقول عن ابن القيم، وابن حجر، رحم الله الجميع. وكما ذكرت سابقا، فإنّ حديث البخاري في (تحريم المعازف) يحتل الصدارة دائما في أي حديث في موضوع الغناء والمعازف. ولذلك نرى أهل الزيغ يستهدفونه أول ما يستهدفون، ظناً منهم أنّ إسقاطه يسقط الدعوى كلها. وقد خاب فألهم، وضل سعيهم. ولقد ذكر الشيخ الألباني في كتابه (تحريم آلات الطرب) سبعةَ أحاديثَ صحيحةً، في تحريم الغناء والمعازف، كان أولها حديث البخاري السابق. وسأُثْبِتُ الستة الباقية، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).

الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة).

مزمار وجمعها مزامير ويقال مزمور، وهي رمزٌ لكل طرب، وقد تكون آلة موسقية هوائية. النعمة: يراد بها الفرح. الرنة: هي الصوت الحزين، ولعل المقصود النياحة.

الحديث الثالث:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ، وَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ). والكوبة: هي الطبل، وما شابهه من الآلات التي يضرب عليها.

الحديث الرابع: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ وَالْغُبَيْرَاءَ، وَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ). الغبيراء: شراب مسكر يصنع من الذُرة.

الحديث الخامس: عن قيس بن سعد رضي الله عنه، وكان صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، يعني حديث مولى ابن عمرو المتقدم، قال: (وَالْغُبَيْرَاءَ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ).

الحديث السادس: عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في أمتي قذف ، ومسخ وخسف)، قيل: يا رسول الله ! ومتى ذاك ؟ قال: (إذا ظهرت المعازف، وكثرت القيان، وشربت الخمور)).
القيان: جمع قينة، وهي المغنية.

الحديث السابع: عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا تجارة فيهن، وثمنهن حرام. وقال: إنّما نزلت هذه الآية في ذلك: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) حتى فرغ من الآية، ثم أتبعها: والذي بعثني بالحق ما رفع رجل عقيرته بالغناء، إلا بعث الله عز وجل عند ذلك شيطانين يرتقيان على عاتقيه، ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره – وأشار إلى صدر نفسه – حتى يكون هو الذي يسكت). العقيرة: يعني الصوت.

بعد أن تبين بوضوح حكم المعازف، والتي يعبر عنها، اليوم، بالموسيقى. بقي عندي أمران، سأوجز القول فيهما، استكمالا للموضوع، واستتماما للفائدة. الأمران هما؛ حكم الغناء المجرد عن الآلات الموسيقية، وحكم الضرب بالدف للرجال عند الإنشاد، وهو كثير اليوم، يراه كثير من المشايخ، ضربة لازب في كل مناسبة دينية واجتماعية.
أستعين بالله وأقول: الغناء كلام مقفى، وقد يكون له إيقاع وأنغام، يتقنها المغني. وقد يكون إنشادا لقصائد عصماء من غرر الشعر العربي. كل ذلك مباحٌ، وليس لأحد الاعتراض عليه، تشدداً. وعندنا دليلان على ذلك؛ أولهما (البراءة الأصلية)، فلم يأت على تحريمه دليل، مع عموم البلوى به. وأؤكد، لمرات متعددة، أنّ الكلام مقصور على الغناء دون مصاحبة آلة موسيقية.

وأما الدليل الثاني، لحِلِّ الغناء دون موسيقا مصاحبة، فلقد كان من عادة العرب في أسفارهم أن يصاحب قوافل الإبل الحادي، وهو رجل حسن الصوت، يحفظ من أشعار العرب وأزجالهم، يغنيها مُلَحَّنَةً، فتطرب لها الإبل فتَعْنَقُ (تسرع) في سيرها. وكان ذلك منتشرا بعد الإسلام أيضا. ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حادٍ حبشيٌ أسود وكان حسن الصوت جدا، ولننظر في معنى هذا الحديث النبوي، وهو في صحيح البخاري، عن أنسٍ، رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏كَانَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ غُلَامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ ‏أَنْجَشَةُ، ‏فَقَالَ النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‏(رُوَيْدَكَ يَا ‏أَنْجَشَةُ ‏سَوْقَكَ الْقَوَارِيرِ)). قَالَ ‏أَبُو قِلَابَةَ: ‏يَعْنِي النِّسَاءَ.
ماذا نفهم من هذا الحديث؟
1. إنّ الحُداء غناءٌ، لكنّه خالٍ تماما من أي آلة طرب، مهما كانت بدائية، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن به، وكان يسمعه.
2. لقد شهد النبي عليه السلام لحاديه أنجشة بحسن الصوت، وقوة تأثيره حتى في الإبل، ولقد أمره النبي عليه السلام بتخفيف ذلك التأثير لتخفف الإبل من سرعتها، لأّن حركة الإبل في مشيها متعبةٌ للراكب في الهودج، وبخاصة مع السرعة، فأراد رسول الله التخفيف من أجل النساء. والسؤال الذي أريد طرحه، ألم يكن النسوة في الهوادج يسمعن هذا الغناء؟ أولم يكن لذلك تأثير على النساء، مادامت الإبل تتأثر به؟ فكيف أذن به النبي عليه السلام؟ أطرح هذا التساؤلات ليعلم كلُّ من جعل من نفسه شيخاً أو داعيةً، أنّ مهمته التزام نصوص الوحيين، وتطبيق هدي نبيه قبل كل شيءٍ، ولا يزيد على ذلك شيئا من عقله أو هواه.

قد يستغرب القارئ هذه التساؤلات، وسأبين السبب لإيرادها. كنت ذات مرة في مجلس مع بعض الزملاء نناقش بعض المسائل الشرعية، ومعنا أخ من حماه، فقال إنّ أحد المفتين في تلك المدينة، وكان عماً له، وكان فيها مؤذنٌ إذا قام (يُذَكِّر، وهي بدعة في مساجد سورية أن المؤذن يذكر الناس{الآخرة} ببعض {الموشحات} بين أذاني الفجر الأول والثاني، وهي ولا شك بدعة ضلالة)، صَحَتِ النساءُ في البيوت لتستمع له، لعذوبة صوته وقوة تأثيره. فلما علم المفتي بذلك، أعفى المؤذن واستبدله بغيره، حتى لا تُفتن النساء، زَعَمَ! ولقد وجدت أصلا لكلام ذلك المفتي في بعض الكتب الصفراء، وغير المتداولة والحمد لله. وهدي النبي عليه السلام هو الأصل في الدين، وقصة الحادي أنجشة دليل واضح جداً، وكافٍ تماماً، لنقول: إنَّ كل غناء لا يصاحبه شيءٌ من آلات الطرب، ويخلو من أي كلام يتعارض مع الدين، أو يخدش الحياء، حلالٌ وجائزٌ بلا خلاف يعتبر، ولو كان من رجلٍ يسمعه نسوة.

بقي أن نلحق بما مضى أمر اشتهر بين الناس وهو النشيد الإسلامي، وقد صار للمنشدين اليوم سوق رائج، وصار بعضهم يستعمل الدف وآلات موسيقية أخرى. وما نريد قوله أنّ كلّ نوع من أنواع النشيد بالشروط السابقة يلحق بحِلّ الغناء غير المصاحب بالمعازف كما تقدم. لكنّي أؤكد على أمر شرعي وهو أنّ النشيد الإسلامي، وما يسمونه بالمدائح النبوية، لا يؤجر المسلمون عليه، إنّما هو من اللهو المباح، كحداء الإبل. أما أن يقال أنّه قربة إلى الله فلا.

وأنتقل إلى الأمر الثاني، الذي قلت إنّي سأفصل الكلام فيه، وهو حكم الضرب بالدف، وقد انتشر كثيرا، ضرب الرجال بالدف، مصاحباً، لما أسموه زوراً (المدائح النبوية). وكثير من المشايخ يتساهل في حكم الدف، ويفتي بحِلِّ استعماله للجنسين! وأبدأ بسؤالٍ:
هل الدف من آلات الطرب المحرمة؟
والجواب، أجل، إنّه آلة محرمة، والدليل الحديث الآتي عن عائشة رضي الله عنها؛ والحديث في الصحيحين؛ البخاري ومسلم. والرواية المثبتة هنا، من كتاب (مختصر صحيح البخاري) للشيخ الألباني، ومن حسن صنيع الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه المشار إليه، أنّه جمع مع كل حديث في البخاري، الرويات الصحيحة المختلفة في كل الأجزاء. وقدعلق بنفسه، بين يدي ذكره هذا الحديث، في كتابه (تحريم آلات الطرب)، بالآتي، وأثبته بالنص للفائدة: (وقد كنت أوردته في كتابي مختصر صحيح البخاري برقم 508، بسياقه في أول كتاب العيدين ضاما إليه كل الزيادات والفوائد المبثوثة في مختلف المواضيع والأبواب من صحيح البخاري من حديثها ولذلك فإنّي سأنقل سياقه منه بحذف أرقام الأجزاء والصفحات من الزيادات).

قالت رضي الله عنها: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان. وفي رواية: قينتان [في أيام منى تدففان وتضربان] تغنيان بغناء وفي رواية: بما تقاولت. وفي أخرى: تقاذفت الأنصار يوم بعاث [وليستا بمغنيتين] فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه فانتهرني. وفي رواية: فانتهرهما وقال: مزمارة وفي رواية: مزمار الشيطان عند. وفي رواية: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [مرتين؟].
فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال: (دعهما يا أبا بكر فإنّ لكل قوم عيدا وهذا عيدنا) فلما غفل غمزتهما فخرجتا).

والذي بين الأقواس، هو الروايات الصحيحة، المضافة إلى السياق الأصلي لرواية الحديث.

والذي نستفيده من الحديث:
1. وجود جاريتين تغنيان وتضربان بالدف، عند عائشة رضي الله عنها، في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في سريره مستغشيا بثوبه.
2. يدخل أبو بكر رضي الله عنه وينتهر عائشة والجاريتين، قائلاً: (أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين؟).
3. فيكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، ويخاطب أبا بكر، قائلاً:
(دعهما يا أبا بكر فإنّ لكل قوم عيدا وهذا عيدنا).
لقد استنبط ابن حزمٍ رحمه الله، رغم إمامته في العلم، وكان يميل إلى إباحة الغناء والمعازف، فغلب اعتقاده استدلاله، مخالفاً القاعدة، التي أحب أن أصفها دائما بالذهبية، وهي (استدل ثم اعتقد)، أجل استنبط أنّ الغناء والدف حلال على الإطلاق، بدليل حدوث ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شاهد، وإنكاره على أبي بكر، لإنكاره على الجاريتين حين انتهرهما.
وقد فات ابن حزم، رغم علو كعبه في العلم، الفهم الصحيح لهذا الحديث الواضح، ولكن المثل العربي يقول: حبك الشيء يعمي ويُصٍمُ. وأحب أن يكون الرد على ابن حزم من شيخنا الألباني، في (موسوعة الألباني في العقيدة)(9/ 416):
يقول الشيخ الألباني: (وقع في عدم الانتباه لهذه النكتة الفقهية الدقيقة الإمام أبو محمد بن حزم صاحب كتاب: “المحلى”، الكتاب العظيم، وكتاب: “الإحكام في أصول الأحكام” وغيره من الكتب، لقد ألف رسالة في إباحة الملاهي عامة، من الآلات الموسيقية والأغاني وما شابه ذلك، وكان مما استدل به على ما ذهب إليه في تلك الرسالة الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي علي يوم عيد وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، وتضربان عليه بدف، لما دخل أبو بكر قال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟! استفهام استنكاري طبعًا، (دعهما فإنّ لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا).
الشاهد: أنّ الإمام ابن حزم احتج بهذا الحديث على جواز الضرب بالدف والغناء به؛ لأنّ الرسول عليه السلام أقر الجاريتين، لكن فاته ما أردت التنبيه عليه: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر أبا بكر الصديق على قوله السابق الذكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟! لقد سمى أبو بكر الضرب على الدف والغناء به، سماه ماذا؟ مزمار الشيطان، وما أنكر الرسول، عليه السلام، ذلك على أبي بكر بل أقره
).

وتتلخص نتيجة البحث في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، في أنّ الدف من المعازف، ولقد سماه أبو بكر الصديق رضي الله عنه مزمار الشيطان، لما استقر في نفسه ونفس الصحابة أنّه حرام، فأنكره على ابنته والجاريتين. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أقر أبا بكر على تلك التسمية، وعلمه، وعلم الأمة معه، أنّ الضرب بالدف حرام أصلا، ويستثنى من ذلك التحريم، مناسبة العيد وأن يكون الضارب بالدف أنثى.
وجاء في أحاديث أخرى استثناء ثانٍ من حرمة الدف، وهو مناسبة العرس، مع بقاء الحكم أن يكون من يضرب أنثى. والأحاديث هي:
. (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف).
. عن عائشة: (أنّها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ما كان معكم لهو فإنّ الأنصار يعجبهم اللهو؟)).
وفي رواية؛ فقال: (فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: ماذا تقول؟ قال: تقول:

أتيناكم أتيناكم .. فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحم .. ر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمرا .. ء ما سمنت عذاريكم
).

عوداً على بدء، فقد بينا في المقدمة ما جناه كبارٌ في علمهم، صغارٌ في تطبيقهم واتباعهم، يوم انسلخوا من اتباع الوحيين، والعمل بدلالاتهما، إلى إقحام الرأي والعقل والهوى، في فتاواهم الشرعية، لخدمة الواقع الهابط، المتحلل، المستغرب (متبع الغرب)، المتمرد على الدين، الذي ساد كل البلدان الإسلامية. أجل أرادوا خدمة هذا الواقع المَهين والمُشين، في أن صنعوا له صيغةَ تدينٍ، من خليطة الهوى، ومسايرة الباطل. تُرضي أهواءهم، وتَستر جنوحهم، وتُفلسف معصيتهم..! وقد فرَّخوا من بعدهم كثيرين للمهمة نفسها، فظهرت غربة الإسلام، وظهر الغرباء من الناس، الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
فيا أيّها الأخ المسلم، ويا أيّتها الأخت المسلمة، لا تخشوا أن تصبحوا من الغرباء لصلاحكم، ولا تترددوا أن تأووا إلى كهف الغربة، وتعتزلوا هبوط المجتمع من حولكم! ففي ذلك السلامة، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، وهل صحيح يا أخي ويا أختي، أنّكم لا تستطيعون العيش بلا موسيقى ولا غناء، ولا سفور ولا تبرج، ولا اختلاط مرذول، وصداقات مُلوثة مَشبوهة، ولا غير ذلك من سفاسف ودناءات الواقع؟ احسموا خياركم، بين أن يقبلَكم مجتمَعُكم في الحانات، ودارات اللهو، ومدارج المعصية، وبين أن يقبلكم ربُكم في (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). وأمعنوا النظر والفكر، في قول نبيكم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).

والحمد لله رب العالمين